.

 

المتدين عندما يعبد ربه

عندما يصلي المتدين

المتدين إنسان صاحب مشاعر

لا يحكم المتدين  إلا خالقه أعني الشرع، ولا تحكمه الشهوات وميول الأنا وحب الذات، ذلك أن نتيجة حب الذات اختلال النظام الكوني، فإذا مر الفقير على غني وسأله أن يعطيه مما أعطاه الله تعالى إما ليسد رمقه ورمق من يعوله أو ليزوج ولداً له أو لأنه مديون أو غير ذلك، ورفض الغني العطاء إما بحجة أنه مسؤول عن أولاد كثيرين، وأن الأولاد مصارفهم مكلفة في هذا الزمان أو لأن عليه متطلبات ومسؤوليات أو أو... (كما عهدناه من أغنياء بلادنا أصلحهم الله تعالى) فلابد من أن يضيع الفقير ومن معه، وهل هذا مقبول في حكم العقل والفطرة؟! نعم هو مقبول في حكم الأنانية وعدم الإحساس بالآخرين، أما في حكم العقل فهذا أمر غير مقبول، وروي عن علي (ع) (البخيل متحجج بالمعاذير والتعاليل).

إن الحجج الواهية لا تغير من الواقع شيئاً بل تزيده سوءًا حتى تصل النوبة إلى أن يمتلأ الفقير حقداً على الغني، بل لو شهر سيفه في وجه الغني ما كان ذلك عجباً كما تقدم.

ثم إنه هل هناك أقبح من حياة الغني الذي يشبع وجاره جائع، وإن الألوف يموتون كل يوم في كثير من مناطق العالم والأغنياء بمرأى ومسمع مع أنهم قادرون على رفع مأساتهم قطعاً.

وأتذكر أن بلداً إسلامياً قد مزقته الحروب والفقر والأمراض يبلغ عدد سكانه (على أقصى التقادير) مائة ألف نسمة، ويوجد في بلادي رجال أغنياء، وكان أحدهم يمتلك أكثر من مائة مليون ريال، وأنا أعلم أنه لو أعطى كل شخص فقير خمسمائة ريال لم ينقص من ماله شيئاً، وهل نقص من ماله شيئاً بالقياس إلى أنه أنقذ مدينة كاملة من الفقر والحرمان والذل والهوان؟

نعم إنه لا يستطيع أن يفعل ذلك، ولكن لماذا؟

الجواب: (حب الدنيا رأس كل خطيئة). كما ورد عنهم (ع)، ولو أدرك أن حب الآخرة رأس كل فضيلة لأدرك معنى إنقاذ الآخرين.

الإنسان المتدين لابد وأن يهتم بأمور المسلمين وإلا ليس بمتدين بل ليس بمسلم كما جاء في بعض الأخبار عن أهل بيت العصمة عليهم السلام (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم).

وقد شجع الإسلام على أعمال البر في كثير من الأخبار فقد روي عن علي (ع) (مع البر تدر الرحمة) وعنه أيضا (لا بر مع شح) وروي عنه أيضاً (حياة الإنسان مع البر أكثر من حياته بالعمر) وعنه أيضاً (إن تتعب في البر، فإن التعب يزول والبر يبقى)، وقد ذم البخل فروي عنه (ع) (من أقبح الخلايق الشح) وعنه أيضاً (البخيل متعجل الفقر) وعنه أيضاً (لا مروة لبخيل) وعنه أيضاً (بالبخل تكثر المسبة) وعنه أيضاً (ما عقد إيمانه من بخل بإحسانه).

والإنسان المتدين لا يستصغر العطاء فإذا لم يستطع إلا أن  يعطي القليل فهو مأجور عليه قطعاً، وقد روي عن الرسول (ص) (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن الله عز وجل يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يوفيه إياها يوم القيامة، حتى يكون أعظم من الجبل العظيم) وروي عن علي (ع) (الصدقة جنة من النار) وروي النبي (ص) (إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته).

والإنسان المتدين يراقب على الأقل (إن كان قادراً على ذلك) جيرانه الفقراء وأهل الحاجة، ولربما لهم حاجة غير المأكل والمشرب، ولربما يوجد عجوز غير قادر على قضاء حاجاته ويريد من يقضيها له.

كم جميل أن يقوم الإنسان بقضاء حاجات الناس إن أمكنه ذلك  ـ لأن منطق الفطرة هو التعاون والإخاء لا الأنانية والتفكك  ـ  فهو مضافاً إلى احترام الناس له يجد الثواب الجزيل من قبل المولى تبارك وتعالى، بل وتقضى حاجاته في الدنيا قبل الآخرة، وهذا من الأمور الواضحة.

وقد حث الإسلام على الكرم والإحسان والإيثار، كل ذلك في سبيل تحقيق الضمان الاجتماعي في الإسلام، فروي عن علي (ع) (الإيثار أشرف الإحسان) وعنه (ع) (الإيثار أفضل عبادة، وأجل سيادة) وعنه (ع) (الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان) وعنه أيضاً (أحسن الكرم الإيثار).

وقد ورد في وصية أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) لمالك الأشتر النخعي عليه الرحمة لما ولاه مصر: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للاقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه فلايشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك  لهم...الخ)

ثم يقول (ع): (واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع...الخ)

ثم يقول (ع): (فاخفض لهم جناحك وأَلِن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعفو فهو أكرم)

فالإنسان المتدين هو ذلك الإنسان الذي يقضي حاجات الناس المحتاجين إن أمكنه.

ولا بأس بأن نذكر هذه القصة: نُقل عن العالم الرباني الشيخ محمد الكوفي رحمه الله أنه رأى الحجة (ع) فقال له: قل للسيد أبي الحسن([1]) يقول لك إمامُك: (أنْقِصْ نفسَك، واجعل مجلسَك في الدهليز، واقض حوائج الناس، نحن ننصرك).

فقضاء حاجات المحتاجين هي قضاء لحاجاتك قطعاً، وكما تدين تدان، فينبغي للإنسان العقلائي أن يعود نفسه على قضاء حاجات المحتاجين، ولاشك ولا ريب أنهم سيلاحظوا ثمار أعمالهم الجميلة وسيحصدوا طيباً حتماً، وعليك بالتجربة.

وأنا الحقير جربت ذلك مراراً، بل عملته لا عن تجربة، لأن الله تبارك وتعالى ليس آلة تجربها فتراها صالحة أو غير صالحة، وإنما الله تبارك وتعالى عند كل من عنده إحساس بالآخرين.

ولا أريد أن استدل بجملة من الأخبار على ذلك، لأن هذا أمر فطري تقضيه الحكمة المتعالية للحكيم المتعال، فإن من كان عنده مجموعة عمال يعملون له، ويجد المولى من بين هؤلاء عاملاً يلاحظ بقية العمال، فمن تعب منهم قام بإكمال العمل عنه، ومن سافر منهم قام بما أمكنه ليمنع الخلل، لا شك أن المولى سيجزيه مقابل إحسانه بما يليق بمحل عظمته.

وهذا الأمر الفطري  ـ جزاء الإحسان إحسان مثله ـ  كما يكون عند المولى الداني (أي الإنسان) كذلك يكون عند المولى العالي (الله تبارك وتعالى) بنحو أعلى وأشرف.

ولذا لابد من خلوص النية لله تبارك وتعالى (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) إن أراد المعطي أن يكون لعمله الأثر التام في الوصول إلى مقام القرب الإلهي بلا حجاب.

ومن الخطأ أن ينتظر المعطي أن يعطى جائزة من المحسن إليه لأن المحسن يدور أمره بين أمرين: إما أن يكون عمله خالصاً لوجه الله وإما أن يكون رياء وسمعة، وعلى التقدير الأول يكون الجزاء محفوظاً عند الله تبارك وتعالى، وإنه عز وجل أعظم من أن ينسى الإحسان، وعلى التقدير الثاني فقد حصل الرياء والسمعة، أي إن ما رامه قد وقع.

بل ينبغي أن يكون المعطي أعلى رتبة من ذلك، بأن لا ينوي أن الله تبارك وتعالى سيعطيه، وبعبارة أخرى: تجد بعض الناس يعمل لله تعالى، أي لأن الله سيعطيه، ولو علم أن الله تعالى لن يعطيه (ولو بحسب الظاهر) فلا يعمل، وهذا أمر غير مرغوب فيه عند الشارع المقدس، لأن العمل لا بد أن يكون له تعالى فقط وفقط، لا أنه له تعالى لأنه سيعطي المحسن، بحيث يكون السبب في الإحسان هو العطاء الإلهي ولا يكون العمل للإله تبارك وتعالى محضاً.

ومن هذا المنطلق تجد المتدينين بالدين الإسلامي حقيقة يدفعون الحق سواء كان الحق خمساً أو زكاة أو غير ذلك إلى مستحقه لأجل بقاء النظام متكاملاً في المجتمع، وما هذا إلا لأنه يعيش روح الاتصال والارتباط التام بالله تبارك وتعالى.

المتدين عندما يعبد ربه

قد تقدم أن المتدين يدين بالدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة، فالمتدين عندما يتجه صوب ربه، إنما هو يعظم خالقه، وتعظيم الخالق أمر فطري وعقلي محض، لأن الخالق قد أحسن إلى المخلوق بنعمة الإيجاد وما يلازمها من نعم كثيرة لا تحصى، فحق على المخلوق أن يشكر الخالق تبارك وتعالى، بل يدرك المتدين أكثر من هذا، وهو أن شكر المنعم غير ممكن لاستلزامه عدم النهاية، فإذا قال المخلوق: سأشكر الذي خلقني لأنه أوجدني لقال العقل له: وهذا الشكر توفيق منه تعالى وهو في حد ذاته يحتاج إلى شكر، إذن شكره يحتاج إلى شكر، فإذن لا يمكن تحصيل الشكر، وهذا معنى قول الإمام زين العابدين (ع) في مناجاة الشاكرين: (فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت لك الحمد وجب علي لذلك أن أقول لك الحمد).

ومع الغض عن هذا نقول أنه لا يمكن للممكن شكر الواجب لأن الممكن عندما يشكر الواجب إنما هو بقدره الإمكاني، وإذا كان كذلك كان الشكر ناقصاً لأن ما كان في دائرة الإمكان لا يصل إلى ساحة الواجب تبارك وتعالى، وهل المتناهي يرتقي إلى اللا متناهي؟!

ولعلك تقول: إذا كان الأمر كذلك فلماذا يطلب منا عبادته وشكره؟

قلت: تلطفاً منه لأجل أن يدخلنا في محل كرامته، وهذا هو المستفاد من قول الإمام زين العابدين (ع) في مناجاة الذاكرين: (إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزهتك من ذكري إياك على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعل محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا وأذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك).

نعم إن الهدف الأول للعبادة هو التقرب منه تبارك وتعالى كما أشار إليه الإمام (ع) بقوله: ومن أعظم النعم علينا...الخ وهذا كما ترى تلطف منه تبارك وتعالى.

وهذا التقرب ربما لا يكفي بأن يؤتى بمصداقه مرة واحدة بل لا بد من تكرار العمل العبادي حتى يشتد التقرب نحوه تعالى ولهذا شرع كل من الصلاة خمس مرات والصوم والزكاة والحج والخمس وغيرها من الأمور العبادية، بل إن الشارع المقدس حبب غير ما ذكر من الأدعية والأذكار وقراءة القرآن وزيارة العظماء وغير ذلك، كل ذلك ليشتد ارتباط الوجود الرابط  ـ مثل الإنسان ـ  بالوجود المستقل أعني الواجب تبارك وتعالى، بل حبب إلى المخلوق أنه إذا أراد أن يعمل مباحاً أن ينوي به القربة له تعالى فينقلب المباح إلى مستحب.

والإنسان المتدين  ـ الواعي ـ  ملتفت إلى هذه الأمور.

وإذا لاحظنا المتدين في الزمان الماضي وجدناه لا يخلو من تأييدات ربانية وأنوار قدسية تخرج منها بعض الكرامات، ولعلك تسأل ما هو السر في ذلك، وأنه لماذا تحصل بعض الكرامات من المتدينين في العصور الماضية ولا تحصل من المتدينين في الزمان الحاضر؟

الجواب: السر في ذلك أن الأحكام التكليفية عند المتدين في الزمان الماضي اثنان فقط: إما حرام وإما واجب، ولا توجد عنده خمسة أحكام تكليفية مباح وحرام ومكروه وواجب ومستحب، بل توجد اثنان عنده فقط إما واجب وإما حرام، وأما المستحب فهو بمنزلة الواجب عنده  ـ لا بقصد التشريع ـ  فيفعله، وأما المكروه فهو بمنزلة المحرم عنده فيتركه، وأما المستحب فيأتي به بقصد القربة إليه تعالى، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تصدر منه الكرامات؟!

بخلافه في المتدينين في العصر الحاضر  ـ أعني الكثير من المتدينين وليس كلهم ـ  فإن الواجب ربما فعله وربما لم يفعله، وأما المحرم فربما اجتنب عنه وربما لم يجتنب، وأما المكروه فيعمل به في الأغلب وأما المستحب فيتركه في الأغلب، بخلافه في المتدينين السابقين فإنهم يتسابقون إلى الخيرات بنفس صافية رقيقة تنعكس فيها الحقائق الربانية فتكشف ما ورائها بسبب ذلك السباق الرباني.

إن السير التكاملي في هذا الكون لا يمكن أن يكون بلا مقدمات، بل لا بد من مقدمات صالحة لأن توصل إلى المطلوب، وعليه لا بد من الزراعة لأجل ذلك، ولا يمكن للزارع الذي يحصل على نتاج جيد أن يضع البذر في مكان غير خصب، وبعبارة أخرى: لا بد في تحقق شيء ما أن تتوفر ثلاثة أمور يعبر عنها بأجزاء العلة التامة: المقتضي، والشرط، وعدم المانع. ولنضرب مثالاً لذلك النار، فإن النار مقتضي للإحراق، ولكن النار لن تحرق إلا إذا توفر الشرط وهو مماسة النار للورقة، ولكن نقول: النار إذا مست الورقة لا شك تكون محرقة للورقة لكن ذلك مع عدم المانع، وإلا مع وجود المانع كالماء مثلاً لا يتحقق إحراق.

والمراد بالبذر هو كل مقتضٍ للكمال سواء كان صلاة أو دعاء أو قراءة قرآن أو غير ذلك، فهذا مقتضي، ولكن المقتضي لا يعمل عمله من دون الشرط، فإذا تحقق الشرط معه تحقق الكمال، لكن مع عدم المانع، وإلا لم يُعْمِل المقتضي عمله.

فالدعاء وقراءة القرآن والصلوات والصوم وغير ذلك من الأمور العبادية أمور مقتضية للتأييدات الربانية والقرب من المولى تبارك وتعالى، لكن بشرط الاستمرار، فإذا تحقق الاستمرار تحقق عمل المقتضي لكن مع عدم المانع وهو الذنب كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والحقد على المؤمنين وإساءة الظن بهم وعدم قضاء حاجات المحتاجين وغير ذلك، فإذا تحقق الذنب منع من الوصول إلى المراتب العالية.

والمتدين الحقيقي عندما يعبد ربه يحاول جاهداً الابتعاد عن مواطن الغيبة وإن كانت مجالس العلماء وكذا يبتعد عن الحقد وإساءة الظن بالآخرين إلا من أهل المظنة والأعمال الرديئة وكذا يبتعد عن أي عمل محرم يحول دون الوصول إلى المطلوب حتى لا يكون بينه وبين ربه أي حجاب، وإلا إذا كان بينه وبين الله حجاب لا معنى لأن يشتكي بعدم الوصول.

عندما يصلي المتدين

عندما يقف المتدين في صلاته أو في مقدماتها، يكرر ويستلهم معانِ ملكوتية، فعندما يتوضأ للصلاة يشير إلى أن لكل شيء مقدمة وإلى أن طهارة الباطن تُلْزِم بطهارة الظاهر، وأن طهارة الظاهر لا خير فيها بلا طهارة للباطن.

كما أن الاستقبال ذلك الشرط المقارن للصلاة يشير إلى ان الإنسان في حركاته وسكناته لا بد أن يتوجه إلى خالقه، فخالقه أعرف به، وإن من أعطاه نعمة الإيجاد يعطيه كل ما هو محتاج إليه، ويشير إلى أن الاستقامة واجبة في جميع الأمور، وكذا يشير إلى عظمة البيت العتيق وما يحويه من معانٍ سامية، وما يقاربه من مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام، وغير ذلك.

كما أن الأذان والإقامة شعيرتان عظيمتان ممتلئتان بالمعاني القدسية، فهما مشتملان على العقائد الخمسة، فعندما يقول المؤذن أو المقيم (الله أكبر)، فقد أشعر نفسه بالمطلب الفطري العقلي الأسنى وهو التوحيد، وإذا قال (أشهد ان لا إله إلا الله)، فقد أثبت ان الإله لا يمكن أن يكون متعدداً، ولو تعددت الآلهة إذاً لذهب كل إله بما خلق ولفسدت السموات والأرض، وهذا بدوره يثب مبدأ العدل، وإذا قال (أشهد أن محمد رسول الله) فقد أثبت النبوة، وإذا قال (أشهد أن علياً ولي الله) فقد قال بوجوب إتمام النبوة بالإمامة، وإذا قال في آخر الأذان أو الإقامة الله أكبر لا إله إلا الله مكرراً أو مرة واحدة فقد أكد مبدأ الرجوع إلى الواحد الأحد الفرد الصمد فهو الأول والآخر، وهذا بدوره يثبت المعاد.

كما أن تكبيرة الإحرام تشير إلى أن الله تبارك وتعالى لا يمكن أن يوصف فهو أكبر من أن يوصف، كما أنها تشير إلى عظمة الخالق تبارك وتعالى الذي هو بدوره ينتج الخشوع والخضوع والتذلل منه تبارك وتعالى، وكذا تشير إلى أن كل شيء يبتدأ به فهو المبدأ، كما أن الانتهاء برحمة الله تشير إلى أنه المرجع فإنا لله وإنا إليه راجعون، فهي تشير إلى مطلب فلسفي وهو أن الروحانية والروحانيون يدركون المبدأ والمنتهى بخلاف من لا يؤمن بذلك الذي هو مذبذب في إدراكه ولا يعرف أي وجهة هو موليها.

وبهذا ومثله تعرف أن الصلاة تركز مبدأً فطرياً جميلاً وهو وجوب الخضوع والتذلل والخشوع بأعلى درجاته أمام الخالق لأنه هو المبدأ وهو المنتهى، وهو مدبر الأمور فيما بينها أيضاً.

فإذا قال المصلي (بسم الله الرحمن الرحيم) فهو قول يجسد في روحه الرجوع إلى المبدأ، أي أبتدأ باسمه تعالى الذي هو موصوف بالرحمة الرحمانية العامة الشاملة لكل ما سواه والرحمة الرحيمية الخاصة بعبادة المؤمنين بزياد الفيض، لمكان إيمانهم به وبما جاء به رسله وغير ذلك.

وإذا قال الحمد لله رب العالمين جسد مبدأ الثناء للخالق الذي يرجع إليه في جميع أموره والذي ينتهي أمر المخلوقات إليه، لأنه هو خالقهم ومدبر شؤونهم. وإلى هذه الأمور الفطرية وأمثالها شُرِّعت الصلاة.

وإذا ركع ازداد خضوعاً لله تبارك وتعالى، حيث يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم وبحمده اللهم صل على محمد وآل محمد) وهذا الذكر يشتمل على معنى عظيم، وهو أن الخالق منزه عن كل نقص وعيب، كما أن فيه دعاء بالصلاة على محمد وآل محمد الذين هم أشرف الخلق، وهذا يشد المصلي للارتباط بأهل البيت عليهم السلام الذين نزل القرآن الكريم في بيوتهم  الطاهرة النقية فكانت بيوتهم مهوى الأفئدة ومهبط الوحي، ويشير هذا المعنى إلى أن من نزل القرآن العظيم في بيوتهم هم معصومون كما أن القرآن الكريم معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولو جاز أن يكون المعصوم (أي القرآن الكريم) في بيت غير المعصوم، لجاز أن ينزل من هو الأعظم في غير مقامه، ولجاز أن يفسر القرآن ويبين أحكامه من ليس كفوا لذلك؟!

كما أن السجود يؤكد الخضوع والتذلل بنحو أشد، حيث يقول فيه: (سبحان ربي الأعلى وبحمده اللهم صل على محمد وآل محمد)، وإذا تدبرنا كلمة الأعلى لوجدناها أشد إعظاماً لمقام المربوب تبارك وتعالى من كلمة العظيم المقولة في الركوع، مضافاً إلى تأكيد الارتباط بمحمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين، كما يشتد التأكيد عليهم في التشهد في جميع الصلوات وكذا في التشهد الأول وفي التشهد الثاني قبل التسليم في الصلوات الثلاثية والرباعية، بل وفي القنوت والتسليم.

والإنسان المتدين هو ذلك الذي يحمل هذه المعاني الجميلة في نفسه ويكون بذلك وافق مبدأ الطبيعة الكونية التي جعلها المولى تبارك وتعالى، فكل شيء دال عليه.



[1] هو السيد أبو الحسن الإصفهاني المرجع الأعلى في زمانه.