:الموضوع

 

مفهوم العدالة

ورد نظرية نسبية العدالة

(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد:25)

 

إن مسألة نسبية العدالة لها علاقة بأساس خاتمية، وأبدية الدين. لأن الدين يقول بأن العدالة هي هدف من أهداف الأنبياء. فإن كانت في كل الأزمنة واحدة، فأي قانون يمكنه أن يكون أبدياً؟

لذا فقد وجدنا أنفسنا مضطرين أن نذكر معنى النسبية أولاً. ثم معنى العدالة ثانياً؛ لكي نرى هل أن ما شاع على الألسنة من أن العدالة أمر نسبي صحيح أم لا؟

فيما يخص معنى العدالة، توصلنا إلى أن البعض قالوا بأن العدالة هي حفظ حالة التوازن في المجتمع ـ أي إن كل حالة يكون فيها مصلحة المجتمع، ويمكنها أن تحفظه بصورة أفضل، وتسير به نحو التقدم فهي عدالة.

إن بعض الأفراد يؤمنون بنظرية خاصة في باب الحقوق، يقولون: في الأصل، إن الأفراد لا حق لهم، بل الحق للمجتمع فقط. ولا يوجد معنى لمفهوم حقوق الأفراد. وحسب تعبير أحد العلماء: إن الحق للمجتمع والتكاليف للأفراد. حيث يجب عليهم أن يؤدوا ما يكلفوا به.

والآن لنرى مدى صحة هذا الكلام؟

جاء في خطبة لأمير المؤمنين (ع)، وردت في نهج البلاغة، والظاهر أنه خطبها في الأيام الأولى لخلافته، تناول فيها موضوع الحق والحقوق، وهي خطبة رائعة، وغنية جداً، جاء في جملة مشهورة فيها "الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف" أي أن الحق له ساحة كبيرة، بل أكبر الساحات من أجل الوصف ـ أي عند الكلام، وعند الدفاع، فالكلام لا ساحة له أوسع من ساحة الحق. أما عندما ينتقل الأمر إلى حالة العمل، فإن ساحة الحق تكون أضيق الساحات، وإن نفس ذلك الشخص الذي كان يصرخ بالحق سيهرب من تحمل الحق في مجال العمل.

وهناك جملة أخرى يقول فيها (ع): "لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له" أي إن الحق لا يجري لمصلحة أحد دون غيره، بل سيجري ضده أيضاً. أي إن كل شخص له حق على الآخرين، كما أن الآخرين لهم حقوق عليه. فإنك لا تجد شخصاً له حق على الآخرين دون أن يكون للآخرين حق عليه. كما أنك لن تجد إنساناً في الدنيا له مسؤولية فقط، ويتعلق به الحق دون أن يكون له حق على الآخرين أي الحق متقابل، وهو من الأمور التي إذا جرت لمصلحة إنسان معين، فانها تجري عليه أيضاً. أي إنه اضطرار، لا يوجد شخص له حق عند الآخرين إلا ويكون للآخرين حق عنده.

هذا هو الرد على نظرية الحق، والتكليف، التي يعتقد بها البعض ويقولون بأن المجتمع فقط صاحب الحق، قبال الأفراد. أما الأفراد، فليس لهم إلا التكليف ـ أي إن الحق يتعلق بالأفراد، وهذا هو معنى التكليف ـ.

أما الأفراد فليس لهم حق يتعلق بالمجتمع. وهذا ما يعارضه الإمام علي (ع) حسبما جاء في العبارة الآنفة الذكر، التي يضيف (ع) إليها بقوله: "ولو كان لأحد أن يجري له، ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه". [ نهج البلاغة الخطبة 214].

وهذا أمر صحيح جداً ـ في مورد الله ليس متقابلاً، فالحق الذي لله سبحانه على الآخري، أو على الأشياء الأخرى، يختلف عن الحق الذي هو للآخرين حيث أن الحق الذي للآخرين معناه أن بإمكانهم الانتفاع. أما حق الله سبحانه، فلا يعني الانتفاع، بل معناه أن الآخرين في مقابل الله ليس لهم إلا التكليف والمسؤولية، ولا يوجد شخص له حق على الله.

فعقلنا أضعف من أن يصدق أن أحداً له حق على الله، حتى خاتم الأنبياء ـ أي لا يوجد أحد يدين له الله، في الدنيا بشيء حتى لو كانت عبادته كعبادة الثقلين.

فهل يوجد شخص في الدنيا له حق على الله ـ أي دائن لله بشكل إذا لم يعطه الله سبحانه ذلك الحق يكون قد ظلمه؟

كلا، فلا يمكن أن يوجد مثل هذا الشخص.

إننا نقرأ في بعض الأدعية "إلهي عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك" أي عاملنا بعفوك وبفضلك، فإن ما تعطيناه إنما هو جود وكرم منك، فنحن نطلب منك أن تصدر إلينا جودك وكرمك فقط، ولا تعاملنا بعدلك لأن العدل يراعي الاستحقاق والحق، وإذا أردت يا إلهي أن تراعي الاستحقاق، فإن ذلك يعني أنك ستعطينا حقوقنا فقط، في حين نحن لا حق لنا.

فالخادم الذي يعمل في بيت أو العامل الذي يعمل في دكان شخص وأراد أن ينفصل عن صاحب الدار أو صاحب الدكان هل يستطيع أن يقول له: أعطني حقوقي؟

إن شخصين من بني الإنسان يمكن أن يكون لكل منهما حق باتجاه الآخر، أما باتجاه الله، فليس لأحد حق، حتى لو كان له عبادة الثقلين، وحتى لو كانت نياته في أعلى درجات الخلوص، وكان ممن قيل بحقه "ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين".

فمع ذلك لا يكون ذا حق تجاه الله، لأن العبد مقابل الله لا حقل له من نفسه. ثم إذا قسنا العباد بعضهم لبعض فسيكون لأحدهم شيء وللآخرين شيء آخر.

أما إذا أخذنا العباد مقابل الله، فلا يوجد عبد بنفسه له شيء، فكل ما له إنما هو منه سبحانه.

ولنذكر مثالاً بسيطاً: رجل له طفلان، فاسترى لأحدهم حذاء واشترى حذاء آخر للثاني، ثم اشترى ملابس لكل منهما، وأعطاهما نقوداً. فعندما يتقابل الطفلان يستطيعان أن يعينا حداً بينهما، فيقول أحدهما لصاحبه مثلاً: إن هذا المعطف لي، وليس لك، وهو له في واقع الأمر، لأن والده قد اشتراه له، لا لأخيه، ولكن هل يستطيعان أن يعينا حداً بينهما وبين والدهما ـ أي أن يقول أحدهما لوالده: إن هذا المعطف لي، وليس لك؟

وإذا قال له ذلك، فانه سيعتبر قولاً مضحكاً في نظر الآخرين الذين يعرفون طبيعة العلاقة بين الأب، وهذين الطفلين، لأن كل ما عندهما إنما هو من أبيهما ـ أي جزء من ملك أبيهما. أما الإبن فله أولوية، بالنسبة للإبن الآخر، لأن الشيء قد اشتري له من قبل والده.

إن نسبتنا مقابل الله هي أقوى وأشد ما يمكن أن تكون عليه من درجة من نسبة الإبن مع والده، لأن العبد كل ما عنده ـ أعم من قوة البدن وقة الروح ـ هي ملك الله، رغم أنها من وجه تعتبر في نفس الوقت ملكاً للشخص.

فالله سبحانه هو الذي أعطاها له حتى موفقيته في العمل، إنما هي من الله.

ولو صرف العبد كل جهده من أجل شكر الله، هل سيؤدي حق الشكر؟

إن من المستحيل أن يستطيع الإنسان أن يشكر الله حق شكره. لو أحسن إليك شخص لأمكنك أن تشكر إحسانه قولاً أو عملاً، لأن إحسانه عمل من الأعمال، والشكر ـ أيضاً ـ أما مقابل الله سبحانه، فإن نفس الشكر من العبد إنما هو توفيق من الله. ويحتاج إلى شكر.

فإن أردت أن تشكره على كل نعمة، فإن إحدى هذه النعم هي نفس الشكر فإن كلمة الشكر لله تحتاج إلى شكر آخر، وهكذا يكون العبد عاجزاً عن شكر الله. لأن كل شكر سيحتاج إلى شكر آخر.

إن سعدي يقول: إن منة الله على العبد تتجلى في توفيقه له على الطاعة، التي توجب التقرب إليه سبحانه. وإن الشكر لها هو مزيد من النعمة.

كما ذكر الأئمة (ع) أن لا أحد يمكنه أن يؤدي الشكر كاملاً، لأن كل شكر يحتاج إلى شكر. والإنسان ليس له قدرة على شكر نعمة الشكر فضلاً عن نعمة الحياة.

إن زين العابدين (ع) في دعاء ابي حمزة يخاطب الله سبحانه بقوله: "أفبلساني هذا الكال أشكر؟" مع أنه روي أنه (ع) كان يصلي عامة الليل، وعندما يحل السحر يرتل تلك الأدعية المعروفة والتي هي نموذج عظيم مما يجري على ألسنة البشر، وهي نموذج بلاغي وأدبي رائع جداً، إنه مقابل الله يقول: افبلساني هذا الكال أشكرك؟

وهذا هو قول أمير المؤمنين (ع): قد كان لي عليكم حقاً بولاية أمركم ولكم علي مثله الذي لي عليكم" أي أنا بحكم كوني متولي وحاكم عليكم فلي حق عليكم، لأن كل وال له حق على رعيته، كما أن الرعية لها حق على الوالي. فبما أني الآن خليفة عليكم، فلي إذن حق عليكم، وبما أنكم رعيتي لكم حق عَلَيَّ.

إنه (ع) ذكر هذه المقدمة لكي لا يظن الظان أن للوالي حق على الرعية وليس للرعية حق على الوالي.

إن الإنسان عندما يطلع على أقوال بعض من كتبوا في فلسفة الحقوق، فإنه سيرى فيها أفكاراً بلا معنى، ومتضادة، ومتناقضة. إن في بعضها عندما يتحدث عن حق الحاكم نرى أن عقيدته هي أن الحاكم فقط له حق على الناس، فلا حق له عليه. إن لهذا الرأي مؤيدون كثيرون، وبالأخص بين فلاسفة أوروبا الجدد، كما كانت هذه الأفكار في إيران ـ أيضاً ـ قديماً.

إن أمير المؤمنين (ع) يخطئ هذه الفلسفة، فكل من الحاكم والأمة عنده مشمولان بهذا القانون الكلي، لأن الحقوق متقابلة.

فحق الحاكم على الرعية أن يأخذ بنظر الاعتبار صلاحهم في سلوكه، ويسعى من أجل مصلحتهم إن استقامت.

الحاكم لا يكون ـ في نظر علي (ع) ـ من غير استقامة الرعية. وإن استقامة الرعية لن تتحقق بدون استقامة الحاكم. إذن: فالقول بأن الأمر هو من طرف حق، ومن طرف آخر تكليف ليس صحيحاً. بل إينما وجد الحق في الدنيا يوجد التكليف قباله.

لقد أعطيتكم وعداً أن أبين لكم هذه الليلة وجهة نظر الإسلام في باب حقوق الفرد، والمجتمع ـ أي نرى وجهة نظر الإسلام في من هو ذو حق. الفرد أم المجتمع، أم كلاهما؟

في رأي الإسلام كل منهما ذو حق. لماذا؟

قلنا في الليلة الماضية: إني القائلين بأصالة الفرد يعتبرون المجتمع أمراً اعتبارياً، والأصالة للفرد.

أما القائلون بأصالة المجتمع، فيرون الفرد إعتبارياً، والأصالة للمجتمع.

إن كلا القولين خاطئ، لأن الفرد له أصالة، كما أن المجتمع له أصالة. أما لماذا؟

إننا في الليلة الماضية تعرضنا إلى القول بأصالة الفرد، وذكرنا أن أصحابه يعنون ـ أيضاً ـ أن المجتمع أمرا اعتبارين وقد عبرنا عن رأيهم هذا بالقول: إن المجتمع لا وجود له وإن الأفراد لا وجود لهم، إنهم موجودون، يسيرون ويأكلون ويتكلمون. إنهم يقولون: إن المجتمع هو هؤلاء الأفراد. فعندما يتجمع عدد من الأشخاص في مكان معين نسميهم (مجموع) وإلاّ، فالمجموع لا وجود له في أي وقت. فالمجتمع إذن هو أمر اعتباري.

هنا مسألة فقهية لازالت محل خلاف بين فقهائنا، وهي: هل أن الدولة تملك أم لا؟ والبحث هو: هل أن ما عند الدولة هو ملك شرعي لها أم لا؟ هل لها صلاحية التملك أم لا؟ أي إن الدولة إذا قامت بمشروع معين فهل إنها تصبح مالكة له أم لا؟ فإذا قامت الدولة ـ كالأفراد ـ بعمل تجاري أوعمل عامٍ، فهل إنها تصبح عن هذا الطريق مالكة أم لا؟، مثل خدمات البرق والبريد، فأنت الآن لو وضعت ظرفاً رسائلياً في صندوق البريد، ووضعت معه ريالين ـ عملة إيرانية ـ فإن الدولة الإسلامية ستقوم بنقل هذا الظرف لك من نقطة إلى نقطة أخرى داخل البلد. فلو لم تنجز الدولة هذا العمل وقامت به مؤسسة وطنية أخرى، وأعلنت أنها مستعدة لنقل رسائل الناس من نقطة إلى نقطة مقابل كل رسالة أربع ريالات، فمن البديهي أن هذا المعاملة شرعية.

فعندما تؤدي الدولة نفس هذا العمل، هي يعتبر عملها صحيح أم لا؟

إن العلماء قد اختلفت آراؤهم في هذا المجال. كثير من العلماء بل أغلبهم يقول: بأن الدولة يصح منها التملك، فلو كان مالها من حلال، فإنها مثل أي شخص تستطيع أن تعمل، وتحصل عىل المال من هذا العمل، وإن هذا المال يعتبر ملكها، لا يجوز التصرف به بدون مجوز. كما أنها إذا حصلت على مال من طريق غير مشروع، فإن ذلك المال يعتبر غير مشروع.

الفتوى الأخرى في باب المعاملات تقول: إذا أنجز الإنسان معاملة بشكل كلي، فإن معاملته تعتبر صحيحة حتى إذا كانت النقود التي يدفعها في مقام الأداء من حرام ـ أي إنه يجري المعاملة دون أن يبرز نقوده المحرمة.

فلو أراد الإنسان شراء دارن وكانت نقوده من حرامن ولكنه لم يجر المعاملة على تلك النقود بعينها ـ أي أن يقول ـ مثلاً ـ إني أريد أن أشتري منك الدار بهذه الأموال التي تراها، ففي هذه الصورة تكون المعاملة باطلةً ـ طبعاً ـ ولكنه ينجز المعاملة بشكل كلي، دون أن يرى صاحب الدار المبلغ، ويقول له مثلاً: أنا أشتري منك هذه الدار بمبلغ عشرين ألف تومان، وسأعطيك المبلغ غداً. أي إنه لم يشخص النقود التي سيدفعها؛ فإن المعاملة تنعقد على مبلغ عشرين ألف تومان، ويبقى هذا المبلغ بذمة المشتري عندها يكون المشتري ملزم أن يوفر هذا المبلغ مالاً حلالاً لتبرأ ذمته من الدين الذي تعلق بها، فلو أنه لم يفعل ذلك، ودفع هذا المبلغ مالاً حراماً، فإن ذمته لم تفرغ من الدين، وإن أصبح مالكاً للدار.

هذه هي فتوى أغلب العلماء ما عدا ـ حسبما سمعت ـ المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري.

فلو ضممنا هذه الفتوى لما قبلها ـ أي إذا أنجزت المعاملة بصورة كلية حتى لو أنه في مقام الأداء أعطى المشتري مالاً حراماً، فإن المعاملة تعتبر صحيحة ـ في هذه الصورة ـ تأتي الدولة وتشتري ماكنة قطار وصالات وسكة حديد وأشياء أخرى تشتريها من أي بائع، فإنه يتعلق بذمة الدولة أداء الدين. وعلى فرض أنها دفعت من مال حرام، فإن المعاملة صحيحة، وإن الدولة تصبح المالك الشرعي للقطار. وأنت يجب أن تتعامل معها المعاملة التي تنبغي مع المالك الشرعي للقطار، وأن السرقة والتحايل في هذا المجال يعتبر خلافاً للشرع.

أي إنك ـ مثلاً ـ كان عندك خمسة أمنان زيادة في الوزن، وأخفيت ذلك، فإنك ستكون مديوناً لهان كما تكون مديوناً لأي شخص.

فلو أعلن ـ مثلاً ـ أن هذا القطار ينقل الشخص الذي عمره أقل من أثني عشر عاماً مجاناً، وكان طفلك الذي يسافر معك عمره إثنا عشر عاماً، ولكنك قلت لهم إنه يبلغ إحدى عشر عاماً فقط. فضلاً عن أنك كذبت وفعلت حراماً ستبقى مديوناً.

إن مسألة هل أن الدولة تملك أم لا؟ مسألة فقهية، ولكنها قريبة جداً إلى موضوع بحثنا، مع أنها مسألة فلسفية وإجتماعية.

فطبقاً لوجهة النظر القائلة بأن الفرد موجود، وأن المجتمع غير موجود؛ لأنه أمر اعتباري تكون الملكية الاجتماعية أمراً خطأً موهوماً.

وإن الحق مع من يقول: إن المجتمع موجود، وله صلاحية التملك من الطرق المشروعة.

ونحن لا نريد الاستغراق أكثر في مسألة هل أن الدولة لها حق التملك أم لا؟ فهي ذكرت هنا بشكل اعتراضي.

فلنرى الآن لماذا المجتمع موجود؟

إن القول بأن المجتمع هو مجموع الأفراد فقط، ليس بصحيح. فالمجتمع أكثر من ذلك هنا، لابد أن أبين مسألة، قد قرأتموها في مرحلة الدراسة الثانوية، وهي أن هناك فرق بين المخلوط والمركب. والمخلوط هو مجموع الأشياء التي وضعت الواحدة جنب الأخرى، ليس أكثر.

فإنك لو خلطت مقداراً من الفاصوليا، والحمص فسيبقى الحمص حمصاً، وستبقى الفاصوليا، فاصوليا، دون أن تغير، فقط إنهما خلطا معاً.

أما الهواء فيسمى مخلوطاً، لأنه متكون من الأوكسجين والأزوت معاً، حيث الواحد منهما مع الآخر، فيوجد شيء ثالث جديد. فالماء مثلاً يسمى مركباً، لأنه يتكون من عنصري الأوكسجين والهايدروجين، فعندما يكونا معاً يتكون سائل له خصائص، يختلف عن خصائص كل من العنصرين.

إنه يوجد في هذا العالم مركبات كثيرة، وعلم الكيمياء هو علم التركيب.

فهل إن أفراد بني البشر الذين يعيشون معاً مثلهم مثل المخلوط؟ أم مثل المركب؟ أي هل حالتهم أقرب إلى حالة المخلوط؟ أم إلى حالة المركب؟

إننا لو وضعنا في صحراء مئة ألف حجراً لمدة مئة ألف عام، الواحد جنب الآخر. فإن الواحد منها لن يؤثر بغيره. وإذا زرعنا في بستان مئة ألف شجرة، فإن كل شجرة ستعيش وحدها ـ أي إن كل شجرة ستنشغل بالماء والأرض، والنور، والحرارة.

أما أفراد بني البشر، فإن شخصياتهم تؤثر الواحدة بالأخرى، أي كل منا ـ أنا وأنت ـ اكتسبنا كل شخصيتنا من المجتمع، والمجتمع اكتسب منا أيضاً. فأنا جالس هنا باحساسات خاصة، وعقائد، وأفكار خاصة، إنما هي من المجتمع ـ على الرغم من أن لنا عقل وإرادة، وننتخب ولا نجبر في العمل، أنت جالس جلست هنا بخلق طاهر خالص، وهو أنك صادق. فمن أين أتيت بالصدق؟ لو فكرت بصورة صحيحة سترى أنه المجتمع الذي أعطاك إياه. أنت تمتلك عقيدة وإيماناً بالإسلام، فمن أين أتيت بهذا؟

هل أعطتك إياه الأرض؟ أم الهواء؟ أم المجتمع الذي أخذت منه ذلك؟

ومن الطبيعي أن هذا المجتمع الذي تأخذ منه، وضعه ليس وضع المخلوط، وهو ليس كذلك، بتلك الشدة التركيبية التي عرفناها في الماء لكنه شبيه بالمركب.

إن المجتمع يؤثر بالفرد، والفرد كذلك يؤثر بالمجتمع. والمجتمع في واقع الأمر يشكل في مجموعه شيئاً واحداً له روح، وله عمر. وهذا أمر رائع استنبطه بشكل جيد وبلوره العلامة الطباطبائي ـ سلمه الله ـ حيث أنه استنبط بوضوح كامل من القرآن الكريم قوله بشخصية المجتمع وعمره. (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). (الأعراف: 34)

إنه يقول بأن للمجتمع سلامة ومرض، وسعادة وشقاء، واشتراك في المسؤولية. يتساءل البعض أحياناً: لماذا يرتكب الأكثرية جرماً، وينزل بهم العذاب يشمل حتى الصالحين الأقلية الذين يعيشون بينهم؟

إن هذا البعض لا يعرف أن حكم أفراد المجتمع حكم الجسد الواحد، عندما يصاب عضو منه بالسرطان، فإن الأعضاء الأخرى لا تستطيع أن تقول: لماذا نحن يجب أن نفنى أيضاً. وذلك بدليل أنها متصلة ومتحدة الواحدة بالأخرى، وبدليل أنها تشترك بالسعادة وبالشقاء، لذا فالقلة لابد أن تتضرر من المجتمع، فالدار الأخرى وحدها هي دار التمييز. أما في الدنيا، فإن أفراد المجتمع متصلون بعضهم ببعض حقاً، ويتقاسمون المر والحلو في الدنيا حقاً، وإنهم شركاء بالسعادة والشقاء حقاً. والدار الآخرة هي دار الامتياز (وامتازوا اليوم أيها المجرمون). (يس: 59)

في هذه الدنيا لا موقع لـ(وامتازوا) في هذه الدنيا يوجب القانون والقاعدة العملية ـ في حال سيطرة فئة فاسدة من المجتمع وتمكنها من تعميم فسادها على ذلك المجتمع، فإن البلاء سيشمل الجميع إنه سيأخذ السالم والسقيم ويحترق الأخضر واليابس، ولكن هذا يعتبر عذاباً للفاسدين. وربما سيلاحقون يوم القيامة ـ أيضاً ـ أما غير الفاسدين، الذين هم غير مستحقين للعذاب بذاتهم، فإنه يعتبر بالنسبة لهم مصيبة وابتلاء وسيثابون عليه يوم القيامة. إن كانوا قد نهوا عن المنكر.

وعلى كل حال، فإنه لا تمييز في هذه الدنيا.

إذن: بما أن المجتمع موجود كالمركب، وله وحدة، وله خطر سير خاص وإنه يتكامل، وله عمر وحياة وموت، ولا يمكن إلا أن يكون له ذلك، كما أن له حقوق.

إذن: فإن كلام القائلين بأصالة الفرد وبكون المجتمع أمر اعتباري هو كلام خاطئ، ونحن نقرأ في القرآن الكريم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (الأحزاب: 6) أي إن النبي له حق على المؤمنين أكثر من حق المؤمنين على أنفسهم ـ أي إنك تملك نفسك ومالك، واحترامك وكرامتك، ولكن الرسول له مالكية على نفسك ومالك واحترامك وكرامتك أقوى من مالكيتك لها.

أما لماذا؟

لأنك لا تمتلك نفسك أو مالك بحيث تتصرف بها كيف تشاء، حتى أنك لا تمتلك حقيقتك، كما أن بعض الأحاديث تفيد أن نفس المؤمن ليست تحت اختياره بل إن الرسول هو مالك نفس المؤمنين أي إنه يستطيع أن يضحي بأنفس المؤمنين حينما يرى المصلحة في هذه التضحية.

أما ما المقصود بأولوية الرسول على المؤمنين أنفسهم؟ هذا الحق على من وبنفع من؟ هذا الحق الذي جعله الله لنبيه لمصلحة من جعل؟

هل إنه جعل لمصلحة النبي (ص) ـ أي هل أن الله هو الذي جعل هذا الحق للنبي بأن يضحي بالمؤمنين لأجله؟

كلا، بل لأنه ولي أمر المسلمين ورئيس مجتمعهم، ولأنه الممثل لتمام مصالح المجتمع، أعطاه الله هذا الحق لأنه حينما يرى أن مصلحة المجتمع تقتضي أن يضحي بفرد من أبنائه يضحي به. وليس من قائل بأن النبي أعطي هذا الحق لينتفع به شخصياً، ولا معنى أصلاً لهذا الكلامن لأن النبي من جهة شخصية غير محتاج للناس ليضحي بهم من أجل حياته، هذا أولاً، وثانياً لم يقل أحد بهذا الرأي.

ولكن هل إن هذا الحق الذي جعل للرسول ينحصر بشخص الرسول فقط؟ كلا. بل هو ينتقل للإمام أيضاً، لأن الإمام هو أيضاً رئيس المجتمع وممثله بعد الرسول، فينتقل هذا الحق إليه. ولكن هل إن هذا الحق ينحصر بالرسول والإمام؟ أم إنه ينتقل لكل حاكم شرعي له النيابة عن الرسول والإمام؟ نعم إنه ينتقل لهذا الأخير أيضاً.

وهذا دليل على أن الإسلام يقر حقاً للمجتمع، لأنه يعترف بأصالته وبحياته، ولأنه في واقع الأمر له وحدة، وله اعتبار ليس بمطلق.

في بعض الأحيان نواجه مسائل يصعب حلها وفق وجهة نظر الفلسفات الأخرى، مثلاً لو سئلنا هذا السؤال: هل أن كل نسل يتحمل تكليف ومسؤولية بالنسبة للجيل التالي له أم لا؟ أي نحن الآن جيل حاضر، والجيل الآتي لا زال إلى هذه اللحظة غائب لم يوجد بعد. فهل نتحمل مسؤولية تجاههم أم لا؟

فإن قلنا: نعم نتحمل المسؤولية. فمعنى ذلك أن الجيل القادم الذي لم يوجد بعد، له حق علينا نحن الموجودون فعلاً.

أما إذا كان الجواب: لا، فلا يكون لهم حق علينا، إذن: فما معنى هذا الكلام الذي يترنم به كل الناس هذه الأيام من أنهم مسؤولون عن الأجيال القادمة؟ ماذا يعني هذا؟

أنا أريد هنا أن أوجه السؤال إلى الذين يريدون أن ينظروا للحقوق وفق عقيدة غير العقيدة الإسلامية: ماذا يعنون بقولهم: إنهم يتحملون مسؤولية تجاه الأجيال القادمة؟ هل أن الأجيال القادمة لها حق في أعناقهم؟ من أين جاء هذا الحق، وهم لم يأتوا بعد إلى الدنيا. ما هو منشأ إدعائهم هذا؟

نعم إن الجميع متفقون على أن كل جيل مسؤول عما بعده من أجيال، ولكن قد يسأل سائل: ما معنى هذه المسؤولية؟ إننا لا مسؤولية لنا تجاه الأجيال القادمة مثل أبي العلاء المعري الذي يقول:

هذا ما جناه عليّ أبي                وما جنيته على أحد

إنه يعتبر وجوده ذنب ارتكبه والده، لأن الحياة لغو وشر، لذا فهو غير مستعد لأن يمارس هذه الجناية على جيل قادم؛ لأن كل من يمارس عملاً يشارك فيه بإيجاد الجيل القادم، إنما يرتكب جنايةً.

وهذا هو ـ تقريباً ـ رأي الخيام ـ أيضاً ـ لذا فإن أبا العلاء لم يتزوج إلى أن ادركته المنية. وأوصى بأن يكتب بيت الشعر هذا على قبره.

فإن لم نكن مسؤولون عنهم، لماذا نهيء الأرضية المناسبة لهم.

إن من يدعي المسؤولية عن الأجيال، عليه أن يوضح لنا ما هو حق تلك الأجيال علينا. إن الحقوق تنشأ من أن الدنيا لها رب، وأنها تجري لغاية وهدف معينين، إنهم من جهة يدعون بأن الدنيا وجدت صدفةً، وأن بني البشر وجدوا نتيجة تغيرات تصادفية، وعندما تسألهم:

هل إن الخلقة والطبيعة تسير باتجاه هادف؟

يقولون: كلا. ماذا يعني الهدف أصلاً؟ أساساً لا توجد علة نمائية في الدنيا. ومن جهة أخرى يقولون: نحن مسؤولون عن الأجيال القادمة، في حين أن هذا المسؤولية، إنما تبتني على أساس أن الدنيا قائمة على نظام محكم. وأن الخلقة تسير باتجاه هادف. فبما أن الدنيا لها هدف، فإن نفس الخلقة قد أوجدت الحق عندها نكون نحن مسؤولون أمام الخلقة، فالخلقة تقول لنا: بما أنه يوجد لديكم جهاز تناسلي وعندكم رغبة طبيعية بالجنس الآخر، فقد صنعتم هكذا، كي توجدوا الجيل الآخر. أي إنني جعلت للجيل القادم حقاً عليكم.

أما إذا لم يكن الأمر كذلك، فمن الذي أوجد للجيل القادم حقاً علينا إذن؟

والآن لو تركنا موضوع الجيل القادم، ونأخذ الجيل الحاضر بنظر الاعتبار.

الأب وابنه الصغير، فل يوجد لهذا الإبن حق على والده أم لا؟

هل تجد إنساناً في الدنيا، يقول بعدم وجود حق له على والده ووالدته؟

إن الجميع يقولون: بما أنك أنجبت هذا الطفل، فإنك ملزم بتربيته.

إذن: يوجد حق لهذا الطفل.

وهنا يوجد سؤال يطرح نفسه: من أين جاء حق الطفل هذا؟

وهل هو ليس إلا أن الأشخاص مرتبطون في أصل الخلقة بعضهم ببعض. وهو الحق الذي أوجده رب العالم بين بني البشر، في متن الخلقة؟

فإن لسان حال الخالق يقول: بما أنني أوجدت عندك عاطفة أبوية وأوجدت عند زوجتك عاطفة الأمومة، فقد أوجدت بينكما وبين طفلكما أولوية خاصة، وبالنتيجة، فإن لهذا الطفل حق في عنقكما وجد في متن الخلقة، فالمجتمع إذن بشكل عام له حق.

أما النظرية الأخرى القائلة بأن المجتمع موجود، والفرد غير موجود، فلا أرى أنها بحاجة إلى مناقشة، لسخافته فماذا يعنيك إن الفرد غير موجود؟ إن أقصى ما يمكن أن يقبل هذا القول بأن المجتمع موجود مركب من أفراد، إذن: كيف يمكن أن نقول: إن الفرد أصلاً غير موجود؟ وإنه أمر اعتباري؟ إذا كان الفرد أمراً اعتبارياً، فمن أين جاء هذا المركب؟

إلى هنا يمكننا أن ننتهي من البحث العلمي الذي تعرضنا له، في الليالي الثلاثة الماضية، إذا كان معنى العدالة هو التوازن، فإنه لا يخرج عن معنى (إعطاء كل ذي حق حقه). أما لماذا؟ فلأن المجتمع لن يتوازن ـ في أي وقت من الأوقات ـ إذا ديست حقوق الأفراد ـ إن توازن المجتمع برعاية حقوق أفراده ورعاية حقوق المجتمع؛ فلا يمكن أن يتوازن المجتمع مطلقاً وفق نظرية إعدام حقوق الأفراد بشكل تام.

نعم إن التوازن أن يضحي الأفراد بحقوقهم من أجل المجتمع. وهذا لا يتم ـ أيضاً ـ إلا إذا افترضنا أن هناك هدف للخلقة، وأن الحق الذي يضحي به الفرد يضمن له ويؤمن.

أما كيف؟ إنك عندما تكلف إنساناً معيناً بالذهاب إلى الجهاد، أو لأداء الخدمة العسكرية أو للتضحية بروحه، فهنا تكون تضحيته بتمام حقه من أجل المجتمع.

أما وفق أي منطق وفلسفة يقوم الفرد بهذا العمل؟

هل إن هذا الفرد له حق بروحه أم لا؟ وإن كان له حق، فلماذا يضحي به من أجل المجتمع؟ في حين أنه لا يكسب أي شيء من المجتمع بعد موته؟

نحن نقول: إن الدنيا، الآخرة، الموت، الحياة، كلها أمور متصلة ومرتبطة بعضها ببعض، وإن جهادك، وأداءك للخدمة العسكرية لا تعني إعدام حقك بشكل عام، بل تعني إن حقك سيبعث من جديد في العالم الآخر.

أما إذا لم يحرز الارتباط بين الدنيا والآخرة، وأعدمت الحقوق قهراً في المجتمع بشكل مطلق ـ أي إن الحقوق التي سيضحي بها الفرد من أجل المجتمع لا تؤمن في مكان آخر. فإن الجهاد والخدمة العسكرية والتكليف بعمل فدائي سيكون لا مبرر لها، بل ستكون ظلماً، وظلماً مطلقاً.

إلى هنا يكون قد اتضح لنا أن أساس العدالة هو وجود الحقوق الواقعية.

العدالة لا تعني ـ كما قيل المساواة ـ بل إنها لا تعني الموازنة بالشكل الذي لا تكون فيه الحقوق أساس العمل، بل إنها ـ أي العدالة ـ قائمة على أساس الحقوق الواقعية، والفطرية، فالفرد له حق، والمجتمع له حق والعدالة تكون بإعطاء كل ذي حق حقه. العدالة هي رعاية هذه الحقوق.

بناء على هذا، فإن العدالة واحدة في كل الأزمنة، ويخطئ من يقول بأنها أمر نسبي.

على هنا أختم حديثي لهذه الليلة بالدعاء.

أللهم عرفنا حقائق دينك المقدس.