.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

مداواة الناس بالخوف أو الرجاء على اختلاف أمراضهم

صغر النفس

كبر النفس

الثبات أخص من كبر النفس

دناءة الهمة

عدم الغيرة والحمية

الغيرة والحمية

الغيرة على الدين والحريم والأولاد

 

 

فصل

(مداواة الناس بالخوف أو الرجاء على اختلاف امراضهم)

قد عرفت أن المحتاج إلى تحصيل دواء الرجاء من غلب عليه اليأس فترك العبادة أو غلب عليه الخوف فاسرف فيها حتى أضر بنفسه وأهله. وأما المنهمكون في طغيان الذنوب والمغرورون بما هم فيه من الفساد والخوف ـ كأكثر أبناء زماننا ـ فأدوية الرجاء بالنسبه اليهم سموم مهلكة، إذ لا يزداد سماعهم لها إلا تماديا في طغيانهم وفساداً في فسادهم وعصيانهم، فواعظ الخلق ينبغي أن يعرف أمراضهم وينظر إلى مواقع عللهم، ويعالج كل علة بما يضادها لا بما يزيدها، ففي مثل هذا الزمان ينبغي ألا يذكر لهم بواعث الرجاء، بل يبالغ في ذكر اسباب الخوف، لئلا يهلكهم ويرديهم بالكلية، ولا يقصد بموعظته استمالة القلوب وتوقع الثناء من الناس، فينتقل إلى الترغيب على الرجاء لكونه أخف على القلوب وألذ عند النفوس، فيهلك ويهلكهم ويضل ويضلهم.

وبالجملة: الطريق إلى تحصيل الرجاء لمن يحتاج اليه: ان يتذكر الآيات والأخبار المتواترة الواردة فيه وفي سعة رحمته ووفور عفوه ورأفته ـ كما تقدم شطر منها ـ ثم يتأمل في لطائف نعمائه وعجائب آلائه لعباده في دار الدنيا، حتى أعد لهم كل ما هو ضروري لهم في دوام الوجود، بل لم يترك لهم شيئا جزئيا يحتاجون إليه نادراً يفوت بفقده ما هو الأصلح الأولى لهم من الزينة والجمال. فإذا لم تقصر العناية الالهية عن عباده في جميع ما يحب ويحسن لهم من اللطف والاحسان في دار الدنيا ـ وهي حقيقة دار البلية والمحنة لا دار النعمة والراحة ـ ولم يرض ان يفوته شىء من المزائد والمزايا في الحاجة والزينة، فكيف يرضى في دار الآخرة التي هي دار الفيض والجود بسياقهم إلى الهلاك المؤبد والعذاب المخلد، مع ان تعالى اخبر بأن رحمته سابقة على غضبه؟! واقوى ما يجلب به الرجاء ان يعلم ان الله تعالى خير محض لا شرية فيه اصلا، وفياض على الاطلاق، وإنما اوجد الخلق لافاضة الجود والاحسان عليهم، فلا بد ان يرحمهم ولا يبقيهم في الزجر الدائم.

خوش باش كه عاقبت نكو خواهد شد[1]

ان خير محض جز نكوئى نآيد              

ومنها:

صغر النفس

وهو ملكة العجز عن تحمل الواردات، وهو من نتائج الجبن، ومن خبائث الصفات. وتلزمه الذلة والمهانة، وعدم الاقتحام في معالي الامور، والمسامحة في النهي عن المنكر والامر بالمعروف، والاضطراب بعروض ادنى شىء من البلايا والمخاوف. وقد ورد في الأخبار بأن المؤمن برىء عن ذلة النفس، قال الصادق (ع): " ان الله عز وجل فوض إلى المؤمن اموره كلها ولم يفوض إليه ان يكون ذليلا: اما تسمع الله تعالى يقول:

" ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين "[2]

فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلا، ان المؤمن اعز من الجبل، الجبل يستقل منه[3] بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه شيء ".وقال (ع): " ان الله فوض إلى المؤمن كل شيء إلا اذلال نفسه ". وقد وردت بهذا المضمون أخبار اخر. وعلاجه ما تقدم في معالجة الجبن.

فصل

(كبر النفس وصلابتها)

وضده (كبر النفس وصلابتها)، وقد عرفت انه ملكة التحمل لما يرد عليه كائناً ما كان. وقد دلت الأخبار على ان المؤمن ذو صلابة وعزة ومهابة، وكل ذلك فرع كبر النفس. قال الباقر (ع): " المؤمن أصلب من الجبل "، وقال (ع): " ان الله اعطى المؤمن ثلاث خصال: العز في الدنيا والآخرة، والفلح في الدنيا والآخر، والمهابة في صدور الظالمين ". وصاحب هذه الملكة لا يبالي بالكرامة والهوان، ويتساوى عنده الفقر واليسار والغنى والاعسار، بل الصحة والمرض والمدح والذم، ولا يتأثر بتقلب الامور والاحوال. وهي ملكة شريفة ليست شريعة لكل وارد، ولا يصل إليها إلا واحد بعد واحد، بل لا يحوم حولها إلا اوحدي من أفاضل الحكماء، أو ألمعي قوي القلب من اماثل العرفاء. وطريق تحصيلها ـ بعد تذكر شرافتها ـ ان يتكلف في المواظبة على آثارها والاجتناب عما ينافيها، حتى تحصل بالتدريج.

تتميم

(الثبات أخص من كبر النفس)

قد عرفت ان الثبات أخص من كبر النفس، وهو ملكة التحمل على الخوض في الاهوال، وقوة المقاومة مع الشدائد والآلام، بحيث لا يعتريه الانكسار، وان زادت وكثرت. وضده الاضطراب في الاهوال والشدائد، ومن جملة الثبات الثبات في الايمان، وهو اطمئنان النفس في عقائدها، بحيث لا يتزلزل فيها بالشبهات، قال الله تعالى:

" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة "[4].

وهذا الاطمئنان من شرائط كسب الكمال وفضائل الاعمال، إذ ما لم تستقر النفس على معتقداتها في المبدأ والمعاد لم يحصل لها العزم البالغ على تحصيل ما يتوقف فائدته عليها فمن ليس له هذا الثبات لا تجده ثابتاً ومواظباً على شيء من الاعمال الفاضلة، بل هو:

" كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران "[5].

والمتصف به مواظب لها دائماً من غير فتور. وعدم هذا الثبات لعدم البصيرة الباطنة أو لضعف في النفس. فوجوده يحصل من المعرفة وقوة النفس، فهو من فضائل العاقلة وقوة الغضب، وعدمه من رذائل إحداهما أو كليهما،

ومنها:

دناءة الهمة

وهو قصور النفس عن طلب معالي الامور وقناعتها بادانيها، وهو من نتائج ضعف النفس وصغرها. وضده (علو الهمة). وهو ملكة السعي في تحصيل السعادة والكمال وطلب معالي الامور، من دون ملاحظة منافع الدنيا ومضارها، حتى لا يعتريه السور بالوجدان ولا الحزن بالفقدان، بل لا يبالي في طريق الطلب بالموت والقتل وامثالهما. وصاحب هذه الملكة هو المؤمن الحقيقي الشائق للموت، والموت تحفة له، واعظم سرور يصل اليه، كما ورد في الاخبار. وهو الذي يقول:

آن مرد نيم كز عدمم بيم آيد

كان بيم مراخوشتر از اين بيم آيد

جاني است مرا بعاريت داده خدا

تسليم كنم چو وقد تسليم آيد[6]

ويقول:

مرگ اگرمرداست گونزد من آى

تا در آغوشش در آرم تنگ تنگ

من از آن عمري ستانم جاودان

آن زمن دلقي ستاند رنگ رنگ[7]

ويقول:

اين جان عاريت كه بحافظ سپرده دوست

                                     روزي رخش ببينم وتسليم وى كنم[8]

وهذه الملكة من نتائج كبر النفس وشجاعتها، وهي اعظم الفضائل النفسانية، إذ كل من وصل إلى المراتب العظيمة والامور العالية فانما وصل إليها لأجلها، إذ صاحبها لا يرضى بالمراتب الدنية، ويشمر لتحصيل المراتب العالية والامور المتعالية، وفي جوهر الإنسان وجبلته ان يصل إلى كل ما يجتهد في طلبه:

والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "[9].

ومنها:

عدم الغيرة والحمية

وهو الاهمال في محافظة ما يلزم محافظته: من الدين، والعرض، والأولاد، والاموال. وهو من نتائج صغر النفس وضعفها، ومن المهلكات العظيمة، وربما يؤدي إلى الدياثة والقيادة. قال رسول الله (ص) "اذا لم يغر الرجل فهو منكوس القلب ". وقال (ص): " إذا غير الرجل في اهله أو بعض مناكحه من مملوكته فلم يغر، بعث الله إليه طائراً يقاله (القندر) حتى يسقط على عارضة بابه، ثم يمهله اربعين يوماً، ثم يهتف به: ان الله غيور يحب كل غيور، فان هو غار وغير وانكر ذلك فاكبره، والا طار حتى يسقط على رأسه فيخفق بجناحيه على عينيه ثم يطير عنه، فينزع الله منه بعد ذلك روح الايمان، وتسميه الملائكة: الديوث ". وقال (ص): " كان إبراهيم غيوراً وانا اغير منه، وجدع الله انف من لا يغار على المؤمنين والمسلمين ". وقال أمير المؤمنين (ع): " يا أهل العراق: نبئت ان نساءكم يدافعن الرجال في الطريق، اما تستحيون؟ ". وقال (ع): " اما تستحيون ولا تغارون، نساؤكم يخرجن إلى الاسواق ويزاحمن العلوج؟ ".

فصل

(الغيرة والحمية)

وضده (الغير والحمية)، وهو السعي في محافظة ما يلزم محافظته، وهو من نتائج الشجاعة وكبر النفس وقوتها. وهي شرائف الملكات، وبها تتحقق الرجولية والفحلية، والفاقد لها غير معدود من الرجال. قال رسول الله (ص): " ان سعداً لغيور، وانا اغير من سعد، والله اغير مني ". وقال (ص): " ان الله لغيور، ولاجل غيرته حرم الفواحش " وقال: " ان الله يغار، والمؤمن يغار، وغيرة الله ان يأتي الرجل المؤمن ما حرم الله عليه ". وقال الصادق (ع): " ان الله تعالى غيور ويحب الغيرة، ولغيرته حرم الفواحش ظاهرها وباطنها ".

فصل

(الغيرة على الدين والحريم والاولاد)

مقتضى الغيرة والحمية في (الدين) ان يجتهد في حفظه عن بدع المبتدعين، وانتحال المبطلين، وقصاص المرتدين، واهانة من يستخف به من المخالفين، ورد شبه الجاحدين، ويسعى في ترويجه ونشر أحكامه، ويبالغ في تبيين حلاله وحرامه، ولا يتسامح في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومقتضى الغيرة على (الحريم) ألا يتغافل عن مباديء الامور التي تخشى غوائلها، فيحفظهن عن اجانب الرجال، ويمنعهن عن الدخول في الاسواق. قال رسول الله (ص) لفاطمة (ع): " اي شيء خير للمرأة؟ قالت: ان لا ترى رجلاً ولا يراها رجل. فضمها اليه، وقال: ذرية بعضها من بعض". وكان اصحاب النبي (ص) يسدون الثقب والكوى في الحيطان، لئلا تطلع النساء على الرجال. وقال (ص): " من اطاع امرأته اكبه الله على وجهه في النار" وما روى انه (ص): " اذن للنساء في حضور المساجد" وقال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، فالظاهر انه كان مختصاً بنساء عصره (ص): لعلمه بعدم ترتب فساد على حضورهن فيها. والصواب اليوم ان يمنعن من حضور المساجد والذهاب إلى المشاهد إلا العجائز منهن، للقطع بترتب الفساد والمعصية على خروج نساء هذا العصر إلى أي موضع كان. وسئل الصادق (ع) عن خروج النساء في العيدين، فقال: " لا! إلا العجوز عليها منقلاها "، يعني الخفين، وفي رواية اخرى انه (ع): " سئل عن خروج النساء في العيدين والجماعة، فقال: لا! إلا امرأة مسنة ".

وبالجملة: من اطلع على احوال نساء امثال عصرنا يعلم ان مقتضى الغيرة ان يبالغ في حفظهن عن جميع ما يحتمل ان يؤدي إلى فتنة وفساد، سواء كان في نفسه محرماً كالنظر إلى الرجال الاجانب واستماع كلامهم بلا ضرورة شرعية وارتكاب الملاهي المحرمة، اولا، كالخروج عن البيت بلا داع شرعي أو ضروري، ولو إلى المساجد والمشاهد المشرفة ومجامع تعزية مولانا ابي عبدالله الحسين (ع)، إذ ذلك وان كان في نفسه راجحاً إلاّ ان الغالب عدم انفكاكه عما ينافي الغيرة والحمية على ما هو المشاهد في عصرنا، فان اقل ما في الباب انه لا ينفك عن نظرهن إلى الاجانب واستماع كلامهم، بل عن نظرهم اليهن واستماع كلامهن، وهذا خروج للطرفين إلى الانحراف عن قانون العفة مع انا نعلم قطعاً ان خروج اكثرهن لا يخلو عن غرض فاسد أو مرجوح، وما اقل فيهن ان يكون خروجها إلى أحد المواضع المذكورة لمحض القربة والثواب. فالصواب ان يمنعن في أمثال هذا العصر عن مطلق الخروج، إلاّ إلى سفر واجب، كالحج، أو إلى بيت عالم عادل لأخذ ما يجب عليهن من المسائل، إذا لم يتمكن ازواجهن من اخذها وايصالها اليهن. نعم لو فرض خروجها إلى احد المشاهد أو إلى مجمع تعزية من مجامع النساء بل إلى مجمع العرس على نحو اطمأن الزوج منها وتيقن بعدم حدوث ما ينافي الغيرة وعدم ترتب فساد ومعصية وريبة عليه، فالظاهر جواز الاذن بل رجحانه. وجميع ذلك انما هو في الشواب من النساء، واما العجائز فلا بأس بخروجهن إلى المواضع المذكورة! ومقتضى الغيرة ان يمنعن من استماع الكلمات الملهية والحكايات المهيجة للشهوة، وعن مجالسة العجائز اللاتي يحضرن مجامع الرجال وينقلن حكاياتهم وقصصهم لانهن ناقصات العقل والايمان، ومع ذلك شهوتهن في غاية القوة والغلبة، فاستماعهن لشيء من المذكورات يوجب ثوران الشهوة وهيجانها فيهن فلما لم يكن فيهن قاهر العقل ومانع الايمان فربما أدى ذلك إلى فساد عظيم. ولذلك ورد في الأخبار منعهن عن تعلم سورة يوسف (ع)، إذ استماعهن لامثال القصة المذكورة فيها ربما أدى إلى انحرافهن عن طريق العفة. قال أمير المؤمنين (ع): " لا تعلموا نساءكم سورة يوسف ولا تقرؤهن إياها فان فيها الفتن، وعلموهن سورة النور فان فيها المواعظ ". وقال (ع): " لا تحملوا الفروج على السروج فتهيجوهن للفجور". وقال رسول الله (ص): " لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن الغزل وسورة النور".

وبالجملة: مقتضى العقل والنقل ان يمنعن عن جميع ما يمكن ان يؤدي إلى فساد وريبة، وعن مباديء الامور التي تخاف غوائلها، وينبغي لصاحب الغيرة ان يجعل نفسه مهيباً في نظرها، حتى تكون منه على خوف وحذر، ولا تطمئن منه فتتبع هواها وما تقتضيه جبلتها، وان يجعلها مشغولة في كل وقت بأمر من الامور، كتدبير المنزل وإصلاح امر المعيشة، أو بكسب من المكاسب، حتى يكون لها دائماً شغل شاغل، ولا تكون فارغة عنه في وقت من الاوقات، إذ لو خلت عن الاشغال وتعطلت عن المهمات اوقعها الشيطان في أودية الافكار الردية، فتميل إلى الزينة والخروج والتفرج، والنظر إلى اجانب الرجال، والملاعبة والمضاحكة للنسوان، فينجر امرها إلى الفساد، وينبغي أيضا لصاحب الغيرة ان يعطي امرأته ما تحتاج إليه من القوت واللباس وسائر الضروريات، حت لا تضطر إلى ارتكاب ما لا ينبغي من الحركات والافعال توصلاً إلى أخذ شيء من ذلك من غير زوجها.

ثم ينبغي ألا توقعه الغيرة في طرف الافراط فيبالغ في اساءة الظن والتعنت وتجسس البواطن، فقد نهى رسول الله (ص): " ان يتبع عورات النساء وان يتعنت بهن". وفي الخبر المشهور: ان المرأة كالضلع، ان اردت ان تقيمه كسرته، فدعه تستمتع به على عوج ". وقال (ص): " من الغيرة غيرة يبغضها الله ورسوله، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة " وقال أمير المؤمنين (ع): " لا تكثر الغيرة على أهلك فترمى بالسوء من أجلك ". وقال (ع) في رسالته إلى الحسن (ع): " إياك والتغاير في غير موضع الغيرة، فان ذلك يدعوهن إلى السقم، ولكن احكم امرهن، فان رأيت عيباً فعجل النكير على الصغير والكبير، بان تعاقب منهن البريئة فتعظم الذنب وتهون العيب ". وبالجملة: لا ينبغي المبالغة في الفحص والتفتيش، إذ لا ينفك ذلك عن سوء الظن الذي نهينا عنه، فان بعض الظن اثم.

واما مقتضى الغيرة على (الاولاد): ان تراقبهم من أول أمرهم، فاستعمل في حضانة كل مولود له وأرضاعه إمرأة صالحة تأكل الحلال، إذ الصبي الذي تتكون اعضاؤه من اللبن الحاصل من غذاء حرام يميل طبعه إلى الخبائث، لان طينته انعجنت من الخبث.

واذا بدأت فيه مخائل التمييز فينبغي ان يؤدب بآداب الاخيار. ولما كان اول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام، فينبغي ان يؤدب فيه بان يؤمر بألا يأخذ إلا بيمينه، ويقول (باسم الله) عند أكله، ويأكل مما يليه، ولا يبادر إلى الطعام قبل غيره، ولا يحدق إلى الطعام ولا إلى من يأكل، ولا يسرع في الاكل، ويمضغ الطعام مضغاً جيداً، ولا يلطخ ثوبه ولا يده. ويقبح عنده كثرة الاكل بأن يذم كثير الاكل ويشبه بالبهائم، ويمدح الصبي الذي يقنع بالقليل ويحبب إليه الايثار بالطعام وقلة المبالاة به والقناعة بأي طعام اتفق. ثم يؤدب في امر اللباس، حتى لا يخرج فيه عن زي الابرار واهل الورع، فيجب إليه ثياب القطن والبيض، دون الابريسم الملون، ويقرر عنده بأن ذلك شأن النساء والمخنثين، والرجال يستنكفون منه، ويحفظ من الصبيان الذين تعودوا التنعم والترفه والزينة. ثم يؤدب في الأخلاق والافعال ويبالغ في ذلك، لان الصبي إذا اهمل في اول نشوءه خرج في الاكثر ردى الأخلاق والافعال، فيكون كذاباً، حسوداً، لجوجاً، عنوداً، سارقاً، خائناً، ذا ضحك وفضول، وربما صار مخنثاً مائلا إلى الفسوق والفجور. فينبغي ان يحفظ من قرناء السوء، وهو الاصل في تأديبه. ويسلم إلى معلم دين صالح، يعلمه القرآن واحاديث الاخيار وحكايات الابرار، لينغرس في نفسه حب الصالحين. ويحفظ عن الاشعار التي فيها ذكر الفسوق واهله. إذ ذلك يغرس في قلبه بذر الفساد. وينبغي ان يعود الصبر والسكوت إذا ضربه المعلم، حتى لا يكثر الصراخ والشغب ولا يستشفع بأحد حينئذ، ويذكر له ان ذلك دأب الرجال والشجعان، وان كثرة الصراخ دأب المماليك والنسوان. وينبغي ان يؤذن له بعد الفراغ من المكتب باللعب المباح الجميل حتى يستريح من تعب الادب، ولا يموت قلبه، ولا ينقص ذكاءه. ويعلم محاسن الأخلاق والافعال، ويجنب عن خبائث الصفات ورذائل الاعمال. فيخوف من الحسد، والعداوة والجبن، والبخل، والكبر، ووالعجب. ويحذر من السرقة، واكل الحرام، والكذب، والغيبة، والخيانة، والفحش، واللعن، والسب، ولغو الكلام... وغير ذلك. ويرغب في الصبر، والشكر، والتوكل، والرضا، والشجاعة، والسخاء، والصدق، والنصيحة... وغير ذلك من محاسن الأخلاق ووفضائلها. ويمدح عنده الاخيار ويذم الاشرار، حتى يصير الخير عنده محبوباً، ويصير الشر عنده مبغوضاً.

واذا بلغ سن التمييز، يؤمر بالطهارة والصلاة والصوم في بعض الايام من شهر رمضان، ويعلم اصول العقائد وكل ما يحتاج إليه من حدود الشرع. ومهما ظهر منه خلق جميل أو فعل محمود، فينبغي ان يكرم عليه ويجازى لاجله بما يفرح به، ويمدح بين اظهر الناس. وان ظهر منه فعل قبيح مرة واحدة ينبغي ان يتغافل عنه ولا يهتك ستره، ولا يظهر له انه يتصور ان يتجاسر احد على مثله، (لا) سيما إذا ستره الصبي واجتهد في اخفائه، فان اظهار ذلك ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة بعد ذلك، فان عاد ثانياً إلى مثله، فينبغي ان يعاتب عليه سراً ويعظم الامر فيه، ويقال له: إياك ان يطلع على فعلك هذا احد فتفتضح عند الناس. ولا يكثر العتاب عليه حتى يسقط وقع الكلام من قلبه. وليكن الاب حافظاً هيبته في الكلام والحركات معه. وينبغي للام ان تخوفه بالاب. وينبغي ان يمنع من كل ما يفعله خفية، فانه لا يخفيه إلا وهو يعتقد انه قبيح، فإذا ترك يعود فعل القبيح. ويعود الوقار والطمأنينة في المشي وسائر الحركات والافعال، وعدم كشف اطرافه، والتواضع والاكرام لكل من عاشره، والتلطف معه في الكلام. ويعلم طاعة والديه، ومعلمه، ومؤدبه، وكل من هو اكبر سناً منه، من قريب وبعيد، ويعود النظر اليهم بعين التعظيم والجلالة وترك اللعب بين أيديهم ويمنع من الفخر على اقرانه بشيء مما تملكه نفسه أو والده. ويخوف من اخذ شيء من الصبيان أو الرجال، أو يذكر له الرفعة في العطاء، والاخذ لؤم وخسة ومهانة وذلة، فانه دأب الكلب، إذ هو يتبصبص في انتظار لقمة، ويقبح عنده حب الذهب والفضة، ويحذر منهما اكثر مما يحذر من الحيات والعقارب، إذ آفة حبهما اكثر من آفة السموم، وقد هلك لاجله كل من هلك في العالم. ويعود ألا يبصق في مجلسه، ولا يتمخط، ولا يتمطط، ولا يتثأب بحضرة غيره، ولايستدبر غيره، ولا يضع رجلاً على رجل، ولا يضرب كفه تحت ذقنه، لانه دليل الكسل. ويعلم كيفية الجلوس والحركة والسكون. ويمنع من النوم في النهار، ومن التنعم في المفرش والملبس والمطعم بل يعود الخشنة فيها حتى تتصلب اعضاؤه، ولا يستخف بدنه، ويذكر له انها خلقت لدفع الضرر والالم لا لاجل اللذة، وان الاطعمة ادوية يتقوى الإنسان بها على عبادة الله، وان الدنيا كلها لا اصل لها ولا بقاء لها، وان الموت يقطع نعيمها، وانها دار ممر لا دار مقر. وان الآخرة هي دار القرار ومحل الراحة واللذات، والكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة. وينبغي ان يمنع من كثرة الكلام، ومن الكذب، واليمين ولو كان صدقاً، ومن اللهو واللعب والسخرية وكثرة المزاح، ومن ان يبتدىء بالكلام، ويعود ألا يتكلم إلاّ جواباً وبقدر السؤال، وان يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو اكبر سناً منه، وان يقوم لمن هو اكبر منه، ويوسع له المكان ويجلس بين يديه.

فاذا تأدب الصبي بهذه الآداب في صغره صارت له بعد بلوغه ملكات راسخة، فيكون خيراً صالحاً. وان نشأ على خلاف ذلك، حتى الف اللعب، والفحش، والوقاحة، والخرق، وشره الطعام. واللباس، والتزين والتفاخر بلغ وهو خبيث النفس كثيف الجوهر، وكان وبالاً لوالديه، وصدر منه ما يوجب الفضيحة والعار. فيجب على كل والد ألا يتسامح في تأديب ولده في حالة الصبا، لانه امانة الله عنده، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة عن كل نقش وصورة، وقابل للخير والشر، وابواه يميلان به إلى احدهما، فان عود الخير نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم ومؤدب، وان عود الشر واهمل شقى وهلك، وكان الوزر في رقبة ابيه أو من كان قيما وولياً له.

ثم الصبية تؤدب بمثل ما مر، إلا فيما يتفاوت به الصبي والصبية فيستعمل ما يليق بها، ويجب السعي في جعلها ملازمة للبيت، والحجاب والوقار، والعفة والحياء، وسائر الخصال التي ينبغي ان تتصف بها النساء.

ثم ينبغي ان يتفرس من حال الصبي انه مستعد لأي علم وصناعة، فيجعل مشغولاً باكتسابه ويمنع من اكتساب غيره، لئلا يضيع عمره ولا تترتب عليه فائدة، إذ كل أحد ليس مستعداً لكل صناعة، والا لاشتغل الجميع باشراف الصناعات، واختلاف الناس وتفاوتهم في هذا الاستعداد لتوقف قوام النوع وانتظام العالم عليه.

واما الغيرة على (المال)، فلا تظن انها ليست ممدوحة لسرعة فناء المال وعدم اعتناء الاخيار، إذ كل إنسان مادام في دار الدنيا محتاج اليه، وتحصيل الآخرة أيضاًً يتوقف عليه، إذ كسب العلم والعمل موقوف على بقاء البدن، وهو موقوف على بدل مما يتحلل عنه من الاغذية والأقوات. فلابد لكل عاقل ان يعتني بالمال ويجتهد في حفظه وضبطه، بعد تحصيله من المداخل الطيبة والمكاسب المحمودة، ومقتضى السعي في حفظه المعبر عنه بالغيرة عليه ألا يصرفه في مصرف لا تترتب عليه فائدة لآخرته أو دنياه، كانفاقه للرياء والمفاخرة والتضيف، أو بذله على غير المستحقين بلا داع ديني أو دنيوي أو عادي، أو تمكينه الظلمة والسارقين وأهل الخيانة من أخذه علانية أو سرأ، أو عدم مبالاته بتضييعه من غير ان يصل نفعه إلى أحد، أو اسرافه في بذله، أو غير ذلك من المصارف التي ليست راجحة بحسب العقل والشرع ولا يعود إليه عوض في الآخرة والدنيا. بل مقتضى الغيرة عليه ان يصرف جميع امواله في حياته في المصارف التي تعود فائدتها إلى نفسه، ولا يترك شيئاً منها لوارثه إلا للأخيار من أولاده، إذ بقائهم بمنزلة بقائه، ويترتب على وجودهم ـ مع حسن حالهم وعيشهم ـ جميل الذكر وجزيل الثواب له بعد موته وكيف يرضى صاحب الغيرة ان يترك ماله الذي أتعب نفسه في اكتسابه وفنى عمره في تحصيله ويحاسب عليه في عرصات القيامة، لزوج امرأته، فيأكله ويجامعها، وغاية رضى هذه المرأة الخبيثة التي ليست لها حمية ووفاء ولا لها مطلوب أهم من مقاربة الرجال، ان يأكل هذا الرجل صفو ماله ليتقوى على مجامعتها، وهذا محنة لا يتحمل مثلها أهل الديانة والقيادة، فضلا عن صاحب الغيرة والحمية، وقس على ذلك تخليف الاموال لسائر الوراث الذين لا يعرفون الحقوق، وليسوا من أهل الخير والصلاح والوفاء، من أولاد السوء وأزواج البنات، وسائر الاقارب من الاخوان والاخوات والاعمام والعمات والاخوال والخالات. وهؤلاء وان لم يكونوا بمثابة زوج امرأته، إلا ان ترك الاموال لهم إذا لم يكونوا من أهل الخير والصلاح لا تثمر له فائدة سوى الوزر والوبال وذكره بالسوء والشتم والفحش، كما هو المشاهد في زماننا هذا.

ومنها:

 

[1]  وحاصل معنى هذا البيت: (ان الخير المحض لا يصدر عنه إلا الجميل فكن مطمئنا ان عاقبتك ستكون إلى الجميل).

[2]  المنافقون، الآية: 8.

[3]  تقدم في صفحة (208) مضمون هذا الحديث، ورجعنا فيه كلمة (يستفل) بدل (يستقل) وفسرناها ثم بعد التحقيق وجدنا ذلك الحديث المتقدم في اصول الكافي في باب صفات المؤمن بكلمة (يستقل) ـ بالقاف ـ وكذلك نسخ جامع السعادات هنا وهناك. وجاء في البحار (الجزء الاول من المجلد 15 ـ باب علامات المؤمن وصفاته ص596) في شرح هذا الحديث هكذا: " الجبل يستقل منه: من القلة، اي ينقص ويؤخذ منه بعضه بالفأس والمعول ونحوهما ".

[4]  إبراهيم، الآية: 27.

[5]  الانعام، الآية: 71.

[6]  الابيات كلها لـ(حافظ الشيرازي) المتقدم ذكره. ومعنى البيتين: (لست بذلك الرجل الذي يخشى من فناء نفسه، فان ما اخشى منه ـ وهو الموت ـ احسن عندي من نفس الخوف منه، لان نفسي قد اعارنيها الله تعالى، فعلي ان اسلمها عندما يطلب تسليم العارية).

[7]  معنى البيتين: (لو ان الموت رجل، فقل له: يأتيني حتى احتضنه شوقاً اليه، وألزه لزاً، وذلك لاني آخذ منه الحياة الخالدة ويأخذ مني هذه الزخارف الفانية للوارث).

[8]  معنى البيت: (ان هذه النفس العارية التي أمنها الحبيب عند حافظ ـ ويعني نفسه ـ لابد ان أسلمها في يوم من الايام عندما أرى وجه الحبيب ـ يعني بالحبيب: الله تعالى).

[9] العنكبوت، الآية: 69.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست