الفصل الثالث الأصول النفسية ومراحل النمو

1 ـ الانتقاء الزوجي

2 ـ مرحلة انعقاد النطفة

3 ـ مرحلة الحمل

4 ـ مرحلة النفاس

5 ـ مرحلة الرضاعة

مراحل نمو الشخصية

1 ـ مرحلة الطفولة المبكرة

  الفصل الثالث

الأصول النفسية ومراحل النمو

قلنا، أن الاتجاهات الأرضية المعاصرة قد اتجهت ـ في غالبيتها ـ إلى التزاوج بين عنصري الوراثة والبيئة. وفي ضوء هذا الاتجاه، نجدها تقدم شتى التوصيات المتصلة بتحسين الوراثة، مثلما تقدم توصياتها في عملية التنشئة الاجتماعية: بغية الافادة من العنصرين جميعاً في تعديل السلوك البشري وتنظيمه.

وقلنا أيضاً، أن المشرع الإسلامي قد أقر نمطاً من الوراثة الطارئة ضمن ظروف وشروط خاصة. وخارجاً عنها، فإن البيئة هي التي تتكفل بعملية التنشئة.

وفي ضوء هذا، يمكننا الآن أن نتابع توصيات المشرع الإسلامي فيما يتصل بكل من التحسين "الوراثي" و"البيئي".

ونقف مع التوصيات المتصلة بالتحسين الوراثي أولاً:

يمكننا أن نحدد خمس مراحل للتحسين الوراثي، يشدد المشرع الإسلامي عليها في توصياته التي يقدمها في هذا الصدد. وهذه المراحل الخمس هي:

1 ـ مرحلة الانتقاء الزوجي.

2 ـ مرحلة انعقاد النطف.

3 ـ مرحلة الحمل.

4 ـ مرحلة النفاس.

5 ـ مرحلة الرضاعة.

وواضح أن هذه المراحل الخمس تشمل كلاً من البيئة "قبل ولادية" والبيئة (بعد ولادية).

فمرحلة "الانتقاء الزوجي"، و"الانعقاد"، و"الحمل" تمثل بيئة ما قبل الولادة. في حين أن مرحلتي النفاس والرضاعة تمثلان بيئة الأرض (ما بعد الولادة). بيد أنها جميعاً خاضعة لعنصر الوراثة الطارئة، فيما يمكن ـ من خلال الالتزام بتوصيات المشرع الإسلامي ـ اخضاعها لعملية التعديل والتحسين لسلوك الشخصية اللاحق.

  1 ـ المرحلة الأولى

الانتقاء الزوجي

لحظنا في موقع سابق من هذه الدراسة، أن المشرع الإسلامي قد ألح عن الانتقاء الزوجي، فيما حذر الإمام الصادق (ع) من الزواج من بعض الرهوط أو الأقوام الذي عرفوا بالنزعة العدوانية (الغدر)، موضحاً ان لهم (أصولاً) و(أعراقاً) غادرة، تسحب أثرها على الأجنة.

والأمر ذاته فيما يتصل بسائر السمات النفسية والأخلاقية من نحو الحسد والبخل والجبن مثلاً، حيث نجد الإمام الصادق (ع) أيضاً محذراً من الزواج من بعض الرهوط الذين تطبعهم السمات المذكورة، معقباً على ذلك، بقوله:

فتخيروا لنطفكم.[1].

والجدير بالذكر، أن البحوث الأرضية قطعت مراحل مختلفة من التجريب على الحيوان: الخيول والأنعام والكلاب والجرذان وغيرها، فيما أسفر التجريب عن نتائج ايجابية من الزواج الانتقائي. كما أجريت التجارب على الإنسان من خلال عملية (التعقيم)، وتمرير الانتقاء الزوجي في ضوء العملية المذكورة.

وقد أسفر التجريب بدوره عن نتائج ايجابية أيضاً، إلا أنه ارتطم أولاً بعدم امكانية خضوع الأشخاص جميعاً للانتقاء المذكور، وارتطم ثانياً بملاحظة خروج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب.

والحق، ان نتائج أمثلة هذا التجريب، تتسق مع وجهة النظر الإسلامية التي تخضع الوراثة الطارئة لظروف وشروط خاصة أوضحناها في حينه، دون أن تعممها إلى قاعدة مطلقة.

 2 ـ مرحلة انعقاد النطف

يلاحظ أن المشرع الإسلامي قد شدد بإلحاح ملحوظ على هذه المرحلة، وقدم توصيات متنوعةً تتصل بمختلف الحالات والمواقف والأزمنة، منها على سبيل المثال:

حالات الطمث، والاحتلام، والاختضاب، مشيراً إلى أن الممارسات التي تزامن الحالات المذكورة، تسحب آثارها السلبية على الجنين في حالة انعقاد النطفة، أي: إذا قدر للنطف أن تنعقد خلال الحالات المذكورة.

وتتمثل هذه الآثار السلبية في أعراض عقلية ونفسية وجسمية مثل: الذهان، والعصاب (كالنزعة العدوانية)، والعمى، والخرس، والبرص، والجذام... الخ.

ففيما يتصل ـ بالتوصيات المحذرة من الممارسة في حالة الطمث، يشير أحد النصوص إلى العرض الجسمي التالي، من خلال هذا التساؤل:

ترى هؤلاء المشوهين في خلقهم؟؟

قلت: نعم

قال (ع):

هؤلاء: الذين يأتون نساءهم في الطمث

وفيما يتصل بالممارسة عقيب الاحتلام (وقبل الاغتسال منه)، يشير أحد النصوص إلى العرض العقلي الكبير (الذهان): قال (ع):

يكره أن يغشى الرجل المرأة: حتى يغسل من احتلامه. فان فعل يخرج الولد مجنوناً.. الخ.[2] واما في ظاهرة (الاختضاب)، فإن التوصية التالية تحذر من امكان انسحاب أثر (التخنث) على الجنين: تقول: التوصية:

لا تجامع أهلك وأنت متخضب. فإن رزقت ولداً، كان مخنثاً.[3]

هذا، إلى ان هناك توصيات شتى تتصل بمواقف وأزمنة مختلفة "وهي في الغالب غائبة عن البحث الأرضي: نظراً لعزلته عن إدراك أسرار التشريع"، تحذرنا النصوص من الممارسة خلالها، مشيرة إلى اعراض عقلية ونفسية من الممكن أن تفرزها أزمنة ومواقف خاصة على الجنين.

بيد أن ما تجدر ملاحظته في التوصيات المذكورة، أنها:

أولاً: لا تأخذ هذه التوصيات ـ في لسان النصوص ـ طابعها الحتمي، بقدر ما تخضع لمجرد (الاحتمال)، من خلال التزامن...

ويتضح هذا في مثل قوله (ع):

فإن قضى بينكما ولد...[4]

أي: إذا تزامن الانعقاد مع الموقف.

ثانياً: حتى مع التزامن، فإن التوصيات المحذرة تشير إلى (احتمال) انسحاب السمة السلبية على الجنين، وليس إلى (حتمية) الانسحاب ويتضح ذلك في قوله (ع) عن بعض الممارسات:

فإنه (يتخوف) على ولد من يفعل ذلك: الخبل[5].

وهذا يعني أن ثمة (احتمالاً) بانسحاب ظاهرة (الذهان) على الجنين.

إذن: الأعراض المذكورة تظل (جزءاً) من سبب، وليست (كل) السبب في العملية المذكورة.

على أن المشرع الإسلامي، نظراً لحرص بالغ المدى على إبقاء النسل نقياً من كل شائبة، نجده يضع أمامنا كل فرض (الوقاية)، ملحاً على ضرورة تلافي أي (أحتمال) ممكن أن يترك أثره السلبي على النسل: مع ملاحظة أن التحذيرات المذكورة تفسر لنا بعض الأسباب الكامنة، وراء ظهور الأعراض المرضية المختلفة، فيما لا يزال الطب العقلي والنفسي، عاجزاً عن تشخيص (أسبابها) بخاصة فيما يتصل بالمواقف والأزمنة المحظورة: الغائبة عن البحث الأرضي، بسبب من عزلته عن أسرار التشريع، كما قلنا:

وعلى أية حال، فإن التوصيات المذكورة، تظل حائمة على زمن محدد يمثل (لحظات) انعقاد النطف.

واما بعد عملية الانعقاد، فإن التوصيات، تأخذ مجالها عبر مرحلة أخرى هي:

  3 ـ مرحلة الحمل

وهذه المرحلة بدورها، تحتل موقعاً له خطورته أيضاً من عملية تحسين النسل.

وقد قدم المشرع الإسلامي توصيات متنوعة، تخص مرحلة (الحمل)، حائمةً ـ في الغالب ـ على التغذية المنتقاة للحامل، وانعكاس أثر التغذية على الجنين في سماته النفسية والعقلية والجسمية.

وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه المرحلة بما تصاحبها من تغيرات قد أشارت البحوث الأرضية إلى أهميتها، وإلى أهمية الأساس الكيميائي لها من حيث صلة (التغذية المنتقاة) بمهارات الطفل العقلية، وغيرها من السمات.

كما سبقت الإشارة على أن النصوص الإسلامية، شددت على التغذية وصلة ذلك بسمات الجنين عقلياً ونفسياً وجسدياً، ومنها: التغذية باللبان.

يقول الإمام الحسن بن علي (ع) نقلاً عن النبي (ص):

"أطعموا حبالاكم اللبان، فإن الصبي إذا غذي في بطن أمه باللبان إشتد عقله".[6]

ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (ع):

"اطعموا حبالاكم اللبان: فإن يك في بطنها غلام: خرج زكيّ القلب... شجاعاً. وإن تكن جارية: حسن خلقها وخلقها".[7]

ففي هذين النصين إشارة واضحة إلى أهمية التغذية المذكورة، وصلتها بتحسين النسل من حيث السمات العقلية والنفسية: كالذكاء، والشجاعة، وحسن الخلق.

كما إن تحسين النسل من حيث السمات الجسدية، يظل موضع عناية بدوره لدى المشرع الإسلامي، حيث يقدم توصياته بتناول الحامل "للسفرجل" مثلاً من أنه (يصفي اللون).[8]

  4 ـ المرحلة الرابعة

مرحلة النفاس

هذه المرحلة تمثل فترة (ما بعد الولادة). بيد انها خاضعة بدورها لامكانات تحسين النسل.

ومن البين أن مرحلة النفاس تمثل أياماً معدودات، تصاحبها ـ عادة ـ تغيرات جسمية ونفسية: يظل عنصر (التغذية المنتقاة) على صلة بها، وبانسحابها على سمات الطفل.

وقد أوصى المشرع الإسلامي بتناول نمط من التغذية في هذه المرحلة، هي: تناول (الرطب): نظراً لانسحابه على السمة (المزاجية) للطفل، متمثلة في سمة (الحلم).

وفي هذا الصدد، يقول: النبي (ص).

لا تأكل نفساء ـ يوم تلد ـ الرطب، فيكون غلاماً: إلا كان حليماً، وان كانت جارية كانت حليمة.[9]

ويقول الإمام الصادق (ع)، مشيراً إلى أحد أنواع التمور، وهو (البرني)، مؤكداً أهميته في انسحاب السمة المتقدمة (الحلم) على الطفل. يقول (ع):

"خير تموركم البرني، فأطعموا نساءكم في نفاسهن: تخرج أولادكم حلماء".[10]

وواضح، ان سمة (الحلم) تعد من أبرز ملامح الشخصية السوية، حيث تمثل قدرة فائقة على التحكم في الانفعالات وضبطها. والالتزام بالتوصية المذكورة، يعني: تهيئة الطفل لتحسين بالغ الخطورة في شخصيته لاحقاً.

 5 ـ المرحلة الخامسة

مرحلة الرضاعة

هذه المرحلة بدورها، تمثل فترة (ما بعد الولادة)، إلا أن أهميتها تظل بالغة الخطورة من حيث التغذية المنتقاة أيضاً. وهذه التغذية تنحصر في نمط واحد هو: الحليب الذي يتناوله الطفل في مرحلة الرضاعة.

ونظراً لخطورة التغذية في هذه المرحلة، وانسحابها على سمات الطفل العقلية والنفسية، نجد المشرع الإسلامي يشدد عليها كل التشدد، حتى لتفوق سائر توصياته المتقدمة في عملية تحسين النسل.

ويمكننا ملاحظة التشدد في توصيات المشرع الإسلامي، متمثلة أولاً في تحديد نمط اللبن الذي ينبغي أن يتناوله، وفي تحديد أنماط السمات المختلفة التي تحسب أثرها على الطفل، ثانياً.

وفيما يتصل بنمط اللبن الذي ينبغي أن يتناوله الطفل، نجد المشرع الإسلامي، يشير إلى أن الرضاعة) من الأم بعامة، أفضل من سواها.

يقول النص:

"ليس للصبي خير من لبن أمّه".[11]

وهذه التوصية تحتل خطورة تربوية يتعين الالتزام بها، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار إنتفاء المسوغ للألبان الخارجية بمجرد حصول بعض الملابسات المحيطة بالأم صحياً، أو بالأسرة إجتماعياً.

وفي حالة وجود المسوغ المشروع، فإن المشرع الإسلامي يقدم تحذيراته الشديدة من اهمال هذا الجانب، موصياً بضرورة التثبت في عملية انتقاء اللبن، مبيناً أثر (المرضعة) على سلوك الطفل:

يقول أحد النصوص:

"انضروا من يرضع أولادكم: فإن الولد يشب عليه".[12]

فهذا النص يعني بوضوح أن شخصية الطفل، ستشب على نمط الحليب الذي يتناوله، ساحباً أثره على سلوكه اللاحق.

وتجيء سمة (الحماقة) واحدةً من السمات التي يحذر التشريع منها عبر عملية الرضاعة، وفي هذا الصدد:

يقول: الإمام محمد الباقر (ع):

"لا تسترضعوا الحمقاء، فإن اللبن يعدي".[13]

وتتجاوز التوصيات هذه السمة، إلى سائر السمات العقلية والنفسية، ومنها: سمات الشخصية المنحرفة.

انها تحذر مثلاً من لبن (البغي)، وشاربة الخمر، وآكلة لحم الخنزير. والنص التالي، عبر أشارته للبن الأنماط المتقدمة يلفت نظر ولي الطفل إلى ضرورة الاتسام بالحذر من ذلك، إلا أن:

تمنعها ـ كما يقول النص ـ أي: المرضعة ـ من شرب الخمر، وما لا يحل مثل لحم الخنزير.

وأيضاً يخاطب النص ولي الطفل.

"لا تذهب بولدك إلى بيوتهن".[14]

فالنص يوصي بعدم السماح لولي الطفل من مغادرته بطفله إلى بيوت المرضعات المذكورات، حتى يتحاشى ارضاعه لبناً يتزامن مع شرب الخمر وتناول لحم الخنزير.

وعلى أية حال،... التوصيات المذكورة سواء أكانت متصلة بالرضاعة، أو بالنفاس، تظل امتداداً لمراحل ما قبل الولادة، فيما تشكل جميعاً، توصيات حائمة على مراحل خمس، تساهم في عملية (تحسين) النسل، من خلال عنصر (الوراثة).

أما عملية التنشئة الاجتماعية من خلال عنصر (البيئة)، فإن توصيات المشرع الإسلامي، تأخذ نمطاً آخر من العناية بها، مادامت المهمة العبادية للكائن الآدمي تتحقق من خلال التنشئة أساساً: وهي تنشئة تنشطر إلى قسمين:

أ ـ مرحلة ما قبل البلوغ.

ب ـ مرحلة البلوغ فصاعداً.

ويلاحظ: إن المشرع الإسلامي يتعامل مع هاتين المرحلتين من خلال لغة الثواب والعقاب: أي "التكليف" وعدمه في عملية التنشئة: فيما يسقط المشرع من حسابه مرحلة ما قبل البلوغ من حيث ترتيب آثار الثواب والعقاب.

إلا أنه خارجاً عن نطاق التكليف وعدمه، فإن المشرع الإسلامي يداخل بين المرحلتين بحيث يخضع ما تسميه لغة البحث الأرضي بفترة (المراهقة) يخضعها لمرحلة ما قبل التكليف أيضاً من حيث أهمية التربية وانسحاب آثارها على الشخصية لاحقاً، وذلك على نحو ما نلحظه في البحوث الأرضية في هذا الصدد: فيما تتناول التنشئة من خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة.

وهذا ما نحاول الوقوف عنده من خلال وجهة النظر الإسلامية.

  مراحل نمو الشخصية

يقسم علماء الأرض نمو الشخصية إلى أربع مراحل:

1 ـ مرحلة الطفولة المبكرة: وتبدأ من الولادة إلى السابعة.

2 ـ مرحلة الطفولة المتأخرة: وتبدأ من السابعة إلى (14).

3 ـ مرحلة المراهقة: وتبدأ من (14) إلى (21).

4 ـ المرحلة الراشدة: وتبدأ من (21) إلى نهاية حياة الشخصية.

النصوص الإسلامية دورها، تتجه إلى التقسيم المذكور ذاته.

ويعنينا من هذا التقسيم: صلة (النمو) بعملية التنشئة الاجتماعية، أو "التعلم" بعامة.

وطبيعي، إذا استثنينا المرحلة الراشدة: فيما تستقل الشخصية تماماً، وتأخذ محدداتها العامة، حينئذ تظل المراحل السابقة عليها (المبكرة، المتأخرة، المراهقة) عرضة لتغيرات نمائية مختلفة: تتسم كل مرحلة بخصائص معينة، تتطلب نمطاً خاصاً من (التعلم) أو (التنشئة)، يتوافق وسمات المرحلة.

وحتى المرحلة الراشدة (المرحلة الأخيرة) تظل ـ في الواقع ـ مرشحة لأي (تعلم)، بل ان "التعلم" بمعناه النهائي يتحدد في هذه المرحلة بنحوه الواعي، بما يواكبه من تحمل المسؤولية كاملة. بيد أن الهدف من (التعلم) أو (التنشئة) ـ عبر التقسيم المذكور ـ يظل مرتبطاً بعمليات (النمو) التي لا تكف إلا عند المرحلة الثالثة.

من هنا، فإن المراحل الثلاث المتقدمة (الطفولة الأولى، الثانية، المراهقة) تبقى موضع عناية الباحثين: مادامت مرتبطة بـ(النمو) وصلته بعمليات (التدريب)، وانعكاسها على مستقبل الشخصية (أي: مرحلتها الراشدة).

وبالرغم من أن التصور الإسلامي يتوافق مع بعض الخطوط الأرضية في تصوراتها للمراحل المذكورة وجزئيات كل منها، إلا أنه ـ أي: التصور الإسلامي ـ يمتلك وجهة نظر خاصة تميزه تماماً عن كل تصورات الأرض، فيما تترتب على ذلك خطورة تربوية لازالت غائبة عن أذهان الأرضيين: بخاصة في دور الطفولة: حيث تبدو بعض الحقائق التي انتهى البحث إليها وكأنها (ثابتة) في هذا الصدد. بينا يتقدم المشرع الإسلامي بما يضادها تماماً...

تبعاً لذلك، ينبغي ألا نقلل من أهمية الفارق بين التصورين: الإسلامي والأرضي، مادام ذلك منسحباً على مستقبل الشخصية، وفقاً لما تخضع إليه من التدريب الذي يحدده هذا الاتجاه أو ذاك.

على أية حال: إن الفارقية بين كل من الاتجاهين: الإسلامي والأرضي، ستتضح تماماً عندما نبدأ بدراسة المراحل الثلاث من نمو الشخصية، ونبدؤها بـ:

  1 ـ المرحلة الأول

الطفولة المبكرة:

تمثل المرحلة الأولى من الطفولة، أو ما يسمى بالمرحلة المبكرة، تمثل: السنوات الست أو السبع الأولى من عمر الطفل. والتربويون الأرضيون يخلعون على هذه المرحلة طابع الخطورة، حتى انهم ليغالون في ذلك إلى الدرجة التي يعدون هذه المرحلة، حاسمة في حياة الشخصية: بحيث يتطبع سلوكها اللاحق بمقدار ما تطبعت به طفولتها المبكرة.

والحق: ان التربية الأرضية تقع في خطأ علمي كبير حينما تخلع على الطفولة الأولى هذا النمط من الخطورة: وبخاصة تلك الاتجاهات التي تحدد الأشهر الأولى، أو السنتين، أو الثلاث، فيصلا في سلوك الشخصية اللاحق.

ومع اننا سنناقش هذه الاتجاهات الأرضية الخاطئة في تضاعيف دراستنا في موقع لاحق،... إلا أننا نضطر هنا إلى الإشارة إلى الوهم الذي يقع فيه علماء النفس والتربية والاجتماع ـ عبر تأكيدهم على خطورة الطفولة المبكرة ـ حينما يغيب عن أذهانهم انتفاء أهمية (التعديل) في السلوك، وانتفاء أهمية (الوعي) أو ما يسميه الأرضيون بـ(الأنا) وقدرته على التحكم في السلوك وضبطه، بل يمكننا أن نذهب إلى أن كل محاولات التربويين وعلماء النفس العياديين ستتلاشى سدى، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن السلوك سيأخذ محدداته النهائية في السنوات الأولى من الطفولة.

ولحسن الحظ أن كثيراً من الاتجاهات التربوية والنفسية الحديثة بدأت تشكك في قيمة الطفولة المبكرة، وبدأت تشدد على أهمية (الوعي) والتجارب الراشدة، ولكن دون ان تنفي كل خطورة الطفولة، بقدر ما تخلت عن المبالغة في تأكيدها.

أما الاتجاه الإسلامي فقد حسم الموقف بوضوح، حينما اكسب الطفولة المبكرة قدراً من الأهمية، وحينما شدد على الطفولة المتأخرة ـ كما سنرى ـ بدلاً من الطفولة الأولى: وحينما حدد طابع هذه الطفولة بمرحلة أسماها بـ(مرحلة اللعب).

ومرحلة (اللعب) تعني نفي الخطورة التي يخلعها الأرضيون على الطفولة المبكرة.

ومن البين الذي لا يناقش فيه اثنان، أن التأكيد على (لعبية) هذه المرحلة يعني بوضوح عدم القدرة على اكتساب الطفل تجاربه العقلية، أي طابع من التماسك والثبات، لبداهة أن نماءه العقلي لا يتناسب مع أية تجربة تربوية جادة تتطلب قدراً من النضج الذي لا تتحمله مرحلة نمائه.

وكما قلنا فإن المشرع الإسلامي أخذ هذه الملاحظة الصائبة بنظر الاعتبار حينما حدد طابع (اللعب) لا سواه، طابعاً متميزاً لهذه المرحلة.

ولنقرأ النصوص الإسلامية في هذا الصدد:

1 ـ "دع ابنك يلعب سبن سنين، ويؤدب سبع سنين، والزمه نفسك سبع سنين فإن أفلح وإلا فلا خير فيه".[15]

2 ـ "دع ابنك يلعب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين..."[16]

 3 ـ "الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلم الكتاب سبع سنين، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين".[17]

إن هذه النصوص الثلاثة تشير بوضوح إلى أن السنوات السبع الأولى من الطفولة، يسمها طابع (اللعب). وإلى أ ن السبع الثانية يسمها طابع التربية أو التنشئة القائمين على مجرد (التدريب)، وإلى أن السبع الثانية (سنوات المراهقة) يسمها طابع (الإلزام).

وسنتحدث مفصلاً عن مرحلتي الطفولة المتأخرة، والمراهقة في ضوء النصوص المذكورة وسواها، إلا أن ما يعنينا الآن هو: لفت الانتباه إلى ظاهرة (اللعب) التي تسم مرحلة الطفولة المبكرة، وتأكيد النصوص الإسلامية أجمع على هذه الظاهرة، مما تفصح بوضوح عن خطأ أية نظرية تخلع على الطفولة المبكرة خطورة تربوية ذات بال.

التأكيد على (اللعب) في هذه المرحلة، لا يعني انتفاء أية أهمية على عمليات التنشئة والتدريب، بقدر ما يعني نفي الخطورة عنها ونفي وجهة النظر الذاهبة إلى أن سلوك الشخصية اللاحق يتحدد وفق النشئة التي يتطبع الطفل عليها في سنواته الأولى.

ويمكننا التدليل على "لعبية" المرحلة الأولى، وعدم تقبلها للتدريب الجاد، بما قرره النبي (ص) في قوله:

"الولد سيد سبع سنين. وعبد سبع سنين..."[18]

 وخارجاً عن ذلك، فإن المشرع الإسلامي لا يدع هذه المرحلة خالية من أي تدريب حتى ولو كان جزئياً مثلاً، أو كان في نطاق يتساوق مع مراحل النمو العقلي والجسمي عند الطفل.

ومن هنا، يواجهنا نص إسلامي خطير يتحدث عن المراحل المتنوعة لفترة الطفولة المبكرة، وما يناسبها من عمليات التدريب في نطاق محدد، دون أن تثقل بالشحنات التي يحملها التدريب.

فقد أطلق النبي (ص) سمة (السيد) على طفل المرحلة الأولى. وأطلق سمة (العبد) على طفل المرحلة الثانية. وهدفه (ص) من كلمة (سيد) واضحة كل الوضوح: "فالسيد" لا يتلقى الأوامر من أحد، بل هو سيد نفسه. ومعنى هذا أن الطفل لا تسمح مرحلته النمائية في سنواته الأولى بتقبل الأوامر، أي: بتقبل التوجيه والتدريب والارشاد والالزام، بل يتجه إلى ممارسة نشاطه بحرية لا يحدها قيد ملحوظ،... إنها حدية (اللعب).

وهذا بعكس الطفل في مرحلته الثانية (من 7 إلى 14) حيث أطلق النبي (ص) لفظة "العبد" على طفل هذه المرحلة: حيث أن (العبد) يتلقى الأوامر، ويطالب بتنفيذها، بمعنى أنه مهيأ لعملية التدريب. في سنوات الأبتدائية (أي: الطفولة المتأخرة).

وهذا يعني أن المشرع الإسلامي أخذ بنظر الاعتبار أهمية التدريب أيضاً في الطفولة المبكرة، مضافاً إلى طابعها العام (اللعب)، ولكن دون تحميله طابع التصور الأرضي في عملية التنشئة.

إن النص الإسلامي الذي نعتزم تقديمه الآن، لا يحدثنا فحسبن عن أهمية التدريب في الطفولة المبكرة بنحوها الجزئي، بل يحدثنا أيضاً ـ وهذا موضع الخطورة التربوية في النص ـ عن مراحل النماء العقلي عند الطفل، فيما لا يزال علم نفس الطفل حتى سنواتنا المعاصرة، يخبط في تحديدها، وينزع إلى مذاهب شتى في فرزها بدقة من حيث تحديدها الكمي والنوعي.

ولنقرأ النص الإسلامي في هذا الصدد، ملفتين إليه أنظار المعنيين بشؤون التربية، نظراً لانطوائه على خطورة تربوية بالغة المدى.

النص التربوي الذي نعتزم تقديمه الآن، هو: للإمام الصادق (ع)، حيث حدد لنا من خلاله ست مراحل ضمن السنوات الأولى من حياة الطفل، فيما تتحدد من خلالها منحنيات النمو العقلي عند الطفل، على النحو التالي:

يقول (ع):

"إذا بلغ الغلام "ثلاث سنين" يقال له سبع مرات: لا إله إلا الله".

ويترك، حتى يتم له "ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرون يوماً" فيقال له قل: "محمد رسول الله" (ص)، سبع مرات.

ويترك حتى يتم له "أربع سنين" ثم يقال له سبع مرات "اللهم صلى على محمد وآل محمد".

ثم يترك حتى يتم له "خمس سنين" ثم يقال له: "أيها يمينك وأيهما شمالك"، فإذا عرف ذلك حول وجهه إلى القبلة، ويقال له: أسجد.

ثم يترك حتى يتم له "ست سنين". فإذا تم له ست سنين: صلى، وعلم الركوع والسجود، حتى يتم له سبع سنين.

فإذا تم له سبع سنين، قيل له: اغسل وجهك وكفيك. فإذا غسلهما، قيل له: صلّ. حتى يتم له تسع. فإذا تمت: عُلِّم الوضوء وضرب عليه، وعلم الصلاة وضرب عليها".[19]

إن هذا النص ـ كما قلنا ـ يمثل وثيقة تربوية خطيرة، مستوعبة لكل مراحل النماء العقلي عبر الطفولة المبكرة. كما أنه يعبر ذلك إلى الطفولة المتأخرة، واقعاً عند التاسعة منها.

ويهمنا الآن من النص تحديده لمراحل الطفولة المبكرة ومنحنيات (النمو) فيها.

وواضح، أن فرز هذه المراحل ينطوي على نتائج في غاية الخطورة من حيث عملية (التعلم) والتدريب عليه، بنحو يتساوق مع النمو الإدراكي والجسدي للطفل.

وأول ما ينبغي ملاحظته في هذا الصدد، هو: معرفتنا بـ(العبارات) التي استخدمها النص. ثم معرفتنا بـ(الأفعال) التي طالب النص قيام الطفل بها. ويلاحظ: ان النص قد استخدم اللغة والفعل العباديين، أي: المرتبطين بمفهوم العبادة التي تشكل هدف السماء، متمثلة في بعض ممارساتها، ألا وهي: عملية الصلاة ومقدماتها.

لقد تركت الوثيقة، المرحلة السابقة على السنة الثالثة، خالية من التدريب. وجعلت: السنة الثالثة هي بداية "التعلم". وهذا يعني أن السنوات الثلاثة الأولى من حياة الطفل غير قابلة على (التعلم) الذي يتطلب قدراً من المهارة العقلية، ولكن مع نهاية السنة الثالثة تبدأ المرحلة النمائية التي ترشح الطفل لعملية التعلم.

وواضح، أن الأبحاث الأرضية تشير إلى عملية انتقال الطفل من مرحلة ما يسمى "بالإدراك الحسي" إلى مرحلة "الإدراك الرمزي" أو التخيلي،... إلا أن تجاربها في هذا الميدان تظل متفاوتة من واحد لآخر: من حيث تقدير حجم مرحلة الانتقال.

بيد أن المشرع الإسلامي، حسم الموقف حينما جعل بداية القابلية على التعلم الرمزي هو: السنة الثالثة من خلال العبارة التي طالبنا بتدريب الطفل عليها، وهي عبارة "لا إله إلا الله".

وحين نتأمل هذه العبارة، نجدها تستدعي نمطاً من (التفكير الرمزي) أو التخيلي أو التصويري، ... بمعنى أن الطفل يبدأ مع هذه السن بتجاوز مرحلة الإدراك الحسي إلى مرحلة الإدراك الرمزي،... وعبارة "لا إله إلا الله" تعني: أن الطفل يبدأ بتجاوز ما يحيط به من ظواهر حسية: تقع تحت سمعه وبصره ولمسه، إلى "إدراك" بعض (العلاقات) بين الظواهر المحسة من حيث (المكان)، وإدراك بعض (الآنات) الزمانية مثل: "الحاضر" وعلاقته بـ(ماضي) الطفل، أو بـ(مستقبل) خبراته التي يتوقع حدوث نظائرها.

إن إدراك مثل هذه العلاقات تجسدها بوضوح عبارة "لا إله إلا الله" لبداهة أنها ـ أي العبارة المذكورة ـ تربط بين (موجودات) أو (عينات حسية) خبرها الطفل وبين (وجود) لم يخبره بعد، إلا أنه وجود غير محس.

ومع تقدم الأشهر والأسابيع والأيام، يبدو أن الطفل يصل إلى مرحلة نمائية جديدة، أي: بعد مرور مآتين وثلاثين يوماً "230"، بحيث يتطور إدراكه الرمزي للظواهر بنحو يسمح له بإدراك العلاقة بين (الله) وبين (رسول الله) (ص).

وهذا ما تفصح عنه العبارة التي طالبنا النص بتدريب الطفل عليها، من خلال قوله (ع): "ويترك حتى يتم له ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرون يوماً، فيقال له، قل: "محمد رسول الله".

ومن البين، أن الإدراك الرمزي عند الطفل، بعد أن تكون له خبرة بـ(الله)، فإن العلاقة بين عبارة (الله) وعبارة (رسول الله): هذه العلاقة بينهما تبدو من الوضوح بمكان كبير من حيث تطوير الإدراك الرمزي. بمعنى: أن الطفل بدأ باحداث (علاقة) بين ظاهرتين تستند ان إلى (الرمز) أو (التصور) أو (التخيل). في حين كان إدراك الطفل في المرحلة السابقة، قائماً على العلاقة بين ظاهرتين: احدهما (حسية) وهي خبراته في السنين الثلاث، والأخرى (تجريدية) وهي لفت ذهنه إلى عبارة (الله). وبكلمة أخرى: إن طرفي الإدراك في المرحلة الأولى هما: (حسي + تجريدي)، في حين ان طرفيه في المرحلة الثانية هما (تجريدي + تجريدي). فعبارة (الله) هي: الطرف الأول (تجريدي): وعبارة (محمد) تجريدية أيضاً من حيث كون محمد (ص) يضطلع بمهمة (الرسالة) لا من حيث كونه (شخصاً)، وإلا فإن إدراكه كـ(شخص) يظل (حسياً) كما هو واضح، في حين ان إدراكه كـ(رسول) يحمل دلالة تجريدية: من حيث عدم اختمار معنى (الرسالة) في ذهن الطفل.

ثم تجيء المرحلة النمائية الثالثة من حياة الطفل، بعد مرور مائة وثلاثين يوماً، أي: عند بلوغه الرابعة من العمر، حيث يطالبنا النص بتدريب الطفل على عبارة "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد".

وواضح أيضاً، أن هذه المرحلة الجديدة من النمو، تفصح عن تطور ملحوظ في الإدراك الرمزي للطفل.

ويتضح هذا، حين نلحظ أن الصلة بين التطور الجديد للإدراك، وبين عبارة "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد" تتمثل في حذف أطراف العلاقة بين عبارة (الله) وعبارة (محمد)،... حيث يترك للطفل أن يمارس إدراكاً مستقلاً هو: الصلاة على محمد وآله، بغض النظر عن كونه رسولاً لله تعالى. أي: أن الطفل من المرحلة الجديدة من الإدراك، انما يستجيب لمفهوم له استقلاله، وليس لمفهوم يتطلب إدراك علاقة بين ظاهرتين.

لقد كانت المرحلة الأولى من النمو: تنطوي على إحداث علاقة بين عالم( حسي) عند الطفل، وعالم (تجريدي). عالم الطفل الخاص، والعالم الجديد.

وفي المرحلة الثانية من النمو: كان احداث العلاقة بين (العالم الجديد نفسه: الله) فيما كون الطفل عنه خبرة نسبية، وبين (عالم جديد آخر) هو: كون النبي "رسولاً" لله.

أما المرحلة الثالثة من النمو، فتنطوي على تطوير إدراكي جديد قائم على حذف العلاقة القديمة أساساً، وإدراك شخصية محمد (ص) بنحو (مستقل) دون استحضار الأطراف السابقة (الله والرسول).

ثم تجيء مرحلة جديدة من النمو: تبدأ مع بلوغ الطفل: السنة الخامسة. وهذه المرحلة نلفت انتباهنا إلى (الفارقية) بين الأطفال في عملية النمو.

وواضح، ان الأبحاث الأرضية قد انتبهت إلى وجود الفوارق بين الأطفال من حيث النمو العقلي لديهم، ودرجة تقبلهم لعملية "التعلم" في هذا الصدد.

وتتراوح السن الخاضعة للتفاوت بين الأطفال، تتراوح بين الخامسة والسادسة، مع ملاحظة أن السنة السادسة هي المرحلة الحاسمة في النمو عند غالبية الأطفال: حيث يبدأ معها: الدخول إلى الدراسة الابتدائية.

إلا أن بعض الأطفال ـ وهذا ما لاحظه جمع من علماء النفس والتربية ـ ترشحهم السن الخامسة إلى الدخول في الدراسة الابتدائية.

ونحن حين نتجه إلى الوثيقة الاسلامية في هذا الصدد، نجدها قد القت إنارة كاملة على هذا الجانب، حينما لفتت أنظارنا أولاًً إلى أن ثمة فارقية في النمو عند هذه السن بالذات (أي الخامسة) حيث وضعت لنا معياراً للاختبار في معرفة ذلك ويتمثل هذا الاختبار في توجيه السؤال التالي للأطفال: [أيهما يمينك من شمالك؟؟].

فإذا أدرك الطفل الفارق بينهما، فحينئذ نستخلص أن الفل قد قطع مرحلة نمائية في هذه السن ترشحه للدخول إلى عتبة ما يسميه الأرضيون مرحلة الابتدائية أو الطفولة المتأخرة.

إلا أن ما ينبغي الوقوف عنده هنا، هو أن النص طالبنا في حالة تمييز الطفل يمينه عن شماله: طالبنا بأن ندربه على عملية (السجود) فحسب، دون أن يتجاوز ذلك إلى المطالبة بعملية (الصلاة)، وإنما طالب بعملية الصلاة في السنة السادسة.

هل هذا يعني: إن الفارقية في النمو عند الأطفال الذي يتم نضجهم عند الخامسة، انما هو (نمو) نسبي لا يسمح لهم بالانتقال في صف واحد مع الأطفال البالغين ستاً من العمر؟؟ أم لا؟ أغلب الظن أن الأمر كذلك. فالخمس سنوات لا تسمح للطفل بأن يصبح مع أطفال السادسة والسابعة في صعيد متماثل من عملية التعلم. كل ما في الأمر أنه يتميز عن الأطفال الاعتياديين وفق نسبة معينة من التفوق لا تصل إلى ذات النضج عند المتقدمين عليه.

ويدلنا على ذلك: النص التربوي للصادق (ع) فيما طالب بتدريب الطفل على (السجود) عند الخامسة، ولم يطالب الطفل المتميز المذكور بالصلاة كاملة: علماً بأن النص طالب أطفال السادسة والسابعة بممارسة الصلاة كاملة.

وهذا يعني أن أطفال السادسة أو السابعة الاعتياديين، أشد قابلية على التعلم من الطفل المتميز البالغ خمس سنين.

هنا يثار سؤال آخر:

هل ان التفاوت في النمو منحصر عند الخامسة فحسب، أم يتجاوزه إلى السادسة والسابعة أيضاً؟

يبدو أن الأمر غير منحصر عند الخامسة، بل يمكن القول أن السادسة تمثل مرحلة معينة منه، وان السابعة تمثل مرحلة نهائية من ذلك. ولعل التفاوت الذي سنلحظه عند مرحلة البلوغ فيما تتأرجح بين (13، 14، 15) يبقى على صلة بهذه الظاهرة. المهم يمكننا التدليل على ذلك من خلال النصوص الإسلامية، ومنها: النص التالي فيما يحدد الطفولة الأولى بالست بدلاً من السبع، ومنها: النص التالي مثلاً: قال (ع):

"أمهل صبيك حتى يأتي عليه ست سنين. ثم أدبه في الكتاب ست سنين..."[20]

 هذا النص من الممكن أن يلقي الضوء على مشكلة تحديد العمر الزمني المرشح لعملية "التعلم" أو الدخول إلى مرحلة الطفولة الثانية: سنوات الابتدائية: إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مطالبة الوثيقة التي قدمها الإمام الصادق (ع) بوضع (اختبار) للطفل عند بلوغه الخامسة، إنما تتساوق مع هذا النص الذي ينظر إلى سرعة النمو الذي يصاحب بعض الأطفال: بحيث يمكن الانتهاء إلى القول بأن النصوص المحددة للطفولة الأولى بأنها (ست)، ناظرة إلى بعض مستويات الفارقية بين الأطفال، أو إلى فارق وسط بين الخامسة والسابعة. وإن النصوص المحددة لها بأنها (سبع)، ناظرة على مطلق الأطفال. أي: إن (السبع) تشكل (القاعدة). وأما (الست) فتشكل استثناء لها، فضلاً عن (الخمس) التي تؤشر إلى أقصى درجات السرعة في النمو.

إن المشرع الإسلامي قد ألمح إلى الفارقية بين الأطفال في مجالات أخرى من حقول التشريع، ومنها مثلاً: ما ورد من إقامة الصلاة على الميت البالغ ست سنين فصاعداً. ثم ما ورد قبال ذلك من إقامة الصلاة أيضاً ـ في بعض النصوص ـ على البالغ خمساً من العمر.

بيد أنه يلاحظ إن الصلاة على الميت البالغ خمساً قد وضع ظاهرة (التمييز) أيضاً، معياراً للصلاة عليه.

يقول (ع)، وقد سئل عن:

الصبي: أيصلي عليه إذا مات وهو ابن خمس سنين؟؟ فقال (ع): إذا (عقل) الصلاة صلي عليه".[21]

وهذا يعني أن الخامسة محكومة بنفس المعيار الذي تنطوي عليه: السنة السادسة.

إلا أننا مع ذلك كله، يمكننا أن نذهب من خلال الوثيقة التربوية للإمام الصادق (ع)، إلى أن الفارقية بين الأطفال البالغين خمساً ـ في حالة تميزهم بسرعة النمو العقلي ـ وبين البالغين ستاً، لا يصل إلى درجة التطابق بقدر ما يجسد درجة منها، بحيث تسمح هذه الدرجة بمطالبة الطفل بعملية (السجود) فقط، دون مطالبته بالصلاة الكاملة.

وحتى النص الذاهب إلى إقامة الصلاة على الميت البالغ خمساً ـ وهو يعقل الصلاة ـ يمكننا أن نفسرها في ضوء الفارق النسبي لا المطلق.

وعلى أية حال، فإن السنة السادسة، تظل هي المعيار في بلوغ النمو مرحلته التي ترشح الطفل لعملية (التعلم) الجدي. وهذا ما أوضحته الوثيقة التربوية التي طالبت بما يلي:

"ثم يترك حتى يتم له ست سنين، فإذا تم له ست سنين: صلَّى، وعُلِّم الركوع والسجود، حتى يتم له سبع سنين.

فإذا تم له سبع سنين قيل له: اغسل وجهك وكفيك. فإذا غسلهما: قيل له: صل.

هذا النص ـ كما لاحظنا ـ جعل السن السادسة، مرشحة "للتعلم" الجاد: من حيث عملية الصلاة. وعملية الصلاة ـ كما هو واضح ـ مجرد نموذج لأية تجربة في عملية التعلم.

بيد أن الملاحظ أيضاً، أن (الست) لا تزال تشكل عملية غير مكتملة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الصلاة تحتاج إلى مقدمة تستكمل بها ألا وهي عملية الوضوء. وتبعاً لذلك، فإن بلوغ (السبع) هو المرشح لعملية الاستكمال المذكورة:

لنقرأ النص ثانية:

"فإذا تم له سبع سنين: قيل له: اغسل وجهك وكفيك. فإذا غسلهما، قيل له: صلّ".

إذن: بلوغ الطفل سبع سنين، يعني: دخوله عتبة المرحلة الثانة من الطفولة، وتهيوءه "للتعلم"، ومغادرته مرحلة (اللعب) إلى مرحلة (التأديب) و(الالزام) و(التعلم) وما إلى ذلك من المصطلحات التي يستخدمها المشرع الإسلامي، للتنبيه على المرحلة الثانية من الطفولة.

نخلص مما تقدم، أن الطفولة المبكرة تنتظمها "ست" مراحل من النماء العقلي والحركي على النحو الذي فصلته الوثيقة الإسلامية المتقدمة.

أما الأبحاث الأرضية فلم تكد تتفق على تحديد زمني دقيق لمراحل النماء كما قلنا. إلا أن هناك شبه اتفاق على أن السنة الثالثة هي بداية لمرحلة التفكير الرمزي.

وبعض الباحثين يقسمها إلى ثلاث مراحل:

1 ـ البدايات التصورية.

2 ـ التصور البسيط.

3 ـ التصور المفصل.

غير أن هذه المراحل الجزئية من النمو، لا تحمل تلك الدقة التي لحظناها في الوثيقة الإسلامية: بالشهور والأسابيع، والأيام.

على أن اختلاف الباحثين من جانب، وصعوبة الملاحظة الفردية التي يحاول بعض الباحثين أن يتوفر عليها من جانب آخر: تجعلان التخطيط المرحلي لنمو الطفل غير خاضع لضبط علمي يمكن الركون إليه. في حين أن النص الإسلامي قد حسم الموقف كما لاحظنا.

ويمكن للتربويين أن يفيدوا من الوثيقة التي قدمها الإمام الصادق (ع)، بغية تدريب الطفل على اكتساب سائر المهارات التي ينشدونها في ذلك، مراعين من خلاله، محددات الإدراك الرمزي وأشكاله التي وقفنا عليها بالسنين والشهور والأيام.

وقبل أن نغادر مرحلة الطفولة المبكرة، يحسن بنا أن نقف عند مجمل الخصائص التي تطبع هذه المرحلة عبر التصور الإسلامي لها.

وتتمثل خصائص هذه المرحلة على النحو التالي.

1 ـ (اللعب) بعامة، هو الذي يسم مرحلة الطفولة المبكرة.

2 ـ من الممكن أن يرافق طابع اللعب، بعض أشكال التدريب على "التعلم" في ضوء مراعاة المراحل الثانوية في النمو.

3 ـ ان السنوات الثلاث الأولى من حياة الطفل غير خاضعة لعملية "التعلم" المذكور.

4 ـ ان بلوغ الطفل الخامسة أو السادسة أو السابعة: يرشحه للانتقال من مرحلة نمائية إلى أخرى: حسب الفارقية بين الأطفال. مع ملاحظة أن السنة السابعة ـ في الحالات جميعاً ـ تعد نهاية لمرحلة الطفولة المبكرة، وبداية للطفولة المتأخرة.

حصيلة القول: ان (اللعب) هو الطابع المميز لمرحلة الطفولة المبكرة، وان التدريب يجسد عنصراً ثانوياً فيها. وإلى أن التعامل مع طفل هذه المرحلة ينبغي أن يتسق مع طابعها العام.

ولعل المطالبة بحمله ورعايته بحنان غير مشفوع بأية ممارسة ذات قسوة، تعد خير افصاح عن (لعبية) هذه المرحلة وتأبيها على التدريب الذي يتطلب نمطاً من (التمييز) لا يتوفر إلا عند المرحلة الثانية من الطفولة.

إن المشرع الإسلامي يطالب أولياء الطفل بعدم ممارسة الضرب على بكائهم: في السنة الأولى بخاصة.

مثلما يطالبهم بالتصابي مع الأطفال، وباغداق الحنان عليهم، وبتقبيلهم: تحسيساً بمشاعر الرعاية التي تتساوق مع (لعبية) هذه المرحلة، دون تحميلها أي نمط من التدريب الذي يمكن أن يحسب تطبيعه على السلوك اللاحق: إلا في نطاق ما سبقت الاشارة إليه.

ولحسن الحظ أن بعض الدراسة الأرضية (ومنها دراسة حديثة) انتهت إلى أن الطفل في العامين الأولين إذا درب على بعض المهارات الحركية، فإنه لا يتميز عن طفل آخر لم يدرب عليها. لكنهما درّبا في فترة لاحقة، على ذلك، وحينئذٍ كانت النتيجة هي: التكافؤ بينهما. وهذا يعني أن التدريب قبل وصول الطفل إلى مرحلة معينة من النضج لا يترك أثراً ذا بال: فيما لم يتميز عن طفل آخر يدرب عند مرحلة الاستعداد اللاحقة.

على أية حال، مادام التدريب لم يفرز أية نتائج مثمرة في تعديل السلوك، حينئذٍ ندرك أهمية التوصية الإسلامية بعدم ضرب الأطفال على بكائهم، والتوصية بالحنان بدلاً من ذلك.

طبيعي، من الممكن أن يترك (الضرب) آثاره على شخصية الطفل: من حيث انعكاسه على حالته العقلية وتعرضه للشذوذذ نظراً لعدم تملكه قدرة على تحمل الشدائد. والفارق كبير بين الذهاب إلى أن نمط التدريب يعكس آثاره على بناء الشخصية، وبين الذهاب إلى أن الشدائد (جسمية كانت مثل الضرب أم نفسية: مثل الخوف المفاجئ) تؤثران في الحياة العقلية للطفل. كما أن ثمة فارقاً بين الذهاب إلى أن بناء الشخصية لا يمكن تعديله: إذا أخذ طابعاً خاصاً في الطفولة، وبين الذهاب إلى أن (التعديل) ممكن تماماً مادام (الوعي) في المرحلة الراشدة هو المعيار الأخير في هذا الصدد. كما ينبغي أن نضع "فارقاً" بين "الرعاية" التي تصاحبها توصيات بـ(الحنان) ـ وهو مبدأ عام من عملية التنشئة الطفلية ـ وبين بعض التفسيرات الأرضية (مثل: نظرية فرويد في الجنسية الطفلية) من حيث تفسيرها في إيجاد الصلة بين نشاط جنسي مزعوم في الطفولة، وانعكاسه على سلوك الشخصية الراشدة: ثم صلة ذلك بمبدأ (الحنان) أو (الصرامة) في التعامل مع النشاط المذكور لدى الأطفال.

إن المشرع الإسلامي ينفي أمثال هذه الصلة نفياً مطلقاً، مادام ـ أساساً ـ قد شدد على (لعبية) المرحلة، وتأبيها لأي نشاط لا يتسق مع النماء العقلي والنفسي والجسمي لأطفال المرحلة المبكرة.

بيد أنه لا ينفي المبدأ العام لنمط التنشئة، ونعني به: "الرعاية" التي تحمل سمة (الحنان)، وضرورة خلعها على أطفال هذه المرحلة، وامكان انعكاسها على السلوك اللاحق للشخصية، في النطاق الذي لا ينقل الظاهرة إلى الثبات والحتمية، بقدر ما يدعها في النطاق الخاضع لعمليات (التعديل) في السلوك.

وفي ضوء هذا الفهم لمبدأ (الرعاية) في الطفولة، نجد أن الأبحاث الأرضية تجمع على أن التعامل بحنان مع الطفل، هو المبدأ السليم لتطبيعه على السلوك السوي لاحقاً.

وعلى الضد من ذلك: فإن التعامل بقسوة، سينمي لدى الطفل نزعات عدوانية ملحوظة لديه.

والأمر نفسه إذا تم التعامل معه بدلال، فيما ينمي لديه التمركز حول ذاته وما يصاحب ذلك من مشاعر الكراهية نحو الآخرين.

هذا المبدأ التربوي، يؤكده المشرع الإسلامي بنحو بالغ المدى: إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن السلوك الإسلامي ـ كما سنرى ـ قائم بأكمله على مبدأين هما: وأد الذات وحب الآخرين. إلا ان مراعاة هذين المبدأين من حيث صلتهما بالطفولة لا يأخذ محدداته النهائية في احدى مرحلتي الطفولة المبكرة أو المتأخرة، بل في كلتيهما: من خلال رسم توصيات خاصة لكل منهما من جانب، وتوصيات عامة تستغرق المرحلتين، بل تعبرهما إلى المراحل الراشدة أيضاً.

بيد أن (الحنان) بعامة، يظل موضع التأكيد في النصوص الإسلامية مادام الطفل متحسساً بقصوره وتبعيته لولي الأمر وبكونه: المصدر الوحيد لاشباع حاجاته، حسب تصور الطفل نفسه. يستوي في ذلك أن يكون الصبي في مرحلته المبكرة أو المتأخرة. إلا أن المطالبة بالرعاية الحانية تظل موضع التشدد على مرحلته المبكرة أكثر منها في مرحلته المتأخرة، مادامت الأولى موسومة بطابع اللعب وفقدان التمييز، والثانية بالطابع المميز الذي تصاحبه عمليات (العقاب) أيضاً ـ كما سنرى.

على أية حال، فإن المطالبة بالرعاية الحانية: من خلال المبدأ النفسي المتمثل في إحساس الطفل بأن ولي أمره هو المصدر الوحيد لاشباع حاجاته... هذا المبدأ النفسي تؤكده التوصيات الإسلامية بوضوح، في نصوص من أمثال قوله (ص).

"احبوا صبيانكم وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم".[22]

وبين، أن هذا المبدأ يفسر لنا جانباً من السر الكامن وراء المطالبة بتحسين الطفل: الرعاية.

وفي ضوء هذا يمكننا أن نفسر سائر التوصيات في هذا الصدد، من نحو المطالبة بتقبيل الأطفال مثلاً، يقول (ع).

"أكثروا من قبلة أولادكم...".[23]

وفي نص آخر، يقول: الصادق (ع):

"جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: ما قبلت صبياً لي قط. فلما ولىَّ قال رسول الله (ص):

هذا رجل عندي أنه من أهل النار...".[24]

والأمر ذاته، يمكننا أن نلحظه في المطالبة بالتصابي مع الأطفال، من نحو قوله (ص):

"من كان عنده صبي، فليتصاب له".[25]

إن أمثلة هذه النصوص، من الممكن أن تفسر لنا سر التوصية برعاية الطفل مادام ذلك، يحسب أثره على مشاعر الطفل وبنائه النفسي.

على أننا إذا تجاوزنا المبدأ المذكور (أي: احساس الطفل بمصدر أشباعه الوحيد)، حينئذ نجد أن مراعاة الطفل بعامة من خلال المبدأ الآخر من مبادئ الطفولة، ألا وهو: براءته وعدم نضجه العقلي،... هذا المبدأ بدوره يظل موضع التأكيد في توصيات المشرع الإسلامي. من ذلك مثلاً: المطالبة بعدم جواز ضرب الأطفال في السنة الأولى من أعمارهم: كما تقدم التلمح إلى ذلك.

يقول: النبي (ص):

"لا تضربوا أطفالكم على بكائهم، فإن بكاءهم أربعة أشهر: شهادة أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر: الصلاة على النبي (ص)، وأربعة أشهر: الدعاء لوالديه".[26]

وواضح، أن نفي أية فعالية لأطفال السنة الأولى، يفصح النص المذكور عنه بوضوح، مما ينفي معه أي تفسير يقدمه البحث الأرضي عن فعاليات السنة الأولى (المرحلة الفمية) وانعكاساتها على السلوك.

على أية حال، ان المطالبة بالحنو على الطفل تحمل مهمتين مزدوجتين: تتصل أحداهما بالبناء النفسي للطفل، والأخرى: بالبناء النفسي لوليه. ومع أننا سنتحدث مفصلاً عن الجانب الأخير في الحقل المتصل (بالأسرة)، إلا أن الإشارة إلى هاتين المهمتين، ينبغي ألا نهملها، حينما تواجهنا النصوص المطالبة بالحنو على الطفل والتوعد على ذلك على نحو ما لحظناه في أحد النصوص المتقدمة، وعلى نحو ما نراه في نصوص: من نحو قوله (ص):

"من لا يرحم لا يُرحَم".[27]

تعقيباً على قول من أخبره بأن له جماعة من الأولاد لم يقبل أحداً منهم قط.

ويمكننا أن نلحظ ذلك أيضاً في المطالبة بمراعاة بكاء الأطفال مثلاً. حتى أن النبي (ص) خفف من صلاته ذات يوم بنحو ملحوظ. ولما سُئلَ (ص) عن السبب، أجاب:

"أو ما سمعتم صراخ الصبي؟؟..".[28]

والمهم، أن أمثلة هذه النصوص، تفصح عن الجانبين المزدوجين في المطالبة بالحنو على الطفل: الجانب المتصل بالبناء النفسي لوليه، والجانب المتصل بمراعاة الطفل نفسه: من حيث ان تهدئة صراخه مثلاً، أو تقبيله، أو تنفيذ بعض مطالبه الطفولية، إنما تترك آثارها اللاحقة على شخصيته ـ دون أدنى شك.

إن المطالبة برعاية الطفل تقترن في حقل التربية والبناء النفسي بمبدأ تربوي مهم لدى الأبحاث الأرضية: وهذا المبدأ التربوي هو: ظاهرة (الغيرة) التي تفرضها ولادة الطفل الأصغر بالنسبة لأخيه الذي يكبر في السن.

والأبحاث الأرضية تولي هذا الجانب عناية خاصة، نظراً لما يترتب على هذا الولادة، من (المنافسة) في (الحب) الذي سيضمر حجماً بالنسبة للطفل الأكبر حتماً، ويتحول لصالح أخيه الصغير.

وتبعاً لهذه الحقيقة، تشدد الأبحاث الأرضية على ضرورة مراعاة ولي الطفل لهذا الجانب، مطالبة إياه بأن يقسم حبه على طفليه بالسوية، أو على الأقل: عدم اهمال الطفل الكبير: حيث يسحب هذا الاهمال أو الاتجاه نحو الصغير،... يسحب آثاره على شخصية أخيه الأكبر، ويرشحه لنزعات (عدوانية) بالغة الخطورة.

هذه الحقيقة: يضعها المشرع الإسلامي في الاعتبار أيضاً، حينما نجده مطالباً بتوزيع المحبة على الطفلين بالسوية.

وفي هذا الصدد يقول أحد الرواة:

"نظر رسول الله (ص) على رجل له إبنان، فقبل أحدهما وترك الآخر. فقال له النبي (ص): فهلا واسيت بينهما؟؟".[29]

وواضح أن المطالبة بالمواساة، ناظرة إلى امكان بزوغ النزعة العدوانية لدى الطفل الذي قوبل بعطف أقل.

بل إن المشرع الإسلامي يتحدث عن هذا الجانب بوضوح، حينما نواجه نصاً يذكر ولي الطفل بأن إيثار طفل على آخر، يسحب آثاره على الشخصية لاحقاً، منمياً في أعماقه نزعات الحقد والحسد، على نحو ما لوحظ لدى أخوة يوسف في تعاملهم مع أخيهم، حيث دفعتهم نزعتهم العدوانية إلى التآمر عليه وإلقائه في البئر.

إذن: يظل التعامل القائم على التساوي في الرعاية بين الأطفال، منطوياً على حقيقة تربوية، تسحب أثرها على السلوك اللاحق.

بيد أن هذه الحقيقة، ينبغي الا نخلع علهيا طابع الثبات والتماسك على النحو الذي نلحظه لدى التربية الأرضية: من حيث ذهابها إلى (حتمية) انعكاس التفاضل بين الأطفال، على أنماء النزعة العدوانية لديهم: بحيث يتعذر معها عمليات (التعديل) للسلوك، نتيجة لما طُبعت الشخصية عليه في الطفولة.

إن المشرع الإسلامي ـ انطلاقاً من عدم تعليقه الأهمية الكبيرة: المبالغ فيها، على الطفولة وآثارها ـ لا يرى مانعاً من عملية التفاضل في الحنان بين الأطفال، وان كان يرى إلى أن الأفضل هو التساوي بينهم: تلافياً لعملية انسحاب ذلك على السلوك اللاحق.. أقول: إن المشرع الإسلامي لا يرى في التفاضل عملية ذات خطورة، مادام المشرع أساساً يرى إلى أن المرحلة الراشدة هي التربية الوحيدة لصيغ السلوك النهائي.

ومن هنا نجد الإمام موسى بن جعفر (ع) يجيب أحدهم بعدم المانع من التفاضل بين الأطفال في هذا الصدد.

يقول أحد الرواة:

سألته عن الرجل يكون له بنون، وأمهم ليست بواحدة: أيفضل أحدهم على الآخر؟ قال: نعم، لا بأس. قد كان أبي يفضلني على عبد الله".[30]

ويقول راوٍ آخر عن الإمام الرضا (ع):

"سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن الرجل يكون بعض ولده أحب إليه من بعض، ويقدم بعض ولده على بعض. فقال: نعم: قد فعل ذلك أبو عبد الله، نحل محمداً. وفعل ذلك أبو الحسن (ع) نحل أحمد شيئاً فقمت أنا به حتى حزته".[31]

من هذين النصين نستكشف حقيقة بالغة الخطورة، هي: أن الطفولة ينبغي الا نخلع عليها تلك الأهمية التي يخلعها الأرضيون عليها في ذهابهم إلى أن التنشئة الطفلية هي الفيصل في السلوك اللاحق للفرد. بل إن الطفولة ـ وبخاصة الأولى ـ تظل حاملة آثار انعكاسها على الشخصية. إلا أن ذلك في نطاق محدد، لا أنه يحسم السلوك نهائياً على النحو الذي يبالغ الاتجاه الأرضي فيه.

وإدراكنا لهذه الحقيقة سيغير دون أدنى شك كثيراً من وجهات النظر التربوية والنفسية التي شقت طريقها إلى الأذهان، وكأنها حقيقة لا تقبل الجدل.

ويمكننا ان نعود إلى قضيتي: أخوة يوسف فيما طالب (ع) بعدم ايثار واحد على آخر: حتى لا تنمي نزعات العدوان لديهم، على النحو الذي دفعهم إلى التآمر على أخيهم، وقضية إيثار الأئمة (ع) بعض أولادهم على آخرين... يمكننا أن نستخلص من هاتين القضيتين حقيقة تربوية مهمة تحسم المشكلة أساساً، وهي: أن أخوة يوسف أمكن أن (يعدلوا) ـ في نهاية المطاف ـ سلوكهم، بعد أن كانوا على (وعي) تام بحقيقة مشاعرهم العدوانية سابقاً: فيما صارحوا أخاهم بقولهم (تا لله لقد آثرك الله علينا)،... إلا أنهم في الحين ذاته (عدلوا) مشاعرهم حينما سلطوا (الوعي) على الموقف الجديد عبر مشاهدتهم مكانة يوسف، وصلة ذلك بإيمانه من جانب، وفشل كل تآمرهم من جانب آخر.

إذن: تعديل السلوك أمر ممكن كل الإمكان من خلال رجوعنا إلى قضية أخوة يوسف.

والأمر ذاته يمكننا ملاحظته في إيثار الأئمة (ع) بعض بنيهم على الآخرين مادام الأمر لا يحسب آثاره التي يصعب تعديلها.

ومع ذلك، فإن الأفضل هو: التساوي بين الأطفال، حتى تختزل عمليات (التعديل): على نحو ما ألمح الإمام (ع) إليه عندما نبهنا إلى قضية يوسف وأخوته.

وإدراكنا لهذه الحقيقة: كما سبق القول، سيغير من نظرتنا إلى وجهات النظر الأرضية التي شقت طريقها إلى الأذهان وكأنها حقيقة مسلمة في ذهابها إلى أن الطفولة ترسم مؤشراتها الحتمية على السلوك.



[1]  الوسائل: باب 83 ح6 مقدمات النكاح.

[2]  الوسائل: باب 70 ح1 مقامات النكاح.

[3]  الوسائل: باب 61 ح3 مقامات النكاح.

[4]  الوسائل: باب 63 ح1 مقدمات النكاح.

[5]  الوسائل: باب 64 ح1 مقدمات النكاح.

[6]  الوسائل: باب 34 حديث 1 احكام الأولاد.

[7]  الوسائل: باب 34 ح2 أحكام الأولاد.

[8]  الوسائل: باب 23 ح1 أحكام الأولاد.

[9]  الوسائل: باب 33 ح1 أحكام الأولاد.

[10]  الوسائل: باب 33 ح3 أحكام الأولاد.

[11]  الوسائل: باب 78 ح5 أحكام الأولاد.

[12]  الوسائلك باب 78 ح1 احكام الأولاد.

[13]  الوسائل: باب 78 ح4 احكام الأولاد.

[14]  الوسائل: باب 76 ح6 أحكام الأولاد.

[15]  الوسائل: باب 83 ح4 احكام الأولاد.

[16]  الوسائل: باب 82 ح1 أحكام الأولاد.

[17]  الوسائل: باب 83 ح7، أحكام الأولاد".

[18] الوسائل: باب 83 ح7، أحكام الأولاد.

[19]  الوسائل: باب 82 ح3 أحكام الأولاد.

[20]  الوسائل باب 82 ح2 أحكام الأولاد.

[21]  الوسائل: باب 13 ح4 صلاة الجنازة.

[22]  الوسائل: باب 88 ح3 أحكام الأولاد.

[23]  الوسائل: باب 89 ح3 أحكام الأولاد.

[24]  الوسائل: باب 89 ح1 أحكام الأولاد.

[25]  الوسائل: باب 90 حديث 2 أحكام الأولاد.

[26]  الوسائل: باب 63 ح1 أحكام الأولاد.

[27]  الوسائل: باب 89 ح4 أحكام الأولاد.

[28]  الوسائل: باب 86 ح3 أحكام الأولاد.

[29]  الوسائل: باب 91 ح3 أحكام الأولاد.

[30]  الوسائل: باب 91 ح2 أحكام الأولاد.

[31] الوسائل: باب 91 ح1 أحكام الأولاد.