.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

تسويلات الشيطان ووساوسه

العلائم الفارقة بين الإلهام والوسوسة

علاج الوساوس

ما يتم به علاج الوسواس

ما يتوقف عليه قطع الوسواس

حديث النفس لا مؤاخذة عليه

 

   

فصل

(تسويلات الشيطان ووساوسه)

لما كانت طرق الباطل كثيرة وطريق الحق واحدة، فالأبواب المفتوحة للشيطان إلى القلب كثيرة، وباب الملائكة واحدة، ولذا روي ان النبي ـ (ص) ـ: خط يوماً لأصحابه خطاً وقال: " هذا سبيل الله " ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله فقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "، ثم تلا قوله سبحانه:

" وأن هذا صراصي مستقيماً فاتبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله "[1]

ثم لسهولة ميل النفس إلى الباطل وعسر انقيادها للحق تكون الطرق المؤدية إلى الباطل التي هي أبواب الشيطان جلية ظاهرة، فكانت أبواب الشيطان مفتوحة أبداً، والطرق المؤدية إلى الحق التي هي باب الملائكة خفية. فكان باب الملائكة مسدوداً دائماً، فما أصعب بالمسكين ابن آدم ان يسد هذه الأبواب الكثيرة الظاهرة المفتوحة ويفتح باباً واحداً خفياً مسدوداً، على ان اللعين ربما يلبس بين طريق الحق والباطل ويعرض الشر في موضع الخير، بحيث يظن أنه لمة الملك وإلهامه، لا وسوسة الشيطان وإغواؤه، فيهلك ويضل من حيث لا يعلم، كما يلقى في قلب العالم ان الناس لكثرة غفلتهم أشرفوا على الهلاك، وهم من الجهل موتى، ومن الغفلة هلكى، أما لك رحمة على عباد الله؟ أما تريد الثواب والسعادة في العقبى؟ فما بك لا تنبههم عن رقدة الغفلات بوعظك، ولا تنقذهم من الهلاك الأبدي بنصحك؟ وقد من الله عليك بقلب بصير وعلم كثير ولسان ذلق ولهجة مقبولة! فكيف تخفي نعم الله تعالى ولا تظهرها؟ فلا يزال يوسوسه بأمثال ذلك ويثبتها في لوح نفسه، إلى ان يسخره بلطائف الحيل ويشتغل بالوعظ، فيدعوه إلى التزين والتصنع والتحسن بتحسين اللفظ، والسرور بتملق الجماعة، والفرح بمدحهم اياه، والانبساط بتواضعهم لديه وانكسارهم بين يديه، لا يزال في اثناء الوعظ يقرر في قلبه شوائب الرياء وقبول العامة، ولذة الجاه وحب الرياسة، والتعزز بالعلم والفصاحة، والنظر إلى الخلق بعين الحقارة، فيهدي الناس ويضل نفسه ويعمر يومه ويخرب أمسه، ويخالف الله ويظن انه في طاعته، ويعصيه ويحسب انه في عبادته، فيدخل في جملة من قال الله فيهم:

" قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الّذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً "[2].

ويكون ممن قال رسول الله ـ (ص) ـ فيهم: " ان الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لاخلاق لهم، و " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ". فلا نجاة من مصائد الشيطان ومكائده إلاّ ببصيرة باطنة نورانية وقوة قدسية ربانية، كما لا نجاة للمسافر الحيران في بادية كثيرة الطرق غامضة المسلك في ليلة مظلمة إلا بعين بصيرة صحيحة وطلوع شمس مشرقة نيرة.

فصل

(العلائم الفارقة بين الالهام والوسوسة)

من تمكن من معرفة الخير والشر سهل عليه التفرقة بين الالهام والوسوسة وقد قيل إلهام الملك ووسوسة الشيطان يقع في النفوس على وجوه وعلامات: (أحدها) كالعلم واليقين الحاصلين من جانب يمين النفس وتقابله الشهوة والهوى الحاصلان من جانب شمالها. (وثانيها) كالنظر إلى آيات الآفاق والأنفس على سبيل النظام والاحكام المزيل للشكوك والأوهام، والمحصل للمعرفة والحكمة في القوة العاقلة هي جانب الايمن من النفس ويقابله النظر إليها على سبيل الاشتباه والفغلة والاعراض عنها، الناشئة منها الشبه والوساوس في الواهمة والمتخيلة التي على الجانب الأيسر منها، فان الآيات المحكمات بمنزلة الملائكة المقدسة من العقول والنفوس الكلية، لأنها مبادئ العلوم اليقينية، والمتشابهات الوهميات بمنزلة الشياطين والنفوس الوهمانية، لأنها مبادئ المقدمات السفسطية، (وثالثها) كطاعة الرسول المختار والأئمة الاطهار في مقابلة أهل الجحود والانكار وارباب التعطيل والتشبيه من الكفار. فكل من سلك سبيل الهداية فهو بمنزلة الملائكة المقدسين الملهمين للخير، ومن سلك سبيل الضلال فهو بمنزلة الشياطين المغوين بالشرور. (ورابعها) كتحصيل العلوم والادراكات التي هي في الموضوعات العالية والاعيان الشريفة كالعلم بالله وملائكته ورسله، واليوم الآخر، والبعث، وقيام الساعة، ومثول الخلائق بين يدي الله تعالى، وحضور الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين، في مقابلة تحصيل العلوم والادراكات التي هي من باب الحيل والخديعة والسفسطة، والتأمل في أمور الدنيا الغير الخارجة عن دار المحسوسات، فان الاول يشبه الملائكة الروحانية وجنود الرحمن الذين هم سكان عالم الملكوت السماوي، والثاني يشبه الابالسة المطرودة عن باب الله، الممنوعة من ولوج السماوات، المحبوسة في الظلمات، المحرومة في الدنيا عن الارتقاء، والمحجوبة في الآخرة عن دار النعيم.

فصل

(علاج الوساوس)

الوساوس إن كانت بواعث الشرور والمعاصي، فالعلاج في دفعها ان يتذكر سوء عاقبة العصيان ووخامة خاتمته في الدنيا والآخرة، ويتذكر عظيم حق الله وجسيم ثوابه وعقابه، ويتذكر أن الصبر عما تدعو إليه هذه الوساوس أسهل من الصبر على نار لو قذف شرارة منها إلى الأرض احرقت نبتها وجمادها فإذا تذكر هذه الامور وعرف حقيقتها بنور المعرفة والايمان، حبس عنه الشيطان وقطع عنه وسواسه، إذ لا يمكن أن ينكر عليه هذه الامور الحقة، إذ يقينه الحاصل من قواطع البرهان يمنعه عن ذلك ويخيبه، بحيث يرجع هارباً خائباً. فان التهاب نيران[3] البراهين بمنزلة رجوم الشياطين، فإذا قوبلت بها وساوسهم فرت فرار الحمر من الاسد.

وإن كانت مختلجة بالبال بلا ارادة واختيار، من دون ان تكون مبادىء الافعال، فقطعها بالكلية في غاية الصعوبة والاشكال، وقد اعترف اطباء النفوس بأنها الداء العضال ويتعسر دفعه بالمرة، وربما قيل بتعذره، ولكن الحق امكانه، لقول النبي ـ (ص) ـ: " من صلى ركعتين لم تتحدث نفسه فيهما بشئ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " ولولا امكانه لم يتصور ذلك.

والسر في صعوبة قطعها بالكلية ان للشيطان جندين: جنداً يطير وجنداً يسير، والواهمة جنده الطيار، والشهوة جنده السيار، لان غالب ما خلقتا منه هي النار التي خلق منها الشيطان، فالمناسبة اقتضت تسلطه عليهما وتبعيتهما له.

ثم لما كانت النار بذاتها مقتضية للحركة، إذ لا تتصور نار مشتعلة لاتتحرك، بل لاتزال تتحرك بطبعها، فشأن كل من الشيطان والقوتين ان يتحرك ولا يسكن، إلا ان الشيطان لما خلق من النار الصرفة من دون امتزاج شيء آخر بها فهو دائم الحركة والتحريك للقوتين بالوسوسة والهيجان، والقوتان لما امتزج بغالب مادتهما ـ اعني النار ـ شىء من الطين لم تكونا بمثابة ما خلق من صرف النار في الحركة، إلا انهما استعدتا لقبول الحركة منه، فلا يزال الشيطان ينفخ فيهما ويحركهما بالوسوسة والهيجان ويطير ويجول فيهما، ثم الشهوة لكون النارية فيها اقل فسكونها ممكن، فيحتمل ان يكف تسلط الشيطان عن الإنسان فيها، فيسكن بالكلية عن الهيجان. واما الواهمة فلا يمكن ان يقطع تسلطه عنها، فيمتنع قطع وسواسه عن الإنسان، إذ لو امكن قطعه أيضاً بالمرة، لصار اللعين منقاداً للانسان مسخراً له، وانقياده له هو سجوده له، إذ روح السجود وحقيقته هو الانقياد والاطاعة، ووضع الجبهة حالته وعلامته، وكيف يتصور ان يسجد الملعون لاولاد آدم عليه السلام مع عدم سجوده لأبيهم واستكباره من ان يطمئن عن حركته ساجداً له معللا بقوله:

" خلقتني من نار وخلقته من طين "[4]

فلا يمكن ان يتواضع لهم بالكف عن الوسوسة، بل هو من المنظرين لاغوائهم إلى يوم الدين، فلا يتخلص منه احد الامن اصبح وهمومه هم واحد فيكون قلبه مشتغلاً بالله وحده، فلا يجد الملعون مجالاً فيه، ومثله من المخلصين الداخلين في الاستثناء[5] عن سلطنة هذا اللعين، فلا تظنن انه يخلو عنه قلب فارغ، بل هو سيال يجرى من ابن آدم مجرى الدم، وسيلانه مثل الهواء في القدح، فانك ان اردت ان تخلى القدح عن الهواء من غير ان تشغله بمثل الماء فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يدخل فيه الماء يخلو عن الهواء، فكذلك القلب إذا كان مشغولاً بفكر مهم في الدين يمكن ان يخلو من جولان هذا اللعين، واما لو غفل عن الله ولو في لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلاّ الشيطان، كما قال سبحانه:

" ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين "[6]

وقال رسول الله ـ (ص) ـ: " إن الله يبغض الشاب الفارغ "، لان الشاب إذا تعطل عن عمل مباح يشغل باطنه لابد أن يدخل في قلبه الشيطان ويعيش فيه ويبيض ويفرخ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالداً أسرع من توالد الحيوانات، لان الشيطان طبعه من النار، والشهوة في نفس الشاب كالحلفاء[7] اليابسة، فإذا وجدها كثر تولده وتولدت النار من النار ولم تنقطع أصلاً.

فظهر أن وسواس الخناس لا يزال يجاذب قلب كل انسان من جانب إلى جانب، ولا علاج له إلا قطع العلائق كلها ظاهراً وباطناً، والفرار عن الاهل والمال والولد والجاه والرفقاء، ثم الاعتزال إلى زاوية، وجعل الهموم هماً واحداً هو الله. وهذا أيضا غير كاف ما لم يكن له مجال في الفكر وسير في الباطن في ملكوت السماوات والأرض وعجائب صنع الله، فان استيلاء ذلك على القلب واشتغاله به يدفع مجاذبة الشيطان ووسواسه، وان لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلاّ الاوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة من الصلوات والاذكار والادعية والقراءة. ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، إذ الاوراد الظاهرة لا تستغرق القلب، بل التفكر بالباطن هو الذي يستغرقه وإذ فعل كل ذلك لم يسلم له من الاوقات إلا بعضها، إذ لا يخلو في بعضها عن حوادث تتجدد وتشغله عن الفكر والذكر، كمرض أو خوف أو ايذاء وطغيان، ولو من مخالطة بعض لا يستغنى عنه في الاستعانة في بعض اسباب المعيشة.

فصل

(ما يتم به علاج الوسواس)

لو امكن العلاج في القطع الكلي للوساوس فانما يتم بأمور ثلاثه:

(الاول) سد الابواب العظيمة للشيطان في القلب، وهي الشهوة، والغضب، والحرص، والحسد، والعداوة، والعجب، والحقد، والكبر، والطمع، والبخل، والخفة والجبن، وحب الحطام الدنيوي الدائر، والشوق إلى التزين بالثياب الفاخرة، والعجلة في الامر، وخوف الفاقة والفقر، والتعصب بغير الحق، وسوء الظن بالخالق والخلق... وغير ذلك من رؤس ذمائم الصفات ورذائل الملكات، فانها ابواب عظيمة للشيطان، فإذا وجد بعضها مفتوحاً يدخل منه في القلب بالوساوس المتعلقة به، وإذا سدت لم يكن له إليه سبيل إلا على طريق الاختلاس والاجتياز.

(الثاني) عمارة القلب باضدادها من فضائل الأخلاق وشرائف الاوصاف، والملازمة للورع والتقوى، والمواظبة على عبادة ربه الاعلى.

(الثالث) كثرة الذكر بالقلب واللسان، فإذا قلعت عن القلب أصول ذمائم الصفات المذكورة التي هي بمنزلة الابواب العظيمة للشيطان، زالت عنه وجوه سلطنته وتصرفاته، سوى خطراته واجتيازاته، والذكر يمنعها ويقطع تسلطه وتصرفه بالكلية، ولو لم يسد أبوابه اولا لم ينفع مجرد الذكر اللساني في إزالتها، إذ حقيقة الذكر لا يتمكن في القلب إلا بعد تخليته عن الرذائل وتحليته بالفضائل، ولولاهما لم يظهر القلب سلطانه، بل كان مجرد حديث نفس لا يندفع به كيد الشيطان وتسلطه، فان مثل الشيطان مثل كلب جائع، ومثل هذه الصفات المذمومة مثل لحم أو خبز أو غيرهما من مشتهيات الكلب، ومثل الذكر مثل قولك له: إخسأ. ولا ريب في أن الكلب إذا قرب اليك ولم يكن عندك شىء من مشتهياته فهو ينزجر عنك بمجرد قولك: إخسأ، وان كان عندك شىء منها لم يندفع عنك بمجرد هذا القول مالم يصل إلى مطلوبه. فالقلب الخالى عن قوت الشيطان يندفع عنه بمجرد الذكر، وأما القلب المملو منه فيدفع إلى حواشيه، ولايستقر في سويدائه لاستقرار الشيطان فيه وايضاً الذكر بمنزلة الغذاء المقوي، فكما لا تنفع الاغذية المقوية مالم ينق البدن عن الاخلاط الفاسدة ومواد الأمراض الحادثة، كذلك لاينفع الذكر مالم يطهر القلب عن الأخلاق الذميمة التي هي مواد مرض الوسواس، فالذكر إنما ينفع للقلب إذا كان متطهراً عن شوائب الهوى ومنوراً بأنوار الورع والتقوى، كما قال سبحانه.

" ان الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "[8]

وقال سبحانه:

" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب "[9]

ولو كان مجرد الذكر مطرداً للشيطان لكان كل احد حاضر القلب في الصلاة، ولم يخطر بباله فيها الوساوس الباطلة والهواجس الفاسدة، إذ منهى كل ذكر وعبادة انما هو في الصلاة مع أن من راقب قلبه يجد أن خطور الخواطر في صلاته أكثر من سائر الأوقات، وربما لايتذكر ما نسيه من فضول الدنيا إلا في صلاته، بل يزدحم عندها جنود الشياطين على قلبه ويصير مضماراً لجولانهم، ويقلبونه شمالا ويميناً بحيث لايجد فيه ايماناً ولا يقيناً ويجاذبونه إلى الأسواق وحساب المعاملين وجواب المعاندين، ويمرون به في أو دية الدنيا ومهالكها، ومع ذلك كله لاتظنن أن الذكر لا ينفع في القلوب الغافلة أصلا، فان الأمر ليس كذلك، إذ للذكر عند أهله أربع مراتب كلها تنفع الذاكرين، إلا أن لبه وروحه والغرض الأصلي من ذلك المرتبة الأخيرة:

(الأولى) اللساني فقط.

(الثانية) اللساني والقلبي، مع عدم تمكنه من القلب، بحيث احتاج القلب إلى مراقبته حتى يحضر مع الذكر، ولو خلي وطبعه استرسل في أودية الخواطر.

(الثالثة) القلبي الذي تمكن من القلب واستولى عليه، بحيث لم يمكن صرفه عنه بسهولة، بل احتاج ذلك إلى سعى وتكلف، كما احتيج في الثانية اليهما في قراره معه ودوامه عليه.

(الرابعة) القلبي الذي يتمكن المذكور من القلب بحيث انمحى عند الذكر، فلا يلتفت القلب إلى نفسه ولا إلى الذكر، بل يستغرق بشراشره في المذكور، واهل هذه المرتبة يجعلون الالتفات إلى الذكر حجاباً شاغلا. وهذه المرتبة هي المطلوبة بالذات والبواقي مع اختلاف مراتبها مطلوبة بالعرض لكونها طرقاً إلى ما هو المطلوب بالذات.

فصل

(ما يتوقف عليه قطع الوساوس)

السر في توقف قطع الوساوس بالكلية على التصفية والتخلية أولا، ثم المواظبة على ذكر الله: إن بعد حصول هذه الامور للنفس تحصل لقوتها العاقلة ملكة الاستيلاء والاستعلاء على القوى الشهوية والغضبية والوهمية، فلا تتأثر عنها وتؤثر فيها على وفق المصلحة، فتتمكن من ضبط الواهمة والمتخيلة بحيث لو أرادت صرفهما عن الوساوس لأمكنها ذلك، ولم تتمكن القوتان من الذهاب في أودية الخواطر بدون رأيها، وإذا حصلت للنفس هذه الملكة وتوجهت إلى ضبطهما كلما أرادتا الخروج عن الانقياد والذهاب في أودية الوساوس وتكرر منها هذا الضبط، حصل لهما ثبات الانقياد بحيث لم يحدث فيهما خاطر سوء مطلقاً، بل لم يخطر فيهما إلا خواطر الخير من خزائن الغيب وحينئذ تستقر النفس على مقام الاطمئنان، وتنسد عنها أبواب الشيطان وتنفتح فيها أبواب الملائكة، ويصير مستقرها ومستودعها، فتستضاء بشروق الانوار القدسية من مشكاة الربوبية، ويشملها خطاب:

" يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً "[10]

ومثل هذه النفس أحسن النفوس وأشرفها، وتقابلها النفس المنكوسة المملوة من الخبائث الملوثة بأنواع الذمائم والرذائل، وهي التي انفتحت فيها أبواب الشيطان وانسدت منها أبواب الملائكة، ويتصاعد منها دخان مظلم إليها، فتملأ جوانبها ويطفىء نور اليقين ويضعف سلطان الايمان، حتى تخمد انواره بالكلية، ولا يخطر فيها خاطر خير أبداًً، وتكون دائماً محل الوساوس الشيطانية، ومثلها لا يرجع إلى الخير أبداًً، وعلامتها عدم تأثرها من النصائح والمواعظ، ولو اسمعت الحق عميت عن الفهم وصمت عن السمع، وإلى مثلها أشير بقوله تعالى:

" أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً "[11]

وبقوله تعالى:

" ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة "[12]

وبقوله سبحانه:

" إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً "[13]

وبقوله تعالى:

" وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "[14]

وبقوله عز وجل:

" لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون "[15]

وبين هاتين النفسين نفس متوسطة في السعادة والشقاوة، ولها مراتب مختلفة في اتصافها بالفضائل والرذائل بحسب الكم والكيف والزمان فيختلف فيها فتح أبواب الملائكة والشياطين بالجهات المذكورة، فتارة يبتدىء فيها خاطر الهوى فيدعوها إلى الشر، وتارة يبتدىء فيها خاطر الايمان فيبعثها على الخير، ومثلها معركة تطارد جندي الشياطين والملائكة وتجاذبهما، فتارة يصول الملك على الشيطان فيطرده، وتارة يحمل الشيطان على الملك فيغلبه، ولا تزال متجاذبة بين الحزبين مترددة بين الجندين، إلى أن تصل إلى ما خلقت لأجله لسابق القضاء والقدر. ثم النفس الأولى في غاية الندرة، وهي نفوس الكمل من المؤمنين الموحدين، والثانية في نهاية الكثرة وهي نفوس الكفار بأسرهم، والثالثة نفوس اكثر المسلمين، ولها مراتب شتى ودرجات لا تحصى ولها عرض عريض، فيتصل أحد طرفيه بالنفس الأولى، وآخرهما بالثانية

 فصل

(حديث النفس لا مؤاخذة عليه)

قد عرفت أن الوساوس بأقسامها مشتركة في احداث ظلمة وكدرة في النفس، إلا أن مجرد الخواطر ـ أي (حديث النفس) وما يتولد عنه بلا اختيار، كالميل وهيجان الرغبة ـ لا مؤاخذة عليهما، ولا يكتب بهما معصية لعدم دخولهما تحت الاختيار، فالمؤاخذة عليهما ظلم، والنهي عنهما تكليف بما لايطاق، والاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل هذا فيؤاخذ به لكونه اختيارياً، وكذا الهم بالفعل والعزم عليه، إلا أنه إن لم يفعل مع الهم خوفاً من الله وندم عنه كتبت له حسنة، وإن لم يفعل لمانع منعه لا لخوف الله سبحانه كتبت عليه سيئة.

والدليل على هذا التفصيل: أما على عدم المؤاخذة على مجرد الخاطر، فما روي في الكافي: " أنه جاء رجل إلى النبي (ص) فقال يارسول الله: هلكت. فقال له هل اتاك الخبيث فقال لك من خلقك؟ فقلت الله تعالى، فقال لك: الله من خلقه؟ فقال له: اي والذي بعثك بالحق لكان كذا. فقال رسول الله (ص). ذاك والله محض الإيمان " ومثله ماروي: أن رجلا أتى رسول الله (ص) فقال " يارسول الله نافقت: فقال والله ما نافقت! ولو نافقت ما أتيتني تعلمني، ما الذي رابك؟ أظن أن العدو الحاضر أتاك، فقال: من خلقك؟ فقلت: الله تعالى خلقني. فقال لك: من خلق الله؟ فقال: أي والذي بعثك بالحق لكان كذا، فقال: إن الشيطان أتاكم من قبل الاعمال فلم يقو عليكم، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله وحده ". وقريب منه ماروي: أن رجلا كتب إلى أبي جعفر (ع) يشكو إليه لمماً يخطر على باله فأجابه في بعض كلامه: " إن الله إن شاء ثبتك فلا يجعل لابليس عليك طريقاً. قد شكى قوم إلى النبي (ص) لمماً يعرض لهم لان تهوى بهم الريح أو يقطعوا أحب اليهم من أن يتكلموا به، فقال رسول الله: أتجدون ذلك؟ قالوا: نعم! قال: والذي نفسي بيده إن ذلك لصريح الايمان، فإذا وجدتموه فقولوا: آمنا بالله ورسوله ولا حول ولاقوة إلا بالله " وسئل الصادق (ع) عن الوسوسة وان كثرت، فقال. " لا شىء فيها، تقول لا اله إلاّ الله ". وعن جميل بن دراج قال: قلت للصادق (ع): انه يقع في قلبي أمر عظيم، فقال: " قل لا اله إلاّ الله "، قال جميل فكلما وقع في قلبي قلت لا اله إلاّ الله، فيذهب عنى.

ومما يدل على عدم المؤاخذة عليه وعلى الميل وهيجان الرغبة إذا لم يكونا داخلين تحت الاختيار ماروى. انه لما نزل قوله تعالى.

" وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله "[16]

جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله (ص) وقالوا كلفنا مالا نطيق، ان احدنا ليحدث نفسه بما لا يحب ان يثبت في قلبه، ثم يحاسب بذلك؟ فقال رسول الله (ص). " لعلكم تقولون كما قال بنو اسرائيل. سمعنا وعصينا، قولوا. سمعنا وأطعنا، فقالوا. سمعنا وأطعنا، فأنزل الله الفرج بعد سنة بقوله تعالى.

" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها "[17]

وما روي عن أمير المؤمنين (ع) في قوله سبحانه.

" وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ". " ان هذه الآية عرضت على الأنبياء والأمم السابقة فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، وقبلها رسول الله (ص) وعرضها على امته فقبلوها. فلما رأى الله عز وجل منهم القبول على أنهم لا يطيقونها، قال. أما إذا قبلت الاية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الامم السابقة فأبوا أن يقبلوها وقبلتها امتك، فحق علي أن أرفعها عن أمتك، وقال عز من قائل: لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها " وما روي عن النبي (ص) أنه قال " وضع عن امتى تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لايعلمونه، وما لا يطيقونه، وما اضطروا عليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد مالم يظهر بلسان أويد ". وما روي أنه سئل الصادق (ع) عن رجل يجيء منه الشىء على حد الغضب يؤاخذه الله تعالى؟ فقال (ع). " ان الله تعالى اكرم من أن يستغلق على عبده"، والمراد من الغضب فيه. الغضب الذي سلب الاختيار.

وبالجملة القطع حاصر بعدم المؤاخذة والمعصية على مالا يدخل تحت الاختيار من الخواطر والميل وهيجان الرغبة، إذ النهي عنها مع عدم كونها اختيارية تكليف بما لا تطاق، وان لم ينفك عن إحداث خباثة في النفس.

وأما[18] على ان يكتب سيئة على الاعتقاد والهم بالفعل والتصميم عليه مع تركه لمانع لا لخوف من الله، فهو ان كلاً من الاعتقاد والهم بالمعصية فعل من الافعال الاختيارية للقلب، وقد ثبت في الشريعة ترتب الثواب والعقاب على فعل القلب إذا كان اختيارياً، قال الله سبحانه:

" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا "[19]

وقال سبحانه:

" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم "[20]

وقال رسول الله (ص): " إنما يحشر الناس على نياتهم". وقال (ص): " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " قيل يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " لأنه أراد قتل صاحبه " وقال (ص): " لكل امرىء ما نوى " والآثار الواردة في ترتب العقاب على الهم بالمعصية كثيرة، وإطلاقها محمول على غير صورة الترك خوفاً من الله، لما يأتي من أنه في هذه الصورة تكتب بها حسنة، وكيف لا يؤاخذ على اعمال القلوب مع ان المؤاخذة على الملكات الردية من الكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وغيرها قطعي الثبوت من الشرع، مع كونها أفعالاً قلبية، وقد ثبت في الشريعة أن من وطأ امرأة ظاناً أنها أجنبية كان عاصياً وإن كانت زوجته.

وأما على أنه يكتب حسنة على الترك بعد الهم خوفاً من الله، فما روي عن النبي (ص) أنه قال: " قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد ان يعمل سيئة وهو ابصر، فقال: راقبوه فان عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وان تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها لأجلي ". وما روي عن الإمام محمد بن علي الباقر ـ عليهما السلام ـ: " ان الله تعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة وعملها كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه سيئة، ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة "، وقوله: " لم يكتب عليه " محمول على صورة عدم العمل خوفاً من الله. لما تقدم من انه إن لم يعملها لمانع غير خوف الله كتبت عليه سيئة. وما روي عن الصادق (ع) انه قال: " مامن مؤمن إلا وله ذنب يهجره زماناً ثم يلم به وذلك قوله تعالى:

" إلا اللمم "[21]

وقال: " واللمم: الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه "، وقد وردت بهذا المضمون أخبار أخر.


[1]  الأنعام، الآية: 153.

[2]  الكهف، الآية: 103ـ 104.

[3]  في نسختنا الخطية هكذا: " فان نيران البراهين ".

[4]  الاعراف، الآية: 12.

[5]  إشارة إلى قوله تعالى: " قال رب بما اغويتني لازينن لهم في الأرض ولاغوينهم اجمعين الاعبادك منهم المخلصين " الحجر، الآية: 40.

[6]  الزخرف، الآية: 36.

[7]  الحلفاء: نبت اطرافه محددة كأنها سعف النخل والخوص، ينبت في مغايض المياه. الواحدة (حلفة وحلفاء).

[8]  الاعراف، الآية: 201.

[9]  ق، الآية: 36.

[10]  الفجر، الآية: 27 ـ 28.

[11]  الفرقان، الآية: 43.

[12]  البقرة، الآية: 7.

[13]  الفرقان، الآية: 44.

[14]  يس، الآية: 10.

[15]  يس، الآية: 7.

[16]  البقرة، الآية: 284.

[17]  البقرة، الآية: 286.

[18]  أي وأما الدليل على انه يكتب سيئة.

[19]  بني اسرائيل، الآية: 38.

[20]  البقرة، الآية: 225.

[21]  النجم، الآية: 32.

 

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست