الفصل الخامس علاج الأمراض النفسية

1 ـ الاتجاه التحليلي

2 ـ الاتجاه السلوكي

1 ـ أشكال اللذة

2 ـ تأجيل اللذة

الفصل الخامس

علاج الأمراض النفسية

علاج الأمراض ...

من المسلّم به، ان الأمراض النفسية تنشأ ـ عادة ـ من سبب أو أكثر من الأسباب التالية:

1 ـ الوراثة.

2 ـ التنشئة الطفلية.

3 ـ الضغوط.

4 ـ الثقافة المنحرفة بعامة.

هذه الأسباب يقرها البحث الأرضي جميعاً، على تفاوت بين الاتجاهات من حيث التركيز على هذا السبب أو ذاك.

أما التصور الإسلامي، فإنه يقر الأسباب المذكورة بوضوح، فيما لحظنا توصياته المختلفة فيما يتصل بالتحسين الوراثي. كما لحظنا توصياته المتصلة بالتنشئة الطفلية ـ ولكن في مرحلتها المتأخرة، وليس المرحلة المبكرة.

أما الضغوط أو الشدائد مضافاً إلى الثقافة المنحرفة فإن المشرع الإسلامي يملك حيالها تصوراً خاصاً، بحيث تنبني اسس الصحة النفسية بنحوها السليم على هدى هذا التصور للضغوط والثقافة.

ولعل ما يفرق بين التصور الإسلامي والأرضي أساساً، هو: هذا التصور لمواجهة الضغوط والثقافة المنحرفة، بحيث يمكن أن نفسر أسباب الفشل أو النجاح في علاج الأمراض النفسية في ضوء الفارق بين التصور الإسلامي والأرضي لهذا الجانب.

ان البحث الأرضي يقدم توصياته المختلفة لمواجهة الضغوط كما أنه يقدم تصوراً خاصاً للثقافة التي تحقق مبادئ الصحة النفسية. بيد أن النتائج التي أفضت التوصيات إليها ـ من حيث فشل العلاج النهائي ـ تفصح عن أن التصور الأرضي للثقافة السوية ولمواجهة الضغوط، تصور خاطئ دون أدنى شك.

كما أن نظرته لبعض عناصر الوراثة، والتربية الطفلية تقف وراء فشل العلاج المذكور.

طبيعي: ليس فشل العلاج لوحده مفصح عن خطأ التصور الارضي، بل ان وجهات النظر المختلفة في ميدان العلاج، مفصحة عن ذلك أيضاً.

إن ما يعنينا الآن هو: أن نتقدم بوجهة النظر الإسلامية عن نشأة الأمراض النفسية، وتصوره لمبادئ الصحة النفسية. غير أن ذلك يستاقنا إلى الوقوف أولاً على البحث الأرضي في هذا الميدان.

هناك ـ على الأقل ـ ثلاث طرق لعلاج الأمراض النفسية في البحث الأرضي:

1 ـ العلاج التحليلي.

2 ـ العلاج السلوكي.

3 ـ العلاج الارشادي.

طبيعي، ثمة أنماط أخرى من العلاج، تتصل بالتنويم ونحوه، بيد أن الطرائق الثلاث المذكورة هي أشدها فاعلية وانتشاراً في هذا الميدان.

ونبادر إلى القول، بأن المشرع الإسلامي، لا يناهض هذه الطرائق من المعالجة، بقدر ما يمكن القول بأن التوكؤ على أحدها دون الآخر، ينطوي على إدراك غير صائب في تفسير نشأة المرض وتشخيصه وعلاجه.

إن العلاج الارشادي هو الطريقة التي يختطها المشرع الإسلامي في هذا الصدد.

بيد ان هذا لا يعني ان العلاج التحليلي أو السلوكي، لا يقرهما المشرع، بقدر ما يعني أن أية وسيلة لا تأخذ مسألة (الوعي) أو (الأنا) ـ حسب المصطلح الأرضي ـ بنظر الاعتبار، فإنها لا محالة تبوء بالفشل. ويظل كل من العلاج التحليلي والسلوكي عناصر مساهمة في نجاح المعالجة، لا أنهما لوحدهما مصدر النجاح.

ولنحاول الوقوف عند كل من هذه الطرائق:

1 ـ الاتجاه التحليلي:

يتناول هذا الاتجاه أكثر من طريقة تبعاً لتفاوت مدارس التحليل النفسي. بيد أن الطريقة (الفرويدية) تظل أشدها وقوعاً في المفارقات.

والسبب في ذلك، عائد إلى تشددها أولاً على الفعاليات اللاشعورية، وثانياً على خبرات الطفولة، وثالثاً على ظاهرتي العدوان والجنس بخاصة.

إن المشرع الإسلامي قد ألمح إلى (اللاشعور) ـ من حيث دلالته العامة ـ. ولسوف نرى أن معالجته لمسائل الحُلم، و"المزاح" و"الكبر" و"هفوات اللسان" ونحوها، قائمة على الإشارة إلى هذا الجانب الخفي من الشخصية.

بيد أنه لا يرى إليه مصدراً مفسراً لكل أنماط السلوك كما لا يرى إليه علاجاً أو حد للظاهرة المرضية. إنه وسيلة عابرة فحسب: من الممكن حين تستحضر بعض مفاهيمها أن تساهم في تخفيف الظاهرة. في حين يظل النجاح أولاً وأخيراً قائماً على (الارشاد) ـ الطريقة الثالثة من طرائق العلاج، أي: على (وعي) الشخصية أو على الطريقة السلوكية التي يجنح إليها كثير من المعاصرين. ولنتقدم بمثال في هذا الصدد:

الخوف من الظلام مثلاً: يشكل حالة مرضية واحدة من الحالات التي تنتسب إلى ما يسميه البحث الأرضي بـ(عصاب الخوف).

وإذا أردنا استحضار مفاهيم (اللاشعور) وصلته بهذا المرض، أمكننا القول بأن المريض عانى ـ في طفولته ـ خبرة مؤلمة تتمثل في أن مربيته تركته لوحده في غرفة مظلمة ذات يوم، مما جعله يمر ـ في تلك اللحظات ـ بانفعال مؤلم هو: انفعال الخوف. ثم نسي الطفل هذه الحادثة، إلا أن (لا شعوره) قد احتفظ بها دون أدنى شك، نظراً لما صاحبها من الأنفعال المؤلم، وكبته إياه منذ ذلك الحين.

إن استحضار مفاهيم (اللاشعور) يعني: أن نبصّر المريض بخبرته الانفعالية المذكورة، بأن نجعله ـ بوسيلة ما ـ أن (يتذكر) الحادثة، وما صاحبها أيضاً من (الانفعال). وبهذا، يتحرر المريض من خوفه.

إن استحضار مثل هذا المفهوم، قد ينجح فعلاً في تحرير المريض من مخاوفه، إلا أنه لا يتحقق في الحالات جميعها: فكم من مريض مستبصر بمصدر متاعبه لم يجده التحليل نفعاً: إنه يتذكر جيداً مصدر الخوف والانفعال المصاحب له، وسخف مثل هذا الخوف: ومع ذلك لا يستطيع الفكاك من مخاوفه.

أكثر من ذلك: في حالات خاصة تتصل بالخبرات المخجلة مثلاً، أو المحرمة، قد يتضاعف حجم المرض بعد (الاستبصار) بخبرته المؤلمة.

طبيعي، أن ذلك قد يكون عائداً إلى بناءه النفسي المضطرب أساساً. وقد يكون ذلك نتيجة تعقد خبراته واشتباكها العميق. وقد يكون ناجما عن اضطراب عضوي أيضاً... بيد أنه حتى في الحالات التي لا تسمها الطوابع المذكورة، فإن مجرد استحضار مفهوم (اللاشعور) لا يشكل أداة وحيدة للعلاج، بل يظل مجرد أداة قد تنجح في تحرير المريض من مكبوتاته، وقد لا تنجح.

ونحن لا نحتاج في التأكيد من ذلك، إلى إقرار بعض التحليليين أنفسهم، بالفشل الذي واجهوه في علاج مرضاهم، بل إن التجارب اليومية المألوفة تفصح عن ذلك بوضوح مما تكفينا عناء الرد على ذلك.

  2 ـ الاتجاه السلوكي:

مما لا شك فيه أن هذا الاتجاه، صائب في المعالجة. وفي الغالب يتحرر المريض من متاعبه. ففي المثال المتقدم: من الممكن أن ينطفئ الخوف دون الحاجة إلى استحضار مفهوم (اللاشعور) وتبصّر المريض بمصدر خبرته: كأن نعرضه بشكل غير مباشر للظلام، ونكرر التجربة في هذا الصدد، حتى يتم إزالة الخوف تدريجاً.

والتجارب اليومية المألوفة في إزالة مخاوف الأطفال وفق هذه الطريقة، أمر لا يتردد اثنان في نجاحه. وقد ألمحت التوصيات الإسلامية إلى هذا النمط من العلاج، من نحو ما هو مأثور عن الإمام علي (ع) في ذهابه إلى ما مؤداه:

"إذا خفت شيئاً فقع فيه، فإن توقيك منه أعظم من الوقوع فيه".[1]

إن المطالبة بوقوع المريض في ما يتخوف منه، يعني نمطاً من العلاج (السلوكي) الذي تتجه المدرسة السلوكية الحديثة إليه. يستوي في ذلك أن تكون (الحالة) ذات طابع (بيئي) كما هو الحال في قضية التجربة المؤلمة التي عاناها طفلاً، أو تكون (الحالة) ذات طابع (وراثي). فالمريض الذي يرث من خلال ما أسميناه بـ(الوراثة الطارئة)، ظاهرة (الخوف)، أو الانفعال الحاد بعامة سيفيد من الطريقة الارشادية أو السلوكية في تعديل سلوكه.

إن التوصيةي الإسلامية القائلة. "إذا لم تكن حليماً فتحلم"،[2] تعني بوضوح امكانية (التعديل) وراثياً وبيئياً، ذلك: إن التدريب على (التحلم) كما أشارت التوصية الإسلامية، يقتاد الشخصية إلى أن تصبح ذات يوم (حليمة) بالفعل: سواء أكان عدم التحلم ـ من حيث المصدر ـ قد نشأ من (الأصلاب) أم مرحلة الحمل، أم، مرحلة النفاس، أم مرحلة الرضاعة، أم مرحلة الطفولة بعامة، أي (وراثياً أم بيئياً). والمهم، في الحالات جميعاً، أن تعديل السلوك من الممكن أن يتم وفق الطريقة الإرشادية أو السلوكية، حسب ما تستدعيه حالة المريض. ومع ذلك، فإن (الفشل) من الممكن أن يجتاج هذه الطريقة أو تلك: إذا كان المريض محكوماً بنفس الطوابع التي سبق ذكرها (أي بناؤه العصبي المضطرب، وتعقد خبراته، واضطراباته العضوية).

إن المهم في الحالتين أن النجاح يعتمد أولاً وأخيراً على (وعي) المريض بشذوذ حالته: يستوي في ذلك أن يقترن ذلك بمعرفة (مصدر) الشذوذ أو بعدم معرفته. وهذا يعني أن التشدد ينبغي أن يتم على (الوعي) وليس على الطريقة، وهذا هو (العلاج الارشادي) الذي يبصر المريض بمبادئ عامة عن الخوف أو عن سواه من الأعراض. ومثله (العلاج السلوكي) الذي تقدم الحديث عنه.

ففي الحالة المذكورة، يبصّر المريض بحقيقة الظلام وعدم انطوائه على أي مسوغ للخوف: فلا أشباح ولا حيوانات ولا أفراد يتعرضون له بالأذى، تماماً كما هو الحال فيما يتصل بالأماكن غير المظلمة. أو يعرض المريض إلى مصدر الخوف، على نحو ما ألمح الإمام علي (ع) إليه.

طبيعي من الممكن أيضاً ألا تزول المخاوف بهذا التبصير أو الطريقة السلوكية: إلا أن عدم إزالتها يعني: إن المريض تسمه ذات الطوابع التي لم ينجح التحليل أو اطفاء السلوك بإزالة مخاوفه.

هذا كله فيما يتصل بنمط من العصاب هو: عصاب الخوف. أما سائر الأعصبة: كعصاب الوسواس، أو الكآبة، أو الهستيريا ونحوها، فإن استحضار اللاشعور أو العلاج السلوكي يتعطل تماماً عن فعاليته، تبعاً لقوة أو تشابك الحالة التي يعانيها المريض.

إن المريض الذي يعاني عصاب التسلك القهري مثلاً، من المحال أن يتحرر من غسل يديه مرات عديدة، أو يقلع عن مضغ الأفكار أو الألفاظ، لمجرد أن نلفت انتباهه إلى أنه يعاني (عقدة ذنب) ونبصره بمصدر الإحساس بذنبه، وإلى أن هذا الإحساس هو: رغبة محارمية أو كراهية للأب كبتتا في لا شعوره مثلاً، أو أنها نتيجة تثبت عند المرحلة الفرثية (المرحلة الثانية من مراحل النمو الطفلي).

هذا التبصير: فضلاً عن سخفه من حيث كونه تفسيراً لحالة المريض، يرتطم بمقاومة أشد من المريض في أية محاولة لإزالة (التسلط) عليه.

كما أن العلاج السلوكي يرتطم بصعوبة أكثر شدة في مثل هذه الحالة التي يعدها السلوكيون تعلماً خاطئاً من المكن أن ينطفئ بتعلم جديد في هذا الصدد.

على أننا إذا تجاوزنا حالات العصاب الحادة، واتجهنا إلى الحالات الخفيفة منه، أو إلى الحالات العامة التي تسم الآدميين في ظواهر القلق والتوتر والكآبة والتمزق وما إليها، أو في بعض حالات السلوك المتصل بما يسمى في لغة علماء النفس التحليلي بـ(آليات الدفاع) من تبرير ونكوص واسقاط، وما إليها، بل في مطلق السلوك السلبي المتصل بالكذب والخيانة والحقد و... و... الخ، ... أقول: إذا اتجهنا إلى مثل هذه الحالات (وهي في الواقع موضع تشدد المشرع الإسلامي) حينئذٍ نلحظ أن (العلاج الارشادي) هو الأسلوب الأمثل في هذا الصدد.

والمشرع الإسلامي حين يشدد على هذا الجانب، فلأن هذه الأعراض تمثل غالبية الآدميين الذين قد تشكل نسبتهم أكثر من ثلاثة أرباع. ولأنها تتصل بصميم السلوك الذي يتعامل معه يومياً، ولأن شطراً منه لا يبدو وكأنه يحمل سمة (المرض) في تصور الأرضيين. ولأنه ـ في نهاية المطاف ـ خاضع لعمليات التعديل، والعلاج بعامة: من خلال الارشاد المتواصل. بخلاف الحالات الحادة التي تفتقد إلى وسائل أخرى من العلاج بالعقاقير وما إليها.

إن المشرع الإسلامية يقدم لنا توصياته المتنوعة في هذا الصدد: من خلال تفسيره أولاً لمهمة الكائن الآدمي على هذه الأرض. وبدون هذا التفسير لا يمكن أن يتم أي نجاح في تعديل السلوك. ويتم ذلك ثانياً من خلال الالتزام بمبادئ السلوك الإسلامي في كل مستويات النشاط. وبدون هذا الالتزام لا يمكن أيضاً أن يتم أي نجاح في تعديل السلوك.

ويحسن بنا أن نعرض عابراً لهذا التفسير، فنقول:

تنطلق الشخصية الإسلامية من تصور خاص لدلالة وجودها في هذه الحياة المحددة.

1 ـ هذا التصور يقضي بأن وجودها (هادف)، وإلى أنه يرتبط بالقيام بمهمة خاصة هي: (الخلافة على الأرض).

2 ـ المهمة الخلافية أو العبادية المذكورة تحددها السماء، متمثلة في: الالتزام بجملة من المبادئ (فعل ما هو واجب، مندوب) وترك ما هو (محرم ومكروه) والخيار بين سلوك لا يتسم بأمر أو نهي (المباح).

3 ـ ويتميز (الوجود الدنيوي) بأنه (موقت) أولاً، وبأنه (وسيلة) وليس (غاية) ثانياً.

أما كونه (مؤقتاً) فلأنه قبال حياة أبدية هي (الدار الآخرة).

أما كونه (وسيلة) فلانه من أجل تحقيق (الحياة الأخرى).

4 ـ انه مجرد (اختبار) ـ يشبه الاختبار المدرسي تماماً ـ لتسلم (درجة) النجاح أو الرسوب في اجتياز الشخصية للدار الآخرة.

5 ـ يترتب على (الاختبار) أن تواجه الشخصية (شدائد) أو (إحباطات) للذة، أي: صراعاً بين (الشهوة والعقل) بين (الذات والموضوع).

6 ـ ولكي يمضي (الاختبار) بنجاح يتعين على الشخصية أن تمارس نمطاً من اللذة هي اللذة الموضوعية، و(تأجيل) اللذة الذاتية (بغية تحقيقها في الدار الآخرة... بعد التخرج).

إن عملية تأجيل اللذة الذاتية) تظل (الخيار) الوحيد للطالب بغية اجتيازه درجة النجاح (كأن يقلل من ساعات نومه، وفرص لقائه بالآخرين، وفرص استراحته) حتى يوفر له بعد التخرج حياة سعيدة. إننا بدون (التأجيل) لا يمكن أ، نحدد أية دلالة للطبيعة (الثنائية) (الشهوة والعقل): فما دامت ثمة (شهوة)، تكون ثمة مطالب بايثار (العقل) عليها، أي: ثمة مطالب بـ(تأجيل) اللذة الذاتية وابدالها باللذة الموضوعية، مما يعني أن (خياراً واحداً) نملكه في الحياة هو:

(تأجيل اللذة).

فما هي فاعلية هذا (التأجيل)؟

قلنا، إن ثمة (أصلاً) عاماً محركاً للسلوك الإنساني هو: البحث عن اللذة.

وقلنا أيضاً. أن الأصل ذو طابع ثنائي هما: الشهوة والعقل، أو الذات والموضوع يتجاذبان السلوك. وإلى أن كلاً منهما يحقق (اللذة).

وقلنا ثالثاً: إن اللذة العقلية أو الموضوعية متوازنة مع اللذة الذاتية أو الشهوية، بل إنها تتميز بقدر أشد إمتاعاً من اللذة الشهوية أو الذاتية.

إما الآن فيعنينا أن نحدد مستويات (اللذة) ومكان (التأجيل) منها، وصلة أولئك بتنظيم الأصول النفسية والحيوية، فضلاً عن صلتها ـ بعامة ـ بمبادئ الصحة النفسية في ضوء التصور الإسلامي لها.

 ـ 1 ـ

أشكال (اللذة)...

من المسلّم به، أن (اللذة) أو (الامتاع) تتحقق عبر أشكال ثلاثة، هي: اللذة الحسية، اللذة النفسية، اللذة العقلية.

ومثال اللذة الحسية: الحاجة إلى الطعام، فيما يتم اشباعها بتناول (وجبة) منه، يزاح التقلص العضلي للمعدة، من خلالها.

ومثال اللذة النفسية: الحاجة إلى التقدير الاجتماعي (حسب لغة الأرض)، فيما يتم اشباعها بتحقيق الحب أو المكافأة أو السمعة الاجتماعية التي يخلعها (الآخرون) على الفرد.

ومثال اللذة العقلية: الحاجة إلى معرفة (الحقائق) واستكناهها، فيما يتم اشباعها بالوصول إلى (كشفها).

إن علم النفس الأرضي ذاته لا يفصل اللذة الحسية عن الصيغ التي تمت من خلالها أية عملية نفسية خالصة، فالبحث عن الطعام أو الجنس مثلاً لا يمكن تحقيق اشباعه إلا من خلال (صيغ نفسية) يتعلمها الكائن الآدمي منذ أن يبدأ ما يسميه البحث الأرضي بـ(أنا) الشخصية بالظهور.

إن الطفل الوليد لوحده، هو الباحث عن الاشباع المطلق لحاجته إلى الطعام. لكنه مع السنوات الأولى التي يبدأ (التمييز) لديه، يبدأ بتأجيل (لذته)، بحيث يخضعها لأوقات خاصة تحددها مربيته: يتعلم من خلالها أن يكف عن البكاء، أو المطالبة بالطعام، مثلما يتعلم من خلالها أن (يصبر) على الحاجة المذكورة.

وواضح، أن الكف عن البكاء أو المطالبة بالطعام، والصبر عليه، ... هذا النمط من السلوك يُعدّ (عملية نفسية) خالصة، يستبدل بها الطفل عن (اللذة الحسية) لذة نفسية تتمثل في انتزاعه لـ(التقدير) من مربيته. وحتى مع افتراضنا أن الطفل مضطر إلى تأجيل لذته ليس بسبب من انتزاع "التقدير" بل لتأمين حاجته إلى الطعام في الموعد المحدد، فإن عملية (التأجيل) ذاتها تحقق (لذة عقلية) هي: اكتشافه للحقيقة الذاهبة إلى أن (الصبر) سيؤمن حاجته إلى الطعام، في الموعد المحدد.

إذن: في الحالتين قد استبدل الطفل حاجته العاجلة إلى الطعام، بلذة نفسية أو بلذة عقلية من خلال عملية تأجيله للذة الحسية.

وهذا كله في مرحلة الطفولة.

أما المرحلة الراشدة، فلا تحتاج إلى تعقيب، مادمنا ندرك بوضوع، إننا جميعاً نخضع اللذة الحسية للطعام أو للجنس إلى (تأجيلات) شتى: من حيث تنظيم الزمان والمكان والطريقة، بحيث نحقق إمتاعاً نفسياً وعقلياً بدلاً من الامتاع الحسي الصرف. بل قد يصل الأمر إلى (الاضراب عن الطعام) والتقبل لـ(الموت) بدلاً من الحياة، عندما نخضع العملية للذة (نفسية) أو (عقلية) هي: القيم الدينية أو السياسية أو الاجتماعية التي ننطلق من خلالها في استبدال ما هو (لذة حسية الطعام) إلى ما هو (لذة عقلية أو نفسية): "الاضراب عن الطعام" بصفته تجسيداً للذة (القيم) التي يؤمن بها: المضربون عن الطعام.

من هذا المثال: نستخلص عدة حقائق عن (اللذة):

1 ـ إن اللذة الحسية تقترن (من خلال اشباعها) بلذة نفسية أو عقلية: تبعاً لنمط (الثقافة) التي تحيط الباحث عن اللذة الحسية.

2 ـ إن اللذة الحسية، من الممكن ان تستبدل أساساً بلذة (نفسية) أو (عقلية) بحيث (يؤجل) المضرب عن الطعام: ليس رغبته العاجلة في تناول الطعام، بل حاجته (الملحة) له على نحو لا يتناوله اطلاقاً فيما يقتاده إلى تقبل (الموت) أيضاً وهو قمة "التأجيل" للذائذ الحسية.

3 ـ إن اللذة (الحسية) هي أشد الحاجات (إلحاحاً) لأن استمرارية حياة الكائن الآدمي، متوقفة على اشباع الحاجة إلى الطعام. لكنها ـ أي اللذة الحسية ـ بالرغم من كونها (أشد إلحاحاً) من اللذة النفسية أو العقلية، تظل أضأل (فاعلية) من اللذة النفسية والعقلية: بصفة أن اللذتين الأخيرتين بمقدورهما أن تمسحا (الحاحية الدافع الحيوي ـ الحاجة إلى الطعام) وتحولها إلى لذة نفسية وعقلية أشد تأثيراً وفاعلية من اللذة الحيوية بالرغم من أن هذه الأخيرة أشد إلحاحاً.

هذه الحقائق التي لا يتخاصم فيها اثنان، تدلنا على أن (اللذة العقلية واللذة النفسية) تشكلان ـ على نحو ما قرره المشرع الإسلامي ـ دافعاً أو حاجة يرثها الكائن الآدمي طبقاً لطرفي التجاذب اللذين يتحرك الكائن من خلالهما، ونعني بها (الشهوة والعقل) أو (الذات والموضوع)، وإلى أن اللذة العقلية والنفسية يشكلان طرف (الموضوع) أو (العقل)، في حين تشكل (الذات أو الشهوة): الطرف الآخر من التجاذب: حينما ينشد هذا الطرف اشباعاً طليقاً من كل قيد.

كما تدلنا الحقائق المذكورة إلى أن (اللذة العقلية والنفسية) هي أشد فاعلية من اللذة الحسية: على نحو ما قرره النبّي (ص) حينما أوضح بأن المداومة على الخير تستتلي كراهية الشر، أي: أن نشدان اللذة العقلية والنفسية لا يمثلان طرفاً موازناً للذة الحسية فحسب، بل يمثل طرفاً أشد امتاعاً من اللذة الحسية بحيث يستتبع النفور من (تناول الطعام) في ظل سلطة جائرة لا تخدم مصالح الشعب مثلاً.

ونخلص من ذلك كله، أن اللذة العقلية والنفسية هي المعيار الذي يفصل الكائن الآدمي عن العضويات الأخرى. وإلى أنها (تتحكم) و(تحور) اللذة الحسية إلى صيغ نفسية خالصة أشد امتاعاً من اللذة الحسية الصرف.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن (التأجيل) للذة، يظل هو السمة أو الطابع للكائن الآدمي: ونقصد به تأجيل ما هو حسي ومزجه بما هو نفسي وعقلي أو تأجيله أساساً واستبداله (وليس مزجه فحسب) بما هو نفسي وعقلي.

للمرة الجديدة، نؤكد بأن عملية (التأجيل) للذة: هي الطابع الذي يسم الكائن الآدمي تبعاً للتركيبة التي صاغتها السماء، وطالبت من خلاله كما قرر الإمام علي (ع) بأن يسيطر الإنسان على (شهوته) من خلال (تحكم العقل) فيها.

هذه الحقيقة تتلاقى عندها كل من وجهة النظر الإسلامية والأرضية: كما هو واضح من المثال المتقدم.

بيد أن الافتراق بينهما، يبدأ من (الفارقية) بين نمط (الثقافة) الإسلامية و(الثقافة الأرضية) من حيث تحديدهما لمبادئ اللذة العقلية والنفسية، وانعكاس ذلك على نشأة الأمراض النفسية، وطرائق علاجها، من حيث فشل البحث الأرضي في هذا الصدد.

وهذا ما نبدأ الآن بتوضيحه:

ـ 2 ـ

(تأجيل اللذة)

عبر التقسيم الذي حدده الإمام علي (ع) عن التركيبة (الدافعية) للفرد (الشهوة والعقل) أو (الذات والموضوع)، يمكننا أن نقرر بأن كلاً من اللذائذ الثلاث "اللذة الحسية، اللذة النفسية، اللذة العقلية" تنشطر إلى ما هو (شهوي ـ ذاتي) و(عقلي ـ موضوعي). ومعيار الشهوة أو الذات هو: الاشباع الطليق. وأما معيار (الموضوع) أو (العقل) فهو: الاشباع المقيد كما سبق التوضيح.

من هنا، فإن حديثنا عن (اللذة) وطرائق اشباعها، سيتحدد وفقاً لمصطلح (الذات والموضوع) أو (الشهوة والعقل) مادامت اللذائذ المنحصرة في طوائف ثلاث (حسية، نفسية، عقلية) لا تخرج عن كونها بحثاً (ذاتياً) عن اللذة، أو بحثاً (موضوعياً) عنها: في ضوء معيار الاشباع الطليق والمقيد.

ولنتقدم بأمثلة في هذا الصدد:

1 ـ الحاجة إلى الطعام: تجسد بحثاً عن اشباع (حسي) للذة:

وحين تبحث الشخصية الآدمية عن الاشباع الطليق للذة المذكورة: كأن تغتصبه، أو تسرقه، أو تلتهمه بدون رعاية لآداب الأكل: حينئذ يكون (الاشباع) (ذاتياً أو شهوياً) مادام غير مقيد بالمبادئ المقررة في عملية تناول الطعام.

أما حين تبحث الشخصية عن الاشباع المقيد: كأن تتناول الطعام وفق الآداب المقررة، حينئذ يكون الاشباع (عقليا أو موضوعياً).

2 ـ الحاجة إلى (التقدير الاجتماعي) ـ في ضوء مفهوم الأرضيين لهذه الحاجة ـ من الممكن أيضاً أن تتحقق في اشباع (موضوعي) أو (ذاتي) بدورها.

فإذا افترضنا أن كائناً ما قد سلك وسائل مشروعة للوصول إلى تسلم سلطة سياسية، حينئذ يكون اشباعه للذة النفسية المتمثلة في انتزاع "التقدير الاجتماعي"...، هذا الاشباع يكون (موضوعياً) بصفة أنه خضع لمبادئ مرسومة في عملية تسلم السطلة.

أما لو سلك الكائن المذكور وسائل غير مشروعة من نحو: تزوير الانتخابات مثلاً، فحينئذ يكون اشباعه للذة (التقدير) النفسية: إشباعاً (ذاتياً).

والأمر نفسه، فيما يتصل باللذة العقلية.

ويمكننا ـ من جديد ـ أن نخلص مما تقدم إلى ان اشباع اللذائذ (حسية كانت أم عقلية أم نفسية) يحكمها طابعان (ذاتي) و(موضوعي): الأول منهما: يجسد مرضاً أو عصاباً أو حوماناً على (الذات) وتأكيدها.

الآخر منهما: يجسد سوية، أو نبذاً لـ(الذات) مادام محكوماً بالمبادئ وليس بالاشباع غير المقيد (وهي حقيقة يقرها البحث الأرضي كما تقدم) فإذا أضفنا إلى ذلك، أن (تأجيل اللذة) هو المعيار (وهي حقيقة يقرها البحث الأرضي أيضاً)، في تحديد ما هو (ذاتي) أو (موضوعي)، حينئذ نخلص إلى حقيقة مؤداها: أن الشخصية السوية هي التي تمارس (التأجيل) في اشباع لذائذها، متمثلاً في: اختيارها للدافع (الموضوعي) بدلاً من اختيارها للدافع (الذاتي).

وينبغي أيضاً ألا نغفل أن الكائن الآدمي في الحالتين إنما يبحث عن (لذة)، وإلى أن (الذات) الآدمية تبقى بحاجة إلى (الاشباع) في الحالتين.

ومن هنا، نواجه مصطلح (الذات) بدلالتين:

1 ـ الدلالة الأولى: نقصد بها (الذات) بصفتها (بحثاً عن لذة). وهذه الدلالة لـ(الذات) لا مناص من اشباعها، لأن الكائن الآدمي يتحرك وفق البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم، مادام هذا (الأصل) هو المحرك الأساسي للسلوك، وإلا لا نتفى معنى الكائن الآدمي.

2 ـ الدلالة الثانية: نقصد بها (الذات) قبال (الموضوع) أي: الاشباع الذاتي أو الشهوي مقابل الاشباع العقلي أو الموضوعي.

و(الذات) بهذه الدلالة الأخيرة، ترد مصطلحاً يتردد على أقلام الكتاب من نحو: التأكيد الذاتي، أو التمركز حول الذات، أو الأنانية ونحوها من الدلالات التي تشير إلى الطابع العصابي للشخصية.

ونحن بدورنا، نستخدم كلا المصطلحين، معتمدين على القارئ في فرزه للفارق بين المصطلحين، في تضاعيف دراستنا. أن ما نعتزم تأكيده من الأمثلة المتقدمة هو: عملية (التأجيل) للذة. حسية كانت أم عقلية أم نفسية.فبدون عملية (التأجيل) لا يمكن للآدميين أن يحققوا القدر الأدنى من اللذة أو بكلمة جديدة: إنه من الممتنع تحقيق الاشباع الطليق للآدميين: أياً كان نمط الاشباع.

فإذا افترضنا ـ في مجال الاشباع الحسي ـ أن أعلى قدر من الأمتاع، إنما يتحقق في تناول طعام معين: لكنه يؤدي إلى أضرار صحية: نظراً لمرض  الجائع، أو لازدياد مقاديره المعتدلة، أو لاشتماله على ما هو ضار أساساً: حينئذ فإن تحقيق الاشباع المطلق يؤدي إلى عكس الامتاع الذي استهدفه الجائع.

وفي مجال الاشباع النفسي، إذا افترضنا أن أعلى قدر من الامتاع أنما يتحقق في تسلم أكبر منصب اجتماعي هو: رئاسة الدولة مثلاً، حينئذ فإن الباحث عن لذة التقدير الاجتماعي سيرتطم إما بباحثين آخرين يتميزون بذات (الكفاءة) مما يتعذر بذلك تحقيق الاشباع المذكور مادام تسلم الرئاسة منحصراً في فرد واحد.

وأما ا، يرتطم بحاجز داخلي هو: عدم الكفاءة أساساً عند الباحث عن التقدير المذكور، مما يتعذر بذلك تحقيق الهدف الاجتماعي من وراء تلسم المنصب المتقدم.

وفي مجال الاشباع العقلي، فإن تحقيق أية لذة علمية من الممتنع تحققها أساساً، إذ ما ارتبطت ليس بأعلى قدر من الامتاع بل حتى باقدارها الضئيلة: فالكشف العلمي مثلاً لا يمكن أن يتوفر عليه إلا ذوو كفاءة لا يمكن أن يتم إلا في ظل شروط حضارية تتسق ونمط الطموح العلمي، ولا يمكن أن يتم إلا في نطاق محدد وليس في نطاق شامل لكل ضروب المعرفة... وهكذا.

إذن: تحقيق الاشباع المطلق، لا يمكن أن يتم على أية حال حتى لو استثمرت كل الجهود البشرية الممكنة لتذليل ذلك، مما يتعين معه أن يمارس الكائن الآدمي عملية (التأجيل) للذة.

ومن هنا فإن (تأجيل) اللذة، يظل هو (الخيار) الوحيد للكائن الآدمي: ليس لأن الطبيعة الكونية لا تسمح بالاشباع المطلق فحسب، وليس لأن الاشباع المطلق يفضي إلى تدمير الآخرين فحسب أيضاً، وليس لأن الاشباع المطلق يفضي إلى تدمير الباحث نفسه عن الاشباع، ... بل ـ مضافاً إلى ذلك ـ لأن الاشباع المطلق يسلخ الإنسان من دائرته التي يتميز بها عن العضوية الأخرى: الحيوان.

إننا إذا افترضنا امكانية أن يصاغ (مجتمع) يبحث أفراده بأكملهم عن اشباع مطلق لحاجاتهم: دون الأخذ بنظر الاعتبار لأية قيمة تقف قبال الاشباع، حينئذ نواجه مجرد مجتمع حيواني فحسب.

وحتى هذا المجتمع الأخير من المتعذر تحقيقه مادمنا نلحظ بوضوح أن الصراع والتنافس والافتراس يطبع المجتمع الحيواني مما يفصح عن ان تحقيق الاشباع لا يمكن ان يتم بنحو مطلق حتى في مجتمع الحيوان، وإلا لما كانت أية دلالة للصراع أو التنافس، أو الافتراس في المجتمع المذكور.

إنه لو لم تكن ثمة حقيقة غير (الموت) لأمكن التدليل بها، على أن (الأشباع الطليق) لا يمكن تحقيقه البتة، لأن (الموت) كما وصفه الإمام علي (ع) ذات يوم بأنه (هادم اللذات)، يضع (حداً) لأية محاولة هادفة للاشباع المطلق.

من كل ما تقدم، نخلص إلى حقيقة لا يتخاصم فيها اثنان، أن (تأجيل اللذة) هو (الخيار) الأوحد للكائن الآدمي، لا يمتلك معه أي خيار آخر، ولا يمكن ذات يوم أن يتم خيار آخر على الاطلاق.

ومع اقرارنا بالحقيقة المتقدمة ينبغي عند رسمنا لأية محاولة عملية في تنظيم دوافع الإنسان وطرق اشباعها، وفي تنظيم أية مبادئ في حقل الصحة النفسية وطرق تحقيقها، أن نضع مبدأ: (تأجيل اللذة)، معياراً لكل أنماط السلوك، بنحو يصبح فيه مبدأ (تأجيل اللذة) غير منفصل البتة عن مبدأ (البحث عن اللذة).

وبكلمة جديدة: ان (البحث عن اللذة) فيما يشكل (أصلاً محركاً) للسلوك، ينبغي ألا يفصل عن مبدأ (تأجيل) بعض أشكاله بالضرورة.

وفي ضوء ذلك، يمكننا أن ندرك سر القاعدة النفسية الضخمة التي صاغها الإمام علي (ع) في رسمه للتركيبة الآدمية العامة، القائمة على (ثنائية) الاصل النفسي (الباحث عن اللذة، ونعني بها ثنائية: العقل والشهوة) أو (الموضوع والذات)، ... فما لم يكن ثمة (تجاذب بين طرفي اللذة: العقل والشهوة) لما أمكننا أن ندرك دلالة (تأجيل اللذة)، حيث يعني (التأجيل) ممارسة النشاط (العقلي) أو (الموضوعي) من طرفي التجاذب للذة: أي أن الكائن الآدمي لا مناص له من ممارسة (التأجيل) بحيث ينبغي أن يغلب عقله شهوته، حتى يصبح (أفضل من الملائكة) كما قرر الإمام (ع) ذلك.

ونحن إذ نكرر التنبيه على القاعدة النفسية المتقدمة، نستهدف من ذلك: أن نذكر أولاً بحقيقة التركيب الآدمي القائم على طرفين يتجاذبان البحث عن اللذة (وهو أمر سبق توضيحه مفصلاً)، وأن نذكر ثانياً بالسر الذي تنطوي عليه عملية (تأجيل اللذة): مادام الكائن الآدمي مضطراً لمواجهة (الاحباط) الذي يحتجزه عن تحقيق الاشباع المطلق، لأسباب انتهينا من تفصيلها توّاً. وأن نخلص ثالثاً إلى حقيقة جديدة هي: افتراق التصور الإسلامي عن التصور الأرضي في صياغتهما لمبادئ (تأجيل اللذة)، وهو أهم ما نستهدفه في هذه الدراسة، مادام علم النفس الأرضي يقر بوضوح مبدأ (تأجيل اللذة)، ومادام ـ في ضوء ذلك ـ يرسم توصياته العيادية المختلفة التي تقرّان (الاحباط) لا مناص منه، فيما يتعين أن يواجه بمبادئ (تأجيل اللذة).

غير ان السؤال هو: لماذا أخفق البحث الأرضي في توصياته المختلفة بالرغم من اخلاصه العلمي في صياغتها؟

لماذا أخفقت العيادة النفسية في انتشال مرضاها: مما يلاحظ تفاقم أرقامه؟

إن الاجابة تكمن في طبيعة مبادئ (التأجيل) للذة، وتحديد أنماطها، وفرز ما هو مؤتلف مع طبيعة التركيب الآدمي، عما هو خارج عن امكانات الطبيعة المذكورة.

إن البحث الأرضي، بسبب من عزلته عن السماء، مضطر إلى رسم مبادئ "التأجيل" وفق تصور ـ لا مناص من اتسامه بالخطأ، لأنه ـ أساساً ـ منعزل عن (المصدر) الذي صاغ التركيب الآدمي في بحثه عن اللذة، و"تأجيلها" بشكل أو بآخر.

إن (السماء) هي التي صاغت (الأصل النفسي ـ البحث عن اللذة) وصاغت (ثنائيته: العقل والشهوة)، وصاغت مبادئه (التأجيل) الذي نعتزم دراسته.

ومما لاشك فيه، أن تجاهل (المصدر) المذكور، يعني: تجاهل أية توصية حية واقعية، واستبدالها بتوصيات (مثالية) لم تنبع من أرض "الواقع"، ... وهذا هو سر "الفشل" الذي غلف البحث الأرضي في رسمه لمبادئ (تأجيل اللذة).

أن مبادئ (تأجيل اللذة) تتمثل في:

1 ـ التأجيل المعوض: ونعني به أن تأجيل أي لذة حسية كانت أم نفسية انما يعوض عنها بلذة من نمطها (الحسي أو النفسي) في الدار الآخرة. أو حتى في الدار الدنيا، ولكن في زمان لاحق.

فالجوع، يعوض عنه (شبع أخروي) أو شبع دنيوي لاحق، و"الصبر" على الشدائد يعوض عنه (راحة في الآخرة) أو الدنيا في زمان لاحق بحيث تنفرج الشدة ذات يوم. وهكذا.

2 ـ التأجيل المثمن: ونعني به، أن تأجيل اللذة يقترن بتقدير وبتثمين من السماء: بغض النظر عن التعويض الأخروي أو الدنيوي له. فمجرد وعينا بأن (السماء) تعي واقعنا (حين نلتزم بمبادئها) وبثمن هذا الالتزام، فإن هذا التثمين كاف بجعل الشخصية آمنة من أن يثمن قرار تأجيلها. وهذا من نحو من يتحسس باللذة حينما يجد أن (الآخر) يثمن الانجاز الذي قدمناه على حساب راحتنا: كأن نقضي حاجاته، فيشكرنا على ذلك بالرغم من الأذى الذي يلحقنا بسبب من السعي في قضاء حاجاته: فأنت حين تؤجل سفرة ممتعة من أجل أن تخدم مريضاً: ثم يثمن المريض هذا التأجيل، بكلمات الشكر، حينئذ تتحسس اللذة بقدر حجم الشكر الذي يقدمه لك.

3 ـ التأجيل القيمي: ونعني به أن السماء تجعل (دلالة) لها "قيمتها" الموضوعية من ارادة وعلم وابداع وإحسان و... الخ، مما يعني أن إدراك هذه الحقيقة لوحدها، كاف بتحقيق لذة (عقلية) صرف: من نحو اللذة العقلية التي تحققها في استكناه الحقائق وكشفها، دون أن ننتظر من (الحقائق المكتشفة تعويضا) أو تثميناً.

على العكس من ذلك: نجد أن (مبادئ التأجيل ـ في تصورها الأرضي) مفتقرة لفاعلية (التثمين): أما لعدم وجود (الآخرين) ـ مثل غياب (القانون) ـ أو لامكاناتهم المحدودة، أو لأنهم جزء من (المجتمع المريض) الذي لا يستوعب قيمة التأجيل الذي تقدمه الشخصية. أما افتقارها لفاعلية (القيمة) فواضح، مادامت أساساً لا تعي قيمة السماء.

ولكي نحدد مستويات التأجيل، يتعين علينا بسط بعض المفاهيم الأساسية:

"التأجيل" وصلته "بالتعويض" و"التقدير" و"القيمة".

أوضحنا، أن (التأجيل) يقترن بثلاث حقائق هي:

أ ـ التعويض: فما لم يعوض الكائن الآدمي، يظل عرضة للصراع، لأنه لا يجد (معنى) لتأجيل "لذة" وجدت ـ أساساً ـ في تركيبته الباحثة عن الاشباع.

ب ـ التثمين: وما لم يتسلم الكائن الآدمي (تقديراً) لتأجيل لذته، لم يجد أيضاً أي (معنى) للتأجيل المذكور.

د ـ القيمة: وما لم يع الكائن الآدمي (قيمة) السماء، لم يجد معنى بدوره، للتأجيل.

وخارجاً عن ذلك، فإن مطالبة الآدميين بـ (التأجيل) تظل بلا دلالة، مما يضطرهم إلى الوقوع في أحد خيارين:

1 ـ الصراع: مادام تأجيل اللذة لم يقترن بتحقيق أي (اشباع)، حينئذ يستتلي وقوع الكائن الآدمي في صراع، لا يهدأ له قرار وهذا لوحده كاف في تعرضها إلى أنواع العصاب. مادام ملتزماً بمبادئ الواقع، لكنه غير مقتنع بمشروعيتها، ولا يمكنه أن يتمرد عليه لأنه يفقد التقدير الاجتماعي.

2 ـ البحث عن الاشباع الطليق: وهو أمر لا يمكن تحقيقه، مادامت تركيبة الحياة قائمة على (الاحباط) ـ كما أوضحنا مفصلاً، مما يستتلي أن تصبح الشخصية (سيكوباثية ـ لا اجتماعية ـ منحرفة) لا تراعي مبادئ الآداب العامة. وحتى في هذه الحالة، فإن القانون لا يسمح له باشباع حاجاته، مما يعرضه لمواجهة "الاحباط" وما يستتليه من صراع: فايداعه السجن مثلاً، يعرضه لمواجهة (الاحباط) فـ(الصراع).

وفي الحالتين: يظل "الاحباط" و"الصراع"، هو القدر الوحيد للكائن الآدمي، ما لم ينطلق من التصور الإسلامي لمبادئ تأجيل اللذة.

إن الأبحاث الأرضية تجمع على أن (الشدائد) أو (الاحباط) هو السبب الكامن وراء الأمراض النفسية. وتوصيات الأرض ـ في هذا الصدد ـ تتمثل في المطالبة بأن تتحمل الشخصية شدائد الحياة مادامت تركيبة الحياة أساساً لا تسمح باشباع الحاجات جميعاً.

وتحمل الشدائد يعني: إما الرضا بقدر محدود من الاشباع، أو استبداله باشباع آخر، أو التقبل لهذا الحرمان أساساً.

مثال ذلك: طالب في كلية الهندسة، انهى دراسته، وبدأ البحث عن "وظيفة" تتسق مع اختصاصه. إلا أنه لم يجد الوظيفة التي يطمح إليها. حينئذ يواجه ثلاثة خيارات: أما تقبل وظيفة محدودة من حيث الدرجة، أو استبدال ذلك بعمل حر لا علاقة له باختصاصه، أو البقاء بلا عمل: وفي الحالات جميعاً لا مناص له من التقبل لهذا الواقع الذي (لم يشبع) حاجاته. غير أنه لو لم يذعن للواقع المذكور، فإنه سيواجه (صراعاً) وستبدأ شخصيته بالتوتر؛ حتى يستسلم في نهاية المطاف للمرض النفسي.

إن المطالبة بتحمل أمثلة هذه (الشدائد) هي: الحل الوحيد الذي يملكه البحث الأرضي في هذا الصدد:

بيد أن الملاحظ أن الشخصية في الغالب لم تنج من الوقوع في براثن المرض النفسي، بالرغم من (وعيها) بصواب التوصيات الارشادية في هذا المجال.

فما هو السر في ذلك؟

إن الإجابة تتبلور بوضوح، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن (التعويض) و(التقدير) و(القيمة) هي المبادئ التي تعينه على مواجهة "الاحباط". فالطالب حينما يدرك أن (الحياة) مجرد "اختبار" حينئذ يتحمل أياً من الخيارات الثلاثة، إذ (يعوض) أخروياً لما يفوته، أو (يثمن) تحمله لواحد من الخيارات، أو يجد لذة عقلية في مجرد التزامه بمبادئ السماء الواعية. مضافاً إلى ذلك أنه نظراً ليقينه بأن السماء تملك وسائل الاشباع، حينئذ سيطمئن إلى أن حاجاته ستتدفق، فضلاً عن يقينه بأن (الطعام) مجرد وسيلة لاستمرارية العمل الخلافي بحيث يكفيه أي قدر أو نوع يسد (الحاجة) دون أن يبحث عن اشباع زائد عن الحاجة: وعندها يصبح مطمئناً متوازناً، لا يحيا الصراع.

ولكن، خارجاً عن مبادئ "التعويض" و"التقدير و"القيمة"، هل يمكن للطالب المتخرج أن يواجه "الاحباط" لمجرد وجود (قيم اجتماعية) مستمدة من مبادئ الأرض؟

إن مواجهة الاحباط لا يمكن أن تتم إلا إذا ارتكنت إلى أرض صلبة تستمد الشخصية منها (المثال) الذي يمدها بالقناعة في عملية المواجهة، بيد أن الطالب المذكور لا يمكنه (في ضوء التصور الأرضي) أن يواجه (الاحباط)، مادام كل من (التعويض) و(التثمين) و(القيمة) يفقد فاعليته في هذا الصدد.

أما (التعويض) فإنه منتف ـ أساساً ـ مادام لا يؤمن باليوم الآخر (الثواب الأخروي)، ومادام لم يؤمن بالسماء في اشباعها إياه دنيوياً (في وقت لاحق من العمر).

وأما (التثمين)، فإنه بدوره يفقد أية فاعلية مادام تسلمه يتم: إما من (قيم اجتماعية) مبهمة، أو (أفراد) محددين.

فالطالب الجائع أو المنحط اجتماعياً، لا يمكنه أن يقيم وزناً لمجموعة من (الأفراد) تطالبه بتحمل الشدائد: في حين يواجه مجتمعاً بأكمله يتعامل مع الآخرين من خلال لغة الزهو والتعالي.

كيف يمكن إطفاء الدوافع في مناخ متورم، يعنى بالبهرج، والزخرف، والشكل، في نمط الوظيفة، و(الدار) مثلا، وفي هندستها وتأثيثها وسعتها وموقعها: عندما تواجه الشخصية الأرضية فرداً من طبقتها قد اتيح له تحقق المركز و(السكن) في مستوياته الفخمة، في حين تحرم هذه اشخصية من ذلك.

لاشك، أن مثل هذه الشخصية، ستظل عرضة للصراع، وستظل محاصرة بالقهر، ولا يمكنها أن تمارس عملية (التأجيل) ما لم تنطلق من وعي (عبادي) حاد.

إن (القهر) يحاصرها حينما تجد نفسها محرومة من تملك المركز، والدار الفخمة. ويحاصرها القهر بنحو أشد لو حُرمت حتى من المركز أو الدار البسيطة. بل أن القهر يحاصرها بنحو أشد مما تقدم، حينما تواجه مجتمعاً يتعامل معها بالزهو والتعالي، نتيجة لتملكه مثل ذلك المركز، أو هذه الدار الفخمة، وهو أمر يفجر لديها الإحساس بالدونية والضعة دون أدنى شك.

وحيال هذا، فإن مثل هذه الشخصية أمام خيارين فإما أن تكف عن اشباع حاجتها إلى التقدير الاجتماعي، وهو أمر يتنافى مع حب الذات، أو تكف عن اشباع حاجاتها إلى الطعام (لقلة ذات اليد) ـ وهو أمر يستتلي وقوعها في الصراع ونتائجه المرَضيّة. وأما أن يقتادها إلى البحث المضني عن المركز، وهذا يقتادها إلى الاحباط فالصراع، وكذلك المادة وتوفيرها، وهذا الأخير يقتادها إلى تحمل ما لا يتناسب ودخلها الفردي. فإذا انساقت إلى الحل الأخير، فحيئذ أما ان يركبها (الدَين) ـ وناهيك عن الصراع الذي يخلفه الدَين ـ وإما أن تلجأ إلى الطرق غير المشروعة. وهذا اللجوء الأخير، بدوره يفضي إلى الوقوع في براثن المرض النفسي، لأن (الأنا الأعلى) للشخصية أو (الضمير)، كاف بأن يفجر لديها: الإحساس بالذنب.

إذن: في الحالات جميعاً؛ لا مناص من وقوع هذه الشخصية في وهدة الصراع، مادام (تثمين) الآخرين مفقوداً لديه، إلا في نطاق (أفراد) يفقدون فاعلية تأثيرهم، قبال فاعلية مجتمع مريض بأكمله.

أما إذا افترضنا ان الطالب المذكور (الجائع والمنحط اجتماعياً) بمقدوره أن يواجه (الاحباط) من خلال تسلمه (تثميناً) اجتماعياً قائماً على مجموعة ما يسمى بـ(القيم) أو (المثال) الذي دربت الشخصية عليه: بحيث يحمله هذا (المثال) على احترام المبادئ التي ينطوي عليها (المثال) المذكور: حينئذ يظل الأمر محكوماً بنفس الطابع مادام (المثال) نفسه لم يتسم بفاعلية تماثل أو تضارع (الواقع الاجتماعي المريض) الذي يفرض هيمنته على الشخصية.

إن (المثال) أو (الجهاز القيمي) لدى الشخصية، إنما يتسم بفاعليته في حالة ما إذا اقترن بتقدير (الآخرين) له. أما إذا افترضنا أن (المثال) منتزع من (واقع) لا صلة له بقوى واعية تخلع عليه (قيمة ما): حينئذ يظل الالتزام به مجرد تعامل وهمي مع الحقائق.

إن أي (مثال) أو (قيمة) ينبغي أن يحمل ثلاث سمات ـ على الأقل حتى يكتسب (فاعلية وتأثيراً. وهذه السمات هي:

1 ـ الوعي.

2 ـ الإرادة.

3 ـ الكمال.

و(المثال الأرضي) فاقد للسمات الثلاث بأكملها، فهو يستمد من ضمير (جمعي مبهم لا يملك (وعياً) محدداً: مثل بنود (القانون) المكتوبة على الورق.

كما لا يملك (فعلاً ارادياً) تنفذه أيد محددة: تماماً مثل (القانون) المعطل عن العمل به.

وأخيراً فإن مبادئ هذا المثال لا تتسم بقيمة عقلية ذات أصالة أو كمال: بصفة أن هذا (المثال) قد صاغه (أفراد) يلفهم القصور المعرفي بالضرورة: فأنت حين تواجه (مثالاً) صاغه أفراد مثلك ينتسبون إلى العضوية الإنسانية التي تنسب لها أنت بذاتك، حينئذ لا يمكنك أن تكسب المثال المذكور أية قيمة أصيلة غير قابلة للتشكيك، إلا إذا افترضنا أن (ذاتك) تمتلك (وعياً أصيلاً): ومع افتراض امتلاكك لمثل هذا (الوعي المطلق)، فإن (المشكلة) تنتفي أساساً، ولا يبقى معها (معنى) للمرض أو التفكير في انتشال الذات من الصراع، لأن الشخصية نفسها يمكنها أن تحسم المشكلة.

ولكن هذا الفرض الأخير (أي: امتلاكك للوعي المطلق) يستلزم الوقوع في نفس الدائرة التي بدأت الشخصية منها، وهي: أن (الآخرين) غائبون عن دائرة (المثال) المذكور، ومن ثم فإنه يفتقد فاعليته ما لم يقترن بوجود (آخرين) يخلعون عليه (القيمة).

إذن: في الحالات جميعاً، لا يمكن للطالب الجائع والمتخلف اجتماعياً أن يتقبل (الاحباط) بتوازن داخلي، مادام (المثال) الذي يتسلم (تقديراً) منه لا يمتلك (وعياً) ولا (إرادة) ولا (أصالة عقلية)، بل يظل الصراع وتوتراته يتغلبان على شخصيته بقدر ضخامة المثيرات أو ضآلتها.

على العكس من (المثال) الأرضي، يجيء (المثال العبادي) حاملاً للسمات الثلاث المذكورة: أي أنه يمتلك (فاعلية) بالغة القوة. فالسماء (واعية) بسلوك الشخصية وذات (إرادة) في تحقيق (التثمين) الذي تسلمه للشخصية. كما أنها (كاملة) في صياغتها للمبادئ التي تصوغها للكائن الآدمي، وتطالبه بالالتزام بها في مواجهة "الاحباط" الدنيوي.

إن الالتزام بالمبادئ التي تواجه الشخصية بها، شدائد الحياة... هذا الالتزام نفسه يحقق اشباعاً للشخصية حتى في حالة (الاحباط) الصرف لحاجاتها. بل إن ما يسمى بـ(الحاجات) ـ في نظر التصور الأرضي ـ تنتفي دلالته عند الشخصية الإسلامية في حالة التزامها بمبادئ السماء: حتى تتحول ـ في نهاية المطاف ـ إلى حاجات (عقلية). بحيث تحقق توازناً داخلياً للشخصية: لمجرد انها تتعامل مع السماء، بما تنطوي عليه السماء من (قيمة) وبما يصاحبها من (تثمين) لتعامل المذكور.

إن كلا من (التوكل) و(الزهد) و(التعامل العقلي مع السماء)، يزيح أي امكان للصراع وتوتراته عبر مواجهة (الاحباط): وهي فاعليات غائبة تماماً عن البحث الأرضي:

أما التوكل، فيعني أن اشباع الحاجات موكول إلى السماء، وقدرتها على تحقيق ذلك عملياً.

ومن البين أن الاطمئنان إلى توفر الاشباع وتأمينه، يزيح التوتر الذي يسببه (الاحباط) عادة، في هذا الصدد.

فالطالب المذكور حينما يتاح له مثل (مرتب) وحينما يتدفق (مرتبه) حتى عند تقدم سنه واحالته على التقاعد، حينئذ يتوازن داخلياً، ولا يحيا أي صراع ذي بال (من حيث تأمين حاجات الشخصية: كما هو واضح.

وإذا نقلنا هذا (التأمين) إلى (السماء) وصلة الشخصية العبادية بها، أمكننا حينئذ أن ندرك أن السماء مصدر قوة تتكفل باشباع الشخصية: ليس في نطاق محدود (كما هو شأن الدولة في تحديدها للمرتب) بل في نطاق لا حدود له، حيث ترزق السماء من تشاء بغير حساب؛ ومن حيث لا تحتسب الشخصية، ولكن: شريطة أن يتوفر وعي عبادي بإمكانية السماء لدى الشخصية، تمشياً مع دلالة الآية الكريمة (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).

وعندها: مع توفر الوعي العبادي، يبلغ اليقين قمته في تأمين الحاجة، فيما لا يبقى معه أي احتمال لمنابع الصراع ومضاعفاته.

2 ـ الزهد

واما (الزهد) فيشكل فاعلية أخرى في تحقيق التوازن الداخلي للشخصية العبادية.

فالزهد ـ أساساً ـ ينطلق من المبدأ القائل أن الدنيا بأكملها، (متاع عابر) لا قيمة له قبال العطاء الأخروي الذي لا حدود له. فامتلاكك لدار فخمة، أو منصب اجتماعي كبير، يظل اشباعاً (عابراً) قبال الاشباع (الأبدي) أخروياً، وهذا ما يقود الشخصية إلى أن تقلل من قيمة الدار أو أهمية المنصب، مكتفية من ذلك إلى الاشباع بقدر الحاجة دون أن يؤثر فيها أي منبه بيئي يتعامل بلغة الزهو في امتلاك الآخرين للدار الفخمة.

أما المنصب، فإن الشخصية العبادي لا تعنى به ـ أساساً ـ مادامت لا تريد (علواً) في الأرض، بقدر ما تستهدف ممارسة وظيفتها العبادية.

إذن: فاعلية (الزهد) بأي اشباع زائد عن الحاجة، تمسح كل آثار التوتر أو الصراع الذي يسببه (الاحباط) في اشباع الحاجات التي تعودت الشخصية الأرضية أن تعنى بها: في أشكالها الزائدة في الكفاية: مع ملاحظة أن طموحات الإنسان لا حد لها البتة: فالتاجر مثلاً لا يقف طموحه عند ربح معين، والموظف لا يقف طموحه عند موقع رسمي يحتله، وصاحب الدار لا يقف عند تملكه لمجرد الدار، بل يتطلع كل من الأنماط المذكورة إلى المزيد من الاشباع: وهو أمر يستتلي مزيداً من التوتر: على العكس من الاستجابة (الزاهدة) التي تمسح أية محاولة تزيد عن الحاجة.

3 ـ التعامل العقلي مع السماء...

إن كلاً من (التوكل) و(الزهد)، يظلان متصلين بالبحث عن اشباع الحاجة (كأن يكل الطالب المذكور شؤون رزقه إلى السماء)، أو اشباعها بقدر الكفاف (كأن يتناول الضروري فحسب: الطعام بقدر ازاحة التوتر دون البحث عن الزائد والمترف منه).

بيد أن ثمة اشباعاً عقلياً تعوض به الشخصية المسلمة حاجاتها الحيوية أو النفسية، بحيث تؤثر السماء بمالها من (قيمة) موضوعية بغض النظر عن صلة ذلك بالاشباع الحيوي والنفسي الدنيويين.

وقد سبق القول إلى أن (الامتاع العقلي) أشد فاعلية من (الامتاع الحسي): في المثال الذي قدمناه عن المضربين عن الطعام ـ. هذا الاماع يتمثل في المشاركة (الوجدانية) مع السماء، والتوجه نحوها في استكناه الحقائق وكشفها، أو حتى في نشدان الاشباع الحيوي والنفسي من الحاجات.

إن (الجائع) حينما يتجه إلى السماء في المطالبة بازاحة الجوع، فإنه ألم الاحباط يخف ـ دون أدنى شك ـ حينما يعي الجائع أن السماء (واعية) مشكلته، (مثمنة) توجهه نحوها: لا أنها (تهمله) أو لا تملك (وعياً) حيال مشكلته المذكورة.

كما أنه حينما يواجه (ذلاً اجتماعياً)، فإن الاحساس المذكور بالذل، سيخفف أو يزاح، حينما يعي بأن السماء (تحترم) (ذاته) و(تثمن) توجهه نحوها.

بيد أن قمة الاشباع، إنما تتحقق في تلك المشاركة الوجدانية والعقلية مع السماء: بما تنطوي السماء عليه من (قيمة موضوعية) (العلم والقدرة والإرادة والابداع والهيمنة و... الخ).

إن مثل هذه (المشاركة) التي تعني أن (السماء) مثمنة تماماً وواعية تماماً، لهذا التوجه نحوها، ينطوي على قمة الاشباع الذي يمكن أن نقارنه ـ ولو نسبياً ـ بشخصية تجد أن الآدميين بأجمعهم (يعنون) بها، و(يعون) قيمتها، و(يثمنونها) بما لا يدور في خلدها البتة: حينئذ سيتحقق لديها اشباع ضخم مادامت حاجاتها النفسية والحيوانية قد اشبعت دون أي (احباط)، بل إنها أشبعت زائداً عما هو ممكن أو متوقع لديها.

إذن: قمة الاشباع أنها تتحقق في افتراض واحد فحسب هو: السماء بما تحمله من (فاعلية) يفتقدها "الآدميون"، وامكانات "الطبيعة" على نحو ما شرحناه مفصلاً عند حديثنا عن (الخيار) الوحيد الذي تملكه الشخصية في تعاملها مع الحياة: ونعني به: تأجيل اللذة، مادامت (طبيعة) الحياة لا يمكنها أن تحقق الاشباع الطليق للآدميين.

وللمرة الجديدة، فإن تحقيق الاشباع في ذروته التي أوضحناها، يظل في نطاق (التعامل العقلي والوجداني) مع السماء فحسب: مما يعني أن أية توصية ارشادية يقدمها لابحث الأرضي في رسمه لمبادئ الصحة النفسية، تظل (عقيمة) مادام (الآخرون) من جانب: لا يملكون (فاعلية كاملة في تحقيق الاشباع)، ومادامت (الطبيعة) فاقدة ـ أساساً ـ لأية مبادئ الصحة لانفسية العامة في التصور الأرضي والإسلامي.

مبادئ الصحة النفسية العامة في التصور الأرضي والإسلامي أن نموذج الطالب الذي سبق الحديث عنه يمثل التعامل مع أقوى دافعين في تركيبة الآدميين، وهما دافع الطعام: بصفته أقوى الدوافع الحيوية، ودافع (التقدير الاجتماعي) بصفته أقوى الدوافع النفسية.

وحين نتابع سائر الدوافع أو الحاجات وطريقة تنظيمها في التصور الأرضي، نجدها محكومة بنفس الطابع من حيث افتقارها إلى (فاعلية) التعويض والتثمين والقيمة، وما يواكبها من فاعلية التوكل والزهد والتعامل الوجداني.

ونحن، لسوف نتحدث مفصلاً عن طرائق التنظيم للدوافع (حيوية ونفسية) في التصورين الأرضي والإسلامي. لكننا هنا، نعتزم الإشارة ـ ولا عابراً ـ إلى عقم العلاج الأرضي في توصياته الإرشادية، مادمنا في صدد البحث عن طرائق العلاج للأمراض النفسية في تصورها الأرضي.

إن التوصيات الإرشادية التي نجدها في فقرات لاحقة، تمثل خلاصة التصور الأرضي في رسمه لمبادئ الصحة النفسية، وهي توصيات قد ابتذلها البحث الأرضي نظراً لذيوعها ووضوحها في الأذهان.

ولنأخذ على سبيل المثال ـ هذه التوصيات التي رسمها أحد الباحثين، موضحاً بأن الفرد إذا أريد له أن يحقق توازناً داخلياً، أي: يكتسب صحة نفسية، فعلية بالالتزام بما يلي:

1 ـ البوح بالأسرار الشخصية حكيمة عاقلة.

2 ـ الهروب من متاعب الحياة، إلى نشاط ممتع كمشاهدة الطبيعة.

3 ـ وضع تخطيط للمناشط الترويحية بنحو عام.

4 ـ استنفار الغضب في القيام بعمل ما.

5 ـ العمل على تحقيق الأهداف واحداً واحداً.

6 ـ الاستسلام أحياناً بغير عناد.

7 ـ عدم التفكير في تحقيق المعجز.

8 ـ عدم القسوة في النقد، وتخير الايجابيات عند الآخرين.

9 ـ القيام بدور المبادرة... الخ.

إن هذه التوصيات وسواها من التوصيات التي يقدمها علم النفس العبادي، لا يتخاصم اثنان في صوابها.

والمشرع الإسلامي بدوره، يقدم توصيات مماثلة، يفصل الحديث عنها بنحو ملحوظ، من نحو التوصية التي يقدمها الإمام علي (ع) بأهمية البوح بالسر مثلاً (وهي التوصية الأولى من القائمة الأرضية التي سردناها)، حيث تطالب التوصية ببوح السر حتى لو لم يجد إلا مادة غفلاً: بصفة أن التفريج تحرير للمكبوت. وهو مبدأ نفسي له فاعليته دون أدنى شك.

ويتجاوز الإمام الصادق (ع) عملية البوح بالسر، إلى (الاستشارة) مطلقاً، مطالباً (كما طالبت التوصية الأرضية بذلك) أن يتم ذلك مع شخصية عاملة، حكيمة، لكنه ـ أي الإمام (ع) ـ اكسب الاستشارة فاعلية أشد حين تتم مع شخصية (متدينة).

ولنقرأ:

فإذا كان عاقلاً. (يقول الإمام الصادق (ع) انتفعت بمشورته. وإذا كان حراً متديناً أجهد نفسه في النصيحة لك).[3]

وفي نص ثانٍ:

شاور في حديثك الذين يخافون الله.[4]

وفي نص ثالث:

استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا يأمر إلا بخير.[5]

ففي النصوص المتقدمة، تشدد على (المتدين) و(الورع) و(الذين يخافون الله) لأنهم (يخلصون في النصيحة)، وهذا هو السر في نجاح الاستشارة وتحقيقها فاعلية ذات أثر، في حين استشارة (الحكيم، العاقل) لا تحقق نفس الفاعلية مادامت الشخصية الأرضية تنطلق في تعاملها مع الآخرين وفق انشدادها لـ(مثال) أوضحنا مفصلاً قصوره عن الفاعلية، فيما لا حاجة إلى إعادة الكلام في ذلك:

وإذا اتجهنا إلى التوصيتين الأرضيتين (الثالثة والرابعة، فيما يتصل بموضوع تخطيط للمناشط الترويحية)، أمكننا ملاحظة الأمر ذاته في عملة الربط بين المبدأ العبادي والظاهرة النفسية. فالمنشط الترويحي، أمر يقره التصور الإسلامي بطبيعة الحال. وما أشار القرآن الكريم مثلاً إلى جمال الكون ومعطياته المتنوعة إلا تجسيد للإقرار المذكور. بل إن ظاهرة (كالسفر) مثلاً، حينما تحدده بعض نصوص التشريع في ثلاثة مناشط: تزود لمعاد، مرمة لمعاش، لذة في غير محرم، ... حينما تحدده في المنشط الأخير (لذة في غير محرم)، إنما يعني أن (الترويح) أمر لا غبار عليه.

بيد أن ذلك، ينبغي أن يتم في سياق عبادي خاص، حتى يحقق فاعلية، وليس في مطلق السياق. الذي ترسمه توصيات الأرض.

السياق العبادي يحدده الإمام موسى بن جعفر (ع) على النحو التالي:

"اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الاخوان والثقاة الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكن في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم. وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات".[6]

إن هذه التوصية الخطيرة، توضح، أن القسم الرابع مخصص للمناشط الترويحية: بصفة انها ضرورة ملحة للشخصية في غمرة نشاطها الجاد المحفوف بالتعب.

بيد أن مثل هذا المبدأ الترويحي لا تفصله السماء عن المبدأ العبادي العام، ... بل أنها لا ترى إلى المنشط الترويحي وكأنه (هدف) بذاته، بل انه (وسيلة) لاستمرارية المهمة العبادية.

إن اشارة التوصية إلى أن المنشط الترويحي هو (عون) على الثلاث ساعات: "المناجاة، المعاش، المعاشرة"، هذه الاشارة، تنطوي على أهمية بالغة الخطورة، غائبة تماماً عن البحث الأرضي وتوصياته.

إن اللذة المطلقة التي لا ترتبط بهدف ما، تجعل الشخصية في أسر البحث عن (لذة) لا يمكن تحقيقها: نظراً لطبيعة الحياة القائمة على (تأجيل اللذة) كماس سبق التوضيح. ومجرد الاهتمام بتحقيق اللذة، كاف بأن يحفر في أعصاب الشخصية توترات، ناجمة من التخوف من الاحباط، وتخوفاً من قلة الفرص في تحقيق الاشباع، وهذا ما يدلنا على منشأ الخط الأرضي في توصيته الهادفة إلى وضع تخطيط للراحة: مع أنه مبدأ سليم من حيث الأساس.

والسر في ذلك ـ كما سبق التوضيح ـ، إن الإدراك لوظيفة المناشط الترويحية، إذا اقترن مع الإدراك بأنها (وسيلة)، لا (هدف)، فحينئذ تتقبل الشخصية متاعب الحياة وشدائدها مادام (الاحباط) و(تأجيل اللذة) هما (السمة) التي يتعين الالتزام بها فكيف يمكن التوفيق بين تقبل الاحباط، والهروب من الاحباط كما هو نص التوصية الأرضية الخاطئة، القائلة: (اهرب من الحياة في نشاط ممتع)، دون أن تشفع ذلك بتحديد (الهدف) الكامن وراء البحث عن المنشط الترويحي.

على أية حال، ... إذا حاولنا متابعة سائر التوصيات الأرضية التي وردت في القائمة التي استشهدنا بها، ... أمكننا أن نلحظ مدى ما تنطوي عليه من تصور صائب: لو كان العمل على تحقيق الأهداف واحداً بعد آخر مثلاً، أو الاستسلام للواقع، او عدم التفكير في تحقيق المعجز الخ، ... لو كان أولئك جميعاً يقترن بتصور (عبادي) مدرك لطبيعة التركيبة الآدمية، وموقعها من (الحياة العابرة) التي تظل مجرد (وسيلة) لحياة آجلة.

أما المطالبة بتحقيقها في تصور منعزل عن السماء، وفي تصور لا يواجه إلا (حياة وحيدة) لا تملك الأرض سواها، حينئذ تظل مثل هذه التوصيات (مثالية) لا يمكن تحقيقها البتة.

ويمكننا متابعة المعالجات الأرضية المتصلة بـ(الدوافع) أو (الحاجات) التي اعتاد علماء النفس درجها في (قوائم) خاصة، ... يمكننا متابعة افتراقها أو التقائها مع التصور الإسلامي لها، محكومة بنفس الطابع الذي لحظناه في التوصيات الارشادية. بصفة ان (الشدائد) و(الاحباط) ينجمان من اشباع الدوافع الحيوية والنفسية عن الفرد.

ولنقف عند التصنيف الأرضي لهذه الدوافع، وملاحظة سبب اخفاق البحث الأرضي في علاج الأمراض الناجمة عن الشدائد، ومدى افتراقه عن التصور الإسلامي للدوافع، حيث نظمها وفق اشباع معين، وحيث أنكر بعضها فهذه الدوافع حين ربطها بمبادئ تأجيل اللذة، وبالتعويض والتثمين والقيمة في ضوء مبادئ الإسلام نجد أن الشخصية الإسلامية بمقدورها أن تحيا سوية سليمة لا أثر للأمراض لديها، شريطة أن يتوفر لها وعي بمبادئ الإسلام وتمثل وجداني لها.



[1]  نهج البلاغة: صفحة 185.

[2]  نهج البلاغة: صفحة 191.

[3]  الوسائل باب 22، حديث 8، أحكام العشرة.

[4]  الوسائل: باب 22، حديث 4.

[5]  الوسائل: باب 22، حديث 5.

[6]  تحف العقول، ص 307.