:الموضوع

أورع الناس من وقف عند الشبهة

المسؤولية

حرية الطغاة في هذا العصر

المسؤوليات الثلاث

 

عام وخاصّ

ثم إن الإلزام بالخير منه عام لاّ يختص بفرد دون فرد ولا بفئة دون فئة أو بزمان دون زمان كالايمان بالله والعمل بالحق والعدل والوفاء بالعهد والأمانة، ومنه خاص كواجبات العلماء والحكام والأغنياء، فأول الواجبات على العالم أن يعمل بعلمه، والواجب الأساسي على الحاكم أن يأمن الضعيف من ظلمه، ويخشى القوي من عدله، أما الغني فيجب عليه كفاية أن يسد جوعة المضطر حتى ولو كان الغني قد أدى ما عليه من أخماس وزكوات، قال الإمام أمير المؤمنين(ع): ((ما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله سائلهم عن ذلك)).

بل يجب كفاية على كل قادر أن يدفع الأذى عن العاجز أياً كان نوع العجز. أما قول الفقهاء: يجب انقاذ الحريق والغريق فهو لمجرد التمثيل، وكفى بقوله تعالى حجة ودليلاً: (ارأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدعّ اليتيم ولا يحضّ على طعام المسكين) (3 ـ الماعون). والمراد باليتيم هنا الضعيف صغيراً كان أم كبيراً، وبالمسكين المعوز.

التوازن بين الواجبات

الإنسان روح وجسد، ولكل منهما مطالب وواجبات، وعملية التوازن بين مطالب الاثنين وواجباته تحتاج إلى روية وحكمة، وذلك بأن لا نطلق الحرية والعنان لكل منهما في مطالبه، بل يجب أن نقيد مطالب الجسد بعدم الإضرار والإجحاف بمطالب الروح والباقيات الصالحات، ونقيد مطالب الروح أيضاً بالحرص والمحافظة على مطالب الجسد والطيبات من الرزق، وبكلمة أن لا نؤثر أحدهما على حساب الآخر، وبذلك يتحقق الانسجام والترابط في جامع يضم مطالب الروح والجسد معاً.

ونضرب مثلاً بقصة الإمام أمير المؤمنين(ع) مع عاصم بن زيد الحارثي الذي لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، فقال له الإمام(ع): يا عدوَّ نفسه لقد استهان بك الخبيث ـ الشيطان ـ أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى أن الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذ منها؟ أنت أهون عليه من ذلك)).

وقوله (أهون) يتضمن الإنكار على من حرم على نفسه زينة الله والطيبات من الرزق، وماذا يصنع الله بزهد الإنسان ورهبنة الرهبان (ولكن يناله التقوى منكم) (37 ـ الحج).

ومن التقوى أن نعطي كل ذي حق حقه، قال الرسول الأعظم(ص): ((ان لربك عليكم حقاً، وأن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فاعط لكل ذي حق حقه)). وقال: ((ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه.. من طلب الدنيا مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان، ومن طلبها استعفافاً وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر)).

أبداً لا فارق وفاصل في دين الإسلام بين العمل للدنيا والعمل للآخرة ما دام كل منهما من أجل حياة أفضل، وإنما الفصل والحد بين الحلال والحرام، بين الظلم والعدل، بين المحاباة والمساواة، بين أن تعيش بكد اليمين، وأن تعيش على حساب الآخرين: (تلك حدود الله، فلا تعتدوها، ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون) (229 ـ البقرة).

ومثلاً آخر من سنة الرسول الأعظم(ص): رأى الصحابة في ذات يوم شاباً قوياً يسرع إلى عمله، فقال بعضهم: لو كان هذا في سبيل الله، فرد النبي عليهم وقال: لا تقولوا هذا، فان كان خرج يسعى على اولاد صغار فهو في سبيل الله، وان كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخر فهو في سبيل الشيطان.

هذا السعي للنفس والآباء والأولاد كله لله والآخرة وان كان من المصلحة الخاصة ما دامت حلالا.. أرأيت إلى هذا الالتصاق والوفاق بين دنيا الحلال والآخرة وهل من شيء أقوى في الدلالة وأوضح على ان دين الإسلام هو دين الحياة لا دين المغيبات فقط. (فبأي حديث بعده يؤمنون؟).

بهذا الحديث وبامثاله من كتاب الله وسنة نبيه، وبهذا المنهج السليم في فهم الإسلام ـ يجب أن نخاطب نحن حملة الدين ودعاته، الشاب المثقف الذي يطالب بتغيير الدين وتطويره!.. إن قلوبنا وأدمغتنا نحن المرشدين والمبلغين هي التي يجب أن تتغير وتتطور وليس الدين الذي جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين.

ولا أدع الكلام حتى أذكر مثلاً واحداً على فهم أهل البيت(ع) لدين جدهم رسول الله(ص)، قال رجل للإمام الصادق(ع): إني أحب الدنيا، قال الإمام: تصنع بها ماذا؟ قال: اتزوج منها واحج وانفق على عيالي وانيل اخواني. قال الإمام: ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة.

وهكذا ارتفع فهم المعصوم لدين الله وجده رسول الله على كل فهم.. فأي شيء يحقق أملاً من آمال الإنسانية، ويخطو بها إلى ما فيه صلاح للناس بجهة من الجهات فهو رضا الله ومن خير الآخرة وثوابها، وعلى هذا الفهم المعصوم يجب أن يعرض كل تفسير وتأويل لكتاب الله وكل قول أو فعل او تقرير يُنسب إلى رسول الله(ص)، فما صدقه وشهد له فهو من الإسلام وإلا فهو بدعة وزخرف.

أورع الناس من وقف عند الشبهة

كل الحقوق والواجبات تصاغ في أطر عامة وقواعد كلية أخلاقية كانت أم شرعية أم سياسية أم غير ذلك، أما الجزئيات فتُستخرج أحكامها من القوانين حيث لا حصر لها ولا عد، ولا يسوغ أن تترك لضمائر الأفراد فتستخدم في أحامها ما هب ودب، وعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: علينا أن نلقي اليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا.

ومن أمثلة هذا التفريع ما روي عن الإمام الباقر أن رسول الله(ص) نهى عن القيل والقال، وفساد المال وكثرة السؤال، فقيل له: أين هذا من كتاب الله؟ فاستخرج النهي عن القيل والقال من الآية 114 من النساء: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس) وأرجع النهي عن فساد المال إلى الآية 5 من النساء: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) أما النهي عن كثرة السؤال فدليله الآية 10 من المائدة: (لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم).

وأيضاً عن الإمام الصادق(ع): (أورع الناس من وقف عند الشبهة، وأعبد الناس من أقام الفرائض، وأزهد الناس من ترك الحرام). وعليه يمكن القول بأن أشقى الناس في آخرته من اقتحم الشبهات ناسياً الدين والإيمان وأشد من هذا شقاوة وعداوة لله ورسوله من اخترع المبررات لارتكاب المحرمات تبعاً لأهوائه واهواء أبنائه، وهذا وأمثاله هم السبب الاول لهدم الدين باسم الدين بدليل قول المعصوم: (هم أشد على الإسلام من جيش يزيد بن معاوية).

مهدنا بما تقدم لكي نشير إلى أن أهون شيء على الإنسان أن يحرك لسانه في فمه كيف شاء متى شاء، فيصف الجبن بالوداعة والتواضع، والاستسلام للذل والهوان بالقضاء والقدر، والتقتير بالتدبير، وإثارة الحروب بالحفاظ على السلم، والكذب بالحجة الدامغة، وكثير من الأطفال يحفظون قصة ذاك الذئب مع الحمل المسكين الذي عكّر الماء عليه مع أن الذئب كان في أعلى الماء والحمل في أدناه، ثم دعوى الذئب بأن أبا الحمل قد سبه وشتمه.. ومعلوم أن كل حمل في الدنيا لا يعرف أباه، ولكن هذا الذئب عرف أبا هذا الحمل الذي يريد أن يفترسه، عرفه باسمه وشخصه!.

وهكذا ضعيف الدين والإيمان يزور الواقع، ويخضع الحق لأهوائه وتبعاً لمطامعه كما فعل الذئب، واليك هذا الشاهد الخالد:

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان، وهو يترجم للقاضي أبي يوسف: ان هارون الرشيد أحب جارية عيسى بن جعفر، فسأله هبتها أو بيعها فأبى وقال: حلفت بالطلاق والعتاق وصدقة جميع ما أملك إن بعتها أو وهبتها، فطلب الرشيد من أبي يوسف أن يوجد له حلاً شرعياً لهذه المعضلة. فقال أبو يوسف لعيسى هبه نصفها وبعه نصفها، ولا حنث عليك في ذلك لأنك ما بعتها كلها ولا وهبتها كلها.

ففعل عيسى حيث لا بد مما ليس منه بد، وحملت الجارية إلى الرشيد وهو في مجلسه. فقال الرشيد لأبي يوسف: بقيت واحدة. قال: ما هي؟ قال: إنها جارية ولا بد أن تستبرىء بحيضة، وإذا لم أبت ليلتي معها خرجت نفسي. قال أبو يوسف: اعتقها فتصبح حرة، واعقد عليها بعد العتق، فإن الحرة لا تستبرىء. فاعتقها الرشيد، وعقد له عليها أبو يوسف، وقبض مئتي ألف!.

ولا فرق اطلاقاً بين من يحتال ويحرف دين الله وشرعه تبعاً لهوى خليفة أو قوي، وبين من يحرفه تبعاً لهواه أو هوى أبنائه. ومن جملة ما قرأت أن العالم النفساني الكبير ادوارد ليتين قال: ((إن بعض الآباء يذعنون لرغبة ابنائهم حتى يتصور المرء أن الأبناء هم الكبار، وأن الأب هو الصغير الذي لا يملك إلا أن يسم ويطيع)).

وهذه صورة طبق الأصل لما سمعناه من الناس عن البعض، ويا للأسف!. فأين الاحتياط الذي قرأناه في كتب الفقه وأصوله، والابتعاد عن التهم والشبهات؟ ألا يكفي ما يحيط بنا من الأعداء، وما نحن فيه وما هو قادم علينا؟.

وبعد، فان الله سبحانه يعذر من ينسى جزءاً من أجزاء العبادة أو يخطىء في فهم نص من النصوص إذا كان صادقاً في قصده جاداً في بحثه، قال سبحانه: (وليس عليكم جناح فيما اخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) (5 ـ الأحزاب) إنما الإثم والجرم على من حرف وزيف، واستبد بأمره دون أمر الله جل وعز.

المسؤولية

لا مسؤولية بلا إلزام

تقدم أن عناصر الخير والفضيلة خمسة: الإلزام، وحدثناك عنه في فصله السابق بلا فاصل، والمسؤولية، وهذا فصلها، ثم الجزاء وبعده النية، وبعدها الجهد، وهكذا ننتقل من فصل إلى فصل حتى ننتهي من بيان الجذور للخير والفضيلة.

والإلزام هو الأصل والشرط الأساسي للمسئولية فإذا انتفى الالزام لجنون أو صغر أو إكراه أو نسيان بلا تقصير ـ فلا مسئولية حيث لا نقش بلا عرش، أو كما قال الإمام(ع): ((فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله)).

وكما ان الإلزام شرط لا غنى عنه لقيام المسؤولية فكذلك الجزاء نتيجة منطقية للمسئولية إذ لا يستقيم مع العدل أن يستوي الخبيث والطيب، وأن يفلت المسيء من العقاب، ويحرم المحسن من الثواب، وبالتالي لا يكون لله عند أحد من نعمة تجزى تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً..

وبهذا يتبين معنا أن الإلزام والمسؤولية والجزاء حلقات متماسكة متشابكة لا انفصام لها ولا انفصال.

تعريف المسؤولية

وخير ما نعرف به المسؤولية المتفرعة عن الإلزام قوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) (38 ـ المدثر).. (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (286 ـ البقرة).. (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) (36 ـ القيامة).. (فوربك لنسألنّهم اجمعين عما كانوا يعملون) (93 ـ الحجر).. فقد ربطت هذه الآيات عمل العامل بالسؤال عنه والحساب عليه والجزاء: ان خيراً فخير، وإن شراً فشر، ومعنى هذا أن حروف المسؤولية تؤدي بذاتها المعنى الذي وضعت له.

أما الشعور بالمسؤولية فيتولد تلقائياً في داخل الإنسان حين يسمع نداء الضمير بالالزام والواجب الأخلاقي ـ طبعاً لا يُسمع هذا النداء إلا مع توافر الحرية الكاملة والقدرة على طاعة الإلزام وامتثاله ـ وفي هذه الحال يكون الضمير هو السائل وصاحبه هو المسئول، لا واسطة بين المرء وضميره فيما يعود إلى الإلزام الأخلاقي. قال الإمام أمير المؤمنين(ع): ((حاسب نفسك لنفسك، فان غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك)).

ربكم ذو رحمة واسعة

أجل، ان الله سبحانه يسأل ويحاسب، ولكنه أيضاً يحلم ويرحم، ويغفر ويصفح، ويمهل ولا يعاجل لأنه ـ جلت عظمته ـ يعلم أن عباده ضعاف قاصرون لا طاقة لهم على عدله، ولا نجاة لهم إلا

بفضله، وان أفعاله بكاملها تجري على الرحمة والتفضّل: (وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب) (58 ـ الكهف).

وكان الأنبياء والرسل يضيقون ويتبرمون من تمرد المشركين وعناد الطاغين حتى قال نوح(ع): (رب انهم عصوني... رب لا تدع على الأرض من الكافرين دياراً) (26 ـ نوح). وقال موسى(ع): (رب لو شئت أهلكتهم من قبل واياي) (155 ـ الأعراف). وقال سبحانه لنجيه محمد(ص): (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) (97 ـ الحجر).. (فان كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) (47 ـ الأنعام) وتنطوي هذه الآية الأخيرة على سر عظيم من أسرار الذات القدسية وصفاتها الكريمة السخية.

كذّب المعاندون خاتم النبيين، وجحدوا برب العالمين، وتجاوزوا كل حد وطور، فكادت نفس النبي(ص) تذهب تحسراً وتبرماً فقال سبحانه لرسوله الكريم: مهلاً لا توئسهم من الأمل في مغفرتي، وان جحدوا وعاندوا، فاني لا أحب أن يغلب القنوط على قلوبهم من رحمتي، كيف؟ وهي أرحب وأوسع من ذنوب الخلق كلهم أجمعين.. ولا بدع فان الأب يرأف بابنائه وإن لم يسمعوا له ويطيعوا، والله سبحانه أرحم بعباده من الآباء والأمهات بابنائهم، قال الإمام الصادق(ع): ((إذا كان يوم القيامة نشر سبحانه رحمته حتى يطمع فيها ابليس)) (سفينة البحار). وقال الإمام السجاد وزين العباد(ع): ((العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة الرحمة الإلهية)) وأيضاً قال، وهو يمجد الذات القدسية ويناجيها:

((لم تعاجل العاصي بنقمتك لكي يستبدل بحاله في معصيتك حال الإنابة إلى طاعتك، وقد كان يستحق في أول ما هم بعصيانك كل ما أعددت لجميع خلقك من عقوبتك فجميع ما أخرت من عذابٍ تركٌ من حقك ورضى بدون واجبك، فمن اعظم منك؟. وعفوك أحب اليك من العقوبة.

يمهل سبحانه العاصي في الكبائر حتى كأنه ما أساء ولا عصى، أو كأن الله قد سامح وعفا.. ولو عاجل بالعقوبة لكان ذلك حقاً وعدلاً، ولكن لم يفعل، ولماذا؟ لأن من شأن الربوبية أن تحلم وترحم، وأن تُؤجل وتمهل، لعل الذي أسرف على نفسه يتداركها بالتوبة والإنابة التي فتح سبحانه أوابها لكل راغب بلا مانع وحاجب بينه وبين خالقه، ولا شيء أبغض إليه تعالى من أن يشقى عبده بعذابه، ولا أحب إليه من أن ينعم بثوابه: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) (49 ـ الزمر).

كرر سبحانه في هذه الآية الرحمة والمغفرة تأكيداً لعفوه عن الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي والذنوب، وأنه تعالى يبدل بالتوبة سيئاتهم حسنات. وفي الحديث الشريف: (ان الله لا يمل حتى تملوا، فإذا تركتم ترك) أي إذا تركتم التوبة من الذنوب ترك المغفرة.

باب العفو

والإمام السجاد(ع) يسمي التوبة باب العفو، وليست التسمية بالأمر المهم، وإنما المهم أو الأهم ما نقرأه في مناجاة الإمام، وهو يخاطب العلي الأعلى ويقول:

(أنت الذي فتحت لعبادك باب عفوك، وسميته باب التوبة... فما عذر من أغفل دخول ذلك المنزل بعد فتح الباب، وإقامة الدليل؟ وأنت الذي زدت في السوم على نفسك لعبادك تريد ربحهم في متاجرتهم معك، وفوزهم بالوفادة عليك.. فقلت: (اذكروني أذكركم.. وقلت: لئن شكرتم لأزيدنكم.. وقلت: ادعوني استجب لكم.. وقلت: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.. وقلت: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء.. وقلت: من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)).

هذا الخطاب من الله تعالى لعباده: اذكروني اذكركم.. الدرهم منكم بسبعمئة مني، الخ، هو خطاب للعاطفة التي ترحب بكل ربح وكسب، والله سبحانه قد دعاها إلى متجره الذي ليس كمثله أي متجر لأن الرابح والسعيد هو المشتري والمستهلك، أما البائع فانه يعطي ولا يأخذ..

ومن عادة التاجر ودأبه أن يعلن عن تجارته، ويتحدث عنها، ويروج لها، والله سبحانه يدعو إلى دين الحق بالرضا والإقناع لا بالجبر والإكراه، وبالتحبب والتشويق، ويقيم الدليل تلو الدليل من القلب والعقل، ولا يدع لأحد حجة ولا عذراً إلا العناد والمكابرة.

قال سيد العابدين وإمام المتقين: ((لو دل مخلوق مخلوقاً على مثل الذي دللت عليه عبادك منك كان محموداً)) أي لو أن شخصاً ادعى لنفسه دعوة، وأقام عليها حجة من حجج الله سبحانه لاستجبنا له شاكرين حامدين، هذا وهو عبد مخلوق مثلنا، فما بال من كفر بمن فصل الآيات، وبهر البينات، وخلق الكائنات؟.

وبعد، فقد تنوعت الأدلة على وجود الله عند أهل الكلام الأديان والعلماء والفلاسفة، وتتبعت كل تفكير حول هذا الموضوع، وألفت فيه أكثر من كتاب ونشرت عشرات الفصول والمقالات، وما عرفت دليلاً أسهل من هذا الدليل وأيسر على الفهم.

حديث النفس

ما من أحد إلا وتوسوس له نفسه بخير أو بشرّ في كل موضوع حتى المستحيلات كداء فيها مزمن وملازم، ولا حيلة لصاحبها في اسكاتها ومقاومتها، وإذن ينبغي أن لا يسأل ويحاسب على ما تخوض فيه من حديث وخيال مع أن الله تقدست أسماؤه قال (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) (284 البقرة). ويصطدم هذا بظاهره مع العدالة الإلهية حيث لا فرج ولا مخرج للإنسان عما توسوس به نفسه.

الجواب:

ان مصدر القرآن ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، وكما قال سبحانه: (وإن تبدو الخ قال أيضاً: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (286 ـ البقرة)... (وما الله يريد ظلماً للعباد) (31 ـ غافر). إلى غير ذلك من آيات هذا الباب، ومعناها مجتمعة ومعطوفاً بعضها على بعض أن كل وسواس وحديث للنفس يبقي في داخلها ولا يتجاوزها إلى الخارج بقول أو فعل، فلا أثر له، وان المحرم منه ما كان له ثمرة مادية، ونتيجة ملموسة تماماً كما قال الرسول الأعظم(ص): ((إذا حسدت فلا تبغي)) حيث نهى عن البغي المترتب على الحسد، ولم ينه عن الحسد بالذات لأنه وصف انفعالي بحت لا يمتّ إلى طاقة الإنسان بسبب.

لا مسئولية بلا حرية وبلاغ

كل الحياة تجارب وعظات، ومصائب ومسؤليات لها أول وليس لها آخر إلا بالرد غداً إلى عالم الغيب والشهادة وحكمه الذي لا معقب له، ولا يظلم فيه أحداً لأنه تعالى لا يسأل ويحاسب إلا بعد قيام الحجة بالبلاغ المبين منه سبحانه والقدرة التامة من العبد، قال، تقدست أسماؤه: (لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها) (7 ـ الطلاق).. (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) (15 ـ الإسراء). وقال الإمام الصادق(ع): (إن الله احتج على العباد بما آتاهم وعرفهم).

ومن الأمثلة الواضحة على هذه الحقيقة ما رواه صاحب أصول الكافي ج 2 ص 264: ان الفقراء يأتون الجنة يوم القيامة ويضربون بابها، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الفقراء، فيقال لهم: أقبل الحساب تبغون الجزاء؟ فيقولون: ما أعطيتمونا شيئاً تحاسبونا عليه.. فيقول المولى، تقدست أسماؤه: صدقوا، أدخلوا الجنة.

وإن دلت هذه الرواية على شيء فانها تدل على أن مسئولية الإنسان تختلف تبعاً لما يملك من صحة ونشاط وجاه ومال، ومن علم وذكاء، بل وحساسية وانفعال وعمق في النظر وحكمة في التدبير، فالغني مسئول عن الحق المعلوم في أمواله للسائل والمحروم، والعالم مسئول عن بذل العلم والعمل به، وصاحب الجاه مسئول عن السعي في حاجة كل ضعيف وملهوف، بالإضافة إلى تعاونه مع الآخرين على الصالح العام ومطالب الحياة للجميع بلا استثناء، بل يجب هذا التعاون على الكبير والصغير والقوي والضعيف: من كل حسب طاقته.

وقال بعض المؤلفين: ((كان في القديم يقال: إن من نعم الله عليكم حاجة الناس اليكم، أما الآن فينبغي أن نناشد الناس جميعاً ونقول لهم: إن من نعم الله عليكم حاجة المجتمع اليكم، بل حاجة الكون اليكم)). وقال نبي الرحمة(ص): ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله الصائم نهاره القائم ليله.. الخلق عيال الله، فأحب الخلق اليه أنفعهم لعياله)). وقال الإمام الصادق(ع): ((معنى قوله واجعلني مباركاً أينما كنت، اجعلني نفاعاً أينما كنت)). فافضل الأعمال في كل زمان ومكان طاعة الله، وأفضل طاعاته تعالى ما عاد نفعه على عباده.

ومن الذي لا يحفظ حديث ((كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل في أهله راعٍ، والمرأة في بيت زوجها راعية)) الخ. وأهم المسئوليات الآن أن يقوم المسلمون جميعاً بانتفاضة واعية ثائرة ضد القيود التي تربطهم بعجلة الطامعين في أرزاقنا ومقدراتنا، وضد المواطنين الخونة الذين باعوا للشيطان دينهم وضمائرهم وأمتهم وأوطانهم.

حرية الطغاة في هذا العصر

ولمناسبة الإشارة إلى حرية الإنسان نسجل هنا بأسف وايجاز أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو أسوأ ألف مرة من العصور الأولى التي كان الناس فيها ينقسمون إلى سادة وعبيد، وأشد قسوة على العدل والحرية من العصور الوسطى التي كان يلقى العلماء فيها اضطهاداً قاسياً من محاكم التفتيش.. أليست العنصرية معترفاً بها الآن في روديسيا وجنوب أفريقيا، وديناً يدان به في الولايات المتحدة؟. هذا في النظام الرأسمالي (والعالم الحر) أما في البلاد الاشتراكية فالقيود تحدد ما ينطق به الإنسان من كلمات وما يمارس من أعمال وما يحوزه من أشياء.

وهل من الحرية في شيء أن يخير صاحب العمل الضعاف المحتاجين إلى العمل من أجل القوت، بين القبول بما يفرضه هو من أجر وبين البقاء لا عمل حتى الموت جوعاً؟.. وهكذا الشأن في كل ضعيف يحتاج إلى التطبيب والمعالجة وأجرة المسكن وقسط المدرسة لتعليم أولاده وثمن الدواء.. صحيح أن الإنسان لا يمكن أن يكون حراً بلا قيود في جميع مسالك الحياة، ولكن استغلال الفرد للفرد كما في الرأسمالية، والتضحية بالفرد في سبيل الجماعة كما في الاشتراكية ـ يمكن تجاوزهما بالتعاون على الجمع بين المصلحتين. لقد أخضع الإنسان الطبيعة لإرادته واستطاع الوصول إلى القمر، فهو يستطيع أيضاً أن يصنع ظروفاً إنسانية، ويعمل بالعدالة الاجتماعية.

ثم هل يمكن أن تحيا العدالة وتعيش في ظل الدعايات الكاذبة والإعلانات المضللة التي تبثها بمهارة صحافة هذا العصر وغيرها من وسائل الإعلام.. حتى الكثير من المدارس والمعاهد تحولت إلى أفاعي تنفث السموم، وتصب العقول في قوالب جامدة لا عين فيها للحرية ولا أثر.

وقرأت من جملة ما قرأت في هذا الباب مقالاً علمياً بعنوان العلم والحرية الشخصية في مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الرابع من المجلد الأول، جاء فيه: ((ان الجديد في عصرنا هذا هو أن السيطرة على العقول تتم بأكمل صورة ممكنة على أيدي كثير من الأخصائيين والبارعين بحيث تتوهم العقول نفسها بأنها حرة، وتوقن يقيناً تاماً بأنها تصدر عن ارادتها التامة ورغبتها الواعية)).

ثم ضرب الكاتب العديد من الأمثلة على ذلك من ألمانيا النازية التي ضللت شعبها، واستنزفت منه ومن البشرية جمعاء أرواحاً وأموالاً لا حصر لها، وأيضاً أورد أمثلة من حكومة الولايات المتحدة التي زيفت عقول الأميركيين وأودت بأرواح الألوف من شبابهم وبالمليارات من أموالهم في حرب فيتنام، وأشار الكاتب أيضاً إلى دعايات الصهيونية التي فاقت الجميع في تخدير العقول لدعم قضية باطلة، وادعاء الحق في بلد أقام فيه غيرهم ما يزيد على ألفي عام.

وبعد، فان من أخص خصائص الحضارة في هذا العصر، أنها أماتت الحق والعدل والحرية في كل ميدان من ميادين الحياة، وأحيت الجور والفساد والتضليل والتزييف والرياء والنفاق والنهب والاستغلال والتقتيل والتدمير والفسق والفجور، وأشاعت الشنآن والبغضاء بين الأفراد والفئات.. وهنا يكمن السر لنقمة الكثير من الشباب وغير الشباب وتمردهم على مجتمعاتهم وبيئاتهم، وبالخصوص في أروبا وأمريكا.

طرق المعرفة بالتكليف والالزام

أشرنا فيما سبق أن القدرة شرط في التكليف والإلزام الأخلاقي، ونشير هنا إلى أن معرفة الإلزام شرط أيضاً لا غنى عنه، والفرق أن القدرة شرط في أصل التشريع، أما المعرفة فهي شرط لتنفيذ الإلزام والعمل به، وطرق المعرفة بهذا الإلزام ثلاثة:

1 ـ الفطرة والبديهة، ولا شيء أكثر منها وضوحاً، ولذا تسمى معطياتها أولية حيث يشترك في معرفتها العالم والجاهل كوجوب المحافظة على الحياة والصحة والأمن، وحرمة القتل والاستغلال والعداء حنقاً وحسداً.

2 ـ العقل النظري الذي ينتقل من معلوم إلى مجهول، من شاهد إلى غائب، قال سبحانه: (فانظر إلى آثار رحمة الله) (50 ـ الروم) (تعرفهم بسيماهم) (273 ـ البقرة) وفي نهج البلاغة: ((بالصالحات يستدل على الإيمان.. استدل على ما لم يكن بما قد كان)). وكل عقل وضمير يعترف ويوقن بهذه الحقيقة البديهية، وكل العلوم بشتى أنواعها تستدل بالمعلوم على المجهول، وتثبت الشيء المختلف فيه بالشيء المتفق عليه، ولولا هذا الأصل والمبدأ ما وجد علم ودين، ولا قياس للحق والباطل، ولا انقطع خلاف ونزاع أو أتى أحد بفائدة ما دام ينطلق من غير بداية وأساس.

ولا عذر إطلاقاً لمن يجهل أو يذهل عن الطريق الأول بعد الفرض بأنه من البديهات الأولية.. اللهم إلا أن يكون على مستوى البهائم في قصوره وادراكه، أما الجهل بالطريق الثاني والثالث (أي الوحي والعقل) فإن كان مصدره اعتداد الجاهل بنفسه وأنه قد اتخذ منها مقياساً للحق والصواب، ويأبى أن يرفع رأسه وينظر إلى الحقيقة ودليلها حتى مع الإرشاد والتنبيه، فهو من الهالكين لا المعذورين، وإن كان الجهل قصوراً وعجزاً عن البحث والسؤال لسبب أو لآخر، فهو عذر شرعي وعقلي، وكذا الخطأ والنسيان مع التحفظ التام. ومن الذي لا يخطئ؟ والعصمة لأهلها، وخطأ العالم المجتهد بشهادة الرسول الأعظم(ص) حيث قال: (إذا أصاب المجتهد فله أجران، وان أخطأ فله أجر)) وبديهي أنه لا أجر إلا على فضل، ولكن بشرط الاعتراف بالخطأ بعد الكشف عنه قال سبحانه: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم ولكن ما تعمدت قلوبكم) (5 ـ الأحزاب).

المسئوليات الثلاث

قلنا في أول هذا الفصل: إن المسؤولية تفترض مقدماً قيام الالزام لأنها عنه تنبثق ومنه تتولد، ونشير هنا أن المسؤولية بطبيعتها تستدعي سائلاً يكون الإنسان مسئولاً أمامه عن فعل ما يجب فعله، وترك ما يجب تركه، فمن هو هذا السائل الذي نقف أمامه للحساب؟.

الجواب:

هو الذي ألزم وكلّف، وأمر ونهى، وسبقت الإشارة إلى أن مصادر الإلزام والتكليف ثلاثة: الوحي والضمير والعقل، وأيضاً قلنا: إن هذه المصادر هي طرق لمعرفة الإلزام والتكليف، وسيتبين معنا أن الضمير يحاسب ويوبخ، ومعنى هذا أن الضمير يُلزم ويكلّف، ويسأل ويحاسب، وفي نفس الوقت يكون دليلاً على الإلزام والتكليف، ولا غرابة فان الإنسان يُبحث عنه في طائفة من العلوم بعدد ما فيه من الجهات والحيثيات.

ونذكر فيما يلي سلطات ثلاث يحق لها أن تسأل وتحاسب:

المسؤولية الأخلاقية

ومصدرها الضمير والوجدان النقي الذي يستحسن من الخير ما يستحسن تلقائياً ويستهجن من الشر ما يستهجن بالفطرة، ويدرك أن هذا يجب أن يترك وذاك يجب أن يفعل، وقد يجعل الإنسان نفسه مسئولاً بمحض اختياره كما لو ضمنت ديناً في ذمة غيرك، أو تكفلت باحضار غريم متى طلب، أو قبلت ورضيت بتحويل ما لك في ذمة زيد إلى ما لزيد في ذمة عمرو، إلى غير ذلك مما يدينك ويلزمك بأقوالك. قال الإمام أمير المؤمنين(ع): ((الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فاذا تكلمت به صرت في وثاقه)).

وهذه المسؤولية أخلاقية حيث يرتكز الحكم على الفاعل من نفس الفاعل، ويكون هو السائل والمسئول في آن واحد، كما قال، عزّ من قائل: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) (14 ـ الإسراء).

ولعل من المفيد أن نذكر هنا قصة العالم (روز نبرج) وزوجته، وخلاصتها أن هذا العالم كان واحداً من الذين مهدوا وأعدوا للتفجير النووي، وكان يظن أن ذلك سوف يستعمل لخير الإنسانية والأغراض السلمية.. ولكنه أفاق على صدى أول قنبلتين ذريتين ألقتهما الولايات المتحدة في اليابان على هيروشيما ونجازاكي في الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، فأدرك هذا العالم ببعد نظره أن هذا الاختراع، يمكن أن يكون وسيلة لتدمير العالم، او لاستعباد البشرية بكاملها ـ على الاقل ـ فقلق وأحس بثقل المسؤولية لاشتراكه في هذا الاختراع، وأدت به وبزوجته أزمة الضمير الحادة إلى الاتصال سراً بالاتحاد السوفيتي وأفشيا له بأسرار القنبلة النووية بقصد توازن القوى الذي يحتم السلم قهراً وإلجاءً، لأن امتلاك الولايات المتحدة لهذا النوع من السلاح دون غيرها يغريها بالتخلص من كل قويّ على وجه الأرض.

وأعدمت الولايات المتحدة الزوجين بتهمة الخيانة على الرغم من التوسلات والنداءات العالمية!. وليس من شك أن عدم قيام حرب عالمية ثالثة حتى اليوم لا سبب له إلا توازن القوى، والفضل لتضحية الزوجين (روز نبرج). وهكذا الضمير الحي يشعر بالمسؤولية، ويخرج من عهدتها بكل سبيل حتى بالتضحية بالنفس والنفيس، قال نبي الرحمة(ص): ((المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره)).

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن سقراط كان يربط بين معرفة الخير والعمل به، فكل من يعرف الخير يفعله لا محالة، ولا يتركه إلا جاهل بحقيقته. وقال بعض الباحثين: يريد سقراط بالمعرفة هنا الحدس الداخلي. وليس هذا ببعيد لأن سقراط كان يكرر هذه الجملة ويؤكد عليها: ((أعرف نفسك بنفسك)).

2 ـ المسؤولية الإجتماعية

لكل مجتمع عادات وتقاليد حسنة أو سيئة تتحكم به، وقد لا يرى أفضل منها وأكمل عملاً بالفكرة القائلة: (ليس بالإمكان أبدع مما كان) حتى ولو كان ما هو كائن بالفعل جهلاً ورقاً ومرضاً وفقراً ويحتم المجتمع على كل فرد من أفراده أن يخضع لتقاليده وعاداته، ويعتبره مسؤولاً أمامه عنها.. وتسمى هذه المسؤولية اجتماعية، وإذا اقتنع بها الفرد ورضي عنها تصبح أخلاقية واجتماعية في آن واحد.

والإسلام يقر ويبارك كل ما يرتضيه الناس لأنفسهم بشرط أن لا يحلل حراماً أو يحرم حلالاً.

وكما تقع المسؤولية على الفرد ـ في نظر الجماعة إذا تمرد على عاداتها ـ أيضاً تقع المسؤولية على عاتق الجماعة إذا هي سكتت عن الشر، وأغضت على الفساد، فأن جهاد المجرمين والمعتدين واجب اجتماعي وشرعي وعقلي تماماً كالوقاية ضد الأوباء والكوارث الطبيعية، قال سبحانه: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) (193 ـ البقرة).. (وتواصوا بالحق) (3 ـ العصر).. (وتعاونوا على البر والتقوى) (2 ـ المائدة).

واشتهر عن رسول الله(ص) أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). هناك مسألتان فيما يعود إلى إنكار المنكر أو تغييره: الأولى مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل وقوعه.. وفي هذه المسألة يختص الأمر والنهي بالقلب والبيان والموعظة الحسنة، ولا مجال وموضوع لليد هنا حيث لا فعل واقع تحت الحس كما هو الفرض، والأمر بالمعروف في هذه المسألة لا يجب على إطلاقه، وانما يتبع نوع المعروف، فيجب الأمر به إن كان واجباً، ويستحب إن كان ندباً، أما النهي عن المنكر فواجب إطلاقاً لأنه محرم بشتى أنواعه.

المسألة الثانية تغيير المنكر والحرام بعد وجوده ووقوعه تحت الحواس كالسلب والنهي، وقول الرسول الأعظم(ص): من رأى منكم منكراً فليغيره الخ يختص بهذه المسألة دون تلك، وجعل(ص) لها أولاً وقبل كل شيء التغيير باليد وارجاع الحق إلى أهله طالما كان ذلك ممكناً والا وجب الإنكار بالبيان لساناً وقلماً، والتشهير بالمجرم الآثم في الصحف وعلى المنابر، قال الإمام أمير المؤمنين(ع): ((ظهر الفساد فلا منكر مغير ـ بيده ـ ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه)).

فان تعذر التغيير يداً ولساناً فلا أقل من الإنكار بالقلب، وليس المراد به مجرد الكراهية وعدم الرضا وكفى، بل لا بد من المقاومة السلبية بهجر الأثيم الزنيم وإشعاره بأنه منبوذ ومرذول، ومن يُظهر له بشاشة الملق فهو له رفيق وشريك.. وفي كتاب أعمال القلوب والجوارح للمحاسبي: ((من سقى الماء للعاصي أو أرشده إلى الطريق فقد أعانه على الإثم، والله سبحانه يقول: (ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) وقال سفيان الثوري: إذا سألك الطريق إلى المسجد فلا تدله، لعله يغتال رجلاً فيما بينه وبين المسلمين أو يظلمه)).

3 ـ المسؤولية الدينية

السائل الحق هو المبدئ والمعيد الذي أحصى على عباده عدد أنفاسهم ونظرات أعينهم وخطرات وساوسهم.. وكل سؤال أو حساب إذا لم يكن بأمره تعالى وإذنه فهو سراب، وكل مسئولية إذا لم تنته إلى دينه وشريعته فما هي بشيء، أما الضمير والوجدان فقد يموت أو يعمى في القلوب العليلة كما قال سبحانه: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (46 ـ الحج).

وإن يكن الضمير حياً بصيراً يأمر بالخير وينهي عن الشر، فليس في وسعه أن يُنفّذ أو يعاقب العصاة بما يستحقون، ومن قبل قال أرسطو: ((لو كانت الخطب والكتب تجعلنا أخياراً لكانت مطلب الناس أجمعين)). وكلنا يحفظ قول الإمام أمير المؤمنين(ع): لا رأي لمن لا يطاع. والقوانين حبر على ورق، والسلطة التي تحميها إن تك جائرة فحاميها حراميها، وان تك عادلة أمكن الاحتيال عليها والفرار منها، والله وحده لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب.

ومن حكمته تعالى وعظمته أن لا يعاجل المسيء بنقمته، وهو مستوجب لها بلا شك في أول ما همّ بالمعصية، ولكن أخّر سبحانه وتمهل إلى يوم الحساب.. حتى في هذا اليوم لا يعاجل بما أعدّ للمسيء من سطوات وضربات، بل يكشف له أولاً عن كل ما فعل وترك، ويُعرّفه بكل ما فكّر وصمم، ويُخرج له كتاباً منشوراً لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها كما في الآية 49 من الكهف.

وفوق كل ذلك يشهد عليه لسانه ويداه ورجلاه وجميع جوارحه، ثم يعاقب أو يعفو، والهدف الأول والأخير من هذا الشرح العريض الطويل، أن يبين، تقدست أسماؤه، فضله عند العفو وعدله عند العقوبة مع علم اليقين بأن الله هو الحق لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولكن هذا هو شأن الإلوهية: إحسان وإفضال، وعظمة وجلال.. وأيضاً (ليهلك من هلك عن بينة) (42 ـ الأنفال) عند الهالك والخلق كلهم أجمعين.

وبعد، فان للكلام في هذا الموضوع بداية بلا نهاية، والمهم أن لا ننسى موقف العرض والحساب بين يدي جبار قهار.. ونعود إلى حديث المسؤولية، وتسمى المسؤولية أمام الله سبحانه دينية، وهي الأصل والأساس، وأية مسئولية لا ترجع اليها فليس لها من وزن كما اشرنا، وأيضاً كل إلزام يرضى به الإنسان، وينفتح له قلبه تصير المسؤولية عنه أخلاقية وجدانية حتى ولو كان قد تلقى التكليف من ناس آخرين.

لا يؤخذ البريء بالمذنب

أبداً لا أحد يُسأل ويُحاسب إلا عما كسبت يداه، ولو أخذ البريء بالمذنب لكان كل واحد من الناس حتى القديس والمعصوم، مسئولاً عما جناه كل مسيء وكفور!. والتفرقة بين فرد وفرد أو فئة وفئة حيف وتحكم.. والبديهة تشهد بهذه الحقيقة، ولا تدعو الحاجة إلى بيانها فضلاً عن التدليل عليها، ولكن الوحي أكدها وركز عليها في العديد من آياته، منها: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (15 ـ الإسراء).. يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (105 ـ المائدة).. (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً) (123 ـ البقرة).

ولكن النصارى قالوا: ان أبناء آدم كلهم من أول واحد إلى الأخير يستحقون العذاب على خطيئة أبيهم الذي أكل من ثمرة الشجرة المحرمة.. وحتى اليوم يكرر المسيحيون: الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون، ومن هنا ظهرت عندهم فكرة القربان والفداء، وان السيد المسيح(ع)، ما صُلب وعُذّب الا ليكفر عن ذنوب العالم بقضه وقضيضه، فقد جاء في رسالة يوحنا الأولى الاصحاح الثاني ما نصه بالحرف الواحد: ((يسوع المسيح كفارة لخطايا كل العالم)). وهذا نص بأن مؤاخذة البريء بالمذنب أصل أصيل في العقيدة المسيحية. وبعد، فلا أدري: هل الهدف من عقيدة الخطيئة عند المسيحيين هو إثبات الفضيلة للمسيح بالفداء؟. ولا شك أنه غني بعظمته عن هذا التمحل والتحايل.

وتسأل: ان الآية 25 من الأنفال تقول: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) والمفهوم منها أن أسوأ الفتنة ومفاسدها لا تقتصر على من أثارها وكان السبب الموجب لها، بل تعم الصالح والطالح والمسيء والمحسن، ومعنى هذا أن البريء يؤخذ بالمذنب حتى في الإسلام وعند المسلمين لا عند النصارى فقط.

الجواب:

أولاً إن آيات ((لا تزر وازرة، ولا تجزى نفس عن نفس)) الخ موضوعها العذاب في الآخرة، وآية لا تصيبن الذين منكم خاصة موضوعها العذاب في الدنيا، والله سبحانه بموجب عدالته يعطي ويعوض في الآخرة للبريء والصالح أجر ما أصابه في الحياة الدنيا تماماً كالكوارث الطبيعية التي تعم الصغير والكبير والنبي والشقي.

أجل، من ساهم في عمل من أعمال الآخرين بوسيلة من الوسائل فهو شريك معهم، فان كان العمل خيراً فله من الفضل والمثوبة بمقدار ما ساهم، وكذلك نصيبه من الإثم والعقوبة ان كان العمل شراً، ولكن هذا ليس نقضاً لمبدأ (لا يؤخذ البريء بالمذنب) بل تأكيد له لأن من يسهم في الذنب والجريمة بأي طريق كان فهو مجرم ومذنب لا نزيه وبريء، قال رسول الله(ص): ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)).

ومثله تماماً من بشّر وروّج، وأيد وحبذ، ودافع وأقنع، وقديماً قيل: الدال على الخير كفاعله، واعطف عليه الدال على الشر، قال سبحانه حكاية عن حوار بين الضالين والمضلين من أهل جهنم: (كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفاً من النار قال لكلٍ ضعف ولكن لا تعلمون) (38 ـ الاعراف).

وبعد، فمن ابتدع السيئات وسن الضلالات ومن ساهم في ترويجها بأية وسيلة أو دعاية ـ فهما بمنزلة سواء عند الله، وفوق ذلك يعتبر الإسلام الموقف السلبي بالكف عن نصرة الحق سيئة ورذيلة، والموقف السلبي بكف الشر والأذى عن الناس حسنة وفضيلة، قال نبي الرحمة والإنسانية: الساكت عن الحق شيطان أخرس. واعطف عليه الساكت على الشر، وقال(ص) لأبي ذر: تصدق عن نفسك يا أبا ذر.

قال: بماذا يا رسول الله؟. قال: بكف الأذى عن الناس.

وتنطوي هذه الحكمة النبوية المحمدية على سرٍ قلّ من يلتفت اليه ـ على وضوحه ـ مع أن كف الأذى هو الأصل الأول والأهم للحياة الاجتماعية، ولو التزم به كل إنسان لما كان في الدنيا ظالم ومظلوم، ولا لاجئون ومشردون، ولا حروب وأسلحة أو صهيونية ومشكلة فلسطينية وتفرقة عنصرية. أبداً ولا شرطة وجنود واستغلال واستعمار.