.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

العجلة

الأناة والتوقف والسكينة والوقار

سوء الظن بالخالق والمخلوق

حسن الظن

الغضب

الإفراط والتفريط والاعتدال في قوة الغضب

الغضب

 

العجلة

وهي المعنى الراتب في القلب، الباعث على الاقدام على الامور بأول خاطر، من دون توقف واستبطاء في اتباعها والعمل بها. وقد عرفت انه من لوازم ضعف النفس وصغرها، وهو من الابواب العظيمة للشيطان، قد أهلك به كثيراً من الناس، قال رسول الله (ص): " العجلة من الشيطان. والتأني من الله ". وقد خاطب الله تعالى نبيه (ص) بقوله:

" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه "[1]،

وقد روي: " انه لما ولد عيسى (ع) أتت الشياطين ابليس، فقالت اصبحت الاصنام قد نكست رؤسها. فقال: هذا حادث قد حدث، مكانكم. فطار حتى جاء خافقي الارض، فلم يجد شيئاً، ثم وجد عيسى (ع) قد ولد، وإذا الملائكة قد حفت حوله، فرجع اليهم، فقال: ان نبياً قد ولد البارحة، ما حملت انثى قط ولا وضعت إلاّ وانا بحضرتها، إلا هذا فايأسوا أن تعبد الاصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلة والخفة".

والظواهر في ذم العجلة اكثر من ان تحصى، ولذلك افتى بعض علماء العامة بالمنع من التعجيل لمن خاف فوت صلاة الجمعة. والسر في شدة ذمها: ان الاعمال ينبغي ان تكون بعد المعرفة والبصيرة، وهما موقوفان على التأمل والمهلة، والعجلة تمنع من ذلك، فمن يستعجل في امر يلقى الشيطان شره عليه من حيث لا يدري. والتجربة شاهدة بأن كل امر يصدر على العجلة يوجب الندامة والخسران، وكل ما يصدر على التأني والتثبت لا تعرض بعده ندامة، بل يكون مرضياً وبأن كل خفيف عجول ساقط عن العيون، ولا وقع له عند القلوب. والمتأمل في الامور يعلم ان العجلة هو السبب الاعظم لتبديل نعيم الآخرة وملك الابد بخسائس الدنيا ومزخرفاتها.

وبيان ذلك: انه لاريب في أن احب اللذات وألذها للنفس هو الغلبة والاستيلاء، لانها من صفات الربوبية التي هي مطلوبة بالطبع للنفوس المجردة. والسر فيه: ان كل معلول من سنخ علته، ويناسبها في صفاتها وآثارها، وغاية ابتهاجه ان يتصف بمثل كمالاتها، ولذا قيل: " كل ما يصدر عن شيء لا يمكن ان يكون من جميع الجهات هو هو، ولا أن يكون من جميع الجهات ليس هو بل من جهة هو هو ومن جهة ليس هو". وهذا معنى كلام قدماء الحكمة: (الممكن زوج تركيبي). ولا ريب في ان جميع الموجودات معلومة للواجب سبحانه، صادرة عن محض وجوده ومترشحة عن فيضه ووجوده، فهو غاية الكل والكل طالبة نحو كمالاته، إلا ان ما هو في سلسلة الصدور إليه اقرب والواسطة بينهما اقل، تكون مناسبة له اتم وشوقه إلى الاتصاف بكماله أشد ولا ريب في ان الذوات المجردة النورية التي هي من عالم الامر مقتبسة من مشكاة نوره، فلها غاية القرب إليه في سلسلة الصدور، فتكون شديدة الشوق إلى الاتصاف بنحو كماله. والنفس الإنسانية لكونها منها ومن عالم الامر ـ كما قال الله تعالى ـ:

" قل الروح من أمر ربي "[2]

تكون مثلها في القرب إليه تعالى أو في المناسبة له، فلها غاية الشوق في الاتصاف بصفاته وكمالاته التي من جملتها الغلبة والاستعلاء، وليس ذلك مذموماً، إذ ينبغي لكل عبد ان يطلب ملكا عظيماً لا أخر له، وسعادة دائمية لا نفاد لها، وبقاء لا فناء فيه، وعز لا ذل معه، وأمناً لا خوف فيه، وغنى لا فقر معه، وكمالا لا نقصان فيه. وهذه كلها من أوصاف الربوبية، وطالبها طالب للعلو والعز والكمال لا محالة.

فالمذموم من الرئاسة والاستيلاء انما هو الغلظ الذي وقع للنفس بسبب تغرير اللعين المبعد عن عالم الامر، إذ حسدها على كونها من عالم الامر، فأضلها واغواها من طريق العجلة، فزين في نظره الملك الفاني المشوب بانواع الآلام، لكونه عاجلا، وصده عن الملك المخلد الدائم الذي لا يشوبه كدر ولا يقطعه قاطع، لكونه آجلا. والمسكين المخذول ابن آدم لما خلق عجولا راغباً في العاجلة، لما جاءه المطرود من عالم الامر، وتوسل اله بواسطة العجلة التي في طبعه، واستغواه بالعاجلة، وأمال قلبه إلى عدم الاعتناء بالآجلة، وزين له الحاضرة، ووعده بالغرور وبالتمني على الله في باب الآخرة، فانخدع بغروره واشتغل بطلب ملك الدنيا ومزخرفاتها مع فنائها، وترك سلطنة الآخرة مع بقائها، ولم يتأمل المسكين في أن ملك الدنيا ورئاستها ليس كمالا ولا علواً واستيلاء في الحقيقة، بل هو صفة نقص يصده عن الكمال الحقيقي والرئاسة المعنوية. مثال ذلك. أنه لا ريب في أن الحب والعشق صفة كمال، ولكن إذا وقع في موقعه، وذلك إذا كان المحبوب شريفاً كاملاً في ذاته وصفاته، فحب الله سبحانه أشرف الصفات الكمالية، وحب الجمادات وخسائس الحيوانات أخس الرذائل النفسية، فكل من كان جاهلا بحقائق الأمور ينخدع بغروره، ويختار الملك العاجل الفاني على السلطنة الآجلة الباقية، وأما العالم الموفق فلا يتدلى بحبل غروره، إذ علم مداخل مكره، فاعرض عن العاجلة واختار الآجلة.

ولما استطار مكر اللعين في كافة الخلق، أرسل الله اليهم الأنبياء، واشتغلوا بدعوتهم من الملك المجازى الذي لا أصل له ولا دوام ان سلم إلى الملك الحقيقي الذي لا زوال له اصلا، فنادوا فيهم:

(يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة إلا قليل)[3]

وذموا من اختار العاجلة الفانية على الآخرة الباقية، كما قال سبحانه:

" إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً "[4] وقال: " كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة "[5]

فالغرض من بعثة الرسل ليس إلا دعوة الخلق إلى الملك المخلد، ليكونوا ملوكاً في الآخرة بسبب القرب من الله تعالى، ودرك بقاء لا فناء فيه، وعز لاذل معه، وقرة عين أخفيت لا يعلمها أحد. والشيطان يدعوهم من طريق العجلة إلى ملك الدنيا الفاني، لعلمه بأن ما سمي ملك الدنيا، مع انه لا يسلم ولا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول الهموم في التدبيرات، يفوت به ملك الآخرة، إذ الدنيا والأخرة ضرتان. بل يفوت به الملك الحاضر الذي هو الزهد في الدنيا، إذ معناه ان يملك العبد شهوته وغضبه، فينقادان لباعث الدين واشارة الايمان. وهذا ملك بالاستحقاق، إذ به يصير صاحبه حراً وباستيلاء الشهوة يصير عبداً لبطنه وفرجه وسائر اعضائه، فيكون مسخراً مثل البهيمة، مملوكا يسخره زمام الشهوة، أخذ المخنقة إلى حيث يريد ويهوى فما اعظم اغترار الإنسان، إذ ظن أنه ينال الملك بأن يصير مملوكاً، وينال الربوبية بأن يصير عبداً. ومثل هذا هل يكون إلا معكوساً في الدنيا منكوسا في الآخرة؟. فقد ظهر أن منشأ الخسران في الدنيا والآخرة هو العجلة.

والطريق في علاجها: أن يتذكر فسادها، وسوء عاقبتها، وايجابها للخفة والمهانة عند الناس، وتأديتها إلى الندامة والخسران. ثم يتذكر شرافة الوقار الذي هو ضده، وكونه صفة الانبياء والأخيار، فيوطن نفسه على ألا يرتكب فعلا إلا بعد التأمل والمهلة، ولا يترك الطمأنينة والسكون باطناً وظاهراً في جميع أفعاله وسكناته، فإذا قعل ذلك مدة، ولو بالتكلف والتعمل، يصير ذلك عادة له، فتزول عنه هذه الصفة، وتحدث صفة الوقار والسكينة.

فصل

(الاناة والتوقف والوقار والسكينة)

     ضد العجلة (الاناة)[6]، وهو المعنى الراتب في القلب، الباعث على الاحتياط في الامور والنظر فيها، والتأني في اتباعها والعمل بها.

ثم (التوقف) قريب من التأني والأناة، والفرق بينهما: أن التوقف هو السكون قبل الدخول في الأمور حتى يستبين له رشدها، والتأني سكون وطمأنينة بعد الدخول فيها، حتى يؤدي لكل جزء منها حقه، وضد التوقف والتعسف.

و(الوقار) يتناول الأناة والتوقف كليهما، فهو طمأنينة النفس وسكونها في الأقوال والافعال والحركات قبل الدخول فيها وبعدها. وهو من نتائج قوة النفس وكبرها. وما قل من الفضائل النفسانية أن يبلغ مرتبته في الشرافة، ولذا يمدح به الانبياء والاصفياء، وورد في الاخبار: " أن المؤمن متصف به ألبتة" فينبغي لكل مؤمن أن يتكلف آثاره في الحركات والافعال، حتى يصير بالتدريج ملكة، وتكلف الطمأنينة في الافعال والحركات قبل ان تصير ملكة يختص باسم الوقار، وإذا صارت ملكة سميت سكينة، إذ هي طمأنينة الباطن، والوقار اطمئنان الظاهر.

ومنها:

سوء الظن بالخالق والمخلوق

وهو من نتائج الجبن وضعف النفس، إذ كل جبان ضعيف النفس تذعن نفسه لكل فكر فاسد يدخل في وهمه ويتبعه، وقد يترتب عليه الخوف والغم وهو من المهلكات العظيمة، وقد قال الله سبحانه:

" يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثمٌ "[7]. وقال تعالى: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم "[8]. وقال: وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً "[9].

وقال أمير المؤمنين (ع): " ضع امر اخيك على احسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من اخيك سوءاً وانت تجد لها في الخير محملاً ".ولا ريب في ان من حكم بظنه على غيره بالشر، بعثه الشيطان على ان يغتابه أو يتوانى في تعظيمه وإكرامه، أو يقصر فيما يلزمه من القيام بحقوقه، أو ينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيراً منه وكل ذلك من المهلكات. على ان سوء الظن بالناس من لوازم خبث الباطن وقذارته، كما ان حسن الظن من علائم سلامة القلب وطهارته، فكل من يسيء الظن بالناس ويطلب عيوبهم وعثراتهم فهو خبيث النفس سقيم الفؤاد، وكل من يحسن الظن بهم ويستر عيوبهم فهو سليم الصدر طيب الباطن، فالمؤمن يظهر محاسن اخيه، والمنافق يطلب مساويه، وكل اناء يترشح بما فيه.

والسر في خباثة سوء الظن وتحريمه وصدوره عن خبث الضمير واغواء الشيطان: ان اسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لأحد ان يعتقد في حق غيره سوءاً إلا إذا انكشف له بعيان لا يقبل التأويل، إذ حينئذ لا يمكنه إلاّ يعتقد ماشاهده وعلمه، واما مالم يشاهده ولم يعلمه ولم يسمعه وإنما وقع في قلبه، فالشيطان القاه إليه، فينبغي ان يكذبه، لأنه افسق الفسقة، وقد قال الله:

" إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ[10].

فلا يجوز تصديق اللعين في نبأه، وإن حف بقرائن الفساد، ما احتمل التأويل والخلاف فلو رأيت عالما في بيت أمير ظالم لا تظنن ان الباعث طلب الحطام المحرمة، لا حتمال كون الباعث إغاثة مظلوم. ولو وجدت رائحة الخمر في فم مسلم فلا تجزمن بشرب الخمر ووجوب الحد، إذ يمكن انه تمضمض بالخمر ومجه وما شربه، أو شربه اكراهاً وقهراً. فلا يستباح سوء الظن إلا بما يستباح به المال، وهو صريح المشاهدة، أو قيام بينة فاضلة.

ولو اخبرك عدل واحد بسوء من مسلم، وجب عليك ان تتوقف في إخباره من غير تصديق ولا تكذيب، إذ لو كذبته لكنت خائناً على هذا العدل، إذ ظننت به الكذب، وذلك أيضاً من سوء الظن، وكذا إن ظننت به العداوة أو الحسد أو المقت لتتطرق لأجله التهمة، فترد شهادته، ولو صدقته لكنت خائنا على المسلم المخبر عنه، إذ ظننت به السوء، مع احتمال كون العدل المخبر ساهياً، أو التباس الامر عليه بحيث لا يكون في أخباره بخلاف الواقع آثماً وفاسقاً. وبالجملة: لا ينبغي أن تحسن الظن بالواحد وتسيء بالآخر، فتذكر المذكور حاله على ما كان في الستر والحجاب، إذ لم ينكشف لك حاله بأحد القواطع، ولا بحجة شرعية يجب قبولها، وتحمل خبر العدل على امكان تطرق شبهة مجوزة للاخبار، وإن لم يكن مطابقا للواقع.

ثم المراد بسوء الظن هو عقد القلب وميل النفس دون مجرد الخواطر وحديث النفس، بل الشك أيضاً، إذ المنهي عنه في الآيات والأخبار إنما هو أن يظن، والظن هو الطرف الراجح الموجب لميل النفس إليه. والامارات التي بها يمتاز العقد عن مجرد الخواطر وحديث النفس، هو أن يتغير القلب منه عما كان من الألف والمحبة إلى الكراهة والنفرة، والجوارح عما كانت عليه من الافعال اللازمة في المعاشرات إلى خلافها. والدليل على ان المراد هو ما ذكر، قوله (ص): ثلاث في المؤمن لا تستحسن وله منهن مخرج، فمخرجه من سوء الظن ألا يحققه "، أي لا يحقق في نفسه بعقد ولا فعل، لا في القلب ولا في الجوارح.

ثم لكون سوء الظن من المهلكات، منع الشرع من التعرض للتهمة، صيانة لنفوس الناس عنه، فقال (ص): " إتقوا مواقع التهم ". وقال أمير المؤمنين (ع): " من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن ". وروى: " انه (ص) كان يكلم زوجته صفية بنت حي ابن أخطب، فمر به رجل من الأنصار، فدعاه رسول الله، وقال: يا فلان! هذه زوجتي صفية. فقال: يا رسول الله أفنظن بك إلا خيراً؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فخشيت أن يدخل عليك " فانظر كيف أشفق رسول الله (ص) على دينه فحرسه وكيف علم الأمة طريق الاحتراز عن التهمة، حتى لا يظن العالم الورع المعروف بالتقوى والدين أن الناس لا يظنون به إلا خيراً، أعجاباً منه بنفسه، فان مالا جزم بتحققه في حق سيد الرسل واشرفهم، فكيف يجزم بتحققه في حق غيره، وإن بلغ من العلم والورع ما بلغ. والسر في ذلك: أن أورع الناس وافضلهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل إن نظر إليه بعضهم بعين الرضا ينظر إليه بعض آخر بعين السخط:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة            ولكن عين السخط تبدي المساويا

فكل عدو وحاسد لا ينظر إلا بعين السخط، فيكتم المحاسن ويطلب المساوي وكل شرير لا يظن بالناس كلهم إلاّ شراً، وكل معيوب مفتضح عند الناس يحب ان يفتضح غيره وتظهر عيوبه عندهم، لأ البلية إذا عمت هانت، ولأن يشتغل الناس به فلا تطول السنتهم فيه. فاللازم لكل مؤمن ألا يتعرض لموضع التهمة حتى يوقع الناس في المعصية بسوء الظن، فيكون شريكا في معصيتهم، إذ كل من كان سببا لمعصية غيره يكون شريكاً له في هذه المعصية. ولذا قال الله تعالى:

" ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علمٍ "[11].

وقال رسول الله (ص): " كيف ترون من يسب ابويه؟ فقالوا: هل من احد يسب ابويه؟ فقال: نعم! يسب ابوي غيره فيسبون ابويه ".

ثم طريق المعالجة في ازالته ـ بعد تذكر ما تقدم من فساده وما يأتي من فضيلة ضده ـ انه  إذا خطر لك خاطر سوء على مسلم، لا تتبعه، ولا تحققه ولا تغير قلبك عما كان عليه بالنسبة إليه، من المراعاة والتفقد والإكرام والاعتماد بسببه، بل ينبغي أن تزيد في مراعاته واعظامه وتدعو له بالخير، فان ذلك يقنط الشيطان ويدفعه عنك، فلا يلقى إليك خاطر السوء خوفاً من اشتغالك بالدعاء وزيادة الاكرام. ومهما عرفت عثرة من مسلم فانصحه في السر ولا تبادر إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على عيبه، لتنظر إليه بعين الحقارة، مع أنه ينظر إليك بعين التعظيم، بل ينبغي أن يكون قصدك استخلاصه من الاثم، وتكون محزوناً كما تحزن على نفسك إذا دخل عليك نقصان، وينبغي أن يكون تركه ذلك العيب من غير نصيحتك أحب إليك من تركه بنصيحتك، وإذا فعلت ذلك جمعت بين أجر نصيحته واجر الحزن بمصيبته واجر الاعانة على آخرته.

فصل

(حسن الظن)

قد عرفت أن ضد سوء الظن بالخالق والمخلوق هو (حسن الظن بهما) ولما كان الأول من لوازم ضعف النفس وصغرها، فالثاني من نتائج قوتها وثباتها، وفوائده أكثر من ان تحصى، وقد تقدمت الظواهر الواردة في مدحه، فينبغي لكل مؤمن ألا ييأس من روح الله، ولا يظن أنه لا يرحمه ويعذبه ألبتة ولا يخلصه من العقاب، وان ما يرد عليه في الدنيا من البلايا والمصائب هو شر له وعقوبة، بل ينبغي ان يعلم انه أرحم وأرأف به من والديه، وانما خلقه لاجل الفيض والجود، فلا بد ان يرحمه في دار الآخرة، ويخلصه من عذاب الأبد ويوصله إلى نعيم السرمد، وما يرد عليه من المصائب والبلايا في دار الدنيا خير له وصلاح، وذخيرة له في يوم المعاد.

وكذا لايظن السوء والشر بالمسلمين، ولا يحملن ماله وجه صحيح من أعمالهم واقوالهم على وجه فاسد، بل يجب ان يحمل كل ما يشاهده من أفعالهم وحركاتهم على أحسن الوجوه وأصحها، ما لم يجزم بفساده، ويكذب وهمه وسائر حواسه، فيما يذهب إليه من المحامل الفاسدة والاحتمالات القبيحة المحرمة، ويكلف نفسه على ذلك، حتى يصير ذلك ملكة له، فترتفع عنه ملكة سوء الظن بالكلية. نعم، الحمل على وجه الصحيح على تقدير عدم مطابقته للواقع، لو كان باعثاً لضرر مالي أو فساد ديني أو عرضي، لزم فيه الحزم والاحتياط، وعدم تعليق أموره الدينية والدنيوية عليه، لئلا يترتب عليه الخسران والاضرار، وتلزمه الفضيحة والعار.

ومنها:

 الغضب

وهو كيفية نفسانية موجبة لحركة الروح من الداخل إلى الخارج للغلبة، ومبدؤه شهوة الانتقام، وهو من جانب الافراط، وإذا اشتد يوجب حركة عنيفة، يمتلىء لأجلها الدماغ والأعصاب من الدخان المظلم، فيستر نور العقل ويضعف فعله، ولذا لا يؤثر في صاحبه الوعظ والنصيحة، بل تزيده الموعظة غلظة وشدة. قال بعض علماء الأخلاق: " الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة، إلاّ أنها لا تطلع إلاّ على الافئدة، وانها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، وتستخرجها حمية الدين من قلوب المؤمنين، أو حمية الجاهلية والكبر الدفين من قلوب الجبارين، التي لها عرق إلى الشيطان اللعين، حيث قال:

" خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ "[12]

فمن شأن الطين السكون والوقار، ومن شأن النار التلظي والاستعار ". ثم قوة الغضب تتوجه عند ثوارانها اما إلى دفع المؤذيات ان كان قبل وقوعها أو إلى التشفي والانتقام ان كان بعد وقوعها، فشهوتها إلى أحد هذين الأمرين ولذتها فيه، ولا تسكن إلاّ به. فان صدر الغضب على من يقدر ان يتنقم منه، واستشعر باقتداره على الانتقام، وانبسط الدم من الباطن إلى الظاهر، واحمر اللون، وهو الغضب الحقيقي. وان صدر على من لا يتمكن ان ينتقم منه للكونه فوقه، واستشعر باليأس عن الانتقام، انقبض الدم من الظاهر إلى الباطن، وصار حزناً. وان صدر على من يشك في الانتقام منه انبسط الدم تارة أو انقبض اخرى، فيحمر ويصفر ويضطرب.

فصل

(الافراط والتفريط والاعتدال في قوة الغضب)

الناس في هذه القوة على افراط وتفريط واعتدال. فالافراط: ان تغلب هذه الصفة حتى يخرج عن طاعة العقل والشرع وسياستهما، ولا تبقى له فكرة وبصيرة. والتفريط: ان يفقد هذه القوة أو تضعف بحيث لا يغضب عما ينبغي الغضب عليه شرعا وعقلا. والاعتدال: ان يصدر غضبه فيما ينبغي ولا يصدر في ما لا ينبغي، بحيث يخرج عن سياسة الشرع والعقل، بل يكون تابعاً لهما في الغضب وعدمه، فيكون غضبه وانتقامه بامرهما.ولا ريب في ان الاعتدال ليس مذموماً، ولا معدوداً من الغضب، بل هو من الشجاعة. والتفريط مذموم معدود من الجبن والمهانة، وربما كان أخبث من الغضب، إذ الفاقد لهذه القوة لاحمية له، وهو ناقص جداً. ومن آثاره عدم الغيرة على الحرم وصغر النفس. والجور، وتحمل الذل من الاخساء،والمداهنة في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والفحشاء. ولذا قيل! " من استغضب فلم يغضب فهو حمار"[13]. وقد وصف الله خيار الصحابة بالحمية والشدة فقال:

" أشداء على الكفّار "[14]

وخاطب نبيه (ص) بقوله:

" واغلظ عليهم "[15]

والشدة والغظة من آثار قوة الغضب، ففقد هذه القوة بالكلية أو ضعفها مذموم. وقد ظهر ان الغضب المعدود من الرذائل هو حد الافراط الذي يخرجه عن مقتضى العقل والدين، وحد التفريط وان كان رذيلة إلاّ انه ليس غضباً، بل هو ضد له معدود من الجبن، وحد الاعتدال فضيلة وضد له ومعدود من الشجاعة، فانحصر الغضب بالاول.

ثم الناس كما هم مختلفون في أصل قوة الغضب، كذلك مختلفون في حدوثه وزواله سرعة وبطأ، فيكونان في بعضهم سريعين، وفي بعضهم بطيئين وفي بعضهم يكن احدهما سريعاً والآخر بطيئاً، وفي بعضهم يكون كلاهما أو أحدهما متوسطاً بين السرعة والبطء. وما كان من ذلك باشارة العقل فهو ممدوح معدود من اوصاف الشجاعة، وغيره مذموم محسوب من آثار الغضب أو الجبن.

فصل

(الغضب)

(الغضب) من المهلكات العظيمة، وربما أدى إلى الشقاوة الابدية، من القتل والقطع، ولذا قيل: (انه جنون دفعى). قال أمير المزمنين (ع): " الحدة ضرب من الجنون، لان صاحبها يندم، فان لم يندم فجنونه مستحكم " وربما أدى إلى اختناق الحرارة، ويورث الموت فجأة. وقال بعض الحكماء: " السفينة التي وقعت في اللجج الغامرة، واضطربت بالرياح العاصفة وغشيتها الامواج الهائلة أرجى إلى الخلاص من الغضبان الملتهب ". وقد ورد به الذم الشديد في الاخبار، قال رسول الله (ص): " الغضب يفسد الايمان كما يفسد الخل العسل "، وقال الباقر (ع): " ان هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وان أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت اوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف احدكم ذلك من نفسه فليلزم الارض فان رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك ". وقال الصادق (ع): " كان أبي (ع) يقول: أي شيء أشد من الغضب؟ ان الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم الله، ويقذف المحصنة " وقال (ع)[16]: " ان الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار ". وقال الصادق (ع): " الغضب مفتاح كل شر ". وقال (ع): " الغضب ممحقة لقلب الحكيم ". وقال (ع): " من لم يملك غضبه لم يملك عقله ".

ثم مما يلزم الغضب من الآثار المهلكة الذميمة، والاغراض المضرة القبيحة: انطلاق اللسان بالشتم والسب، واظهار السوء والشماتة بالمساءة وافشاء الاسرار وهتك الاستار والسخرية والاستهزاء، وغير ذلك من قبيح الكلام الذي يستحيي منه العقلاء، وتوثب الاعضاء بالضرب والجرح والتمزيق والقتل وتأمل القلب بالحقد والحسد والعدواة والبغض ومما تلزمه الندامة بعد زواله، وعداوة الاصدقاء، واستهزاء الاراذل، وشماتة الاعداء، وتغير المزاج، وتألم الروح وسقم البدن، ومكافاة العاجل وعقوبة الآجل.

والعجب ممن توهم ان شدة الغضب من فرط الرجولية، مع ان ما يصدر عن الغضبان من الحركات القبيحة انما هو أفعال الصبيان والمجانين دون الرجال والعاقلين، كيف وقد تصدر عنه الحركات غير المنتظمة، من الشتم والسب بالنسبة إلى الشمس، والقمر، والسحاب، والمطر، والريح، والشجر، والحيوانات والجمادات، وربما يضرب القصعة على الارض، ويكسر المائدة، ويخاطب البهيمة والجماد كما يخاطب العقلاء، واذا عجز عن التشفي، ربما مزق ثوبه، ولطم وجهه، وقد يعدو عدو المدهوش المتحير، وربما اعتراه مثل الغشية، أو سقط على الارض لا يطيق النهوض والعدو. وكيف يكون مثل هذه الافعال القبيحة من فرط الرجولية وقد قال رسول الله (ص): " الشجاع من يملك نفسه عند غضبه ".



[1]  طه، الآية: 114.

[2]  الإسراء، الآية: 85.

[3]  التوبة، الآية: 38.

[4]  الدهر، الآية: 27.

[5]  القيامة، الآية: 20 ـ 21.

[6]  في النسخ (الاناءة)، فصححناه كما هنا.

[7] الحجرات، الآية: 12.

[8]  فصلت، الآية: 23.

[9]  الفتح، الآية: 12.

[10]  الحجرات، الآية: 6.

[11]  الانعام، الآية: 108.

[12]  الاعراف، الآية: 12. وص، الآية: 76.

[13]  هذه الكلمة منسوبة للشافعي ـ على ما في احياء العلوم: ج3 ص145و156.

[14]  الفتح، الآية: 29.

[15]  التوبة، الآية: 73.

[16]  أي: الباقر (ع) وقد روى هذه الاخبار المذكورة هنا الكافي في باب الغضب، فروى هذا الخبر عنه (ع) لا عن الصادق (ع).

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست