.

 

المتدين لا يستمد تعليمه إلا من خالقه

المتدين لا يهمه غير رضا الله تبارك وتعالى

المتدين لا يتخبط في متاهات العقائد الفاسدة

ويضاف إلى ذلك أن الإنسان المتدين لا يتخبط في متاهات العقائد الفاسدة مثل عبادة البقر أو عبادة فرج امرأة أو الشمس أو القمر، لأن المتدين الحقيقي يدرك أن كل ما سوى خالقه هو محتاج مثله، فكما أن الإنسان يحتاج إلى استمرار مدد واحتياج دائم إلى فيض خالقه كذلك السماء محتاجة إلى من يقيمها بغير عمد، فكانت السماء في الفقر والاحتياج كالإنسان، ولا فرق بينهما من هذه الناحية وكذا الشمس والقمر وغير ذلك، ولذا تجد المتدين يؤمن بمبدأ الإله اللامتناهي في كماله، وهذا في غاية متانة العقل الفطري.

لا يقال: نحن نجد بعض المتدينين يقبل أموراً لا يقبلها كثير من الناس.

لأنا نقول: صحيح أن حال المتدينين حال غيرهم من الناحية العقلية تقبل عقولهم أفكاراً وترفض أخرى، لكن لا تصل إلى حد التنكيس، فالمتدين إذا لم يكن معصوماً من الخطأ يمكن أن يشتبه كما يشتبه غيره، لكن لو دققت النظر وجدت الخطأ ليس من نفسه، لأن المتدين قد فرض فيه سابقاً الإنصاف والميل إلى الدليل والبرهان، بل الخطأ في المقدمات، ولذا وجدنا كثيراً من المتدينين يخطئون، وعلى سبيل المثال تجد بعض المتدينين يرى في السوق رجلاً يطيل النظر إلى امرأة أو يقوم بالتحدث معها، فتجد هذا المتدين يتهم ذلك الرجل بالفسق ظناً منه  ـ بنظره المخطئ ـ  يعاكس امرأة أجنبية، مع أنه لا توجد قاعدة في الدين والشرع تقول: من نظر إلى امرأة متعمداً فاحكموا عليه بالفسق. بل ورد: من نظر بشهوة متعمداً إلى امرأة أجنبية فاحكموا عليه بالفسق.

فالخطأ وقع من غفلة المتدين عن مقدمة من المقدمات وهو أن الحرمة خاصة بما إذا كان النظر إلى أجنبية بشهوة وعن عمد، ولعل الرجل كان ناظراً إلى زوجته أو أمه أو غير ذلك، ولا يجوز للمتدين أن يتهم ذلك الناظر ما دام لم يقطع بأن المنظور إليها أجنبية.

ومن هذا المنطلق أمر الإسلام بحمل المؤمن على سبعين محملاً من محامل الخير، فإذا رأيت ذلك الرجل في المثال المتقدم قد أطال النظر إلى امرأة فقل في نفسك: لعلها زوجته أو لعلها أمه،  أو عمته أو خالته أو لعله يعرفها ولكن أخطأت طريقها إلى بيتها أو غير ذلك من المحامل المقبولة شرعاً وعقلاً، وهذا الحمل له منشأ عقلائي، فكثير من الناس يريد أمه أو زوجته وليس من اللازم أن يريد العمل المحرم.

لذا ينبغي على الإنسان التحقيق والتدقيق في الأمور، وليست العجلة في ذلك إلا أمراً مذموماً. والمتدين له هذه الروح وإلا لم يكن متديناً.

المتدين لا يستمد تعليمه إلا من خالقه

مهما وصل الإنسان في التطور العلمي وتقدم يبقى ناقصاً عن إدراك الحكم والفلسفات التي تحيطنا، ذلك أن الله تبارك وتعالى هو الكامل المطلق وغيره ناقص، والكامل هو الذي يضع النظام للناقص وإلا لزم مخالفة العقل في ذلك. وعلى هذا الأساس أرسل المولى تبارك وتعالى (124) ألف نبي مؤيدين بالعصمة والتشريع المتكامل  ـ على حسب الظروف الزمانية والمكانية لكل نبي ـ  لأجل هداية الناس، حتى أن أول من وطئت رجلاه الأرض آدم الذي هو أبو البشر على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام كان نبياً، حتى تكون البذرة الأولى صالحة من أول الانتشار البشري على وجه الكرة الأرضية، وإن كان (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا).

وقد جرت الحكمة الإلهية على جعل الطبيعة البشرية مجبولة على حب الشهوات الطبيعية المحللة  ـ  مع أنه قد أيده بأمرين: بالرسول الباطني وهو العقل وبالرسول الظاهري وهو الأنبياء ـ فهو يميل إلى لبس أفضل الملابس وأكل وشرب ما لذ وطاب ونكاح أجمل النساء وأكفئهن بدنياً ونفسياً وغير لك، كما أنه  في المقابل يميل إلى الشهوات غير الطبيعية وغير المحللة فتراه  ـ بسبب النفس الأمارة بالسوء التي انقادت لأقوال إبليس وأتباعه ـ  يأكل ويشرب المحرم وينظر إلى المحرم وينكح المحرم، وبهذا اختلط الأمر على الإنسان وزاد الطين بلة في نقصان العقل البشري، حيث أنه ناقص، لأنه مخلوق محتاج، والمحتاج ناقص، وإذا أضاف إلى نقصانه نقصاناً آخر بسبب النفس الأمارة المنقادة لإبليس وأعوانه كان الأمر أخطر بكثير من ذي قبل. حتى أصبح الاختلاف هو السمة الواضحة على بني البشر، وحتى وصل أمره إلى قبول الخطأ ورفض الصواب في كثير من الأمور، نعم إن من أحاطته التأييدات الربانية بسبب جمال القابلية التي عنده (أعني النفس الملكوتية التي كَوَّنَها الإنصافُ وكذا البحثُ عن الحقيقة نظرياً وتطبيقها عملياً) تغلب عليه الصحة.

ومن هنا يكمن السر، إذ أن الفرق بين المتدين وغيره هو الإنصاف، وإلا ما معنى أن ترسل السماء من عليائها (124) ألف نبي مبشرين ومنذرين، والتأكيد على وجود الصانع والخالق لهذا العالم، واستنطاقهم للعقل البشري الحاكم بأن لكل أثر من مؤثر ولكل سبب من مسبب، وكذا التأكيد على واحديته وأحديته، وأنه كمال مطلق لا يعتوره أدنى نقص، وإلا كان محتاجاً وبالتالي كان ناقصاً.

إنه يعني قوله تعالى (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) ويعني قوله تعالى (إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم).

فالمتدين هو الذي يأخذ تعاليمه وتشريعه من خالقه لا من مثله ناقص، والمراد بالتعاليم ليس تعليم النجارة ولا تعليم الهندسة ولا الكيمياء، إذ أغلب هذه العلوم من تفكير بشري، وإنما أقصد التشريع الإلهي الحاكم على التفكير البشري، وبعبارة أخرى: إنما المراد من التشريع ذلك النظام القانوني  ـ في الحلال والحرم وتفسير القرآن الذي هو منهاج الحياة عقيدةً وطباً واقتصاداً وسياسةً واجتماعاً وتربيةً وغير ذلك سواء في بعض الفروع أو بعض الأصول ـ  الصحيح الذي لا يعتوره الخطأ، والذي لا يصلح أن نأخذه إلا ممن لا يخطأ في معرفته وإلا وقعنا في الخطأ. إذن المتدين الحقيقي هو الذي يأخذ منهاجه وطريقة سلوكه النظري والعملي ممن لا يخطأ وهو الذي يعرف القرآن معرفة لا خطأ فيها.

فالقرآن لا يخطأ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكذا لابد وأن يكون حامله ومفسره غير قابل للخطأ والاشتباه وإلا انتفت الحكمة الربانية، إذ كيف يضع الحكيم تبارك وتعالى كتابه وتشريعه وقانونه المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عند إنسان يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه لعدم عصمته؟! (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).

إن الله عز وجل هو الذي يعلم المصالح والمفاسد على حقيقتها في الحوادث الواقعة الحسنة منها والقبيحة، فلا يحرم شيئاً إلا لمفسدة فيه ولا يوجب شيئاً إلا لمصلحة فيه، وإذا تساوت المصلحة والمفسدة أباحه وجعله حلالاً، لكن جانب الحسن إذا كان هو الأغلب فيه حَبّبه لعبده (أي جعله مستحباً)، وإن كان جانب القبح هو الأغلب كَرّهه له، أي جعله مكروهاً.

وإذا لاحظنا أن الأدمغة البشرية ناقصةً عرفنا ما قدمناه وأنها غير عالمة بجميع المصالح والمفاسد، فكم من إنسان وضع قانوناً جبراً ثم هو غيّره من تلقاء نفسه لعلمه بعدم صلاحيته، وكم من إنسان رفع قانوناً كان موجوداً فوقعت الفتنة بسبب رفعه ثم أرجعه بنفسه. وكل ذلك يدل على نقصان العقل البشري، فتكامله يكمن في متابعته لرسالة السماء العالمة بالمصالح والمفاسد والتي على أساسها تحكم بوجوب أو حرمة الشيء الفلاني، ومن هنا كان القرآن والأئمة عليهم السلام، لقوله (ص) (إني تارك فيكم الثقلين كتاب والله وعترتي من إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي)

فالإنسان الذي يطبق الحكم الشرعي القائل بحرمة الخمر على نفسه لا شك أنه لا يقتل أباه ولا يزني بأحد محارمه ولا ولا، والإنسان الذي يطبق الشرع على نفسه في حرمة الزنى ولا يقوم بهذه العملية الإجرامية، فلا شك أنه لن ولن يبتلي بمرض الزهري ولا بمرض السيلان ولن يفضح بين الناس ولا ينهار اقتصاده ولا ولا...

إن الخالق جل وعلا هو العارف الوحيد بالنظام الأصلح والأحسن للمخلوق، فبحكم العلاقة التي بين الخالق والمخلوق يأتي الخالق بتشريع قراءة القرآن وقراءة الأدعية والصلوات  ليكون المخلوق شديد الارتباط بالخالق، وليعلم في كل وقت أنه لا يمكن الفرار من حكومته، وليعلم أن الأمور طراً بيده تبارك وتعالى، فإذا أراد المخلوق شيئاً فيلجأ إلى خالقه تبارك وتعالى، فهو الكامل المطلق الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة.

وإذا كان الإنسان مذنباً ويعلم أنه توجد حجب بينه وبين الله تبارك وتعالى فقد أمر الله تبارك وتعالى بالتوسل بالنبي (ص)، بحيث يجعله بين يدي حاجاته لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (ولو انهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما) إن قلت: ولكن النبي (ص) قد مات.

قلت: لا بد وأن يعلم أن الموت ليس هو عدم بعد وجود بل عبارة عن انتقال من نشأة إلى أخرى، وأما البدن المسجى أمامك فهو بروحه، فالروح باقية والجسد ينتقل إلى عوالم أخرى بسبب تبدله إلى مواد أخرى، فربما يتبدل إلى تفاحة وربما يكون نطفة أخرى فيما لو أكلت التفاحة، وهذه هي سنة الله في الكون.

والحاصل أن الميت إن كان مؤمناً فهو حي عند ربه مرزوق لقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون). وقد ورد عنه (ص) أنه يبلغه سلامُ زائره حتى بعد وفاته، هذا مضافاً إلى السيرة القطعية للمسلمين القائمة على أنهم كانوا يتوسلون بالنبي (ص) وكانت تقضى حاجاتهم. ومن هذا المنطلق يعيش الإنسان المتدين حياة الأمل.

وبحكم العلاقة بين الفرد والفرد الآخر من ناحية المعاملة شرع أحكام البيع وأحكام المضاربة والزارعة والمساقاة والوكالة والكفالة والنكاح والطلاق وغير ذلك.

ومن ناحية حاجة أحدهما للآخر شرع الزكاة والخمس والصدقة والأوقاف وجميع وجوه البر ليتم التكافل الاجتماعي وليسد به حاجة فقير أو مسكين أو عابر سبيل أو مديون أو ليعتق العبد أو غير ذلك. وبذلك لا يبقى الفقير فقيراً، وليشعر بأنه واحد من ذلك المجتمع وأنه إذا انهار فقد انهار سور المجتمع، وحتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء. ومن هنا كان المتدين في طليعة المحافظين على تكافل المجتمع وتماسكه، فقد روي عنه (ص) (فما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع) بل ورد (ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع).

ولو طبق المسلمون هذا الحديث لما وجد المحروم، ولأكل المسلمون من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولسيطروا على العالم بكامله.

لقد حافظت رسالة السماء حتى على أبسط الأمور لكونها عالمة بالمصالح والمفاسد، وعلى سبيل المثال تجد الشريعة الإسلامية تقول: إذا أردت أن تأكل الطعام فيستحب لك هذه الأمور:

          1. أن تغسل اليدين بالماء قبل وبعد الأكل، وذلك لأجل النظافة وقتل الجراثيم.

          2. أن تقول قبل الأكل: بسم الله الرحمن الرحيم، تذكيراً للنفس بأن المعطي لهذه النعم هو الله وأنه هو المبدأ.

          3. أن تقول بعد أن تنتهي من الأكل: الحمد لله، تذكيراً للنفس بأنه هو المنتهى وأن إليه الرجعى وهو المستحق للثناء والحمد

          4. أن تأكل مما يليك، حتى لا يتضايق أحد منك.

          5. أن لا تأكل الطعام الحار، حتى لا يجلب لك الأمراض.

          6. أن لا تنظر إلى الجالسين معك كيف يأكلون، حتى لا يشعر الغير بأن على المائدة من يراقبه في مأكله.

ولقد قال الإسلام بذلك قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة.

فالإسلام الذي أتانا به الخالق تبارك وتعالى هو تشريع متكامل صالح لجميع الظروف الزمانية والمكانية.

وبهذا اتضح أن المتدين يمتلك تشريعاً متكاملاً لا يعتريه النقص.

المتدين لا يهمه غير رضا الله تبارك وتعالى

الغرض الأول الذي يحاول المتدين في تحقيقه هو الفوز برضا خالقه وهو المولى تبارك وتعالى، وهو الغرض الأسمى الذي يجب على كل من وجد في الكون أن يحققه، وذلك ببذل الجهد العقلي والبدني في سبيل تحقيقه مبتعداً عن كل ما يوجب الوقوف في هذا الطريق الرباني.

والمتدين الحقيقي تجده لا يجعل العقبات في الوصول إلى هذا الهدف، فإذا كانت كثرة الأكل تمنع من التوجه إلى الله تعالى أثناء الصلاة حاولَ التقليل منه. وإذا كان الجلوس مع أصدقاء يوجب سخط المولى تبارك وتعالى لم يجلس معهم. وإذا كان التفكير في الرزق يوجب عدم الثقة بالله حاول قدر الإمكان الابتعاد عن هذا النوع من التفكير بالاستعاذة من الشيطان اللعين الرجيم. وإذا كان الربا يجلب له الشقاء في الدنيا والآخرة بأخذ الزيادة بلا مبرر إلا حب الذات لم يتعامل بالربا. وإذا كان سوء الظن بالمؤمنين يبعد عن الكمال الوجودي ابتعد عنه، وهكذا.

وهذا يضفي على المتدين جمالاً أكثر وأكثر، لأن معنى ذلك هو العيش في الحياة الدنيا بهدف، وهو رضا الخالق، وأي هدف أعظم من هذا الهدف، وإنّ هذا الهدف لينبأ عن صدق تفكير المتدين إذ لم ينس ربه وخالقه، بل جعله محل تأملاته وتفكيره.

فالإنسان الذي يصبح وهمه الأول أكله أو بيته أو عائلته بلا رجوع إلى الخالق في قضاء متطلباته الخاصة والعائلية وغيرها  ـ  كالملحد ـ  فهو يعيش بلا تفكير عقلائي، لأن المفروض في الوهلة الأولى من الخلقة وبعد الإدراك البشري لابد وأن يتأمل في حق الخالق الذي أنعم عليه بالوجود، وأنه يجب عليه شكر المنعم، فإذا أصبح وأمسى بغير هذا فهو ليس بعاقل قطعاً، بمعنى أنه يدفن روح العقل والإنصاف في التراب، وهذا في حد ذاته أكبر جريمة يقوم بها الإنسان تجاه نفسه.

ومن هذا المنطلق يعيش المتدين متفهماً لما يجب عليه تجاه الخالق تبارك وتعالى.