الفصل الأول الأصول النفسية 

الفصل الثاني بين الوراثة والبيئة

الاصول العقلية

الأصول النفسية

 

الفصل الأول

الأصول النفسية

يعنى (علم النفس) بسلوك الكائن الآدمي: في شتى مجالات نشاطه، بيد أن الزاوية التي يشدد عليها من مجالات النشاط تنحصر في العملية التالية:

(الاستجابة) حيال (مثير) معين. ولكي يتضح المقصود من هذين المصطلحين (الاستجابة) و(المثير)، يحسن بنا أن نلتفت إلى المثال التالي:

عندما يسيئ إليك أحد الأفراد، فأنت حينئذٍ ستواجهه بواحد من الأفعال التالية:

أ ـ إما أن ترد الإساءة بمثلها.

ب ـ وإما أن تردها بالإحسان إليه.

ج ـ أو تكظم غضبك فتلتزم جانب الصمت.

في مثال هذه الحالات تواجه (مثيراً) هو: الإساءة. أما الرد عليها فهو: (الاستجابة): يستوي في ذلك أن تكون الاستجابة صمتاً، أو احساناً، أو مقابلة بالمثل.

هذه العملية النفسية القائمة على (الاستجابة) قبال (المثيرات) تتناول جانبين من الشخصية:

أ ـ الجانب الإدراكي، مثل: التفكير، التخيل، التذكر، النسيان... الخ.

ب ـ الجانب الوجداني، مثل: الإرادة، الرغبة، الانفعال... الخ.

فأنت حينما (تتذكر) حادثة من الحوادث، أو (تنسى) بعض تفصيلاتها، أو (تتخيل) جانباً من ذكرياتها: في مثل هذه الحالة: يكون كل من (التذكر) و(النسيان) و(التخيل) متصلاً بالجانب (الإدراكي) من الشخصية.

أما في حالة تحسسك بـ (الانشراح) أو (الانقباض) أو (اللامبالاة) من استحضار تلك الحادثة... فحينئذٍ يكون كل من (الانشراح) أو (الانقباض) أو (اللامبالاة) متصلاً بالجانب (الوجداني) من الشخصية.

وفي الحالتين، فإن (العملية النفسية) تقوم على (الاستجابة) حيال (مثير) معين.

والسلوك الآدمي بأكمله يحوم حول العملية النفسية المذكورة: حيث تشكل هذه العملية (مادة) علم النفس: علم النفس إذن يعني بسلوك الكائن الآدمي من حيث كونه (عملية نفسية): فيما يتكفل هذا العلم بتحديد مصادر العمليات النفسية، ومحاولة التحكم فيها (أي ضبطها وتعديلها). هذا يعني أن الباحث النفسي يضطلع بمهمتين هما:

1 ـ تحديد العمليات النفسية.

2 ـ تنظيمها.

وفي ضوء هاتين المهمتين: نحاول تقديم (وجهة النظر الإسلامية) في ميدان علم النفس، مقارنة بوجهة النظر الأرضية، بغية تحديد المفارقات التي ينطوي عليها علم النفس الأرضي في سائر اتجاهاته، أو تحديد نقاط التلاقي بينهما في بعض الخطوط التي تومض بملاحظة صائبة أو تجربة محكمة ينتهي البحث الأرضي إليها.

وخارجاً عن ذلك، لا نجد أنفسنا ملزمين باصطناع طرائق البحث الأرضي في تناول (المادة النفسية)، أو اصطناع لغته، أو الوقوف عند الدائرة التي يحصر أبحاثه فيها، بل يمكننا أن نتجاوز ذلك إلى تخوم الفلسفة وعلم الاجتماع حيناً، وإن نختزل حتى بعض موضوعاته الحاسمة حيناً آخر.

والسر في عدم التزامنا بمناهج البحث الأرضي، إن البحث الأرضي منفصل عن السماء في تفسيره للعمليات النفسية وتنظيمها. أنه يتسلم الكائن الآدمي (بما أنه موجود فعلاً) لا بما أنه كائن أبدعته السماء وأناطت به مهمة الخلافة على الأرض، وكيفت (العمليات النفسية) وفقاً للمهمة المذكورة.

إن مفهوم (الوظيفة العبادية) تظل الأساس الرئيس في تفسير العمليات النفسية وتنظيمها، مادامت السماء تقرر بوضوح:

(إني جاعل في الأرض خليفة...)

(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)

(خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً).

وهذا يعني أن (الأحسن من العمل) هو الهدف الذي تنشده السماء في صياغتها للعمليات النفسية.

إن السماء ـ كما سنرى في تضاعيف دراستنا ـ تقر ما انتهى البحث الأرضي إليه من تحديد معالم (السلوك السوي) قبال السلوك الشاذ (أمراض العصاب والذهان) إلا أنها تتجاوز ذلك إلى تحديد معالم أشد سعة وشمولاً، من مفاهيم الأرض: ومع انبثاق مثل هذا الفارق في مفهوم (السوية) بين وجهتي النظر الإسلامية والأرضية، سيترتب بالضرورة (فارق) بين تصورهما للعمليات النفسية وتنظيمها. ومن ثم يترتب على ذلك: فارق بينهما من حيث الموضوع والمنهج واللغة.

على أي حال، يهمنا أن نبدأ الآن بتحديد (العمليات النفسية) وهو الشطر الأول من مادة علم النفس، ونتبعه بالشطر الآخر وهو تنظيم العمليات المذكورة.

ولنقف عند أولهما:

يبدأ علم النفس الأرضي دراسته للعمليات النفسية بالبحث عن أصولها الأولى، أي "المحرك" الأساس لنشاط الكائن الآدمي.

طبيعي، ثمة (أصل) عام يتجاوزه الباحثون عادة، مادام هذا (الأصل) يشكل (بديهية) مألوفة حتى في أذهان البدائيين، ونعني بها، مبدأ (البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم. فالكائنات الآدمية جميعاً تصدر عن المبدأ المذكور في نشاطها بأكمله. إنها حين تجوع مثلاً تبحث عن (لذة) هي (الشبع)، وتجتنب (ألماً)، هو (الجوع). وحينما تلفها (العزلة) مثلاً، تبحث عن لذة هي (الانتقاء الاجتماعي) وحتى حينما تختار (العزلة) فهي تبحث عن لذة الهدوء وتجتنب (ألم) الضوضاء والصخب وهكذا.

أقول: إذا تجاوزنا هذا (المبدأ) الرئيس في دفع الكائن الآدمي إلى الحركة والنشاط، حينئذ يواجهنا البحث عن الأصول المجسدة للمبدأ المذكور.

إن علم النفس الأرضي يقدم (وجهات نظر) متنوعة في هذا الصدد: تتفاوت من باحث لآخر دون أن يرسو على مرفأ محدد في تبيين الأصول وتصنيفها.

ويجيء الأصل القائل بأن (الغريزة) المجسدة لمبدأ اللذة، واحداً من النظريات التي تحاول أن تفسر العمليات النفسية في ضوئها. وتقول هذه النظرية: إن الكائن الآدمي يصدر عن مجموعة من (الغرائز) تدفعه إلى الحركة والنشاط، ومثلها غريزة البحث عن الطعام، غريزة الاجتماع، غريزة القتال... الخ.

هذه (الغرائز) قد تكون ذات (أصل حيوي) كالطعام، والجنس، والنوم، ونحوها. وقد تكون ذات (أصل نفسي) كالانتماء الاجتماعي، والمقاتلة، والخنوع، وسواها.

وفي الحالتين فإن هذه (الغرائز) تشكل إرثاً فطرياً يحمل الآدميين على التحرك من خلالها.

وقد وضع أحد ممثلي هذا الاتجاه وهو (مكدوكل) قبال كل (غريزة) استجابة (انفعالية) خاصة بها، فغريزة البحث عن الطعام/ انفعالها/ الجوع.

وغريزة الاجتماع/ انفعالها/ الوحدة.

وغريزة المقاتلة/ انفعالها/ الغضب الخ.

وقد جوبهت هذه النظرية بردود شتى... وفي مقدمتها: الرد الذاهب إلى أن جملة من الغرائز التي أدرجها (مكدوكل) في قائمته (القائمة تحتوي على (17 غريزة)، لا تحمل (أصلاً حيوياً) بل هي وليدة (الاكتساب): فغريزة (المقاتلة) ـ على سبيل المثال ـ لا يمكن درجها تحت عنوان (الغرائز) لأن الغريزة تعني أن الإنسان مفطور على أن يقاتل أي: أنه يرث جهازاً فطرياً يحمله على المقاتلة. في حين أن النزعة المقاتلة أو النزعة المضادة لها (المسألة) إنما تحددها (البيئة) لا الوراثة.

وقد عزز هذا الاتجاه وجهة نظره بالدراسات التي أجراها علماء الأقوام على شعوب وقبائل متخلفة أثبتت فيها ـ هذه الدراسات ـ أن المقاتلة والسيطرة والتملك وغيرها من (الأصول النفسية) منعدمة لدى القبائل المذكورة: فهي تتسالم بدلاً من المقاتلة، وتسحق ذاتها بدلاً من حب السيطرة، وتتنازل عن ممتلكاتها بدلاً من حب التملك. وهذا كله يعني أن (الأصول النفسية) تحددها البيئة، لا أنها (غرائز) يرثها الكائن الآدمي.

والحق أن كلا من نظرية (الغرائز)، والنظرية المضادة لها، تقع في خطأ مماثل: حينما تخلط الأولى بين نمطين من الغرائز، وحينما تنفي الثانية الأصل الغريزي أساساً.

إن وجهة النظر الإسلامية، تحسم الموقف بوضوح حينما تضع فارقاً بين الأصل البيولوجي والأصل النفسي من جانب، وحينما تحدد أساساً فطرياً عاماً لكل الأصول: بيولوجية كانت أم نفسية من جانب آخر.

وقبل أن نعرض لوجهة النظر الإسلامية يحسن بنا أن نقف أولاً على الخطأ الذي قامت عليه نظرية (الغرائز)، والنظرية المضادة لها أيضاً.

أما الخطأ الذي غلف نظرية (الغرائز) فيتمثل في ان هذه النظرية لم تصطنع فارقاً بين "الأصل الحيوي" كالبحث عن الطعام، وبين "الأصل النفسي" كالمقاتلة والسيطرة والتملك وغيرها. لقد اخضعت هذين الأصلين لنمط واحد من (الغرائز)، في حين أن أحدهما مختلف عن الآخر تماماً. فنحن حينما (نجوع) مثلاً، فإن التقلص العضلي للمعدة لا يمكن أن يزاح إلا بتناول الطعام. وهذا يعني أن الأصل الحيوي، نرثه فطرياً، ولا مجال لتعديله. بيد أننا حينما نحس بالرغبة إلى المقاتلة أو التملك أو غيرهما، فإن هذه الرغبة من الممكن أن (تعدل) وتحور إلى رغبة مضادة هي: المسألة، والزهد بمتاع الحياة، وهكذا. وهذا يعني أن (الأصل النفسي) لا نرثه فطرياً بل تتكفل البيئة بتحديده.

ولكن هل يعني ذلك أن (الأصول النفسية) لا تخضع البتة لأي جهاز فطري؟؟

طبيعي، لا: كل ما في الأمر، إن الجهاز الفطري "للأصول النفسية" متميز عن الجهاز الفطري "للأصول البيولوجية". إن الفارق بينهما هو: أن الأصل البيولوجي موروث بـ(الفعل) والأصل النفسي موروث بـ(القوة)، ومعنى (الفعل): أننا نرث جهازاً عضلياً للمعدة يتقلص بالضرورة في حالة "الجوع" مثلاً.

أما (القوة) فتعني أننا نمتلك (قابلية موروثة) لأن نصبح ذات يوم (مسالمين) أو نصبح ذات يوم (اعتدائيين). إن (القابلية) ذاتها تشكل إرثاً فطرياً. أما تحقيقها في فعل عدواني أو فعل مسالم فأمر خاضع للمحيط أي للتنشئة الاجتماعية التي نخضع لها.

ومن هنا، فإن تسمية (العدوان) بـ(غريزة) تظل تسمية خاطئة، لأن (العدوان) أو (المسالمة) لا نولد مزودين بهما، بل إننا نولد مزودين بـ(قابلية) على العدوان أو المسالمة. هذا هو الخطأ الأسى الذي انطوت عليه نظرية الغرائز حينما أخضع صاحبها كلاً من الأصل البيولوجي والأصل النفسي لنمط واحد من الميراث الفطري، في حين أو أولهما موروث بـ(الفعل)، والآخر موروث بـ(القوة).

أما الخطأ الذي غلف النظرية المضادة للغريزة، فيتمثل في غفلتها عن الفارق بين نمطي الغريزة: فقد خيل إليها إن "العدوان أو المسالمة" فعلان (مكتسبان) دون أن يكون لهما أساس فطري هو (القابلية) أو (القوة) أو (الكمون).

طبيعي لا يعني ذلك أننا نرث جهازاً فطرياً بـ(القوة)، وإن هذا الجهاز يضطرنا إلى أن (نعتدي) أو يضطرنا إلى أن (نسالم) مثلاً، بل يعني أن عملية العدوان أو المسالمة خاضعة لـ(اختيارنا): وإننا لو لم نمتلك أساساً فطرياً لهما لما تسنى لنا (من خلال التنشئة الاجتماعية) أن نصدر عن أحدهما أو كليهما.

في ضوء هذه الحقيقة نخلص إلى أن الأصول النفسية والأصول البيولوجية، تخضعان جميعاً إلى (إرث فطري)، أو (غريزي): إلا أن أولهما يجسد إرثاً (فعلياً)، والآخر يجسد إرثاً بـ(القوة).

بيد أن المشكلة لم تكن ـ في حقيقة الأمر ـ قائمة على تميز الفارق بين الأصل البيولوجي والأصل النفسي، إذ إن الفارق بينهما من الوضوح بمكان كبير بل إن المشكلة قائمة على تحديد "الأصل الرئيس" المحرك للسلوك البشري.

إن الأبحاث الأرضية يلفه.ا الخطأ من جديد حينما تحدد أصول الطبيعة البشرية من خلال مجموعة من (الغرائز) الحيوية والنفسية، دون أن تنتبه إلى أن تصنيف الطبيعة البشرية إلى الغرائز المتنوعة، إنما يمثل مرحلة تالية، يتعين أن يسبقها تصنيف أساسي عام، أي: ينبغي أن نحدد أصلاً عاماً للطبيعة البشرية أولاً، ثم نتجه إلى مفردات هذا (الأصل) ونصنفه إلى ما هو بيولوجي أو ما هو نفسي. فما هو هذا (الأصل العام) للسلوك؟ إن (مكدوكل) نفسه حينما يتحدث عن (الغريزة) يحددها وفق فعاليات ثلاث: "الإدراك" للشيء و(الانفعال) به، ثم (النزوع) نحو تحقيقه.

ومما لاشك فيه، أن (الإدراك) سابق على أية فعالية أخرى. ثم تتبعها فعالية ثانية هي: (الانفعال) بالشيء... ويجيء بعد ذلك (النزوع) نحو تحقيق الشيء وهذا يعني أنّ (الغريزة) جاءت مرحلة ثالثة من سلسلة العمليات النفسية. إلا أن ما نحاول لفت الانتباه إليه هو: إننا ينبغي أن نتحدث أولاً عن مرحلتي (الإدراك) و(الانفعال)، ونجعل منهما أساساً (نفسياً) سابقاً على أية (غرائز) يصنفها هذا الباحث أو ذاك.

وعليه يتعين الحديث عن صياغة أية نظرية عن (الغرائز) المحركة للسلوك البشري، أن نتجه إلى (أصل نفسي) عام للسلوك. ثم نتقدم إلى مفردات السلوك الغريزي: سواء أكانت هذه المفردات تخص حاجة بيولوجية أو حاجة نفسية. بيد أن الوقوف على (الأصل النفسي) لا يزال يشكل نصف الطريق في صوغ أية نظرية عن (الغريزة). أما النصف الآخر، فيتمثل في الطبيعة (الثنائية) للأصل النفسي المذكور.

ان أشد العيوب بروزاً في نظرية (الغرائز) هو: اهمالها أولاً الأصل النفسي للغرائز، واهمالها ثانياً للطبيعة الثنائية في الأصل المذكور.

والآن حين نتجه إلى التصور الإسلامي، نجده يحدثنا عن (الأصل النفسي) وطبيعته (الثنائية) فيما يشكل هذا الأصل: المحرك الأول لكل نشاط بشري.

يقول الإمام علي (ع):

"إن الله ركب في الملائكة عقلاً بلا شهوة. وركب في البهائم شهوة بلا عقل. وركب في بني آدم كليهما. فمن غلب عقلهُ شهوته فهو خير من الملائكة. ومن غلبت شهوته عقله: فهو شر من البهائم".[1]

ويعنينا من هذا النص أن نشير إلى (الأصل النفسي) للطبيعة البشرية، وإلى (ثنائية) هذا الأصل.

ونحن لا يمكننا أن ندرك دلالة مبدأ (البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم) ـ وهو مبدأ سبق ان قلنا أنه يشكل بديهة مألوفة حيث تقف وراء المبدأ المذكور كل أنماط النشاط الإنساني...

أقول: إن المبدأ المذكور لا يمكننا تصور دلالته إلا في ضوء (أساسية) الأصل النفسي وثنائيته على النحو الذي أشار الإمام علي (ع) إليه.

إن البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم: تحكمه عدة عناصر:

أ ـ الإدراك.

ب ـ الاحساس بالتوتر.

ج ـ السعي إلى إزاحته.

ومن البين أن هذه العناصر جميعاً، تظل ذات (طابع نفسي)، بيد أن الأشد أهمية من ذلك كله أن المبدأ المذكور يحمل (طابعاً ثنائياً) لمفهوم الغريزة، يتمثل في وجود طرفين يتجاذبان الكائن الآدمي في بحثه عن اللذة واجتنابه عن الألم: هما "الشهوة والعقل"، أو لنقل: "الذات والموضوع"، هذا التركيب الثنائي يرثه الفرد فطرياً، أي: إنه يشكل أساساً (غريزياً) للطبيعة البشرية عامة. هذا الميراث الفطري (من حيث البعد النفسي) يواكبه ميراث فطري آخر (من حيث البعد الإدراكي) هو: (الوعي) بمبادئ الشهوة والعقل. تقول الآية الكريمة:

(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها).

إن إلهام الفجور والتقوى، يعني: الإدراك لمبادئ الشهوة والعقل. وإذن: كل من العنصر (الإدراكي) و(الوجداني) من الشخصية، قد صيغا وفق تركيب ثنائي قائم على وجود طرفين يتجاذبان الكائن الآدمي في بحثه عن اللذة والاجتناب من الألم. ولكي ندرك سر التركيبة الثنائية، يحسن بنا أن نعود إلى مثال: البحث عن الطعام.

إن حدوث حالة (الجوع) تترك (توتراً) في النفس. والتوتر يعني وجود (الألم). وحسب مبدأ (الاجتناب عن الألم) يبدأ الجائع بالبحث عن الطعام بغية إزاحة التقلص العضلي للمعدة: أي "الألم"، ثم الظفر باللذة وهي تحقيق الشبع. إن وجود "التوتر" يقتاد بالضرورة إلى الإصطراع مع طرف آخر هو: إزاحة التوتر: أي: مادام ثمة (توتر)، فإننا بحاجة فطرية إلى مجاهدته وإزاحته بغية تحقيق الاشباع: ومادمنا بالضرورة نبحث عن اللذة: فإن البحث عن الإشباع لا مناص من أن يزيح العقبات من أمامه. ولنتجه الآن إلى مثال عن الحاجات النفسية. في حالة الإساءة إلينا: فإن ثمة (توتراً) سيحدث في أعماقنا. وحسب مبدأ (البحث عن اللذة) فإن إزاحة التوتر وتحقيق الإشباع يتطلب منا واحداً من الاستجابات التالية:

1 ـ أن نصفح عن الإساءة.

2 ـ أن نردها.

3 ـ أن نحسن إلى صاحبها.

وكل هذه الاستجابات الثلاث تنطوي على طرفين من الصراع: فالرد على الاساءة بمثلها: تجسد محاولة لازاحة الاهانة والظفر بـ"لذة" الانتقام. والعفو والاحسان، فإنهما يجسدان محاولة لتحقيق التوازن الداخلي: أي البحث عن (لذة) الهدوء النفسي، وإزاحة (الألم) الذي يتركه الرد على الإساءة. وطرفا (الصراع) هنا هما (جهاز القيم) لدى الشخصية: حيث تختار مبدأ (السلامة) النفسية، أو (الاثابة) في مواجهتها لازاحة (الألم).

وإذن: ثمة تركيبة ثنائية تشكل الأصل النفسي الرئيس للطبيعة البشرية: يستوي في ذلك أن تظل الطبيعة المذكورة متصلة بالحاجات البيولوجية أو النفسية. وفيما ينبغي ان يسبقه البحث أولاً عن (الأصل النفسي) للطبيعة الإنسانية، وأن يتم البحث عن الأصل المذكور من خلال (ثنائية) الطبيعة. ثم تجيء بعد ذلك، مرحلة البحث عن تصنيف الغرائز إلى ما هو بيولوجي وما هو نفسي منها ولقد حاول مُناهضوا نظرية (الغرائز) أن يتلافوا بعض مفارقاتها، إلا أنهم لم يمسوا جوهرة النظرية بسوء، بل لامسوا سطحها فحسب، وكان نقدهم منصباً على ما هو (بيولوجي) منها وما هو نفسي من الغرائز حيث نفوا مصطلح (الغريزة) عن الأصول النفسية واقترحوا تبعاً لذلك ابدال المصطلح بآخر، دون أن يلتفتوا إلى أن الحاجات النفسية بدورها خاضعة إلى (الغريزة) أيضاً ولكن من حيث كونها (استعداداً) لا من حيث (فعلاً).

وواضح ان هذا النقد تجاهل بدوره المرحلتين اللتين تسبقان نظرية (الغرائز) فلم يشر إلى (الأصل النفسي) العام، ولا إلى (ثنائية) الغريزة. وتبعاً لذلك. فإن النظريات المتأخرة التي اقترحت تقديم مصطلح (الدافع) أو (الحاجة) أو (الباعث) بدلاً من "الغريزة" لم تغير من الواقع شيئاً بقدر ما حاولت تصنيفها إلى مجموعات متميزة... فهناك من الباحثين من يصنفها إلى حاجات: بيولوجية، نفسية، اجتماعية، ... أو يصنفها إلى أربع: بيولوجية ـ عاطفية، جمالية، فعالية... أو يصنفها إلى خمس: الحاجة الضرورية، الحاجة إلى الأمن، الحاجة إلى التقدير، الحاجة الاجتماعية، الحاجة إلى النجاح، أو الاحراز... والجدير بالذكر أن هذا التصنيف الأخير للدوافع (تصنيف ماسلو) ظفر بقبول ملحوظ عند الباحثين المعاصرين. والمهم ان أمثلة هذا التصنيف، اما أن تعالج منفصلة عن أساسها النفسي، وثنائيته، السابقتين على مرحلة التصنيف، وإما أن تغفلها أساساً.

خارجاً عما تقدم، لا يعني هذا إن علم النفس الأرضي قد أهمل البحث عن الأساس النفسي وثنائيته، بل على العكس من ذلك قد افاض في الحديث عنهما افاضة ملحوظة حتى طغت على سائر موضوعات علم النفس.

إن ما نعتزم الإشارة إليه هو: أن نظرية (الغرائز) التقليدية قد أغفلت هذا الجانب. كما أن التصنيف (الدافعي) الحديث عالجها إما منفصلة عن أساسها النفسي وثنائيته، أو عالجها مشوشة لا تحمل وضوح التصور الإسلامي للظاهرة، أو عالجها بنحو خاطئ منعزل عن (الفهم العبادي) لها، أو أغفلها أساساً. ان ما ينبغي أن نبدأ الحديث عنه هو: الأساس النفسي للطبيعة البشرية متمثلاً في (ثنائية الأصل) المذكور، ثم نتجه بعد ذلك إلى تصنيفه وتنظيمه. ونحن بعد أن أوضحنا سر (الثنائية) المذكورة، في ذهابنا إلى ان (البحث عن اللذة واجتناب الألم) يستتلى بالضرورة وجود (توتر)، ثم (إزاحته) أي: وجود طرفي صراع، فحينئذٍ يظل النشاط قائماً على الطرفين المذكورين: وإلى أن دراسة (الكيفية) التي يتم من خلالها عمل (الجهاز) المذكور، هو ما ينبغي أن نقف عنده الآن في ضوء التصور الإسلامي للظاهرة.

إن كلاً من (الشهوة والعقل) ـ في التحديد الذي قدمه الإمام علي (ع) للطبيعة البشرية ـ يجسدان أصلاً رئيساً لكل أوجه النشاط، أي: (محركاً) أساساً للسلوك. ومعنى (محرك): إن كلاً منهما (يبحث عن اللذة ويجتنب الألم)، إلا أن ثمة فارقاً أساسياً بين (الشهوة)، و(العقل)، هو: ان (الشهوة) (تبحث عن الاشباع المطلق) دون أن تخضعه للمبادئ أو الضوابط المقررة. أما (العقل) فهو بدوره يبحث عن الاشباع إلا أنه يقيده بالمبادئ أو الضوابط المقررة. مثال ذلك الحاجة إلى الجنس أو الحاجة إلى التملك. فالكائن الآدمي يتجاذبه طرفان: (الشهوة) و(العقل): الطرف الأول: ينشد الاشباع بطرق غير مشروعة. أما الطرف الآخر: فينشده من خلال (الزواج). والأمر ذاته فيما يتصل بالحاجة إلى التملك، فالطرف الأول يحققه من خلال (السرقة) مثلاً. أما الطرف الآخر: فيحققه من خلال التعاقد المشروع (عملية الشراء والبيع).

إذن كل من طرفي التجاذب (يحركان) الكائن الآدمي، يتسم بطابع (البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم): لا أن أحدهما باحث عن (الاشباع) والآخر (كابح) له. والإمام علي (ع) ذاته يحدثنا في نص آخر عن طرفي التجاذب المذكورين موازناً بينهما على النحو التالي:

(الخطايا، (وهي: "الشهوة") خيل شمس حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها) ويقول عن الطرف الآخر من التجاذب: (العقل): (التقوى: مطايا ذلل حمل عليها أهلها واعطوا أزمتها) وواضح، من هذا النص ان (اعطاء الزمام) يعني: الاقتدار على مواصلة السير، مشفوعاً باللذة التي تصاحب الراكب وهو يتنكب الطرق المحفوفة بالخطر: كل ما في الأمر أن (اللذة) المذكورة مصحوبة بعملية (التأجيل) بغية الظفر بلذة أشد امتاعاً وهو أمر يتطلب بصيرة نافذة.

إن المريض ـ على سبيل المثال ـ حينما يمتنع عن الذهاب إلى الطبيب، إنما يبحث عن "لذة" هي: عدم تجشم مشقة الذهاب، (وهذا هو الجانب (الشهوي) من اللذة). أما حينما يقرر الذهاب إلى الطبيب (بالرغم من المشقة التي تصاحب الذهاب فإنه (يؤجل) لذة عاجلة بغية الظفر بـ(لذة) أشد امتاعاً من الأولى وهي: الأولى: الصحة التي يكسبها لأمد طويل... فهو بعملية (التأجيل) ينطلق بدوره من مبدأ (البحث عن اللذة واجتناب الألم): حيث تطلب الموقف بصيرة نافذة في معالجته: فيما وازن بين إيثار لذة عاجلة (عدم المشقة)، وإيثار لذة آجلة (الصحة).

وقد ألقى النبي (ص) انارة تامة على هذه الظاهرة، حينما أوضح أن التدريب على الجانب العقلي من اللذة، يستتبع النفور من الجانب "الشهوي" للذة: حيث قرر (ص) انه يتشعب: (من المداومة على الخير كراهية الشر).[2] إن هذا النص الخطير يفصح عن قاعدة لا تزال غائبة عن علم النفس الأرضي فيما يتصل بالجانب (العقلي) من "اللذة". ألا وهي: إمكانية النفور من الجانب الشهوي للذة، في حالة التدريب على تأجيل ما هو ملح وعاجل وهذا يعني أن طرفي التجاذب في الطبيعة البشرية، لا يتحدد في إلحاح الجانب الشهوي، واحتفاظه بالطاقة الأشد قوة حيال الجانب (العقلي): بل ان الجانب العقلي من الممكن أن يأخذ زمام المبادرة، محتفظاً بطاقته الأشد قوة حيال الطرف الآخر: إذ اتيح للكائن الآدمي أن يمارس عمليات التدريب على ذلك.

من هنا يمكننا أن ندرك الفارق بين علم النفس الأرضي، وبين التصور الإسلامي للظاهرة المذكورة.

إن الاتجاهات الأرضية تقع في مفارقة علمية ضخمة، حينما تصور طرفي التجاذب في الطبيعة الإنسانية، وكأنهما قائمان أولاً: على طرف باحث عن اللذة، والآخر: كابح لها، وثانياً: على أن الطرف الباحث عن اللذة أشد فاعلية من الطرف الكابح لها حتى في حالات المقاومة الناجحة. ولعل نظرية (فرويد) في أبنية الشخصية، تجسد قمة المفارقة المذكورة في هذا الصدد. ومناقشتنا لهذه النظرية، تنصب على الملاحظتين المذكورتين، مضافاً إلى ما يواكب هاتين الملاحظتين من تقسيمه المعروف للأبنية الفرعية الثلاث: الهو، الأنا، الأنا الأعلى.

لقد قسم (فرويد): الشخصية إلى أبنية ثلاثة هي: (الهو) (الأنا) و(الأنا الأعلى). أما (الهو) فيمثل ما اصطلح عليه الإمام علي (ع) بـ(الشهوة)، ولكن مع ملاحظة الفارق بين المصطلحين، كما سنوضح لاحقاً فـ(الهو) يجسد مجموعة (الغرائز) التي تبحث عن الاشباع المطلق دون أن تتقيد بالمبادئ أو الضوابط المقررة.

أما (الأنا) فيمثل ـ في جانب منه فحسب ـ ما اصطلح عليه الإمام علي (ع) بـ(العقل): ومهمة أن يكبح غرائز (الهو) في ضوء (مبدأ الواقع)، أي أنه ينظم طرائق الاشباع وفق متطلبات (الواقع)، بما تكتنفه من معايير وضوابط. إلا أن المهمة المذكورة جزء من مهمة أخرى تتعامل من خلالها مع عنصر آخر هو (الأنا الأعلى): حيث تحاول أن توفق بين مطالب هذا الأخير أيضاً، وبين مطالب (الهو) و(الواقع). إن (الأنا الأعلى) يمثل (جهاز القيم) الخاصة عند الشخصية، وسنتحدث مفصلاً عن (الجهاز) المذكور. بيد أننا الآن نعتزم الاشارة فحسب إلى فاعلية الأبنية الثلاثة، من حيث صلتها واحداً بالآخر، ومن حيث موقعها من (الأصل الثنائي) الذي حدثنا الإمام علي (ع) عنه. ولكي يتضح الأمر بجلاء يحسن بنا أن نقدم مثالاً لعمل الأبنية الثلاثة: "الهو"، "الأنا"، و"الأنا الأعلى".

إذا افترضنا أن شخصاً ما واجهه (مثير جنسي): فإن (الهو) يستحثه لتحقيق الاشباع بأي ثمن كان، ولكن بما أن الشخص المذكور يمتلك (جهازاً قيمياً) خاصاً، فإن هذا "الجهاز" يمنعه من تحقيق الاشباع المطلق. مضافاً إلى ذلك: فإن النظام الاجتماعي بما تكتنفه من قواعد وآداب عامة، يمنعه أيضاً من تحقيق الاشباع: حتى لو كان منسجماً مع جهازه القيمي الخاص. وإذن: مهمة (الأنا) تتجسد في محاولات التوفيق بين ثلاثة مطالب: (الهو) (الأنا الأعلى) (الواقع).

ولنبدأ الآن مع (المطالب) التي ينشدها كل من (الهو) و(الأنا الأعلى) و(الواقع): وتحديد مهمة (الأنا) منها: أما (الهو) بصفته مجسداً للغرائز: فلا كلام لنا فيه الآن ونحن نعتزم أن نحدد علاقته بـ(مبدأ الواقع)، والطريقة التي يسلكها (الأنا) في تعامله مع (مبدأ الواقع) المذكور. أن أهم نقد يمكن أن يوجه لمبدأ (الواقع) هو: إن المبدأ المذكور يظل نمطاً من (الإكراه)، لا انه نابع من (داخل الشخصية)، أي، لم يكن تعبيراً عن الطرف الآخر من التجاذب في الطبيعة البشرية. فلقد لحظنا كيف أن الإمام عليا (ع) أوضح أن كلا من (الشهوة)، و(العقل) يمثلان بحثاً عن اللذة واجتناب الألم. ولحظنا كيف أن النبي (ص) أوضح أن (البحث عن اللذة العقلية) تجسد طرفاً يتمتع بطاقة قد تصبح أشد فاعلية من الطاقة التي تحملها (اللذة الشهوية) في حالة التدريب. في حين أن نظرية (فرويد) عندما تفترض أن (الأنا) يضطلع بمهمة الضبط لغرائز (الهو): من خلال (مبدأ الواقع)، فإن عملية الضبط المذكورة إنما تمثل (كبحاً) خارجياً: أي كبحاً لا يستند إلى (بحث عن لذة): لها أساسها الفطري (وهو اللذة العقلية)، بل يستند إلى عامل خارجي مفروض على الشخصية.

ومن هنا، يشبه صاحب النظرية المذكورة، يشبه (الأنا) بالفارس على ظهر الحصان: إلا أن الفارس يبقى مكرهاً كما يقول فرويد نفسه على أن يوجه الحصان الوجهة التي ينشدها الحصان نفسه لا الفارس.

وكم هو الفارق بين التصور الإسلامي الذي قدم صورة تشبيهية عن الفارس وحصانه حينما أوضح أن الحصان أو المطية تتسم بكونها ذلولاً حمل عليها الفارس وأعطي زمامها، أي أن الزمام بيد الفارس يوجه به حصانه،... في حين ان (فرويد) قدم تشبيهاً مضاداً هو: أن الحصان يوجه الفارس.

إن خطورة هذه النظرية تكمن: في انطوائه على نكسة علمية وأخلاقية تدع الكائن الآدمي نهباً لغرائز (الهو) توجهه حيث تشاء بالرغم من محاولاته الدائبة على الخلاص منها حتى أن صاحب النظرية نفسه أقر بأن الكائن الآدمي محكوم عليه بـ(الخسار) في صراعه المرير مع الحياة.

إن هذه الوجهة من النظر التشاؤمية، تقف قبالها: وجهة النظر الإسلامية التي ترى إلى أن التدريب على كبح غرائز (الهو) يقتاد إلى (النفور) منها (كما حدثنا النبي (ص) بذلك)، وليس إلى الوقوع في صراع خاسر معها.

إن السر في وجهة النظر التشاؤمية المذكورة، كامن وراء جهل صاحب النظرية بطبيعة التركيب الثنائي للطبيعة البشرية وهو تركيب قائم على ملاحظة أن كلا من طرفي الصراع أو التجاذب (الشهوة والعقل) أو (الهو ومبادئ الكبح لها) ينتميان إلى مبدأ واحد هو ان "الهو" لوحده مصدر للذة، إن مبادئ كبحه مفروضة من (الخارج).

إن مبادئ الكبح نفسها تستند إلى الأصل الغريزي الباحث عن اللذة، حتى أنها تستطيع أن تحول الشخصية إلى كائن (ينفر) كما قال النبي (ص) من غرائز (الهو) أو (الشهوة).

إننا نشدد على ضرورة فهم هذا التركيب الثنائي للطبيعة البشرية واستناد طرفيه (الشهوة والعقل) إلى أصل غريزي واحد هو (البحث عن اللذة واجتناب الألم)، وإلى أن الجانب (العقلي) بمقدوره أن يكسب المعركة لصالحه، على العكس تماماً من التصورات الأرضية التي ألحت على الجانب (الشهوي) فحسب: وفي مقدمتها نظرية (فرويد).

على أن تجاهل (اللذة العقلية) في نظرية (فرويد)، لا يعني غياب فعاليتها في الطبيعة البشرية بقدر ما يساهم هذا (التجاهل) في تقليل فرص الخلاص من الألم.

إن التدليل على الفعالية الذكورة، يمكننا أن نستخلصه من طبيعة النشاط الذي حدثنا الباحث المذكور عنه، ونعني به: محاولة (الأنا) التوفيق بين مطالب (الهو) و(مبدأ الواقع). فلماذا تحاول (الأنا) إرضاء (الواقع) بالدرجة ذاتها من محاولة إرضاء (الهو). فلو لم تكن ثمة (متعة عقلية) يصدر الكائن الآدمي عنها: لما كان ثمة مسوغ لإرضاء (الواقع).

لاشك أن الكائن الآدمي عندما يحاول ترضية (الواقع) فلأنه يصدر عن مبدأ (الثواب والعقاب) الاجتماعيين، أي: يخشى معاقبة المجتمع ويتطلع إلى ثوابه بغية أن يظفر بالتقدير الاجتماعي الذي يشكل واحداً من حاجات الشخصية (كما سنرى لاحقاً).

ومن هنا فإن الالتزام بمبدأ (الواقع) يحقق نمطين من اللذة أحدهما: اجتناب (الألم) الناجم من معاقبة المجتمع، والآخر تحقيق اللذة الناجمة من (التقدير الاجتماعي).

وتحقيق أمثلة هذه اللذة لم يكن ليتيسر، لولا طبيعة التركيب الثنائي الذي أشار المشرع الإسلامي إليه، بحيث تجسد المتعة العقلية أحد طرفيه، أي: أنها تستند إلى (أصل فطري). موازن للأصل الفطري لغرائز (الهو).

خارجاً عما تقدم يعنينا الآن أن نتابع مفارقات الباحث المذكور في تفسيره لفعالية (الأنا الأعلى) بعدما انتهينا من مناقشة (مبدأ الواقع). ومما لا مراء فيه أن كلا من (مبدأ الواقع) و(الأنا الأعلى) يمثلان عمليات (الكبح) أو (المقارنة) لغرائز (الهو) في نظرية (فرويد) كما لاحظنا.

و(الأنا) هي الأداة التي تضطلع بمهمة التوفيق بين عمليات (المقاومة) و(غرائز الهو). أي أنها أداة (تمييز) وهذه الاداة الفطرية التي ركبتها السماء في الكائن الآدمي تبعاً لقوله تعالى (فألهمها فجورها وتقواها)، إنما تستمد مبادئ (التمييز) (عبر التصور الإسلامي) من مجموعة أوامر السماء ونواهيها.

وأما لدى الأرضيين فإنها مستمدة من مجموعة القوانين والأعراف والعادات الاجتماعية التي تنسجها كل ثقافة لنفسها.

وتبعاً لذلك، فإن (الأنا) نشأت (حسب وجهة نظر فرويد ذاته) من تجارب الواقع الاجتماعي مستمدة منه مبادئ التوفيق بين مطالب (الهو) ومطالب (الواقع) ولقد لحظنا أن (مبدأ الواقع) يشكل الالتزام به أساساً فطرياً قائماً على البحث عن (اللذة العقلية أو الموضوعية)، في حين تخيله الباحث المذكور واقعاً "مفروضاً" على الشخصية، لا أنه تعبير عن اللذة الموضوعية.

وحين نتجه إلى "الأنا الأعلى" نجده بدوره "مفروضاً" على الشخصية لا أنه يمثل أصلاً غريزياً قائماً على البحث الموضوعي عن اللذة، مما يترتب معه أيضاً انتصار غرائز (الهو). في نهاية المطاف.

وبالرغم من أن "فرويد" يحاول أن يضع للأنا الأعلى أصلاً فطرياً، إلا أن هذا الأصل نفسه يصوره الباحث المذكور وكأنه قائم على الاكراه، أيضاً، لا أنه أصل يوازن الأصل الباحث عن اللذة التي تطبع مطالب (الهو).

ويمكننا أن نتعرف على هذه الحقيقة إذا حاولنا أن نقف على طبيعة التفسير الذي يقدمه (فرويد) عن نشأة العقل الإنساني وتطوره. فانسان "ما قبل التاريخ" لم يكن ليصدر إلا عن تركيبة بسيطة قائمة على غرائز (الهو): يشبعها حيث يشاء، حيث لم تكن ثمة مبادئ أو ضوابط مقررة. كان أشبه بالحيوان في افتراسه للآدميين، وفي اشباع حاجاته الأساسية. لقد كان متمثلاً في أب متوحش يستأثر بالاناث ويطرد ابناءه وفي ذات يوم قرر الأبناء المطرودون أن يقتلوا اباهم ويلتهموه، حتى يضعوا حد الاستئثار المذكور.

ولكي لا تتكرر المأساة ثانية بدأت أولى المحاولات في انكار غرائز (الهو) وتحريمها، وفي مقدمتها: الانكار لغشيان المحارم.

من هذا المنعطف بالذات بدأ نشوء (الأنا الأعلى) أو (الجهاز القيمي الخاص بالفرد). فعملية القتل استتلت أول احساس بالذنب، وانكار الغرائز استتلى أولى عمليات (الكبت). ثم توالت عمليات الانكار للغرائز حتى أصبحت بمرور الزمن ميراثاً فطرياً يمد (الأنا الأعلى) بجهاز قيمي خاص يرثه النوع بأكمله. طبيعي: هناك شطر من (الأنا الأعلى) تحدده التنشئة، كما سنعرض لذلك لاحقاً، بيد أنه لا يهمنا الآن أن نتابع هذا التفسير الاسطوري لنشأة (الأنا الأعلى) (ولنا عودة إليه)، بقدر ما يهمنا أن نشير فحسب إلى ظاهره (الاحساس بالذنب) وظاهرة (انكار الغرائز).

وهنا نطرح ذات السؤال الذي طرحناه عند حديثنا عن (مبدأ الواقع)، فنتساءل لماذا صدر (إنسان ما قبل التاريخ) عن (الاحساس بالذنب) ولماذا أنكر غرائزه؟؟. ألم يكن "الاحساس بالذنب" تعبيراً عن (أصل فطري) مضاد لغرائز (الهو) أو بالأحرى: ألم يكن الاحساس بالذنب جزءً من التركيبة الثنائية للكائن الآدمي فيما تتجاذبه الشهوة والعقل أو الذات والموضوع بحيث يجسد الإحساس بالذنب تعبيراً عن اللذة العقلية أو اللذة الموضوعية التي تنكر العدوان وتجد في المسالمة لذة عقلية.

إن (المسالمة) لو لم تقترن بلذة عقلية لما كان للاحساس بالذنب أي مسوغ على الاطلاق، بل كان من الممكن أن تمضي جريمة قتل الأب (حسب منطق الاسطورة) بدون أن يرافقها أي ندم.

ثم: لماذا أنكر المجتمع البدائي بعد عملية القتل غرائزه؟؟ ألم يكن هذا الانكار تعبيراً عن لذة عقلية يحكمها مبدأ (الثواب والعقاب الاجتماعيين) مادام الانكار المذكور يشكل ثمن التقدم الحضاري: وإلا كان من الممكن أن لا يتم انكار الغرائز لو لم يكن الانكار نفسه مستنداً إلى لذة عقلية تتحسسها الذات حتى لو كانت بمنأى عن الثواب الاجتماعي، بل لمجرد قناعتها بالفائدة الاجتماعية للانكار المذكور.

على أننا لو أنكرنا فطرية اللذة لما أمكننا أن نفسر في النهاية أي نشاط بشري لا يفوح برائحة الذات وغرائزها (الهو)، وهو أمر لا نتردد في امكان حدوثه من خلال التجارب المألوفة. على أي حال، يعنينا مما تقدم أن نشير إلى أن نشأة (الأنا الأعلى) حتى في افتراض صحة هذا التفسير الاسطوري له، يظل افصاحاً عن (لذة عقلية) تحمل صاحبها على الصدور عنها لا أنها (مفروضة) من خارج (الشخصية)، بل انها نابعة من داخل الشخصية بحيث تتوازن مع (غرائز "الهو") في استناد كليهما إلى أصل غريزي واحد هو: (البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم)، وفق التحديد الذي توفر المشرع الإسلامي عليه.

خلاصة القول: ثمة: (أصل رئيس) محرك للطبيعة البشرية، يقف وراء نشاط الكائن الآدمي بأكمله متمثلاً في المبدأ المعروف، مبدأ (البحث عن اللذة، واجتناب الألم). هذا المبدأ يجسد في التصور الإسلامي ـ أصلاً (نفسياً) قائماً على (طبيعة ثنائية) يتجاذب طرفاها الكائن الآدمي في بحثه عن اللذة. وطرفا التجاذب هما (الشهوة والعقل) أو (الذات والموضوع): ويتمثل أولهما في البحث عن الاشباع المطلق، والآخر في الاشباع المقيد بالمبادئ والضوابط المقررة. ويوازن هذا الأصل النفسي، (أصل عقلي) قائم على قدرة (التمييز بين نمطي الاشباع المذكورين، "الهام الفجور والتقوى"). والأصل النفسي المذكور، مجسد بثنائيته طاقة متوازنة لا هيمنة لأحدهما على الآخر إلى من خلال الطريقة التي يختارها الكائن الآدمي في بحثه عن الاشباع.

وتمثل هذه (الطاقة) (أصلاً فطرياً) قائماً على سمة (قوة) أو (استعداد) أو (كمون)، قابل لأن يتحدد من خلال (البيئة) إلى (فعل) خاضع (لاختيار) الشخصية، لا أنه (أصل) يرثه الكائن الآدمي بـ(الفعل).

أما الوراثة بـ(الفعل)، فإنها تجيء ضمن مرحلة تالية للأصل النفسي المذكور وهو ما نبدأ بدراسته في الفصل اللاحق.  

الفصل الثاني

بين الوراثة والبيئة

  قلنا، ان ثمة (أصلاً نفسياً) عاماً، يرثه الكائن الآدمي من خلال ظاهرة (الاستعداد) أو (القابلية) أو (القوة).

وهذا الأصل هو المحرك لكل أوجه النشاط البشري: سواء أكانت متصلة بالجانب البيولوجي من الشخصية أم بالجانب النفسي منه.

ومن الحقائق المألوفة في هذا الميدان، ان (الأصول البيولوجية) كالجوع والعطش والجنس ونحوها تظل (أصولاً) نرثها من خلال (الفعل)، أي: إننا نولد مزودين بها "فعلاً" على نحو لا يمكننا أن لا نتناول طعاماً، أو لا نمارس عملية تنفس مثلاً،... بيد أن الأمر مختلف تماماً في ميدان (الأصول النفسية)، فنحن لا نولد مزودين بنزعة "عدوانية" مثلاً، أو بسمة نفسية كالبخل، أو سوء الأخلاق أو نحوها، بل نكتسب هذه السمات من خلال (التنشئة) الاجتماعية: كلما في الأمر، اننا نرث (قوة) أو (قابلية) على الاتسام بهذه الصفة أو تلك.

والأمر ذاته فيما يتصل بطرائق الاشباع لحاجاتنا البيولوجية، (لا أصل الحاجة نفسها: لأن الحاجة نفسها ـ كتناول الطعام ـ لا مناص من اشباعها)، كما قلنا. بيد أن طريقة ا لتناول ودرجة البحث عنها وتنظيمها تشكل (أصولاً نفسية) نكتسبها من خلال (التنشئة) أيضاً. ومع اقرارنا بمثل هذه الحقائق،... إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة التي تجعل (الأصل النفسي) وكأنه غير خاضع لأية وراثة حتى ولو كانت ضمن شروط أو ظروف خاصة.

إن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة من الوضوح بمكان كبير، كما تقدم، لكنه يقرر نمطاً من وراثة طارئة نحاول من خلال هذا الفصل أن نحدد مستوياتها.

أما البحوث الأرضية، فقد تفاوتت وجهات النظر لديها في هذا الصدد، فاتجه بعضها على القول بوراثة (الأصول النفسية)، واتجه آخر إلى انكارها، واتجه ثالث إلى التزاوج بينهما: مع ملاحظة أن بعض هذه الأصول (وبخاصة: الأصل العقلي) يكاد يتم اليقين بوراثتها إلا لدى نفر قليل، يلي ذلك: الأصل المتصل بـ(مزاج) الشخصية،... ثم الأصل المتصل بـ(سمات) الشخصية: ثم (الأصول الأخلاقية) في نهاية المطاف. وبعامة، فإن الاصطراع بين الوراثة والمحيط في الأصول النفسية يأخذ مستويات متنوعة لدى علماء النفس، ونحاول الآن الوقوف عند تلك المستويات ونبدؤها بـ:

  1 ـ الأصول العقلية

تظل (المهارات العقلية) موضع تسليم (إلى حد ما) من حيث صلتها بالوراثة، وخضوعها للبعد المذكور. ولا تجدنا بحاجة إلى التوكؤ على الدراسات والاختبارات والتجارب الأرضية المختلفة في هذا الصدد. بيد أن بعض الاتجاهات الأرضية تنفي هذا الطابع بنحو بالغ المدى. وفي مقدمتها: الاتجاه (الشرطي) في علم النفس: (مدرسة بافلوف والاتجاه النفسي المعاصر بعامة في الاتحاد السوفيتي). وقد قدم رواد هذا الاتجاه دراسات مختلفة عن المهارات العقلية، وأكدوا أنها مهارات (مكتسبة) تخضع لأنظمة (الفعل المنعكس الشرطي). ولكي تتضح معالم هذا الاتجاه، يحسن بنا أن نتبسط في طرح المفاهيم الأساسية لديه، ولنتقدم بمثال في هذا الصدد:

إذا مس يدك تيار كهربائي طفيف، فإنك ستستجيب لهذا المنبه: بحسب اليد. وهذه الاستجابة هي (فعل منعكس) فطري. أما إذا صاحب العملية المذكورة دق جرس مثلاً، فإنك ستسحب يدك أيضاً (في حالة تكرار المصاحبة) نظراً لوجود الرابطة بين الجرس والتيار الكهربائي. وهذه الاستجابة هي (فعل منعكس شرطي): أي: أنه عملية (نفسية) اشرط من خلالها ما هو حسي (تيار كهربائي) بما هو (نفسي): الجرس. ويسمى هذا الاشراط بـ(النظام الاشاري الأول) بصفة أن (الجرس) وهو خصيصة نفسية أصبح اشارة دالة على خصيصة حسية.

وحينما تستخدم الاشارة اللفظية، أي: النطق بكلمة (جرس) أو كتابتها، فإن الاستجابة المتمثلة في (سحب اليد)، ستتم بدورها بالمستوى ذاته: مادامت (الكلمة المنطوقة أو المكتوبة) تشكل (رمزاً) لصوت الجرس. ويسمى هذا الاشتراط بـ (النظام الاشاري الثاني) بصفة أنه مشير إلى النظام الأول. وفي ضوء هذا المفهوم الأساسي للأفعال المنعكسة الشرطية يمكننا أن نتقدم لمعرفة التفسير الذي يقدمه (الاتجاه الشرطي) في ذهابهم إلى أن المهارات العقلية (مكتسبة) لا موروثة. ففيما يتصل بالحس الايقاعي عند الشخصية مثلاً، درب الأطفال الذين فقدوا الحس المذكور، أو الذين ضؤل الحس الايقاعي لديهم... دربوا في عدة دورات أمكن بعدها أن يحصلوا على نتائج إيجابية في هذا الصدد فيما انتهى التجريب إلى الحقيقة القائلة بأن الحس الايقاعي إنما ينشأ من ارتباطات صوتية تمثل استجابات لمنبهات صوتية (مركبة) تكون فهيا طبقة الصوت هي المنبه الأقوى. وهذا يعني أن الظاهرة تتركز أولاً وأخيراً على الفعل المنعكس الشرطي، وهو طابع نفسي بيئي صرف.

والحق، إن هذا الاتجاه إذا كان محكوماً بالصواب في تحديده لقيمة (البيئة)، فإنه لا يضاد القيمة الوراثية للظاهرة، فالتجارب التي قامت بها اتجاهات أخرى، قد واكبها الصواب أيضاً في تحديدها للطابع الوراثي وانسحابها على الظاهرة: حيث فشلت كل الدورات التجريبية التي حاولت أن تجعل من عديم (الحس الايقاعي) أو ضئيلة، شيئاً آخر منها مثلاً: الدراسات التي انتهت إلى تماثل الحس الايقاعي لدى (التوائم المتماثلين) حينما اخضعوهم لبيئات مختلفة كل الاختلاف وكانت النتيجة تماثلهم في هذا الصدد. كما تماثلوا في السمات النفسية أيضاً: حيث كان الطبع الحاد، والركود النفسي والقلق ونحوها من السمات المتماثلة لدى التوائم بارزاً بالرغم من اختلاف المحيط. وإذن: التجارب التي توفر الاتجاه الشرطي عليها، قد جوبهت بتجارب مماثلة، لدى عديمي الحس الايقاعي، وانتهت إلى نتيجة مضادة سجلت لصالح الوراثة.

ان ثمة حقيقة لا سبيل إلى انكارها، وهي،... إن المنبهات الصوتية المركبة (والحديث عن الاتجاه الشرطي)، لها إسهامها في (تعديل) الحس الايقاعي أو تضخيمه مثلاً، دون أن تستطيع مجاوزة ذلك إلى (خلقه) أو ايصاله إلى الدرجة التي يفرزها البعد الوراثي. وتظل النتيجة محكومة بامكان التعديل فحسب.

والغريب ان الاتجاه الشرطي يحاول تعميم الظاهرة حتى في مجالات الترابط الشرطي أو الايحاء اللذين يتبادلان التأثير مع الأصول العضوية، ويعكسان أثرهما الواضح فيها. من ذلك مثلاً: تجربة الماء الساخن في درجته الحرارية (110): حيث (أشرط) برنين الجرس كانت الاستجابة حياله، تتمثل في: (تمدد) الأوعية، وعندما استبدل الماء بدرجة (150): فيما تستجيب له الأوعية عادة بـ(التقلص) بدلاً من (التمدد): جاءت النتيجة محكومة بنفس الاستجابة للماء البالغ (110). أي: كانت الاستجابة من خلال اشراط الجرس هي: (التمدد) ذاته. أن هذه التجربة، تتصل ـ كما هو بين ـ بظاهرة (الايحاء) أو الترابط الشرطي ـ حسب لغة هذا الاتجاه).

إن تعاطي المريض ـ على سبيل المثال ـ بعض العقاقير المنومة لأيام معدودة، واستبدالها بعقاقير محايدة بعدئذ يشكل نموذجاً بسيطاً لبعض أشكال الطب العقلي لدى هذا الاتجاه. وعندما يتناول المريض هذه الحبوب المحايدة فإنه يتمتع بنوم أشد عمقاً من النوم المعزز بالحبوب المنومة. وما ذلك إلا بسبب من (الترابط الشريطي) بين النوم وتناول الحبوب. ولكن هل هذا يعني أن النوم (وهو أصل عضوي) عديم الصلة بالبعد الوراثي؟؟

إن عملية النوم لا تتميز عن عملية (التمدد) أو (التقلص) في الأوعية من حيث كونها افعالاً منعكسة فطرية: ومجرد خضوعها للمنعكسات الشرطية لا ينفي عنها سمة (الثبات). انها ـ تماماً ـ مثل سائر الاستجابات العضوية الصرف: فيما يقر الاتجاه الشرطي بوراثتها من نحو: الأفعال الخاصة بالطعام، والجنس والنوم ونحوها مما تشكل استجابة فطرية صرفاً. فالتوتر العضلي للمعدة لا يزاح إلا بالطعام... بيد أنه من الممكن ازاحته من خلال (ارتباطات شرطية) غائبة عن وعي الجائع على نحو الغياب الذي غلف المجرب عليه في الماء الساخن. ومن هنا، فإن التجربة المذكورة تسقط أساساً في حالة وعي المجرب عليه باستبدال الماء (بدرجة 150): حيث سيستجيب حتماً (بتقلص) أوعيته بدلاً من (التمدد).

وإذن: ان استثمار تجربة ايحائية أو شرطية على النحو المذكور، وتمريرها على السلوك البشري بعامة لنفي البعد الفطري يظل أمراً قائماً على اللعب بالحقائق.

على أي حال، فإن الاتجاه الأرضي النافي للوراثة، أو الاتجاه المضاد النافي للبيئة، يظلان ـ من حيث تجربة الأرض ذاتها ـ منعزلين إذا قيسا بالاتجاه الثالث الذي يميل غالبية البحث المعاصر إليه: ونعني به الاتجاه الذاهب إلى تآزر البيئة والوراثة.

وحين نتجه إلى التصور الإسلامي للظاهرة، نجده يحسم الموقف بوضوح، حينما يؤكد أن الأصول العقلية بعامة. تخضع لنمط ثابت من الوراثة بشكل عام، كما انها تخضع لوراثة طارئة في نطاق خاص، مضافاً إلى ذلك أن (البيئة) لها اسهامها في هذا الصدد أيضاً. ولنستمع إلى ما يقرره الإمام الصادق "ع" عن (المهارة العقلية) في مستوياتها الثلاثة، عبر مقابلة أجراها أحدهم:

"قلت لأبي عبد الله (ع):

الرجل آتية وأكلمه ببعض كلامي فيعرفه كله.

ومنهم: مَن آتية فأكلمه بالكلام، فيستوفي كلامي كله، ثم يرده علي كما كلمته.

ومنهم: من آتيه فأكلمه فيقول: أعد عليّ.

فقال (ع):

وما تدري لم هذا؟

قلت: لا.

قال (ع): الذي تكلمه ببعض كلامك فيعرفه كله: فذاك من عجنت نطفته بعقله.

وأما الذي تكلمه فيستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك: فذاك الذي ركب عقله في بطن أمه.

وأما الذي تكلمه بالكلام فيقول: أعد عليّ: فذاك الذي ركب فيه بعدما كبر".[3]

إن هذا النص يفصح عن حقائق كل من (الوراثة) و(البيئة) (من حيث المهارة العقلية) بنحو يتحتم الوقوف عندها ملياً، نظراً لخطورة الحقائق المذكورة. ولحسن الحظ، إن غالبية الاتجاهات الأرضية قد انتهت لهذه الحقائق التي قررها المشرع الإسلامي.

والمهم، أن النص المذكور يحدد:

أولاً: وجود بعد فطري عام للنوع الإنساني كله، فيما يتم من خلال ما يسميه الأرضيون بـ(الموروثات النقية). ثانياً وجود بعد (قبل ولادي) فيما يسمى بـ(بيئة الرحم). ثالثاً: وجود بعد بيئي (بعد ولادي) وهو بيئة الأرض. وحين نقف مع التحديد الأول (الوراثة النقية)، نخلص منه على حقيقة مؤداها: إن المهارة العقلية في نقائها التام تطبع كل الآدميين على النحو الذي تطبع به سائر الأصول العضوية والحيوية لهم. وبكلمة أخرى: ان النوع الإنساني كله يرث ـ على حد سواء ـ مهارة عقلية لا يشوبها خلل أو تخلف أو تفاوت بين درجاتها وهو ما عبر عنه النص بقوله: (ع) (فذاك من عجنت نطفته بعقله) متمثلاً في ذلك الرجل الذي يفهم الكلام كله بمجرد الاستماع لبعضه.

بيد أن الخلل في المهارة العقلية أو التفاوت في درجاتها إنما يجيء نتيجة لوراثة طارئة (إذا صح هذا التعبير) متمثلة ـ في جملة ما تتمثل به ـ في بيئة الرحم.

ومن البين ان التغيرات المصاحبة للحمل، تعكس أثرها على الجنين: فالصدمة مثلاً، أو ارتفاع درجة الحرارة، أو سوء التغذية، تترك آثارها الواضحة على دماغ الجنين منعكساً في ضعف أو خلل عقليين.

ولذلك، نجد المشرع الإسلامي ـ كما سنرى لاحقاً ـ يعنى ببيئة الرحم، ويقدم توصيات شتى في هذا الميدان بغية تحسين النسل وتنقيته من كل الشوائب.

والمهم ان المشرع الإسلامي أشار إلى بيئة الرحم أو ما يمكن تسميته بمكونات الوراثة الطارئة، من أنها تتدخل في تكييف المهارات العقلية ونقلها من صعيد الوراثة النقية الثابتة إلى الوراثة الطارئة المشوبة ببيئة الرحم. وهذا ما عناه قوله (ع): (فذاك الذي ركب عقله في بطن امه) متمثلاً في ذلك الرجل الذي يستوفي الكلام لا بعضه، ثم يرده كما هو، أي: أنه يتمتع بمهارة عقلية متوسطة بالقياس إلى المهارة الفائقة التي يتمتع بها صاحب الوراثة النقية.

على ان ثمة ملاحظة جديرة بالاعتبار، ألا وهي أن التركيبة العقلية للجنين في بطن أمه لا تعني بيئة الرحم فحسب، بل من المظنون جداً، ان الإمام الصادق (ع) كان يعني بذلك نمطين من الوراثة الطارئة: أحدهما ما تقدم الحديث عنه وهو (رحم الأم). وأما الآخر فهو: وراثة (النطفة) ذاتها خلال الانعقاد: بصفة أن الوراثة النقية من الممكن أن يطرأ عليها (التغير) بسبب بيئي صرف، فينسحب بدوره على التكوين العصبي للشخصية، وانسحاب ذلك ـ من ثم ـ على (مورثاته ـ الجينات) ثم انسحاب هذه الأخيرة على النطفة المنعقدة. ومثال ذلك: تناول الكحول مثلاً، فهي تسبب تلفاً في خلايا المخ، ويصبح هذا الخلل جزءا من النظام العصبي للشخصية، فينسحب على (جيناته) التي تستقر نطفة في رحم الأم.

على أي حال يعنينا مما تقدم أن نشير إلى أن الإمام الصادق (ع) ألمح إلى الوراثة النقية التي تطبع النوع الإنساني كله. ثم ألمح ـ في التحديد الثاني ـ إلى الوراثة الطارئة (ما قبل الانعقاد وخلاله): أي بيئة الرحم وتدخلها عاملاً مهماً في تغيير السمات النقية من الوراثة الثابتة (والاتجاهات الأرضية لا تكاد تختلف عن التصور الإسلامي فيما يتصل بالوراثة الطارئة، أو وراثة (المحيط) بعامة كما سنرى).

أما التحديد الثالث فيتصل بالمهارة العقلية التي تحددها (البيئة): بيئة ما بعد الولادة فصاعداً. وقد عبر الإمام (ع) عن ذلك بقوله: (فذاك الذي ركب فيه بعدما كبر) متمثلاً في ذلك الرجل الذي لا يستوعب كلام السائل بحيث يطالب باعادة الكلام. وواضح أن هذا النمط من الذكاء يمثل انحطاطاً ملحوظاً في المهارة العقلية. ولسوف نرى لاحقاً أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) في تحديده لمراحل النماء العقلي يشير إلى أثر (التجارب) في العملية المذكورة، كما سنرى أن أئمة أهل البيت (ع) يشيرون إلى أهمية (التعلم) في مرحلة الطفولة، مثلما يقدمون توصيات متنوعة لمراحل ما قبل الولادة. كل أولئك حينما نضعه في الاعتبار امكننا أن ندرك دلالة قول الصادق (ع) عن تركيبة العقل بعد الكبر وموقع ذلك من عنصر (البيئة) وخطورتها في ميدان المهارة العقلية.

مضافاً إلى ذلك فإن تجارب البحث الأرضي عن (التعلم) المبكر وخطورته في الميدان المذكور يظل أمراً لا حاجة إلى التعقيب عليه.

وأخيراً، فإن الإمام الصادق (ع) (في الوثيقة المتقدمة) حسم الموقف بوضوح في تحديده لكل من عنصري الوراثة والمحيط ومستويات كل منهما في ضوء المحددات العامة والخاصة للظاهرة، وقبال هذا التحديد تنتفي الأهمية لأي بحث أرضي يتردد أو يجنح لاتجاه لا يضع تِلكم المحددات العامة والخاصة بنظر الاعتبار.

ولحسن الحظ ـ كما أشرنا ـ فإن غالبية البحث المعاصر قد انتهت لهذه الحقائق التي قررها المشرع الإسلامي.

  2 ـ الأصول النفسية

إن الوثيقة التي قدمها الإمام الصادق (ع) عن المهارات العقلية وصلتها بالوراثة الثابتة والطارئة تظل مبدأ عاماً للأصول النفسية بأكملها أيضاً.

وإذا كان البحث الأرضي في بعض أشكاله أو غالبيتها يصطنع فارقاً بين الأصول العقلية والنفسية من حيث شمول الطابع الوراثي للمهارات العقلية وفق نسب مختلفة وضمور أو انعدام الطابع الوراثي للسمات النفسية،...

أقول، إذا كان البحث الأرضي يلفه مثل هذا الاصطناع بين ما هو عقلي وبين ما هو نفسي، فلأن دراساته وتجاربه عن السمات العقلية وفرت لديه القناعة بامكانات خضوعها للوراثة بنسب أكبر حجماً بالقياس إلى السمات النفسية. ومع أن هذه الحقيقة لا تخلو من الملاحظة الصائبة، إلا أنها لا يمكن أن تأخذ صفة التعميم بقدر ما ينبغي أن نخضعها أيضاً للشروط الخاصة التي لحظناها عند حديثنا عن المهارة العقلية.

ومن هنا، فإن المشرع الإسلامي يخضع الظاهرة النفسية لمحددات عامة وخاصة: تأخذ كلا من الوراثة والمحيط بنظر الاعتبار وفقاً لشروط معينة تتحكم في الظاهرة وقبل أن نقدم النصوص الإسلامية في هذا الصدد، ينبغي أن نشير عابراً لملاحظة سنتحدث عنها مفصلاً في موقع لاحق،... وهذه الملاحظة تتمثل في اصطناع التفرقة بين نمطين من الأصول النفسية:

أ ـ السمات الفكرية، أو ما يطلق عليه الباحثون كلمة (الاتجاه).

ب ـ السمات النفسية الخالصة.

والمشرع الإسلامي يصطنع حيناً مثل هذا الفارق، لكنه يردمه حيناً آخر أيضاً. والسر في ذلك عائد إلى أن المشرع يأخذ بنظر الاعتبار (وحده) السلوك البشري في خضوعه لمفهوم العبادة أو الخلافة على الأرض، فتتلاشى حينئذٍ فارقية الأصل النفسي والأصل الفكري، إلا أنه ـ في الحين ذاته ـ يتجه إلى الكائن الآدمي بعامة، راسماً له معالم السلوك السوي بغية الافادة منها: بغض النظر عن هوية الكائن المذكور وموقفه الفلسفي من الكون.

في ضوء الملاحظة المذكورة، نعود إلى وجهة النظر الإسلامية عن المحددات العامة والخاصة للأصول النفسية بدلالتيهما المتقدمتين، فنجدها متمثلة في نمطي الوراثة الثابتة (النقية) والوراثة الطارئة.

أما الوراثة النقية فتتمثل أولاً في ظاهرة (الاستعداد)، أو (القوة) حيث أشرنا إلى أن الطبيعة البشرية ترث مجرد (استعداد) لممارسة هذا الأصل النفسي أو ذاك: حسب محددات البيئة التي تترجم (الاستعداد)، أو (القوة) إلى (الفعل) يختاره الفرد بمحض أرادته وليس على نحو (الفرض). طبيعي، ثمة فارق بين الوراثة الثابتة أو النقية التي تحدثنا عن خضوع المهارة العقلية لها، وبين خضوع (القوة) أو (الاستعداد) لها، فالأول ـ أي المهارة العقلية ـ يجسد عنصراً ايجابياً هو: الذكاء في درجته الفائقة. أما الآخر ـ أي (الاستعداد) ـ فهو عنصر محايد يجسده الكائن الآدمي في سلوك لاحق بالشخصية: قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً حسب نمط (الفعل) الذي يختاره بمحض إرادته. بيد أن الوراثة النقية تأخذ دلالتها المماثلة لما لحظناه في "المهارات العقلية" حينما ننقل الحديث إلى صعيد فلسفي متمثل في: صياغة الطبيعة البشرية وفق تركيبة قائمة على معرفة (السماء) وتوحيدها وهو أمر نحدده في موقع لاحق، فيما سنشير إليه ـ دون تفصيل ـ بغية الاحتفاظ بالطابع النفسي لدراستنا.

على أي حال، يعنينا أن نحدد الآن: وجهة النظر الإسلامية حيال (الأصل النفسي) وموقعه من الوراثة الثابتة: حيث نجد المشرع مؤكداً نقاء هذا الأصل في النوع الإنساني كله: خالياً من أية شائبة، أو فارقية بين النوع: شأنه في ذلك شأن سائر الأصول العضوية والحيوية والعقلية التي يرثها النوع الإنساني على حد سواء يستوي في ذلك أن يكون الأصل فكرياً أو نفسياً.

أما الأصل الفكري، فيحدده الإمام الصادق (ع) على النحو التالي: "إن نطفة المؤمن لتكون في صلب المشرك فلا يصيبها من الشر شيء. حتى إذا صار في رحم المشركة لم يصبها من الشر شيء. فإذا وضعته لم يصبها من الشر شيء: حتى يجري القلم".[4]

هذا النص من الوضوح بمكان كبير، فهو يحدد أصلاً فطرياً عاماً للنوع يتسم بنقاء الأفكار من أية شائبة وراثية يستوي في ذلك أن يكون "الأصل" في أصلاب الرجال، أو أرحام الأمهات، أو حتى في مراحل الطفولة: بمعنى أن الشخصية تقبل على محيطها الجديد نقية من كل شائبة حتى تبلغ سن الرشد، وحينئذٍ يتحدد بملء اختيارها نمط السلوك الذي تختطه لها. والأمر ذاته، يقرره الإمام الصادق (ع) فيما يتصل بالسمات أو الأصول النفسية، حيث يحدثنا عن جملة من السمات، قائلاً عنها: (فإن استطعت أن تكون فيك، فلتكن: فإنها تكون في "الرجل" ولا تكون في (ولده)، وتكون في "الولد" ولا تكون في "أبيه"...

قيل ما هنَّ؟؟ قال (ع) صدق البأس، وأداء الأمانة، وصلة الرحم الخ...)[5] وبيّن، أن السمات الأخلاقية التي يحدثنا الإمام الصادق (ع) عنها، تظل (اكتسابية) صرفاً لا صلة لها بأية أصول وراثية. فهي قد تكون في (الأب) لكنها لا تنتقل إلى (الابن). وقد تكون في الابن، لكنها لا تنتقل عن أبيه وهكذا. وهذا يعني أن النوع الإنساني كله لا يرث أصولاً أخلاقية أو أصولاً نفسية بنحو عام، وإنما يكتسبها النوع من خلال (المحيط).

ولكن، هل يعني ذلك ان القاعدة المذكورة تظل متسمة بالثبات، دون أن تخضع لوراثة طارئة في ظل بعض الشروط أو الظروف؟؟

إن الوراثة الطارئة التي لحظناها عند حديثنا عن (المهارة العقلية)، تتحكم بدورها هنا، أي: في الأصول النفسية أيضاً. يستوي في ذلك أن تتم النقلة الوراثية من خلال أصلاب الرجال أو أرحام الأمهات.

ويمكننا ملاحظة النقلة الوراثية الطارئة (من خلال الأصلاب)، متمثلة في التوصيات التي يقدمها التشريع عن (الزواج الانتقائي). فالإمام الصادق (ع) ذاته يؤكد بنفس القوة التي نفى من خلالها وراثة الأصول النفسية، يؤكد بالقوة ذاتها امكان الوراثة الطارئة أيضاً، في ظل بعض الشروط أو الظروف. ان سمة (الغدر) ـ على سبيل المثال ـ واحدة من الأصول النفسية التي يحذرنا الإمام الصادق (ع) منها، عبر توصيته بالزواج الانتقائي. يقول (ع) مشيراً إلى بعض الرهوط: "لا تزوجوا إليهم، فإن لهم "عرقاً" يدعو إلى عدم الوفاء"[6] وفي نص ثان: "فإن لهم أرحاماً تدل على غير الوفاء"[7] وفي نص ثالث: "فإن لهم "أصولاً" تدعوهم إلى غير الوفاء"[8] وأوضح ان كلاً من (العرق) و(الأرحام) و(الأصول) التي وردت في النصوص الثلاثة تشير إلى عملية النقلة الوراثية لسمة (الغدر) وانسحابها على (المورثات) التي تستقر نطفه في رحم الأم.

وأما النقلة الوراثية الطارئة (من خلال بيئة الرحم)، فإن التشريع طالما يقدم توصياته في هذا الصدد، مشيراً إلى أهمية (التغذية النفسية) للجنين. يقول الإمام علي بن موسى الرضا (ع) "اطعموا حبالاكم اللبان: فإن يكن في بطنها غلام: خرج زكي القلب... شجاعاً، وإن تك جارية: حسن خلقها وخلقها"[9] ففي هذا النص، يشير الإمام الرضا (ع) إلى سمات الخلق والشجاعة ونحوهما من الأصول النفسية والعقلية، وانسحابها على الجنين: خلال بيئة الرحم، مما نخلص منه بوضوح إلى امكانات الوراثة الطارئة في هذا الصدد.

بيد أن ما تجدر ملاحظته في هذا الصدد، إن البحث الأرض يصطنع ـ في الغالب ـ فارقاً بين نمطين من الأصول النفسية هما: السمات "المزاجية" و"السمات الأخلاقية". فالانطواء أو الانبساط مثلاً يعدان من سمات (المزاج) وهو (بُعد) من الممكن أن يرتكن إلى "الوراثة". أما السمة (الأخلاقية) كالوفاء والصدق ونحوها مثلاً، فإنهما يكتسبان اكتساباً ولا علاقة لهما البتة بأية وراثة طارئة.

ومع ان هذه الملاحظة من الممكن أن تتسم بالصواب إلا أننا لا نستطيع ـ في ضوء التصور الإسلامي ـ أن نعممها على النوع كله. بل يتعين علينا ان نذهب إلى أنها تأخذ طابع (التغليب) وليس طابع (العموم).

ان النصوص الإسلامية التي تقدم الحديث عنها قد تبدو لأول وهلة متساوقة مع وجهة النظر الأرضية في اصطناعها الفارق بين الأصول "المزاجية" و(الأخلاقية) فالإمام الصادق (ع) حينما اشار إلى بعض السمات من نحو: أداء الأمانة، وصدق البأس ونحوهما، إنما عزلها من دائرة (الوراثة)، ونسبها إلى "المحيط": وهي سمات أخلاقية صرف: كما هو واضح. وحينما حدثنا عن نقاء النطفة في أصلاب المشركين وأرحام المشركات إنما عزل هذه السمة (الفكرية) عن (الوراثة) ونسبها إلى (المحيط) أيضاً.

ولكن حينما تحدث الإمام (ع) عن سمة (الغدر) مثلاً، الحقها ـ عندئذٍ ـ بالوراثة عن بعض الرهوط. وبما أن (الغدر) سمة عدوانية والعدوان بدوره أخذ افرازات (المزاج الانطوائي) مثلاً، فحينئذٍ يكون خضوعه للوراثة ناجماً من كونه سمة (مزاجية) وليس سمة أخلاقية.

وإذن هذه النصوص تتوافق مع الاتجاه الأرضي الذاهب، إلى أن (السمات الأخلاقية) خاضعة للاكتساب، و(السمات المزاجية) خاضعة للوراثة.

بيد أن هذا الاصطناع بين أصول (المزاج) و(الأخلاق) يظل ـ مثلما قلنا ـ ظاهرة تأخذ طابع (التغليب) لا (العموم).

تدلنا على ذلك: نفس النصوص الإسلامية التي تقدم توصياتها المتصلة بتحسين النسل (كما سنرى لاحقاً) حيث تجيء الإشارة على حسن الخلق، والحلم، والاستقامة في الدين ونحوها، واضحة في انتسابها إلى (سمات أخلاقية) صرف، ومنها: النص الذي قدمه الإمام الرضا (ع) عن التغذية المنتقاة في مرحلة (الحمل) حيث أشار إلى (حسن الأخلاق) وصلته بـ(اللبان) الذي تتناوله الحامل.

إذن: السمات الأخلاقية بدورها، خاضعة للوراثة الطارئة في نطاق خاص. على أن بعض الباحثين يحاول أن يصل بين الأخلاق (وهي صفة اكتسابية) وبين (المهارة العقلية الفائقة ـ أي الذكاء) وهي سمة وراثية، محاولاً من خلال إيجاد هذه الصلة بينهما تقديم تفسير آخر عن صلة السمات الخلقية بالوراثة والمحيط. فقد أجري اختبار لمجموعة تتميز بالذكاء (وفقاً لروائز الذكاء التي يستخدمها البحث الأرضي): حيث لوحظ تميزهم أيضاً بسمات أخلاقية عالية، كانت تفتقدها (المجموعة الضابطة) التي اسقطتهم روائز الذكاء. ومع ذلك، فإن بعض الباحثين يصر على أن السمات الأخلاقية التي افتقدتها (المجموعة الضابطة) ناجمة من افتقارهم إلى الذكاء في اكتسابه، لا أنها وليدة الوراثة.

وعلى أي حال، فإن الحكم بصواب هذه الملاحظة لا ينفي امكان الوراثة الأخلاقية مادام المشرع الإسلامي قد حدد الإمكان المذكور بوضوح، ومادام الارتباط الوراثي بين الأصول المزاجية والأخلاقية والفكرية والعقلية لا يمكن اغفاله: على الأقل في حالات معينة منها، على النحو الذي قرره المشرع الإسلامي.

وبعامة، فإن التصور الإسلامي لعنصري (الوراثة) و(المحيط)، يتمثل في: ان النوع الإنساني يرث (أصلاً نفسياً) عاماً على مستوى الوراثة النقية لا يتمايز من خلالها فرد عن آخر سواء أكان ذلك متصلاً بالمهارات العقلية أو العمليات النفسية بعامة. بيد أن هناك (وراثة طارئة) تدرج ضمن شروط خاصة تتصل بالأفراد أو الرهوط، فيما تشكل (استثناء) للقاعدة العامة. وخارجاً عن ذلك، فإن (التنشئة) تتكفل بتحديد النمط الذي تختطه الشخصية في ضوء (الأصل النفسي) الذي ترثه بـ(القوة)، ونعني به قدرتها على (التمييز) و(اختيار) النمط الملائم من السلوك.

أما التصور الأرضي للظاهرة، فقد توزعته شتى الاتجاهات بدءاً من الاتجاه النافي للبيئة، مروراً بالاتجاه النافي للوراثة، وانتهاء بالاتجاه المزاوج بينهما، حتى انتهى إلى نسبة تقريبية هي 62% تكاد تتمخض للوراثة قبال 38 % للمحيط حسب بعض الدراسات المعاصرة.



[1]  الوسائل، باب 9 ح2 جهاد النفس.

[2]  البحار، ص 117 ج1 العقل والجهل.  

[3]  البحار، ص97 ج1 العقل والجهل.

[4]  الكافي: ج2 ص 13.

[5]  الوسائل: باب 4 ح 4 جهاد النفس.

[6]  الوسائل: باب 31 ح3 مقدمات النكاح.

[7]  الوسائل: باب 31 حديث 2 مقدمات النكاح.

[8]  الوسائل: باب 31 حديث 5 مقدمات النكاح.

[9] الوسائل: باب 34 حديث 2 أحكام الأولاد.