.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الخاطر المحمود والتفكر

مجاري التفكر في المخلوقات

 

   

فصل

(الخاطر المحمود والتفكر)

قد عرفت أن ضد الوسوسة الخاطر المحمود المستحسن شرعاً وعقلاً، لأن القلب إذا كان مشغولا بشيء لا يمكن أن يشغله شيء آخر، فإذا كان مشغولا بشيء من الخواطر المحمودة لا سبيل للخواطر المذمومة اليه، وربما كان للغفلة التي هي ضد النية تقابل لكل من الوسوسة والخاطر المحمود، إذ عند الغفلة لا يتحقق شيء منهما، إلا أن خلو القلب عن كل نية وخاطر بحيث يكون ساذجاً في غاية الندرة، على أن الظاهر أن مرادهم من الغفلة خلو الذهن من القصد الباعث وان كان مشغولا بالوساوس الباطلة، كما يأتي تحقيقه.

ثم الخاطر المحمود إن كان قصداً ونية لفعل جميل معين كان متعلقا بالقوة التي يتعلق هذا الفعل بها، وإلا كان راجعا اما إلى الذكر القلبي أو إلى التدبر في العلوم والمعارف والتفكر في عجائب صنع الله وغرائب عظمته، أو إلى التدبر الاجمالي الكلي فيما يقرب العبد إلى الله سبحانه أو ما يبعده عنه تعالى، وليس وراء ذلك خاطر محمود متعلق بالدين أو غير ذلك من الخواطر المذمومة المتعلقة بالدنيا.

واذا عرفت ذلك فاعلم: أنه من معالجات مرض الوسواس معرفة شرافة ضده الذي هو الخاطر المحمود، ليبعثه على المواظبة عليه الموجبة لدفع الوساوس. وفضيلة الخواطر المحمودة الباعثة على الافعال الجميلة يأتي ذكرها في باب النية وربما يعلم من بيان فضيلة نفس هذه الافعال أيضاً كما يأتي ذكرها في باب النية، وفضيلة الذكر القلبي يعلم في باب مطلق الذكر.

أما بيان شرافة التفكر وبعض مجاريه من أفعال الله تعالى والاشارة إلى كيفية التفكر فيها وفيما يقرب العبد إلى الله تعالى وفيما يبعده عنه، فلنشر إلى مجمل منه هنا لتعلقه بالقوة النظرية، فنقول:

التفكير: هو سير الباطن من المبادىء إلى المقاصد، والمبادىء: هي آيات الآفاق والأنفس، والمقصد: هو الوصول إلى معرفة موجدها ومبدعها والعلم بقدرته القاهرة وعظمته الباهرة، ولا يمكن لأحد أن يترقى من حضيض النقصان إلى اوج الكمال إلاّ بهذا السير، وهو مفتاح الأسرار ومشكاة الأنوار، ومنشأ الاعتبار ومبدأ الاستبصار، وشبكة المعارف الحقيقية ومصيدة الحقائق اليقينية، وهو أجنحة النفس للطيران إلى وكرها القدسي، ومطية الروح للمسافرة إلى وطنها الأصلي، وبه تنكشف ظلمة الجهل واستاره وتنجلي أنوار العلم واسراره، ولذا ورد عليه الحث والمدح في الآيات والأخبار كقوله سبحانه:

" أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق "[1]

وقوله تعالى:

" أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء "[2]

وقوله تعالى:

" فاعتبروا يا أولي الأبصار "[3]

وقوله تعالى:

" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق "[4]

وقوله تعالى:

" إن في خلق السموات والأرض لآيات لأولى الألباب "[5]

وقوله تعالى:

" وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون "[6]

وقوله تعالى:

" الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض "[7]

وقول رسول الله (ص): " التفكر حياة قلب البصير" وقوله (ص): " فكرة ساعة خير من عبادة سنة "، ولا ينال منزلة التفكر إلاّ من خصه الله عز وجل بنور التوحيد والمعرفة، وقوله (ص): " أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته "[8]، ومراده من التفكر في الله التفكر في قدرته وصنعه وفي عجائب افعاله ومخلوقاته وغرائب آثاره ومبدعاته، لا التفكر في ذاته، لكونه ممنوعا عنه في الاخبار، ومعللا بأنه يورث الحيرة والدهشة واضطراب العقل، وقد ورد: "إياكم والتفكر في الله، ولكن إذا أردتم ان تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه". واشتهر عن النبي (ص) انه قال: " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره "، وقول أمير المؤمنين (ع): " التفكر يدعو إلى البر والعمل به ", وقوله (ع): " نبه بالتفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق الله ربك " وقول الباقر (ع): " باجالة الفكر يستدر الرأي المعشب " وقول الصادق (ع): " الفكر مرآة الحسنات وكفارة السيئات، وضياء للقلوب وفسحة للخلق، واصابة في صلاح المعاد، واطلاع على العواقب، واستزادة في العلم، وهي خصلة لا يعبد الله بمثلها " وقول الرضا (ع): " ليس العبادة كثرة في الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في امر الله عز وجل ".

تكملة

(مجاري التفكر في المخلوقات)

الموجودات بأسرها مجاري التفكر ومطارح النظر، إذ كل ما في الوجود سوى واجب الوجود فهو من رشحات وجوده وآثار فيضه وجوده، وكل موجود ومخلوق من جوهر أو عرض مجرد أو مادى، فلكى أو عنصرى، بسيط أو مركب، فعل الله وصنعه، وما من ذرة من ذرات العالم إلا وفيها ضروب من عجائب حكمته وغرائب عظمته، بحيث لو تشمر عقلاء الأقطار وحكماء الأمصار مدى الاعصار لاستنباطها، انقضت اعمارهم دون الوقوف على عشر عشيرها وقليل من كثيرها.

ثم ان الموجودات المخلوقة منقسمة إلى مالا يعرف اصله فلا يمكننا التفكر فيه، وإلى ما يعرف اصله ومجمله من دون معرفة تفاصيله فيمكننا التفكر في تفصيله لتزداد لنا معرفة وبصيرة بخالقه. وهو إلى مالايدرك بحس البصر ويسمى بـ (الملكوت)، كالملائكة والجن والشياطين وعوالم العقول والنفوس المجردة، ولها أجناس وطبقات لايحيط بها إلا موجدها، وإلى ما يدرك به، وله أجناس ثلاثة: عالم السماوات المشاهدة بكواكبها ونجومها ودورانها في طلوعها وغروبها، وعالم الأرض المحسوسة ببحارها وجبالها ووهادها وتلالها ومعادنها وانهارها ونباتها وأشجارها وحيوانها وجمادها، وعالم الجو المدرك بسحبه وغيومه وأمطاره وثلوجه وشهبه وبروقه ورياحه ورعوده، وكل من هذه الأجناس الثلاثة ينقسم إلى أنواع، ويتشعب كل نوع إلى أقسام واصناف غير متناهية، مختلفة في الصفات والهيئات، واللوازم والآثار والخواص، والمعاني الظاهرة والباطنة، وليس شيء منها إلا وموجده هو الله سبحانه، وفي وجوده وحركته وسكونه حكم ومصالح لا تحصى.

وكل ذلك مجارى التفكر والتدبر لتحصيل المعرفة والبصيرة بخالقها الحكيم وموجدها القيوم العليم، إذ كلها شواهد عدل وبينات صدق على وحدانيته وحكمته وكمال كبريائه وعظمته، فمن قدم قدم حقيقته، ودار عالم الوجود وفتح عين بصيرته، وشاهد مملكة ربه الودود، لظهر له في كل ذرة من ذرات الخلق عجائب حكمة وغرائب قدرة، بهر منها عقله ووهمه، وحسر دونها لبه وفهمه.

ثم لاريب في أن طبقات العوالم المنتظمة المرتبة على النحو الأصلح والنهج الأحسن بأمر موجدها الحكيم ومدبرها العليم، مبتدأة في الصدور من الأشرف فالأشرف، حتى ينتهي إلى أسفل العوالم وأخسها، وهو عالم الأرض بما فيه، وكل عالم أسفل لاقدر له بالنسبة إلى ما فوقة، فلا قدر اللأرض بالنظر إلى عالم الجو، ولا للجو بالقياس إلى عالم السماوات، ولا للسماوات بالنسبة إلى عالم المثال، ولا للمثال بالنظر إلى عالم الملكوت، ولا للملكوت بالقياس إلى الجبروت، ولا للجميع بالنسبة إلى مالا سبيل لنا إلى دركه تفصيلا واجمالاً من عوالم الالوهية، كما ظهر لعلماء الطبيعة وأهل الرصد والهندسة، ووضح لأرباب المكاشفة والعرفان واصحاب المشاهدة والعيان.

ثم أخس العوالم الذى عرفت حاله ـ أعنى الأرض ـ لاقدر لما على ظهرها من الحيوان والنبات والجماد، بالنظر إلى نفسها، ولذا يفسد من أدنى تغير لها جل ما عليها، ولكل جنس مما عليها أنواع وأقسام وأصناف غير متناهية. وأضعف انواع الحيوان البعوضة والنحل، وأشرف أنواعه الإنسان فنحن نشير إلى نبذة يسيرة من الحكم والعجائب المودعة فيها، وكيفية التفكر فيها، ليقاس عليها البواقي اجمالا. فان بيان مجارى التفكر باسرها في حين المحال، وما يمكن منه خارج عن حيطة الضبط والتدوين، ولذا ترى أن البارعين من الحكماء والفائقين من اجلة العرفاء بذلوا وسعهم في بيان مجارى التفكر ومطارحه وشرح مجال النظر ومسارحه، فسطروا فيه الأساطير وملاوا منه الطوامير، وخاضوا في غمرات بحار الأفكار وغاصوا في تيار لجج الانظار، ومع ذلك لم يعودوا بالنظر إلى ماهو الواقع إلا صفر اليدين ورجعو آخر الامر (بخفي حنين). ونحن لو تعرضنا لشرح ما يمكن لنا دركه من الحكم والغرائب المودعة في عضو واحد من اعضائها على التفصيل لخرجنا عن وضع الكتاب، وارتكبنا ما يمل الناظرين من الاطناب، فنشير اجمالا إلى بعض مافيها من الحكم والعجائب، تنبيهاً للطالبين على كيفية التفكر في الصنائع الالهية، فنقول:

أما (البعوض) ـ فانظر كيف خلقه الله على صغر قدره على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات، وإذ خلق له خرطوماً كخرطومه، وخلق له مع صغره جميع الاعضاء التي خلقها للفيل بزيادة جناحين، فقسم اعضاءه الظاهرة، فأنبت جناحيه وأخرج يديه ورجليه، وشق سمعه وبصره، ودبر في باطنه اعضاء الغذاء، وركب فيها من القوى الغاذية والجاذبة والدافعة والماسكة والهاضمة ماركب في الحيوانات العظيمة ـ كما يأتي في الإنسان ـ ثم هداه إلى غذائه الذي هو دم الإنسان وغير من الحيوانات، فانبت له آلة الطيران إلى الإنسان، وخلق له الخرطوم الطويل وهو محدد الرأس، وهداه إلى الامتصاص من مسام بشرة الإنسان حتى يضع خرطومه في واحد من مسامه، ويغرز فيه ويمص الدم ويتجرعه، وخلق خرطومه ـ مع دقته ـ مجوفاً حتى يجرى فيه الدم الصافي الرقيق وينتهى إلى باطنه وينتشر في معدته وفي سائر أعضائه، وعرفه أن الإنسان يقصده بيده فعليه حيلة الهرب، وخلق له السمع الذي يسمع به حفيف حركة اليد مع كونها بعيدة منه، فيترك المص ويهرب، وإذا سكنت اليد عاد، وخلق له حدقتين حتى يبصر مواضع غذائه فيقصده مع صغر حجم وجهه، ولما كانت حدقة كل حيوان صغيرة بحيث لا يحتمل الأجفان لصغره، كانت الأجفان مصقلة لمرآة الحدقة عن القذى والغبار، خلق للبعوض والذباب وغيرهما من الحيوانات الصغيرة يدين ليمسح بهما حدقتيه ويطهرهما عن الغبار والقذى، أولا ترى الذباب أنه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه. وأما الإنسان وغيره من الحيوانات العظيمة خلق لحدقتيه الأجفان حتى ينطبق أحدهما على الآخر وأطرافهما حادة، فيجمع الغبار الذى يلحق الحدقة ويرميها إلى اطراف الاهداب. فهذه لمعة يسيرة من عجائب صنع الله فيه، وفيها من العجائب الظاهرة والباطنة مالو اجتمع الاولون والآخرون على الاحاطة بكنهها عجزوا عن حقيقتها.

أما (النحل) ـ فانظر كيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت:

" من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون "[9]

واستخرج من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والاخر شفاء وانظر في عجائب أمرها في تناولها الازهار والأنهار واجتنابها عن النجاسات والاقذار، وفي طاعتها وانقيادها لواحد من جملتهم، وأكبرهم شخصاً، وهو أميرهم. وانظر كيف علم الله أميرهم أن يحكم بالعدل والانصاف بينهم، حتى أنه ليقتل على باب النفذ كل ما وقع منها على نجاسة. ثم انظر إلى بناء بيوتها من الشمع واختيارها من جملة الاشكال المسدس، فلا يبنى مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً، بل اختار المسدس لخاصية يقصر عن دركها أفهام المهندسين، وهو أن أوسع الاشكال وأجودها المستدير، ثم ما يقرب منه، فان المربع تخرج منه زوايا ضايعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة، ولو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضايعة، لأن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة ولا شكل في الاشكال ذوات الزوايا يقرب في الوسعة والاحتواء من المستدير ثم تتراص الجملة منه بحيث لايبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس، فهذه خاصية هذا الشكل. فانظر كيف علم الله النحل مع صغر جرمها لطفاً بها وعناية بوجودها ليهنأ عيشها، فسبحانه ما أعظم شأنه، وما ذكرناه قدر يسير من عجائب الحكمة المودعة فيها، وما فيها من العجائب الظاهرة والباطنة مما لا يمكن الاحاطة به.

وأما (الإنسان) ـ فنقول: لاريب في أن أول كل انسان قطرة من ماء قذرة، لو خليت بنفسها لأنتنها الهواء وأفسدها، وكانت متفرقة في جميع اجزاء بدن الذكر، فالقى الله بلطائف حكمته محبة بينه وبين الانثى وقادهما بسلاسل الشهوة إلى الاجتماع، واستخرج هذه النطفة المنتنة بحركة الوقاع وأعطى لآلة الرجل قوة دافعة، ولرحم الانثى قوة جاذبة، حتى جذبتها من فم الاحليل إلى نفسها، وامتزجت بمني الانثى بحيث صارتا واحدة، واستقرت في الرحم، وجعل مبدأ عقد الصورة في مني الذكر، ومبدأ انعقادها في مني الانثى، فهما بالنظر إلى الجنين كالأنفحة واللبن بالقياس إلى الجبن، والحق إن لكل من المنيين القوة العاقدة والمنعقدة، إلا ان الأولى في الذكوري والثانية في الانوثي أقوى، وإلا لم يتحدا شيئاً واحداً، ولم ينعقد الذكوري حتى يصير جزأ من الولد. فلو كان مزاج الانثى ذكوريا كما في النساء الشريفة النفوس القوية القوى، وكان مزاج كبدها حاراً، كان المني المنفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيراً من المنفصل عن كليتها اليسى، فإذا اجتمعا في الرحم، وكان مزاج الرحم قويا في الامساك والجذب، قام المنفصل عن الكلية اليمنى مقام مني الذكر في شدة قوة العقد، والمنفصل من اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد، فيختلق الولد، وبهذا تتصحح ولادة مريم البتول ـ عليها السلام ـ حيث تمثل لها روح القدس بشراً سويا حسن الصورة، فمع تحقق ما ذكر لها تأيدت به ـ أي بروح القدس ـ وسرى أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن وتغير مزاجها ومد جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني، فصارت أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس.

ثم ابتدأ خلق الجنين في استقرار الماءين في الرحم، وشبه بالعجين إذا ألصق بالتنور، فغيره الله تعالى سبحانه عن حاله قليلا، كالبذر إذا نبت من الأرض، فصارت نطفة، فاستجلب دم الحيض من أعماق العروق إليها، حتى ظهرت فيها نقط دموية منه وصارت علقة. ثم أظهر فيها حمرة ظاهرة حتى صار شبيها بالدم الجامد، وهيج فيها ريحا حارة فصارت مضغة. ثم أظهر فيها رسوم الاعضاء وشكلها وصورها، فاحسن تصويرها، فقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة من العظام والاعصاب والعروق والأوتار واللحم والشحم.

ثم ركب الاعضاء الظاهرة والباطنة من اللحم والعروق والاعصاب، فدور الرأس، وشق البصر والسمع والفم والانف وسائر المنافذ، ومد اليد والرجل، وقسم رؤسها بالاصابع وقسم الاصابع بالأنامل، وخلق كل واحد من القلب والدماغ والكبد والطحال والمعدة والرئة والرحم والمثانة والامعاء وغيرها من الاعضاء على شكل مخصوص، وجعل لكل واحد منها عملا معينا وفعلا مخصوصا، وجميع ذلك يحصل للجنين وهو في ظلمة الاحشاء محبوس وفي دم الحيض مغموس، منضم في صرة، كفاه على خديه، ومرفقاه على حقويه، جمعت ركبتاه على صدره وذقنه على رأس ركبتيه، وهو كشبه نائم، سرته متصلة بسرة امه يمتص منها الغذاء، ووجهه إلى وجهها إن كان انثى وإلى ظهرها إن كان ذكراً. فتتوارد عليه تلك النقوش العجيبة والتصويرات الغريبة من غير خبر منها له وللرحم، ولا للأب والام، ولا يرى داخل النطفة أو الرحم ولا خارجهما نقاش يصل إليه أثر نقشه، فكأن الجنين بلسان حاله ينادي قلوب العارفين بنغمات تهيجها وترقصها: تصوروني في ظلمة الاحشاء مغموسا بدم الحيض، كيف يظهر التخطيط والتصوير على وجهي، فينقش النقاش اجفاني وحدقتي، ويصور المصور خدي وشفتي، ولا يزال يظهر علي نقش بعد نقش وصورة بعد صورة، ولا أرى نقاشا ولا مصوراً، أو لاتتعجبون من هذا النقاش الذي لايحتاج إلى تماس ومزاولة ولا يفتقر إلى آلة ومباشرة، أو لا تنتقلون من عجيب صنعه إلى عظيم قدرته وجسيم عظمته، اوليس لكم اعين بها تبصرون أو قلوب بها تفقهون، فكيف تنظرون إلى تكون اعضائي وعجائبها ولا تعتبرون؟!

فانظر الآن ـ ياحبيبي ـ في نبذ من العجائب والحكم المودعة في بعض من هذه الأعضاء، فتأمل في (العظام) التي هي أجسام قوية صلبة كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، وأحكمها وصلبها في الرحم بين المياه، مع أن صلابة المائع في الماء محال عادة، وجعلها قواماً ودعامة للبدن، ولذا صلبها وأحكمها لئلا تنكسر عند الحركات العنيفة، وقدرها مقادير مختلفة وشكلها على أشكال متفاوتة، ففيها صغير وكبير وطويل وقصير ومستقيم ومستدير ودقيق وعريض ومجوف ومصمت، على ما اقتضته الحكمة والمصلحة، ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة، تارة بجملة بدنه، وتارة ببعض أعضائه، لم يخلقه من عظم واحد، بل جعل له عظاماً كثيرة بينها مفاصل، حتى تتيسر له الحركة بجملة بدنه وبعض أعضائه، وقدر شكل كل واحد منها على وفق الحركة المطلوبة بها، وما لم تكن فيه فائدة سوى كونه عماداً للبدن خلقه مصمتاً، وان جعل فيه المسام والخلل التي لابد منها، وما يحتاج إليه للحركة أيضاً، زاد في تجويفه ليكون أخف، وجعل تجويفه في الوسط واحداً لئلا يحتاج في وصول الغذاء إليه إلى التجاويف والخلل والمتفرقة، فيصير رخواً، بل صلبه مع تجويفه، لئلا ينكسر عند الحركات العنيفة، وما كانت الحاجة فيه إلى الوثاقة أشد جعل تجويفه أقل، وما كان الاحتياج فيه إلى الخفة أكثر جعل تجويفه أزيد، وجمع غذاءه وهو المخ في حشوه ليغذوه ويرطبه دائماً، لئلا يتفتت بتجفيف الحركة.

ثم وصل مفاصلها وربط بعضها بالبعض بأوتار أنبتها من أحد العظمين وألصقها بالآخر، كالرباط، وخلق في أحدهما زوائد خارجة منه وفي الآخر حفراً غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد، ليدخل فيها وينطبق عليها، ولذلك لو أراد الإنسان أن يحرك جزءاً من بدنه دون سائر اعضائه لم يتعسر عليه، ولولا المفاصل لتعذر عليه ذلك.

ثم وسط بين العظام الصلبة واللحوم الرخوة (الغضاريف) وهي من العظم ألين ومن اللحم أصلب، ليحسن اتصال الصلب باللين، فلا يتأذى منه، خصوصا عند الضربة والضغطة، وليحسن به مجاورة المفاصل المتحاكة فلا تتراض لصلابتها.

ثم انظر ـ يا اخي ـ في (العروق) وما فيها من العجائب والحكم، فانها خلقت على نوعين: (أحدهما) الشرايين: وهي العروق الضوارب المتحركة منبتها القلب. ولما كان القلب ينبوع الحياة ومنبع الروح والحرارة الغريزية خلقت هذه العروق مبتدأة منه منتشرة في سائر الأعضاء لا يصال الروح والحياة منه إليها، ولها حركتان، انقباضية يقبض بها الأبخرة الدخانية عن القلب وانبساطية يجذب بها صافي النسيم اليه، ليستريح، ولولا هذا القبض والجذب لاختنق القلب بالبخار الدخاني، وخلقت ذات صفاقين لئلا تنشق بقوة حركتها ولئلا يتحلل ما فيها من الروح، وجعل الصفاق الداخل أصلب لأنه الملاقي لقوة الحرارة الغريزية ومصادمة حركة الروح، فاوجب الحكمة الالهية زيادة إحكامها حفظاً لها عن الانشقاق، لقوة حركة الروح، وتقوية لمحل الحرارة الغريزية، لئلا يتحلل شيء منها بتحلل محلها. وواحد من هذه الشرايين ويسمى الشريان الوريدي، لما كان حاملا لغذاء الرية لأن غذاءها من القلب فيغوص فيها ويصير شعباً، فخلق لذلك ذا صفاق واحد لئلا يزاحم بصلابته الرية لرخاوتها ولينها، مع عدم مصادمة لحمها له عند الحركة لكثرة لينه ورخاوته. فلم تكن حاجة إلى زيادة استحكامه، على أن الرية تحتاج إلى الغذاء على سبيل الترشح بسرعة وسهولة، وكثرة الصلابة منافية لذلك. (وثانيهما) العروق الساكنة: وتسمى الاوردة، وشأنها جذب الغذاء من المعدة إلى الكبد ومنه إلى سائر الأعضاء، وهي ذات صفاق واحد لأنها ساكنة فلا يخشى انشقاقها. وجعل واحد منها ويسمى الوريد الشرياني ذا صفاقين لنفوذه في التجويف الأيمن من القلب، فكان اللازم زيادة وثاقته لئلا يعتريه انشقاق بقوة حركة القلب وصلابته، وهو الذي يأتي بغذاء الرية إلى القلب، وإذا خلص عن القلب وجاوزه يأخذ الشريان الوريدي منه الغذاء ويذهب به إلى الرية.

فانظر ـ يا أخي ـ إلى عجيب حكمة ربك فان حامل غذاء الرية مادام نافذاً في القلب ومصادماً لحركته خلق صلباً ذا صفاقين، وإذا خلص عنه إلى الرية التي لا تتحمل الصلب جعل رخواً ذا صفاق واحد، فسبحانه ما أجل شأنه واعظم برهانه.

ثم تفكر أيها المتفكر في (الرأس) وعجيب خلقه، حيث ركبه من عظام مختلفة الاشكال والصور، والف بعضها إلى بعض حتى استوت كرة كما تراه، وجعله مجمع الحواس، ولذا جعله مستديراً، لان المستدير أبعد من الآفات بالقياس إلى ذي الزاوية، واعظم مساحة منه مع تساوي احاطتهما وجعل استدارته إلى طول، لأن منابت الأعصاب الدماغية موضوعة في الطول فلو لم يتسع منبتها لازدحمت وانضغطت، والف قحفه[10] من ستة اعظم: اثنان بمنزلة السقف وأربعة بمثابة الجدران، ووصل بعضها ببعض بالدروز والشؤن، وجعل الجدران أصلب من اليافوخ الذي هو السقف، لان الصدمات عليها أكثر، وتخلخل اليافوخ مما لابد منه لخروج الابخرة المتحللة (وعدم ثقله على الدماغ)[11] وفائدة الدروز أن تخرج منها الابخرة المتحللة في الدماغ لئلا يؤدي مكثها إلى الصداع وغيره من الأمراض الدماغية، وجعل أصلب الجدران مؤخرها لانه غائب عن البصر فلا يحرسه فاحتاج إلى زيادة وثاقة.

وخلق فيها الدماغ ليناً دسماً، لتنطبع فيه المحسوسات بسهولة، ولتكون الاعصاب النابتة منه لزجة لئلا تنكسر، وجعل مزاجه رطباً بارداً لتنفعل القوى المودعة فيه عن مدركاتها، ولئلا يشتعل بالحرارة الحاصلة عن الحركات الفكرية، وجعل مقدمه الذي هو منبت الاعصاب الحسية ألين من مؤخره الذي هو منبت أعصاب الحركة، لأن الحركة لا تحصل إلا بالقوة، والقوة إنما تحصل بالصلابة. ثم جلل الدماغ بغشاءين: (أحدهما) رقيق لين ملاصق لجوهره، و(ثانيهما) غليظ صلب ملاصق للقحف، وهو مثقب بثقب كثيرة لاندفاع الفضول منه، وانشعبت منه شعب دقاق تصعد من دروز القحف إلى ظاهره، ليتشبث بها هذا الغشاء بالقحف ولا ينفصل عنه، وجعل بين جزئي الدماغ المقدم والمؤخر حجاباً لطيفا ليحجب عن مماسة الألين بالأصلب فيتأذى منه، وخلق تحت الدماغ بين الغشاء الغليظ والعظم نسيجة[12] شبيهة بالشباك، وقد تكونت من الشرايين الصاعدة من القلب والكبد إلى الدماغ، وقد فرشت هذه الشبكة تحت الدماغ، ليبرد فيها الدم الشرياني والروح، ويتشبه بالمزاج الدماغي بعد النضج، ثم يتخلص إلى الدماغ على التدريج، ولولاه لم يصلح الدم الكبدي والروح القلبي لكثرة حرارتهما لتغذية الدماغ، ولم يناسبا جوهره، وجعل الفرج التي بين فروع هذه الشريانات محشوة بلحم غددي لئلا تبقى خالية، ولتعتمد عليه تلك الفروع وتبقى على أوضاعها.

ثم لما كان الدماغ مبدأ الحس والحركة. ولم يكن لسائر الأعضاء حس وحركة بذاتها، وكان اللازم ايصالهما منه اليهما، ولم يكن ذلك ممكنا بدون واسطة في الايصال، فخلق (الأعصاب) من جوهره، ووصلها منه إلى سائر الأعضاء من العظام وغيرها، ليفيدها الدماغ بتوسطها حسا وحركة، وليشد ويتقوى بها اللحم والبدن، وأيضا لم يجعلها متصلة بالعظم مفردة، بل بعد اخلاطها باللحم والرباط، لئلا يتأذى من صلابته.

ثم لما كان نزول جميع الاعصاب التي يحتاج إليها من الدماغ موجبا لثقل الرأس وعظمه، خلق الله من جوهر الدماغ أشبه شيء به وهو (النخاع)، وجعل في أسف القحف ثقبا وأخرجه منها، وخصه بالعنق والصلب، واخرج منه كثيراً من الأعصاب المحتاج إليها إلى الأعضاء. فالدماغ بمنزلة العين والينبوع للحس والحركة، والنخاع بمثابة النهر العظيم الجاري منه، والأعصاب كالجداول. والمنبع ألين من النهر والنهر ألين من الجداول.

ثم انظر ـ يا حبيبي ـ كيف خلق (العين) وفتحها واحسن شكلها ولونها وهيئتها، ورتب لها سبع طبقات وثلاث رطوبات كل منها على شكل خاص ولون مخصوص، لو تغير شيء منها عما عليه لاختل امر الابصار، وتأمل كيف أظهر في حدقتها التي بمقدار العدسة صورة السماء مع اتساع اكنافها وتباعد اقطارها، وحماها بالاجفان ليسترها ويحفظها ويصقلها، وجعلها وقاية لها يدفع بها الأقذاء عنها، ويمنعها عن وصول الغبار والدخان والشعاع إليها عند انطباقها، وجعل الجفن الأسفل أصغر من الأعلى، لأن الأعلى يستر الحدقة تارة ويكشفها أخرى لتحركه، وأما الاسفل فغير متحرك، فلو زيد على هذا القدر يستر شيئاً من الحدقة دائماً، ويجتمع فيه الفضول ولا تسيل.

ثم زين الأجفان: (بالأهداب) ليمنع من الحدقة بعض الاشياء التي لا يمنعها الأجفان مع انفتاح العين ـ كما ترى عند هبوب الرياح التي يأتي بالأقذاء ـ فيفتح العين أدنى فتح، وتتصل الأهداب الفوقانية بالسفلانية فيحصل شبه شباك ينظر من ورائه، فتحصل الرؤية مع دفع القذى.

ثم انظر كيف شق (الأذن) وأودعها ما يحفظ سمعها ويدفع الهوام عنها وجعل ثقبها محاطة بصدفة مرتفعة لئلا تتأذى من البرد والحر وغيرهما مما، يؤذى، وليجتمع فيها الهواء المتحرك من الاصوات فينفذ فيها ويحرك الهواء الذي في داخلها ويموجه ـ كما ترى من دوائر الماء إذا وقع فيه شيء ـ حتى يصل إلى العصبة المفروشة على الصماخ التي فيها قوة السمع، فيدرك الصوت. وجعل في منفذها تجويفات واعوجاجات كثيرة لتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقها، فيتنبه صاحبها إذا قصدته دابة مؤذية فيدفع شرها، وخلق فيها جرماً نتنا عفنا لتنفر عنه الدواب المؤذية ولا تدخلها.

ثم تأمل كيف زين الوجه: (الحاجبين) وحسنهما بدقة الشعر واستقواس الشكل.

وزين وجه الرجل بـ(اللحية) ووجه المرأة بعدمها، والمتأمل يعرف ان اللحية زين للرجل وشين للمرأة، وهذا من عجائب الحكمة.

وزين الوجه برفع (الأنف) من وسطه، وحسن شكله وفتح منخريه، وأودع فيهما حاسة الشم ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته وليستنشق الهواء الطيب الصافي، ويدفع الهواء الحار الدخاني، ترويحا لقلبه، وجعل له منخرين لتميل الفضلات النازلة من الدماغ غالبا إلى أحدهما، ويبقى الآخر مفتوحا، فلا تسد طرق الاستنشاق بأسرها.

ثم انظر إلى (الفم) وعجائبه وإلى اللسان وغرائبه، فانه سبحانه لعظيم قدرته وحكمته فتح الفم، وأودعه اللسان وجعله ناطقا معربا عما في القلب ومكنه من التكلم باللغات المتخالفة وتقطيع الاصوات واخراج الحروف المتباينة، وجعل له قدرة على الحركة في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع طريق النطق بكثرتها. وخلق (الفكين) وركب فيهما الاسنان لتكون آلة للطحن والقطع والكسر، فاحكم اصولها، وحسن لونها، ورتب صفوفها متساوية الرؤس متناسقة الترتيب، كالدرر المنظمة، مختلفة الاشكال باختلاف الاغراض والمقاصد، متفاوتة الاوضاع بتفاوت الغايات والفوائد ولما كان الطعام يحتاج تارة إلى الكسر وتارة إلى القطع واخرى إلى الطحن فقسم الاضراس إلى عريضة طواحن كالاضراس، وإلى حادة قواطع كالرباعيات، وإلى ما يصلح للكسر كالانياب. والاضراس التي في الفك الأعلى لما كنت معلقة جعل أصولها ثلاثة أو اربعة، والتي في الفك الاسفل اكتفى في اصولها باثنين أو ثلاثة لعدم الاحتياج، وجعل لسائر الاسنان أصلا واحداً لعدم ثقل فيها. ثم جعل مفصل (الفكين) متخلخلا بحيث يتقدم الفك الاسفل ويتأخر حتى يدور على الفك الاعلى دوران الرحى، وهو ثابت لا يتحرك، فيتم الطحن بذلك. فانظر في عجيب صنع الله في هذه الرحى حيث يدور الاسفل منها على الأعلى على خلاف سائر الأرحية، لدوران الاعلى منها على الاسفل. والحكمة في تحرك الاسفل دون الاعلى: أن الأعلى مجمع الدماغ والحواس، فتحركه كان موجباً لاذيتهما واضطرابهما، وايضاً هو مفصل الرأس والعنق، فلو تحرك لم يستحكم، مع أن الوثاقة فيه لازمة ثم لما كان مضغ الطعام محتاجاً إلى تحركه فيما تحت الأسنان، فاعطى الله سبحانه قدرة اللسان على أن يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة. ولما كان الطعام يابساً فلم يمكن ابتلاعه إلا بنوع رطوبة، فخلق تحت اللسان عيناً جارية يفيض منها اللعاب وينصب بقدر الحاجة، حتى يعجن به الطعام ويقدر على ابتلاعه.

ثم تفكر كيف خلق (الحناجر) وهيأها لخروج الاصوات، وجعلها مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والطول والقصر وصلابة الجوهر ورخاوته، حتى اختلفت بها الأصوات، فلا يتشابه صوتان، بل يظهر به بين كل صوتين فرق حتى يميز السامع أصوات آحاد الناس بمجرد سماعها في الظلمة والغيبة.

ثم مد (العنق) وجعله مركباً للرأس، وكبه من سبع خرزات مجوفات مستديرات فيها تجويفات وزيادات ونقصان، لينطبق البعض على البعض، ولما كان اكثر منافعه في الحركة جعل مفاصله سلسة، ولم يجعل زوائدها المفصلية كبيرة كزوائد فقرات الصلب، لتكون حركاته أسرع، وتدارك تلك السلاسة بأعصاب وعضلات كثيرة محيطة به.

ثم انظر إلى عجائب (المعدة) وآلاتها التي يتم بها الاكل، فجعل سطح الفم متصلا بفم المعدة بحيث كأنهما سطح واحد، حتى يحصل أولاً نوع انهضام بالمضغ، ثم هيأ (المرىء)[13] والحنجرة، وجعل على رأسها طبقات تنفتح لاخذ الطعام ثم تنطبق وتنضغط حتى يهوى الطعام من دهليز المرى إلى المعدة، وإذا ورد عليها لايصلح لان يصير عظماً ولحماً ودماً على هذه الهيئة، بل لابد أن ينطبخ انطباخاً تاماً تتشابه أجزاؤه، فخلق الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام وتنغلق عليه الابواب، وخلق فيها حرارة صالحة للطبخ، ومع ذلك جعلها محاطة من جوانبها الاربعة بالحرارة المنبجسة من الكبد والطحال والثرب ولحم الصلب، فمن هذه الحرارات ينطبخ الطعام في المعدة وينهضم، حتى يصير كيلوساً[14] أي جوهراً سيالا ليشبه ماء الكشك[15] الثخين.

ثم خلق الله بعظيم حكمته ورأفته لايصال صفو ماطبخ في المعدة إلى الكبد قسمين من العروق: (احدهما) العروق المخلوقة في تحت المعدة المتصلة بالمعاء المسماة بـ(ما ساريقا)[16]، وجعل لها فوهات كثيرة لينصب لطيف المطبوخ فيها، و(ثانيهما) العرق المسمى بباب الكبد النافذ فيه بعد تفرقه بعروق شعرية ليفية منتشرة في اجزائه، وجعل الماساريقا متصلة بباب الكبد، فإذا انصب خالص الكيلوس في الماساريقا يوصله إلى باب الكبد، وينصب منه إلى العروق الليفية المتفرقة في جوهر الكبد، فتستولى قوة الكبد على هذا الكيلوس، بحيث يلاقي كله كله، ولذا يصير فعله فيه اشد واسرع، فيمتصه ويجذ به إلى نفسه فيطبخه ويفيده الحرارة والحمرة، متى ينصبغ بلون الدم، ومن هذا الطبخ يحصل شيء كالرغوة وهي (الصفراء)، وشيء كالدودي وهو (السوداء)، وشيء كبياض البيض وهو (البلغم)، وهو كما يتكون من هذا الطبخ يتكون من الطبخ الاول أيضاًً، وقد يصير شيء من هذا البلغم إلى الكبد مع عصارة الطعام، ويبقى المتصفى من هذه الجملة دماً ناضجاً ذا رطوبة مائية منتشرة في العروق الشعرية، فلو بقيت الصفراء والسوداء والبلغم والمائية مختلطة بالدم ولم تنفصل عنه لفسد مزاج البدن، فخلق الله بحكمته الكليتين والمرارة والطحال، وجعل لكل منهما عنقاً ممدوداً في الكبد، وجعل عنقي الآخرين داخلاً في تجويف الكبد، ولم يجعل عنقي الكليتين داخلا في تجويفه، بل جعلهما متصلين بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتى يجذبا مائتيه بعد الطلوع من العروق الدقيقة الشعرية.

ثم إذا انجذبت المائية من جانب محدب الكبد من طريق العروق الطالعة منه إلى الكليتين، حملت مع نفسها من الدم ما يكون صالحاً كماً وكيفاً لغذائهما فتغذوان الدسومة والدموية من تلك المائية، ويندفع باقيها إلى المثانة، ومنها إلى الاحليل. وأما (المرارة) فتأخذ الرغوة الصفراوية من محدب الكبد بعنقها الذي اتصل بالكبد، وتقذفها من منفذ آخر لها إلى الامعاء، ليلذعها بحدتها فتحركها على دفع الاثقال التي بقيت من الكيلوس بعد ذهاب صفوه إلى الكبد، فينضغط حتى تندفع منها الاثقال، وبخروجها تخرج تلك الرغوة الصفراوية، وصفرتها لذلك. وأما (الطحال) فيأخذ بعنقه المتصل بمحدب الكبد منه الرسوب السوداوي ويحيله حتى يكتسب قبضاً وحموضة، ثم يرسل منه في كل يوم شيئا إلى فم المعدة لتتنبه بالجوع، فيحرك الشهوة بحموضته وقبضه، ثم يخرج بخروج الثقل أيضاًً. وأما (الدم) فيتوجه إلى الاعضاء وتوزع عليها في شعب العرق الاجوف العظيم النابت من محدب الكبد، فيسلك في الاوردة المتشعبة منه في جداول، ثم في سواقي الجداول، ثم في رواضع السواقي، ثم في العروق الشعرية الليفية، ثم يترشح من فوهاتها في الاعضاء بتقدير خالق الأرض والسماء.

ومما ذكر ظهر انه لو حدث بواحد من المرارة والطحال والكيتين آفة، فسد الدم وحصلت امراض الخلط الذي يجذبه من الكبد، فلو عرضت آفة بالمرارة حدثت الأمراض الصفراوية، ولو حلت آفة بالطحال حصلت امراض سوداوية، ولو لم تندفع المائية إلى الكلي بعروض آفة لها حصل مرض الاستسقاء.

وأما (البلغم) فما يتكون في الكبد أو يصير إليه مع عصارة الطعام انهضم فيه وصار دماً، وما بقى منه في الامعاء ولم ينحدر إلى الكبد انغسل بمرة الصفراء التي شأنها تنقية الامعاء من الفضول بحرافتها وحدتها وسيلانها، ومن البلغم ما يبقى في البدن لاحتياجه إليه في حركة المفاصل وترطيب الامعاء، زمنه ما يخرج من الفم بالقىء والبصاق أو ينحدر من الرأس إلى الفم ويخرج منه بالتنخع.

ثم انظر ـ ياخي ـ في (القلب) وعجائبه، حيث خلقه جسما صنوبريا وجعله منبعاً لروح الحياة، ولذا خلقه صلبا ليكون محفوظا من الواردات، وجعل هذا الروح جرما حاراً لطيفاً نورانيا شفافا، وجعله مطية للنفس وقواها، واناط به حياة الإنسان وبقاءه، فيبقى ببقائه ويفنى بفنائه، فكل عضو يفيض عليه من سلطان نوره يكون حيا، والا كان ميتا، ولذا لو حصل بعضو سدة مانعة من نفوذه فيه بطل حسه وحركته، ويتوزع هذا الروح من القلب الذى هو منبعه إلى سائر الاعضاء العالية والسافلة، بواساطة سفراء الشرايين والاوردة، فما يصعد منه إلى الدماغ بأيدي خوادم الشرايين، ويعتدل بكسب البرودة من جوهر الدماغ، ثم يفيض على الاعضاء المدركة والمتحركة منبثا في جميع البدن، يسمى (روحا نفسانيا). وما ينزل بصحابة أمناء الاوردة إلى الكبد الذي هو مبدأ القوى النباتية، ومنه يتفرق إلى سائر الاعضاء، يسمى (روحا طبيعيا). وقد خلق الله سبحانه هذا الروح من لطائف الامشاج الاربعة، كما خلق الاعضاء من كثائفها. وهذا الروح مثاله جرم نار السراج، والقلب الذى محله كالمسرجة له، والدم الاسود الذى في باطن القلب ويتكون هذا البخار اللطيف منه بمنزلة الفتيلة له، والغذاء له كالزيت والحياة الظاهرة في جميع أجزاء البدن بسببه كالضوء للسراج في جملة البيت، كما ان السراج إذا انقطع زيته انطفأ، فسراج الروح أيضاً ينطفىء مهما انقطع غذاؤه وكما ان الفتيلة قد تحترق وتصير رماداً بحيث لا تقبل الزيت، فكذلك الدم الاسود الذي في باطن القلب قد يحترق بحيث لا يقبل الغذاء الذي تبقى الروح به، كما لا يقبل الرماد الزيت قبولا تتشبث النار به، وكما ان السراج ينطفىء تارة بسبب من داخل ـ كما ذكرنا ـ وتارة بسبب من خارج، كهبوب ريح أو إطفاء انسان، فكذلك انطفاء الروح تارة يكون بسبب من داخل وتارة بسبب من خارج، كالقتل، وكما ان انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده كذلك انطفاء الروح هو منتهى وقت وجود الإنسان، وهو أجله الذي أجل له في أم الكتاب. وكما أن السراج إذا انطفاء أظلم البيت كله كذلك الروح إذا انطفاء أظلم البدن كله، وفارقته انواره التي كان يستفيدها من الروح وهي أنوار الاحساسات والقدرة والارادات وسائر ما يجمعها معنى الحياة.

ثم انظر ـ ياحبيبي ـ ان كنت من أهل اليقظة في (اليدين) وحكمتهما، حيث طولهما لتمتدا إلى المقاصد، وعرض الكف ووضع عليها الأصابع الخمس، وقسم كل اصبع بثلاث أنامل، وجعل الابهام في جانب، والبواقي في جانب، ليدور عليها، ولو اجتمع الأولون والآخرون على ان يستنبطوا بدقيق الكفر وجها آخر في وضع الاصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الأبهام من الأربع وترتبها في صف واحد وتفاوتها في الطول والقصر، على ان يكون هذا الوجه أزين وأصلح منه أو مثله وشبهه في الزينة والمصلحة لم يقدروا عليه، إذ بهدا الترتيب صلحت للقبض والاعطاء، فان بسطتها كانت لك طبقاً تضع عليها ما تريد، وان جمعتها كانت لك آلة للضرب، وان نشرتها ثم ضممتها كانت آلة للقبض، وان ضممتها ضما غير تام كانت لك مغرفة، وان وضعت الأبهام على السبابة كانت لك مخرقة، وان بسطت الكف مع اتصال الأصابع كانت لك مجرفة وان بسطت الكف وجمعت عليها الأصابع كانت لك محرزة، إلى غير ذلك من المنافع.

ثم خلق (الأظفار) على رؤسها، زينة للأنامل وعماداً لها من ورائها، حتى لا تنفت، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل، وليحك بها بدنه عند الحاجة، فالظفر الذي هو أخس الأعضاء لو عدمه الإنسان وحدثت به حكة لكان أضعف الخلق واعجزهم، ثم هدى (اليد) إلى موضع الحك حتى تمتد إليه ولو في حالة النوم والغفلة، من غير حاجه إلى فحص وطلب، ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك.

ثم خلق (الرجلين) مركبتين من الفخذ والساق والقدم، كل منها على شكل خاص وتركيب خاص، ليتحرك بهما الإنسان إلى أي موضع أراد، ولو تغير شيء من الشكل أو الوضع أو التركيب في جزء من اجزائهما لاختل أمر الحركة، ووضع عليهما جملة البدن وجعلهما دعامة وأساساً له وحاملين لثقله، مع خفتهما وصغر جثتهما بالنسبة اليه، إذ حسن التركيب وسهولة الحمل والحركة في مثل هذا الخلق لايتصور بدون ذلك. فانظر في عجيب حكمة ربك جعل الأخف والادق والأصغر أساساً وحاملاً للأثقل والأغلظ والأكبر، مع ان كل بناء يكون أساسه أكبر وأغلظ مما يبنى عليه، وكل حامل يكون أعظم جثة من المحمول، فسبحانه من خالق لا نهاية لعجائب حكمته وغرائب قدرته.

ثم خلق جميع ذلك في النطفة جوف الرحم في ظلمات ثلاث، ولو كشف عنها الغطاء وامتد إليها البصر، لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئاً فشيئاً، ولا يرى المصور ولا آلته، فسبحانه من مصور فاعل يتصرف في مصنوعه من دون احتياج إلى مباشرة آلة ولا افتقار إلى مكادحة عمل.

 


[1]  الروم الآية: 8.

[2]  الأعراف، الآية: 185.

[3]  الحشر، الآية: 2.

[4]  العنكبوت، الآية:20.

[5] آل عمران، الآية: 190.

[6]  الذاريات، الآية: 20 ـ 21.

[7]  آل عمران، الآية: 191.

[8]  روى هذه الاحاديث في الكافي في (باب التفكر) عن أبي عبدالله (ع) كما هنا.

[9]  النحل، الآية: 68.

[10]  القحف: العظم فوق الدماغ وما انفلق من الجمجمة فبان قال في القاموس: " ولا يدعى قحفاً حتى يبين أو ينكسر منه شيء".

[11]  هذه الجملة مطابقة لنسختنا الخطية والمطبوعة، لكنها غير موجودة في النسخة الخطية الاخرى.

[12]  الموجود في نسختنا الخطية: " فسحة" بدل (نسيجة).

[13]  هو الخرطوم المتصل بالاوداج الاربعة إلى الحنجرة.

[14]  كلمة يونانية، المراد منه هو الطعام المطبوخ في المعدة طبخاً ناقصاً.

[15]  ماء الكشك: هو ماء الشعير.

[16]  أي العروق تحت المعدة المتصلة بالمعاء. والكلمة يونانية.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست