.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

التلازم بين الخوف والرجاء

مواقع الخوف والرجاء وترجيح أحدهما على الآخر

العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف

 

 

 تتميم

(التلازم بين الخوف والرجاء)

الرجاء ارتياح القلب لانتظار المحبوب، وهو يلازم الخوف، إذ الخوف ـ كما عرفت ـ عبارة عن التألم من توقع مكروه ممكن الحصول، وما يمكن حصوله يمكن عدم حصوله أيضاً، وما كان حصوله مكروها كان عدم حصوله محبوبا، فكما انه يتألم بتوقع حصوله يرتاح ليتوقع عدم حصوله أيضاً، فالخوف عن شىء وجوداً يلزمه الرجاء عدما، وعنه عدما يلزمه الرجاء وجوداً. وقس عليه استلزام الرجاء للخوف، فهما متلازمان، وان أمكن غلبة أحدهما نظراً إلى كثرة حصول اسبابه. وان تيقن الحصول أو عدمه لم يكن انتظارهما خوفاً ورجاء، بل سمي انتظار مكروه أو انتظار محبوب.

ثم كما ان الخوف من متعلقات قوة الغضب، وان الممدوح منه من فضائلها، لكونه مقتضى العقل والشرع، وباعثاً للعمل من حيث الرهبة، فكذا الرجاء متعلق بها ومن فضائلها، لكونه مقتضاهما وباعثاً للعمل من حيث الرغبة. إلا ان الخوف لترتبه على ضعف القلب يكون أقرب إلى طرف التفريط، والرجاء لترتبه على قوته يكون أقرب إلى طرف الافراط، وان كان كلاهما ممدوحين. ثم لابد ان يحصل أكثر أسباب حصول المحبوب حتى يصدق اسم الرجاء على انتظاره، كتوقع الحصاد ممن ألقى بذراً جيداً في أرض طيبة يصلها الماء. واما انتظار مالم يحصل شىء من اسبابه فيسمى غروراً وحماقة، كتوقع من القى بذراً في ارض سبخة لا يصلها الماء. وانتظار ما كان اسبابه مشكوكة يسمى تمنياً، كما إذا صلحت الأرض ولا ماء.

وتفصيل ذلك. ان الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والايمان كالبذر، والطاعات هي الماء الذي تسقى به الأرض، وتطهير القلب من المعاصي والأخلاق الذميمة بمنزلة تنقية الأرض من الشوك والاحجار والنباتات الخبيثة، ويوم القيامة هو وقت الحصاد. فينبغي ان يقاس رجاء العبد (المغفرة) برجاء صاحب الزرع (التنمية)، وكما ان من القى البذر في ارض طيبة، وساق إليها الماء في وقته، ونقاها الشوك والحجار، وبذل جهده في قلع النباتات الخبيثة المفسدة للزرع، ثم جلس ينتظر كرم الله ولطفه مؤملآ ان يحصل له وقت الحصاد مائة قفيز مثلاً، سمى انتظاره رجاء ممدوحا، فكذلك العبد إذا طهر ارض قلبه عن شوك الأخلاق الردية وبث فيه بذر الايمان بماء الطاعات، ثم انتظر من فضل الله تثبيته إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره رجاء حقيقياً محموداً في نفسه. وكما ان من تغافل عن الزراعة واختار الراحة طول السنة، أو ألقى البذر في ارض سبخة مرتفعة لا ينصب إليها ماء، ولم يشتغل بتعهد البذر واصلاح الأرض من النباتات المفسدة للزرع، ثم جلس منتظراً إلى ان ينبت له زرع يحصده، سمي انتظاره حمقاً وغروراً. كذلك من لم يلق بذر الايمان في أرض قلبه، أو ألقاه فيه مع كونه مشحوناً برذائل الأخلاق منهمكاً في خسائس الشهوات واللذات، ولم يسق إليها ماء الطاعات، ثم انتظر المغفرة، كان انتظاره حمقاً وغروراً. وكما ان بث البذر في ارض طيبة لا ماء لها، وجلس ينتظر مياه الامطار حيث لا تغلب الامطار، وان لم يمتنع أيضاًً، سمي انتظاره تمنياً. كذلك من ألقى بذر الايمان في ارض قلبه, ولكنه لم يسق إليه ماء الطاعات، وانتظر المغفرة بلطفه وفضله، كان انتظاره تمنياً.

فاذن، اسم (الرجاء) إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره، وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات. فالا حاديث الواردة في الترغيب على الرجاء وفي سعة عفو الله وجزيل رحمته ووفور مغفرته، إنما هي مخصوصة بمن يرجو الرحمة والغفران بالعمل الخاص المعد لحصولهما، وترك الانهماك في المعاصي المفوت لهذا الاستعداد. فحذر ان يغرك الشيطان ويثبطك عن العمل ويقنعك بمحض الرجاء والأمل. وانظر إلى حال الانبياء والاولياء واجتهادهم في الطاعات وصرفهم العمر في العبادات ليلآ ونهاراً، اما كان يرجون عفو الله ورحمته؟ بلى والله! إنهم كانوا أعلم بسعة رحمة الله وأرجى لها منك ومن كل أحد، ولكن علموا ان رجاء الرحمة من دون العمل غرور محض وسفه بحت، فصرفوا في العبادات أعمارهم وقصروا على الطاعات ليلهم ونهارهم.

ونحن نشير (أولا) إلى بعض ما ورد في الرجاء من الآيات والاخبار، ثم نورد نبذاً مما يدل على انه لا معنى للرجاء بدون العمل، ليعلم ان اطلاق الاول محمول على الثاني، فنقول: الظواهر الواردة في الرجاء أكثر من ان تحصى، وهي على أقسام:

(الاول) ما ورد في النهي عن القنوط واليأس من رحمة الله كقوله تعالى:

" يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله "[1].

وقول علي (ع) لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه: " أيا هذا! يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك ". وما روى: " انه (ص) لما قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم وتجأرون إلى ربكم. فهبط جبرئيل (ع) فقال: ان ربك يقول: لم تقنط عبادي؟ فخرج عليهم ورجاهم وشوقهم ". وما ورد: " ان رجلاً من بني اسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم، فيقول الله له يوم القيامة: اليوم أويسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها ".

(الثاني) ما ورد في الترغيب على خصوص الرجاء وكونه سبب النجاة، كما ورد في أخبار يعقوب من " انه تعالى أوحى إليه أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف؟ لقولك:

وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون " [2].

لم خفت الذئب ولم ترجني؟ ولم نظرت إلى غفلة اخوته ولم تنظر إلى حفظي؟ "

وقول أمير المؤمنين (ع) لرجل قال عند النزع: أجدني اخاف ذنوبي وارجو رحمة ربي: " ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا وأمنه مما يخاف "[3]، وقول النبي (ص): " ان الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر ان تنكره؟ فان لقنه الله حجته، قال: رب رجوتك وخفت الناس، فيقول الله: قد غفرته لك ". وماروي عنه (ص): " ان رجلاً يدخل النار فيمكث فيها ألف سنة ينادي يا حنان يا منان، فيقول الله لجبرئيل: اذهب فأتني بعبدي، فيجيء به، فيوقفه على ربه، فيقول الله له: كيف وجدت مكانك؟ فيقول: شر مكان، فيقول: رده إلى مكانه. قال: فيمشي ويلتفت إلى ورائه، فيقول الله عز وجل: إلى أي شيء تلتفت؟ فيقول: لقد رجوت إلا تعيدني إليها بعد إذا اخرجتني منها، فيقول الله تعالى: اذهبوا به إلى الجنة". وقوله (ص): " قال الله تعالى: لا يتكل العاملون على اعمالهم التي يعملونها لثوابي، فانهم لو اجتهدوا واتعبوا انفسهم اعمارهم في عبادتي، كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي، فيما يطلبون عندي من كرامتي، والنعيم في جناتي، ورفيع الدرجات العلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا، وفضلي فليرجوا[4]، فان رحمتي عند ذلك تدركهم، ومني يبلغهم رضواني، ومغفرتي تلبسهم عفوي، فاني انا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسميت ". وعن ابي جعفر (ع) قال: " وجدنا في كتاب علي (ع) ان رسول الله (ص) قال وهو على منبره: والذي لا إله إلا هو ما أعطى مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلا بحسن ظنه بالله ورجائه له وحسن خلقه والكف عن اغتياب المؤمنين، والذي لا إله إلا هو لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصيره من رجائه وسوء خلقه واغتيابه للمؤمنين، والذي لا إله إلا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لان الله كريم بيده الخيرات يستحيي[5] ان يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يختلف ظنه ورجاءه، فاحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه ".

(الثالث) ما ورد في استغفار الملائكة والانبياء للمؤمنين كقوله تعالى:

" والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض "[6].

وقوله (ص): " حياتي خير لكم وموتي خير لكم، اما حياتي فاسن لكم السنن واشرع لكم الشرائع، واما موتي فان أعمالكم تعرض علي، فما رأيت منها حسناً حمدت الله عليه وما رأيت منها سيئاً استغفرت الله لكم ".

(الرابع) ما ورد في تأجيل المذنب إلى ان يستغفر، كقول الباقر (ع): " ان العبد إذا اذنب أجل من غدوة إلى الليل، فان استغفر لم يكتب عليه"[7]. وقول الصادق (ع): " من عمل سيئة أجل فيها سبع ساعات من النهار، فان قال: استغفر الله الذي لا إله إلا الله هو الحي القيوم واتوب إليه ثلاث مرات، لم تكتب عليه ".

(الخامس) ما ورد في شفاعة النبي (ص) كقوله تعالى:

" ولسوف يعطيك ربك فترضى "[8]

وقد ورد في تفسيره ان لا يرضى محمد وواحد من امته في النار، وقوله (ص): " ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "، وكذا ما ورد في شفاعة الائمة والمؤمنين.

(السادس) ما ورد من البشارات للشيعة ومن عدم خلودهم في النار، ومن ان حب النبي (ص) والعترة الطاهرة ينجيهم من العذاب، وان فعلوا ما فعلوا.

(السابع) ما دل على ان النار انما عدها الله لاعدائه من الكافرين، وانما يخوف بها أولياءه، كفوله تعالى.

" لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده "[9]، وقوله: "واتقوا النار التي أعدت للكافرين "[10] وقوله: لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى "[11].

(الثامن) ما ورد في سعة عفو الله ومغفرته ووفور رأفته ورحمته، كقوله:

" وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم "[12]

وما روى في تفسير قوله تعالى:

يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه[13]

" ان الله أوحى إلى نبيه: اني اجعل حساب أمتك اليك، فقال: لا يارب! أنت خير لهم مني[14]، فقال اذن لا أخزيك فيهم " وما روى: " انه (ص) قال يوماً: يا كريم العفو! فقال جبرئيل: أتدري ما تفسير يا كريم العفو؟ هو: انه يعفو عن السيئات برحمته ثم يبدلها حسنات بكرمه"[15]. وما ورد: ان العبد إذا أذنب فاستغفر، يقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي أذنب ذنباً، فعلم ان له رباً يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب أشهدكم اني قد غفرت له. وما ورد في الخبر القدسي: انما خلقت الخلق ليربحوا علي، ولم أخلقهم لأربح عليهم ". وما ورد من " انه لو لم يذنبوا، لخلق الله تعالى خلقاً يذنبون ليغفر لهم " وقوله (ص): " والذي نفسي بيده. الله ارحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها " وما ورد من " انه سبحانه ليغفرن يوم القيامة مغفرة ما خطرت قط على قلب احد حتى ان ابليس يتطاول لها رجاء ان تصيبه". والآيات والأخبار الواردة في هذا المعنى متجاوزة عن حد التواتر.

(التاسع) ما دل على ان ابتلاء المؤمن في الدنيا بالبلايا والأمراض كفارة لذنوبه، كقوله (ص): " الحمى من قيح جهنم، وهي حظ المؤمن من النار ".

(العاشر) ما ورد في ان الايمان لا يضر معه عمل، كما ان الكفر لا ينفع معه عمل، وفي انه قد يغفر الله عبداً ويدخله الجنة لاجل مثقال ذرة من الايمان أو عمل جزئي من الاعمال الصالحة.

(الحادي عشر) ما ورد في الترغيب على حسن الظن بالله، كقوله (ص): " لا يموتن احدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله " وقوله (ص): " يقول الله تعالى: انا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ". وقول الرضا (ع): " احسن الظن بالله، فان الله عز وجل يقول: انا عند ظن عبدي لي، ان خيراً فخير وان شراً فشر ". وقول الصادق (ع): "حسن الظن بالله: ألا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلاّ ذنبك" وقد تقدم بعض أخبار اخر في هذا المعنى. ثم إيجاب حسن الظن للرجاء وجلبه له مما لا ريب فيه.

(الثاني عشر) ما دل على ان الكفار أو النصاب يكونون يوم القيامة فداء للمؤمنين أو الشيعة، كما روى أنه (ص) قال: " امتي امة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة، وعجل عقابها في الدنيا بالزلزال والفتن، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من امتي رجل من أهل الكتاب، فقيل هذا فداؤك من النار ". وعن أهل البيت (ع): " ان النصاب يجعلون فداء لشيعتنا بظلمهم اياهم ووقيعتهم فيهم ". وعن الصادق (ع): " سيؤتى بالواحد من مقصري شيعتنا في اعماله، بعد ان صان الولاية والتقية وحقوق اخوانه، ويوقف بازائه ما بين مائة واكثر من ذلك إلى مائة الف من النصاب، فيقال له: هؤلاء فداؤك من النار، فيدخل هؤلاء المؤمنون إلى الجنة وأولئك النصاب إلى النار، وذلك ما قال تعالى:

" ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين "[16]

في الدنيا منقادين للامامة، ليجعل مخالفوهم من النار فداءهم ".

وأما (الثاني) ـ اعني ما يدل على أن رجاء المغفرة والعفو والرحمة إنما هو بعد العمل ـ فأكثر من أن يحصى، كقوله تعالى:

" إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله "[17]. وقوله: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا "[18]

وقول النبي (ص): " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الجنة ". وما روي عن الصادق (ع) أنه قيل له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون: نرجوا فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت، فقال: " هؤلاء قوم يترجحون في الاماني كذبوا ليسوا براجين، "إن"[19] من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شىء هرب منه" وعن علي بن محمد، قال: قلت له عليه السلام: إن قوماً من مواليك يلمون بالمعاصي ويقولون نرجوا، فقال: " كذبوا، ليسوا لنا بموال أولئك قوم ترجحت بهم الاماني. من رجا شيئاً عمل له، ومن خاف شيئاَ هرب منه". وعنه قال: " لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجيا، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو ".

 فصل

(مواقع الخوف والرجاء وترجيح أحدهما على الآخر)

قد عرفت أن الخوف والرجاء محمودان، لكونهما باعثين على العمل، ودواءين يداوى بهما أمراض القلوب، ففضل كل منهما إنما هو بحسب ما يترتب عليه من فائدة العمل ومعالجة المرض.

وهذا يختلف باختلاف الاشخاص: فمن كان تأثير الخوف في بعثه على العمل اكثر من تأثير الرجاء فيه، فالخوف له أصلح من الرجاء، ومن كان بالعكس فبالعكس ومن غلب عليه مرض الأمن من مكر الله والاغترار به، فالخوف له اصلح. ومن غلب عليه اليأس والقنوط، فالرجاء له اصلح. ومن انهمك في المعاصي، فالخوف له اصلح. ومن ترك ظاهر الاثم وباطنه وخفيه وجليه، فالاصلح له ان يعتدل خوفه ورجاؤه.

والوجه في ذلك: ان كل ما يراد به المقصود، ففضله إنما يظهر بالاضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه، فلو فرض تساويهما في البعث على العمل ولم يغلب شىء من المذكورات، فالاصلح اعتدالهما، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لبعض ولده: " يابني: خف الله خوفا ترى انك إن اتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك، وارج الله رجاء كأنك لو اتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك ". وقال الباقر (ع): " ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، وقد جمع الله سبحانه بينهما في وصف من اثنى عليهم، فقال: يدعون ربهم خوفا وطمعا وقال: يدعوننا رغبا ورهبا ". وعن الحارث بن المغيرة قال: قلت للصادق (ع): ما كان في وصية لقمان؟ قال: " كان فيها الاعاجيب، وكان اعجب ما كان فيها ان قال لابنه: خف الله عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك "، ثم قال (ع): " كان ابي عليه السلام يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران. نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا ".

وقال (ع): " الخوف رقيب القلب، والرجاء شفيع النفس، ومن كان بالله عارفاً كان من الله خائفاً وإليه راجياً، وهما جناحا الايمان، يطير العبد المحلق بهما إلى رضوان الله، وعينا عقله، يبصر بهما إلى وعد الله ووعيده، والخوف طالع عدل الله وناعى وعيده، والرجاء داعي فضل الله، وهو يحيى القلب، والخوف يميت النفس... ومن عبدالله على ميزان الخوف والرجاء لا يضل، ويصل إلى مأموله، وكيف لا يخاف العبد وهو غير عالم بما تختم صحيفته، ولا له عمل يتوسل به استحقاقاً، ولا قدرة له على شىء ولا مفر، وكيف لا يرجو وهو يعرف نفسه بالعجز، وهو غريق في بحر آلاء الله ونعمائه من حيث لا تحصى ولا تعد، والمحب يعبد ربه على الرجاء بمشاهدة احواله بعين سهر[20]، والزاهد يعبد على الخوف "[21].

وقد ظهر مما ذكر: ان الرجاء اصلح وافضل في موضعين: (احدهما) في حق من تفتر نفسه عن فضائل الاعمال ويقتصر على الفرائض، وكان الرجاء باعثاً له على التشمير والنشاط للطاعات، ومثله ينبغي ان يرجي نفسه نعم الله تعالى وما وعد الله به الصالحين في العليين، حتى ينبعث من رجائه نشاط العبادة. (ثانيهما) في حق العاصي المنهمك إذا خطر له خاطر التوبة، فيقنطه الشيطان من رحمة الله، ويقول له: كيف تقبل التوبة من مثلك؟ فعند هذا يجب عليه ان يقمع قنوطه بالرجاء ويتذكر ما ورد فيه، كقوله تعالى:

" لا تقنطوا من رحمة الله "[22] وقوله: " وإني لغفار لمن تاب "[23].

ويتوب ويتوقع المغفرة مع التوبة لا بدونها، إذ لو توقع المغفرة مع الاصرار كان مغروراً. والرجاء الاول يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمير والثاني يقطع القنوط المانع من التوبة.

فصل

(العمل على الرجاء اعلى منه على الخوف)

العمل على الرجاء اعلى منه على الخوف، لان اقرب العباد احبهم اليه، والحب يغلب بالرجاء. واعتبر ذلك بملكين يخدم احدهما خوفاً من عقابه والآخر رجاء لعطائه، ولذلك عير الله اقواماً يظنون السوء بالله، قال:

" وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم "[24].

وقال:

" وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً "[25].

وورد في الرجاء وحسن الظن ما ورد ـ كما تقدم ـ وفي الخبر: " ان الله تعالى اوحى إلى داود: احبني واحب من يحبني وحببني إلى خلقي، فقال: يارب: كيف احببك إلى خلقك؟ قال: اذكرني بالحسن الجميل، واذكر آلائي واحساني، وذكرهم ذلك، فانهم لايعرفون مني إني الجميل". ورأى بعض الأكابر في النوم ـ وكان يكثر ذكر ابواب الرجاء ـ فقال: ” اوقفني الله بين يديه، فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ فقلت: اردت ان احببك إلى خلقك. فقال: قد غفرت لك ".

هذا مع ان الرجاء افضل من الخوف للعبد بالنظر إلى مطلعهما، إذ الرجاء مستقى من بحر الرحمة والخوف مستقى من بحر الغضب. ومن لاحظ من صفات الله ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه اغلب، وليس وراء المحبة مقام. وأما الخوف فمستنده إلاّ لتفات إلى الصفات التي تقتضي الغضب فلا تمازجه المحبة كممازجتها للرجاء. نعم، لما كانت المعاصي والاغترار على الخلق أغلب، (لا) سيما على الموجودين في هذا الزمان، فالأصلح لهم غلبة الخوف، بشرط ألا يخرجهم إلى اليأس وقطع العمل، بل يحثهم على العمل، ويكدر شهواتهم، ويزعج قلوبهم عن الركون إلى دار الغرور، ويدعوهم إلى التجافي عن عالم الزور، إذ مع غلبة المعاصي على الطاعات لاريب في أصلحية الخوف، (لا) سيما أن الآفات الخفية: من الشرك الخفي، والنفاق، والرياء وغير ذلك من خفايا الأخلاق الخبيثة في اكثر الناس موجودة، ومحبة الشهوات والحطام الدنيوي في بواطنهم كامنة، وأهوال سكرات الموت واضطراب الاعتقاد عنده ممكنة، ومناقشات الحساب ورد اعمالهم الصالحة لأسباب خفية محتملة، فمن عرف حقائق هذه الامور، فان كان ضعيف القلب جباناً في نفسه غلب خوفه على رجائه، وإن كان قوى القلب ثابت الجأش تام المعرفة استوى خوفه ورجاؤه. وأما أن يغلب رجاؤه فلا، بل غلبته إنما هو من الاغترار وقلة التدبر، كما في غالب الناس، بل الأصلح لهم غلبة الخوف، ولكن قبل الاشراف على الموت، وأما عنده فالأصلح لهم غلبة الرجاء وحسن الظن، لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل، وقد انقضى وقته وهو لا يطيق هنا أسباب الخوف، لأنها تقطع نياط قلبه وتعين على تعجيل موته وأما روح الرجاء فيقوي قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه.

وينبغي ان لا يفارق أحد الدنيا إلاّ محباً لله، ليكون محباً للقائه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن أحب الله ولقاءه، وعلم انه تعالى أيضاًً يحب لقاءه، اشتاق إليه تعالى، وكان فرحاناً بالقدوم عليه، إذ من قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته، ومن فارق محبوبه اشتد عذابه ومحنته، فمهما كان الغالب على القلب عند الموت حب الأهل والولد والمال كانت محابه كلها في الدنيا، فكانت الدنيا جنته، إذ الجنة هي البقعة الجامعة لجميع المحاب، فكان موته خروجاً عن الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه. وهذا أول ما يلقاه كل محب للدنيا، فضلا عما أعد الله له من ضروب الخزي والنكال والسلاسل والأغلال. وأما إذا لم يكن له محبوب سوى الله وسوى معرفته وحبه وانسه، فالدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب، فالدنيا أول سجنه، إذ السجن هي البقعة المانعة عن الوصول إلى محابه، فموته خلاص له من السجن وقدوم على المحبوب، ولا يخفى حال من خلص من السجن وخلي بينه وبين محبوبه، وهذا أول ابتهاج يلقاه من كان محباً لله غير محب للدنيا وما فيها، فضلا عما اعده الله مما لاعين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

 


[1]  الزمر، الآية: 53.

[2]  يوسف، الآية: 13.

[3]  روى (احياء العلوم: ج4 ص125) هذا الحديث عن النبي (ص).

[4]  في الكافي في (باب حسن الظن بالله عز وجل) تقديم وتأخير عما هنا، قفد جاء فيه: "وفضلي فليرجوا وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا ".

[5]  في الكافي في (باب حسن الظن): (يستحي).

[6]  الشورى، الآية: 5.

[7]  روى الكافي في (باب الاستغفار من الذنب) هذا الحديث عن الصادق (ع).

[8]  الضحى، الآية: 5.

[9]  الزمر، الآية: 16.

[10] آل عمران، الآية: 131.

[11]  الليل، الآية: 15 ـ 16.

[12]  الرعد، الآية 6.

[13]  التحريم، الآية 8.

[14]  في (احياء العلوم: ج4 ص128) هكذا: " انت ارحم بهم مني". وكذا بدل لا اخزيك: "لا نخزيك".

[15]  في (احياء العلوم: ص129 من ج4) هكذا: " هو ان عفا عن السيئات برحمته بدلها حسنات بكرمه ".

[16]  الحجر، الآية: 2.

[17]  البقرة، الآية: 218.

[18]  الاعراف، الآية: 169.

[19]  روى الحديث في الكافي (باب الرجاء) وليس فيه كلمة "إن".

[20]  هكذا في نسخ هذا الكتاب ونسخة البحار، ولم نعثر على استعمال (سهر) للمبالغة في معنى ساهرة.

[21]  هذه الرواية نقلها في البحار (الجزء الثاني من المجلد 15 في باب الخوف والرجاء) عن مصباح الشريعة، وقد تقدم راي صاحب البحار في مصباح الشريعة ص121 في تعليقتنا وهذه الرواية ظاهرة انها ليست من اسلوب كلام الإمام (ع).

[22]  الزمر، الآية: 53.

[23]  طه، الآية: 82.

[24]  فصلت، الآية: 23.

[25] الفتح، الآية: 12.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست