.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

ابتناء التوكل على حصر المؤثر في الله تعالى

مناجات السر لارباب القلوب

الخواطر النفسانية

أقسام الخواطر، ومنها الإلهام

المطاردة بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس

 

 

فصل

(ابتناء التوكل على حصر المؤثر في الله تعالى)

اعلم: انه لايمكن التوكل على الله تعالى في الامور حق التوكل إلا بالبلوغ إلى المرتبة الثالثة من التوحيد، وهي التي يرتبط بها التوكل دون غيرها من المراتب، إذ المرتبة الرابعة لايتوقف ولا يبتني عليها التوكل، والأولى مجرد نفاق لا يفيد شيئاً. والثانية ـ اعني مجرد التوحيد بالاعتقاد ـ لا يورث حال توكل كما ينبغي، فانه موجود في عموم المسلمين مع عدم وجود التوكل كما ينبغي فيهم.

فالمناط في التوكل هو ثالث المراتب في التوحيد، وهو ان ينكشف للعبد بنور الحق ان لا فاعل إلا الله، وان كل موجود: من خلق ورزق وعطاء ومنع وغنى وفقر، وصحة ومرض، وعز وذل، وحياة وموت... إلى غير ذلك مما يطلق عليه اسم، فالمتفرد بابداعه واختراعه هو الله تعالى لاشريك له فيه، وإذا انكشف له هذا لم ينظر إلى غيره، بل كان منه خوفه وإليه رجاؤه، وبه ثقته وعليه اتكاله، فانه الفاعل بالانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة في ملكوت السماوات والأرض وإذا انفتح له ابواب المعارف اتضح له هذا اتضاحاً أتم من المشاهدة بالبصر، وإنما يصده الشيطان عن هذا التوحيد، ويوقع في قلبه شائبة الشرك بالالتفات إلى بعض الوسائط التي يتراءى في بادي النظر منشئيتها لبعض الامور، كالاعتماد على الغيم في نزول المطر، وعلى المطر في خروج الزرع ونباته ونمائه، وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها، وعلى بعض نظرات الكواكب واتصالاتها في حدوث بعض الحوادث في الأرض، وكالالتفات إلى اختيار بعض الحيوانات وقدرتها على بعض الافعال، فيوسوس الشيطان في قلبه ويقول له: كيف ترى الكل من الله تعالى، وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره فان شاء اعطاك وإن شاء منع، وهذا الشخص قادر على جز رقبتك بسيفه فان شاء جز رقبتك وان شاء عفى عنك، فكيف لاتخافه ولا ترجوه وأمرك بيده، وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه؟!

ولا ريب في أن امثال هذه الالتفاتات جهل بحقائق الامور، ومن مكن الشيطان وسلطه على نفسه حتى يوقع هذه الوساوس في قلبه فهو من الجاهلين بابواب المعارف، إذ من انكشف له أمر العالم كما هو عليه، علم ان السماء والكواكب والريح والغيم والمطر والإنسان والحيوان... وغير ذلك من المخلوقات كلهم مقهورون مسخرون للواحد الحق الذي لاشريك له، فيعلم ان الريح مثلا هواء، والهواء لايتحرك بنفسه مالم يحركه محرك، وهذا المحرك لا يحرك الهواء مالم يحركه على التحريك محرك آخر... وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا هو متحرك في نفسه. وكذا الحال في توسط غيره من الافلاك ونجومها، وكائنات الجو، والموجودات على الأرض من الجماد والنبات والحيوان.

فالتفات العبد في نجاته إلى بعض الأشياء من الرياح والأمطار أو الإنسان أو الحيوان يضاهي التفات من اخذ لتجز رقبته، فأمر الملك كاتبه بأن يكتب توقيعاً بالعفو عنه وتخليته، فأخذ العبد يشتغل بمدح الحبر أو الكاغد أو القلم أو الكاتب، ويقول: لولا الحبر أو القلم أو الكاغد أو الكاتب ما تخلصت، فيرى نجاته من الحبر والكاغد دون القلم أو من القلم دون محركه ـ أعني الكاتب ـ أو من الكاتب دون الملك الذي هو محرك الكاتب ومسخره. ومن علم أن القلم لاحكم له في نفسه وانما هو مسخر في يد الكاتب، وان الكاتب لاحكم له وإنما هو مسخر تحت يد الملك، لم يلتفت إلى القلم والكاتب ولم يشكر إلا الملك، بل ربما يدهشه فرح النجاة وشكر الملك عن ان يخطر بباله الكاغد والحبر والقلم والكاتب. ولا ريب في ان جميع المخلوقات من الشمس والقمر والنجوم والغيم والمطر والأرض وكل حيوان أو جماد مسخرات في قبضة القدرة، كتسخير القلم في يد الكاتب وتسخير الكاتب في يد السلطان بل هذا تمثيل في حق العبد لا عتقاده ان الملك الموقع هو الكاتب حقيقة، وليس الامر كذلك، إذ الحق ان الكاتب هو الله سبحانه كما قال تعالى.

" وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى "[1]

فمن انكشف له ان جميع مافي السماوات والأرض مسخرات للواجب الحق، لم ير في الوجود مؤثراً إلا هو، وانصرف عنه الشيطان خائباً، وأيس عن مزج توحيده بهذا الشرك.

وأما من لم ينشرح بنور الله صدره، قصرت بصيرته عن ملاحظة جبار السماوات والأرض ومشاهدة كونه وراء الكل، فوقف في الطريق على بعض المسخرات، وهو جهل محض. وغلطه في ذلك كغلط النملة مثلا لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود الكاغد، ولم يمتد بصرها إلى الأصابع واليد، فضلا عن صاحب اليد، وظنت ان القلم هو المسود للبياض، وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها.

فصل

(مناجاة السر لأرباب القلوب)

قال بعض العارفين[2]: أرباب القلوب والمشاهدات قد انطق الله في حقهم كل ذرة في الأرض والسماوات بقدرته التي انطق بها كل شىء، حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها وشهادتها على نفسها بالعجز، بلسان الواقع الذي هو ليس بعربي ولا أعجمي، وليس فيه حرف وصوت، ولا يسمعه أحد إلا بالسمع العقلي الملكوتي دون السمع الظاهر الحسي الناسوتي، وهذا النطق الذي لكل ذرة من الأرض والسماوات مع أرباب القلوب إنما هو (مناجاة السر)، وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى، فانها كلمات تستمد[3] من بحر كلام الله الذي لانهاية له:

" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً "[4].

ثم انها لما كانت مناجية بأسرار الملك والملكوت، وليس كل احد موضعاً للسر، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، فاختصت مناجاتها بالأحرار من أرباب القلوب. وهم أيضاً لا يحكون هذه الأسرار لغيرهم، إذ إفشاء السر لؤم، وهل رأيت قط أميناً على اسرار الملك قد نوجى بخفاياه فينادى بها على الملا من الخلق، ولو جاز افشاء كل سر لما نهى النبي (ص) عن افشاء سر القدر، ولما خص أمير المؤمنين (ع) ببعض الأسرار، ولما قال (ص): " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " بل كان يذكر لهم ذلك حتى يبكون ولا يضحكون.

فاذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدة مانعان: (أحدهما) المنع عن إفشاء السر، (ثانيهما) خروج كلماتها عن الحصر والنهاية. ونحن نحكي في فعل الكتابة قدراً يسيراً من مناجاة بعض ما يرى أسباباً ووسائط، واقرارها بالعجز على انفسها، ليقاس عليه جميع الأفعال الصادرة عن جميع الأسباب والوسائط المسخرة تحت قدرة الله، ويفهم به على الاجمال وكيفية ابتناء التوكل عليه، ونرد لضرورة التفهم كلماتها الملوكتية إلى الحروف والأصوات، وإن لم تكن أصواتاً وحروفاً، فنقول:

قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله للكاغد، وقد رأى وجهه أسود بالحبر: " لم سودت وجهك وقد كان أبيض مشرقاً؟ ".

فقال: " ماسودت وجهي، وإنما سوده الحبر، فاسأله لم فعل كذا؟ ".

فسأل الحبر عن ذلك، فقال: " هذا السؤال على القلم الذي أخرجني من مستقري ظلماً ".

فسأل القلم، فأحاله إلى اليد والأصابع، وهي إلى القدرة والقوة، وهي إلى الارادة، معترفاً كل واحد منهم بعجز نفسه، وبكونه مقهوراً مسخراً تحت قهر المحال عليه من دون استطاعة لمخالفته.

ولما سأل الارادة، قال: " ما انتهضت بنفسي، بل بعثت على إشخاص القدرة وإنهاضها، وبحكم رسول قاهر ورد علي من حضرة القلب بلسان العقل، وهذا الرسول هو العلم، فالسؤال عن انتهاضي يتوجه على العقل والقلب والعلم".

ولما سألها قال (العقل): " أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكني اشعلت ".

وقال (القلب): " أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكني بسطت ".

وقال (العلم): " أما أنا فنقش نقشت في لوح القلب لما أشرق سراج العقل، وما انتقشت بنفسي بل نقشني غيري، فسل القلم الذي نقشني ورسمني على لوح القلب بعد اشتعال سراج العقل ".

وعند هذا تحير السائل وقال: " ما هذا اللوح وهذا الخط وهذا السراج؟ فانى لا اعلم قلماً إلا من القصب، ولا لوحاً إلا من الحديد أو الخشب، ولا خطاً إلا بالحبر، ولا سراجاً إلا من النار. واني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والقلم والخط والسراج، ولا اشاهد من ذلك شيئاً "

فقال له (العلم): " فاذن بضاعتك مزجاة، وزادك قليل، ومركبك ضعيف، والمهالك في الطريق الذي توجهت إليه كثيرة، فان كنت راغباً في استتمام الطريق إلى المقصد، فاعلم أن العوالم في طريقك ثلاثة: (أولها) عالم الملك والشهادة، ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد والأصابع من هذا العالم، وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة، (وثانيها) عالم الملكوت الأسفل وهو يشبه السفينة التي بين الأرض والماء، فلا هي حد اضطراب الماء، ولا هي في حد سكون الأرض وثباتها، والقدرة والارادة والعلم من منازل هذا العالم. (وثالثها) عالم الملكوت الاعلى، وهو من ورائي، فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله. وأول منازله القلم الذي يكتب به العلم على لوح القلب وفي هذا العالم المهامه الفسيحة والجبال الشاهقة والبحار المغرقة".

فقال له السائل السال: "قد تحيرت في امري ولست أدري اني اقدر على قطع هذا الطريق المخوف أم لا، فهل لذلك علامة أعرف بها تمكني على قطع هذا الطريق؟ ".

فقال: " نعم: افتح بصرك، واجمع ضوء عينك وحدقه نحوى، فان ظهر لك القلم الذي به يكتب في لوح القلب، فيشبه أن تكون أهلا لهذا الطريق، فان كل من جاوز الملكوت الأسفل وقرع أول باب من الملكوت الأعلى كوشف بالقلم. أما ترى النبي (ص) كوشف به وانزل عليه قوله تعالى:

" إقرأ باسم ربك الذي خلق... إلى قوله: إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم "[5].

وهذا القلم قلم إلهي ليس بقصب ولا خشب. أو ماسمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت؟ وقد علمت ان الله تعالى لاتشبه ذاته سائر الذوات فليس في ذاته بجسم ولا هو في مكان، فكذلك لا تشبه يده سائر الأيدي، ولا قلمه سائر الاقلام، ولا كلامه سائر الكلام، ولا خطه سائر الخطوط. بل هذه أمور إلهية من عالم الملكوت الاعلى، فليست يده من لحم وعظم ودم، ولا قلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ولا كلامه من صوت وحرف، ولا خطه من نقش ورسم ورقم، ولا حبره من زاج وعفص. فان كنت لا تشاهد هذا هكذا فأنت من أهل التشبيه والتجسم وما عرفت ربك إذ لو نزهت ذاته تعالى وصفاته عن ذات الاجسام وصفاتها ونزهت كلامه عن الحروف والاصوات، فما بالك تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه، ولا تنزهها عن الجسمية والتشبيه بغيرها؟ ".

فلما سمع السائل السالك من العلم ذلك، استشعر قصور نفسه وفتح بصر بصيرته، بعد الابتهال إلى ربه، فانكشف له القلم الالهي، فإذا هو كما وصفه العلم، ما هو من خشب ولا قصب، ولا له رأس ولاذنب، وهو يكتب على الدوام في قلوب البشر اصنفاف العلم، فشكر العلم وودعه، وسافر إلى حضرة القلم الالهي، وقال له:

" أيها القلم! مالك تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الارادات إلى انهاض القدرة وإشخاصها وصرفها إلى المقدورات؟ ".

فقال له (القلم الالهي): " أفنسيت ما رأيت في عالم الملك وسمعته من جواب القلم الآدمي حيث أحالك إلى اليد؟ فجوابي مثل جوابه، فانى مسخر تحت يد الله تعالى الملقبة: (يمين الملك)، فاسأله عن شاني فاني في قبضته وهو الذي يرددني، وأنا مقهور مسخر، فلا فرق بين القلم الاهلي والقلم الآدمى في معنى التسخير، وإنما الفرق في ظاهر الصورة ".

فقال السائل: " من يمين الملك؟ ".

قال القلم: " أما سمعت قوله تعالى:

" والسموات مطويات بيمينه "[6].

قال: " نعم: سمعته ".

قال: " والاقلام أيضاً في قبضته وهو الذي يرددها ".

فسافر السائل من عند القلم، إلى يمين، حتى يشاهده، ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم، ورأى أنه يمين لا كالايمان، ويد لا كالايدي، واصبع لا كالاصابع، فرأى القلم متحركاً في قبضته، فسأله عن سبب تحريكه القلم

فقال: " جوابي ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة، وهو الحوالة على القدرة، إذ اليد لاحكم لها في نفسها، وإنما محركها القدرة ".

فسافر إلى عالم القدرة ورأى فيها من العجائب ما استحقر لاجلها ما قبلها فسألها عن سبب تحريكها اليمين.

فقالت: " إنما أنا صفة فاسأل القادر، إذ العهدة على الموصوف دون الصفة ".

وعند هذا كاد أن يزيغ قلب السائل، وينطلق بالجرأة لسان السؤال، فثبت بالقول الثابت ونودي من رواء سرادقات الحضرة:

" لايسأل عما يفعل وهم يسألون "[7].

فغشيته دهشة الحضرة، فخر صعقاً في غشيته مدة، فلما أفاق قال: "سبحانك! ما أعظم شأنك واعز سلطانك، تبت اليك وتوكلت عليك، وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار، فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك، وبرضاك من سخطك، ومالي إلا أن أسألك واضرع اليك، وأقول:

(إشرح لي صدري) لأعرفك، (واحلل عقدةً من لساني)[8] لأثنى عليك.

فنودى من وراء الحجاب: "إياك أن تطمع في الثناء، فان سيد الانبياء (ص) ما زاد في هذه الحضرة على أن قال: (سبحانك لا اثني ثناء عليك كما أنت أثنيت على نفسك). وإياك أن تطمع في المعرفة، فان سيد الاوصياء قال: (العجز عن درك الادراك ادراك، والفحص عن سر ذات السر إشراك). فيكفيك نصيباً من حضرتنا أنك عاجز عن ملاحظة جلالنا وجمالنا، وقاصر عن ادراك دقائق حكمنا وأفعالنا ".

فعند هذا رجع السائل السالك، واعتذر عن أسئلته ومعاتبته، وقال للقدرة واليمين والقلم والعلم والارادة والقدرة وما بعدها: " اقبلوا عذري فاني كنت غريباً جديد العهد بالدخول في هذه البلاد. والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لي أن المتفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار وما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته، مرددون في قبضته، وهو الأول بالاضافة إلى الوجود، إذ صدر منه الكل على ترتيبه واحداً بعد واحد، وهو الآخر بالاضافة إلى سير المسافرين اليه، فانهم لايزالون مترقين من منزل إلى منزل إلى ان يقع الانتهاء إلى حضرته، فهو أول في الوجود وآخر في المشاهدة وهو الظاهر بالاضافة إلى من يطلبه بالسراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت، وهو الباطن بالاضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لادراكه بالحواس ".

وهذا هو التوحيد في الفعل للسالكين، الذين انكشف لهم وحدة الفاعل بالمشاهدة واستماع كلام ذرات الملك والملكوت، وهو موقوف على الايمان بعالم الملكوت والتمكن من المسافرة إليه واستماع الكلام من أهله. ومن كان أجنبياً من هذا العالم ولم يكن له استعداد الوصول إليه ولم يمكنه ان يسلك السبيل الذي ذكرناه، فينبغي ان يرد مثله إلى التوحيد الاعتقادي الذي يوجد في عالم الشهادة، وهو ان يعلم ببعض الأدلة وحدة الفاعل، مثل ان يقال له: ان كل احد يعلم ان المنزل يفسد بصاحبين والبلد يفسد باميرين، فاله العالم ومدبره واحد، إذ:

" لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا "[9]

فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة، فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق بقدر عقله واستعداده، وقد كلفوا الأنبياء ان يكلموا الناس على قدر عقولهم.

ثم الحق ان هذا التوحيد الاعتقادي إذا قوى يصلح ان يكون عماداً للمتوكل وأصلا فيه، إذ الاعتقاد إذا قوى عمل عمل الكشف في إثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب، فيحتاج إلى من يحرسه بكلامه، وأما الذي شاهد الطريق وسلكه بنفسه، فلا يخاف عليه شيء من ذلك، بل لو كشف له الغطاء لما ازداد يقيناً وان كان يزداد وضوحاً.

(تنبيه) اعلم ان ما يبتني عليه التوحيد المذكور، أعني كون جميع الأشياء من الأسباب والوسائط مقهورات مسخرات تحت القدرة الأزلية ظاهر. وسائر ما أوردنا في هذا المقام مما 

ذكره أبو حامد الغزالي وتبعه بعض أصحابنا " ولا اشكال فيه إلا في أفعال الإنسان وحركاته"[10]

فان البديهة تشهد بثبوت نوع اختيار له، لأنه يتحرك ان شاء ويسكن ان شاء، مع أنه لو كان مسخراً مقهوراً في جميع أفعاله وحركاته، لزم الجبر ولم يصح التكليف والثواب والعقاب. ولتحقيق هذه المسألة موضع آخر، ولا يليق ذكرها هنا. والحق ان كل ما قيل فيها لا يخلو عن قصور ونقصان، والأولى فيها السكوت والتأدب بآداب الشرع[11].

ومنها:

الخواطر النفسانية والوساوس الشيطانية

اعلم أن الخاطر ما يعرض في القلب من الافكار فان كان مذموماً داعياً إلى الشر سمي (وسوسة)، وان كان محموداً داعياً إلى الخير سمي (إلهاماً).

وتوضيح ذلك: ان مثل القلب بالنسبة إلى ما يرد عليه من الخواطر مثل هدف تتوارد عليه السهام من الجوانب، أو حوض تنصب إليه مياه مختلفة من الجداول، أو قبة ذات أبواب يدخل منها أشخاص متخالفة، أو مرآة منصوبة تجتاز إليها صور متباينة. فكما ان هذه الأمور لا تنفك عن تلك السوانح، فكذا القلب لا ينفك عن واردات الخواطر. فلا تزال هذه اللطيفة الالهية مضماراً لتطاردها ومعركة لجولانها وتزاحمها، إلى ان يقطع ربطها عن البدن ولذاته، ويتخلص عن لدغ عقارب الطبع وحياته.

ثم لما كان الخاطر أمراً حادثاً فلابد له من سبب، فان كان سببه شيطاناً فهو الوسوسة، وان كان ملكاً فهو الالهام. وما يستعد به القلب لقبول الوسوسة يسمى إغواءاً وخذلاناً، وما يتهيأ به لقبول الالهام يسمى لطفاً وتوفيقاً. وإلى ذلك اشار سيد الرسل (ص) بقوله: " في القلب لمتان[12]:لمة من الملك ايعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة من الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق".وبقوله (ص): " قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن ".

فصل

(أقسام الخواطر ومنها الالهام)

الخاطر ينقسم إلى ما يختلج بالبال من دون ان يكون مبدأ للفعل: وهي الأماني الكاذبة والأفكار الفاسدة، وإلى محرك الارادة والعزم على الفعل، إذ كل فعل مسبوق الخاطر أولا، فمبدأ الأفعال الخواطر، وهي تحرك الرغبة والرغبة العزم، والعزم النية، والنية تبعث الأعضاء على الفعل، (والثاني) كما عرفت ان كان مبدأ للخير يكون إلهاماً ومحموداً، وان كان مبدأ للشر يكون وسواساً ومذموما. (والأول) له أنواع كثيرة:

(منها) ما يرجع إلى التمني، سواء كان حصول ما يتمناه ممكناً أو محالاً، وسواء كان المتمنى حسناً محموداً أو قبيحاً مذموماً، وسواء كان عدمه مستنداً إلى قضاء الله وقدره أو إلى تقصيره وسوء تدبيره فيخطر بباله أنه ياليت لم يفعل كذا أو فعل كذا.

(ومنها) ما يرجع إلى تذكر الأحوال الغالبة، إما بدون اختياره أو مع اختيار ما، بأن يتصور ما له من النفائس الفانية فيستر به، أو يتخيل فقده فيحزن لأجله، أو يتفكر في ما اعتراه من العلل والاسقام واختلال امر المعاش وسوء الانتظام، أو يذهب وهمه إلى حساب المعاملين أو جواب المعاندين، وتصوير إهلاك الأعداء بالأنواع المختلفة من دون تأثير وفائدة.

(ومنها) ما يرجع إلى التطير، وربما بلغ حداً يتخيل كثيراً من الامور الاتفاقية الدالة على وقوع مكروه بنفسه أو بما يتعلق به، ويضطرب بذلك، وان لم تكن مشهورة بذلك عند الناس، وربما حدثت في القوة الوهمية خباثة وشيطنة تذهب غالباً إلى ما يؤذيه ويكرهه ولا يذهب إلى ما يريده ويسره، فيتخيل ذهاب أمواله وأولاده وابتلاءه بالأمراض والاسقام ووصول المكروه من الغير ومغلوبيته من عدوه، وربما حصل لنفسه نوع اذعان لهذه التخيلات لمغلوبية العاقلة للواهمة. فيعتريه نوع اضطراب وانكسار، وقلما يذهب مثل هذه القوة الوهمية فيما يشاء ويريده من تخيل الغلبة وحصور التوسعة في الأموال والأولاد، بحيث يحصل لنفسه نوع اذعان لها، فتنبسط وتهتز. وهذا شر الوساوس وأردؤها، وربما كان المنشأ لبعضها نوع اختلال في الدماغ وجميع الانواع المذكورة بأقسامها مفسدة للنفس يحدث فيها نوع ذبول وانكسار ويصدها عما خلقت لأجله.

(ومنها) ما يرجع إلى التفاؤل، وهذا ليس مذموماً. وقد ورد من رسول الله ـ (ص) ـ: أنه يحب التفاؤل، وكثيراً ما يتفاءل ببعض الامور.

(ومنها) الوسواس في العقائد، بحيث لا يؤدي إلى الشك المزيل لليقين، فانه قادح في الايمان كما تقدم. ومرادنا بالوسوسة وحديث النفس في العقائد هنا ما لايضر بالايمان ولا يؤاخذ به ـ كما يأتي ـ.

(تذنيب) قد ظهر مما ذكر: ان أكثر جولان الخاطر إنما يكون في فائت لا تدارك له، أو في مستقبل لابد وان يحصل منه ما هو مقدر، وكيف كان هو تضييع لوقته، إذ آلة العبد قلبه وبضاعته عمره، فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنساً بالله أو عن فكر يستفيد معرفة الله ليستفيد بالمعرفة حبا لله، فهو مغبون. وهذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات. مع ان الغالب ليس كذلك، بل يتفكر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات، إذ لا يزال ينازع في الباطن كل من فعل فعلا مخالفاً لغرضه، أو من يتوهم انه ينازعه ويخالفه في رأيه، بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبه حتى في أهله وولده، ثم يتفكر في كيفية زجرهم وقهرهم وجوابهم عما يتعللون به في مخالفتهم فلا يزال في شغل دائم مضيع لدينه ودنياه.

فصل

(المطاردة بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس)

قد عرفت ان الواسواس أثر الشيطان الخناس، والالهام عمل الملائكة الكرام. ولا ريب في ان كل نفس في بدو فطرتها قابلة لأثر كل منهما على التساوي، وانما يترجح أحدهما بمتابعة الهوى وملازمة الورع والتقوى، فإذا مالت النفس إلى مقتضى شهوة أو غضب وجد الشيطان مجالا فيدخل بالوسوسة، وإذا انصرفت إلى ذكر الله ضاق مجاله وارتحل فيدخل الملك بالالهام. فلا يزال التطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس. لهيولانية وجودها وقابليتها للأمرين بتوسط قوتيها العقلية والوهمية، إلى أن يغلب أحد الجندين ويسخر مملكة النفس ويستوطن فيها، وحينئذ يكون اجتياز الثاني على سبيل الاختلاس، وحصول الغلبة انما هو بغلبة الهوى أو التقوى فان غلب عليها الهوى وخاضت فيه صارت مرعى الشيطان ومرتعه وكانت من حزبه، وان غلب عليها الورع والتقوى صارت مستقر الملك ومهبطه ودخلت في جنده قال رسول الله (ص) ـ: " خلق الله الانس ثلاث أصناف: صنف كالبهائم، قال الله تعالى:

" لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها[13] ".

وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف كالملائكة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله ".

ولاريب في ان أكثر القلوب قد فتحها جنود الشياطين وملكوها، ويتصرفون فيها بضروب الوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآجلة. والسر فيه: ان سلطنة الشيطان سارية في لحم الإنسان ودمه ومحيطة بمجامع قلبه وبدنه، كما ان الشهوات ممتزجة بجميع ذلك، ومن هنا قال رسول الله (ص) ـ: " ان الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم "، وقال الله سبحانه ـ حكاية عن لسان اللعين ـ:

" لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لاتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم[14] " ".

فالخلاص من أيدي الشياطين يحتاج إلى مجاهدة عظيمة ورياضة شاقة، فمن لم يقم في مقام المجاهدة كانت نفسه هدفاً لسهام وساوسهم وداخلة في أحزابهم

 


[1]  الأنفال، الآية: 17.

[2]  المقصود به (أبو حامد الغزالي) في احياء العلوم، راجع الجزء الرابع ص114 المطبوع بالمطبعة العثمانية بمصر سنة 1352، وسترى ان هذه الفصول مقتبسة منه بتغيير في العبارة وتقديم وتأخير. وكذلك هذا الفصل المنقول عنه فيه تغيير واختصار كثير، وصاحب الكتاب اعترف ـ فيما سيأتي ـ باقتباس هذه الفصول من الغزالي.

[3]  وفي نسختنا الخطية: (لأنها كلام يستمد)، ولكن الموجود في المطبوعة وفي نسخة احياء العلوم كما اثبتناه في المتن.

[4]  الكهف، الآية: 109.

[5]  العلق، الآية: 1، 3 ـ 5.

[6]  الزمر، الآية: 67.

[7] الأنبياء، الآية: 23.

[8]  طه، الآية: 25، 27.

[9]  الأنبياء، الآية: 22.

[10]  هكذا في المطبوعة وفي نسختنا الخطية والنسخة الأخرى: " ولا ريب في لزوم الاشكال في افعال الإنسان وحركاته".

[11]  هذا اعتراف بالعجز وهروب من حل هذه المعضلة التأريخية في سر الخلق، والحل الذي لم يسبق إليه البشر حتى عند فلاسفتهم الاقدمين والمتأخرين ما قاله امامنا الصادق (ع): "لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين" فان الفاعل الذي منه الوجود هو الله تعالى وحده لاشريك له في خلقه، والفاعل الذي به الوجود هو العبد المختار في فعله.

[12]  روى الحيدث في احياء العلوم ج2 ص23 هكذا: " في القلب لمتان: لمة من الملك ايعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله سبحانه وليحمد الله. ولمة من العدو ايعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير، فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم "، ثم تلا قوله تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر..." الآية.

وهذا الحديث لم نعثر عليه من طرقنا، وكذا الحديث الآتي:

في نهاية ابن الأثير: " في حديث ابن مسعود: لابن آدم لمتان: لمة من الملك ولمة من الشيطان. اللمة الهمة والخطرة تقع في القلب، اراد إلمام الملك أو الشيطان به والقرب منه".

[13]  الأعراف، الآية: 179.

[14]  الأعراف، الآية: 16، 17.

 

 

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست