.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

فضيلة الصبر

الصبر على السراء

اختلاف مراتب الصبر في الثواب

 

 

فصل

(فضيلة الصبر)

الصبر منزل من منازل السالكين، ومقام من مقامات الموحدين. وبه ينسلك العبد في سلك المقربين، ويصل إلى جوار رب العالمين. وقد أضاف الله أكثر الدرجات، والخيرات إليه، وذكره في نيف وسبعين موضعاً من القرآن. ووصف الله الصابرين بأوصاف، فقال ـ عز من قائل ـ:

" وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا "[1]. وقال: " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا "[2]. وقال: " ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "[3]. وقال: " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا "[4]. فما من فصيلة إلا واجرهم بتقدير وحساب إلا الصبر، ولذا قال: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب "[5]. ووعد الصابرين بأنه معهم، فقال: " واصبروا إن الله مع الصابرين "[6]. وعلق النصرة على الصبر، فقال: " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين "[7]. وجمع للصابرين الصلوات والرحمة والهدى. فقال: " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون "[8].

والآيات الواردة في مقام الصبر خارجة عن حد الاستقصاء، والأخبار المادحة له أكثر من أن تحصى. قال رسول الله (ص): " الصبر نصف الإيمان ". وقال (ص): " من أقل ما اوتيتم اليقين وعزيمته الصبر، ومن اعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولئن تصبروا على مثل ما انتم عليه احب الي من ان يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكني أخاف أن يفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضاً، وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه "... ثم قرأ قوله ـ تعالى ـ :

" ما عندكم ينفد وما عند الله باق "[9].

وقال (ص): " الصبر كنز من كنوز الجنة ". وقال (ص): " أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس ". ولا ريب في ان الصبر مما تكرهه النفوس، ولذا قيل: " الصبر صبر ". وقال (ص): " في الصبر على تكره خير كثير ". وقال (ص): " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا ايمان لمن لا صبر له ". وسئل (ص) عن الإيمان، فقال: " الصبر والسماحة ". وقال (ص): " ما تجرع عبد قط جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها، ولا قطرت بقطرة أحب إلى الله ـ تعالى ـ من قطرة دم اهريقت في سبيل الله وقطرة دمع في سواد الليل وهو ساجد ولا يراه إلا الله، وما خطا عبد خطوتين احب إلى الله ـ تعالى ـ من خطوة إلى الصلاة الفريضة وخطوة إلى صلة الرحم ". وروى: " أنه ـ تعالى ـ أوحى إلى داود (ع): يا داود! تخلق بأخلاقي، وإن من اخلافي اني انا الصبور ". وروى: " أن المسيح قال للحواريين: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون "[10]. وقال (ص): " ما من عبد مؤمن اصيب بمصيبة فقال ـ كما أمره الله ـ : إنا لله وانا إليه راجعون، اللهم اجرني في مصيبتي واعقبني خيراً منها، إلا وفعل الله ذلك ". وقال (ص): " قال الله ـ عز وجل ـ : إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه ان انصب له ميزاناً وانشر له ديواناً "[11]. وقال (ص): " الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة، وما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش ". وقال (ص): " سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن ادرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز، آتاه الله ثواب خمسين صديقاً ممن صدق بي "[12]. وقال (ص): " ان الله ـ تعالى ـ قال لجبرئيل: ما جزاءُ من سلبت كريمته؟ فقال: سبحانك! لا علم لنا إلا ما علمتنا. قال: جزاؤه الخلود في داري، والنظر إلى وجهي ". وقال (ص) لرجل قال له: ذهب مالي وسقم جسمي: " لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسمه، ان الله إذا احب عبداً ابتلاه، وإذا ابتلاه، صبره ". وقال (ص): " إن الرجل ليكون له الدرجة عند الله ـ تعالى ـ لا يبلغها بعمل حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك ". وقال (ص): " إذا اراد الله بعبد خيراً، واراد ان يصافيه، صب عليه البلاء صباً وثجه عليه ثجا، فإذا دعاه، قالت الملائكة: صوت معروف، وإذا دعاه ثانياً، فقال: يارب! قال الله ـ تعالى ـ : لبيك عبدي وسعديك! إلا تسألني شيئاً إلا اعطيتك، أو رفعت لك ما هو خير، وادخرت لك عندي ما هو افضل منه. فإذا كان يوم القيامة جيء بأهل الأعمال فوزنوا أعمالهم بالميزان، أهل الصلاة والصيام والصدقة والحج، ثم يؤتى باهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الأجر صباً كما كان يصب عليهم البلاء صبا، فيود أهل العافية في الدنيا لو انهم كانت تقرض اجسادهم بالمقاريض لما يرون ما يذهب به أهل البلاء من الثواب، فذلك قوله ـ تعالى ـ : إنما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ". وقال (ص): " إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب، وهو مقيم على معصيته، فاعلموا أن ذلك استدراج "... ثم قرأ قوله ـ تعالى ـ :

 " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء "[13].

يعني: لم تركوا ما أمروا به فتحنا عليهم أبواب الخيرات، حتى إذا فرحوا بما أوتوا ـ أي بما اعطوا من الخير ـ اخذناهم بغتة. وروى: " أن نبياً من الأنبياء شكى إلى ربه، فقال: يا رب العبد المؤمن يعطيك ويجتنب معاصيك تزوى عنه الدنيا وتعرضه للبلاء، ويكون العبد الكافر لا يعطيك ويجترى على معاصيك تزوى عنه البلاء وتبسط له الدنيا! فاوحى الله ـ تعالى ـ إليه: ان العباد الي والبلاء لي، وكل يسبح بحمدي. فيكون المؤمن عليه من الذنوب، فازوى عنه الدنيا واعرض له البلاء، فيكون كفارة لذنوبه حتى يلقاني، فاجزيه بحسناته، ويكون الكافر له من الحسنات فابسط له الرزق وازوى عنه البلاء، فأجزيه بحسناته، في الدنيا حتى يلقاني فأجزيه بسيئاته "[14]. وعن أبي عبد الله (ع) قال: " قال رسول الله (ص): قال الله ـ عز وجل ـ : اني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا، فمن اقرضني منها قرضاً اعطيته بكل واحدة منهن عشراً إلى سبعمائة ضعف وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منها قرضاً فاخذت منه شيئاً قسراً، اعطيته ثلاث خصال لو اعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها مني. قال: ثم تلا ابو عبد الله (ع) قوله ـ عز وجل ـ (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم)، فهذه واحدة من ثلاث خصال، (ورحمة) اثنتان، (واولئك هم المهتدون) ثلاث. ثم قال أبو عبد الله (ع): هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً ". وقال أمير المؤمنين (ع): " بني الإيمان على أربع دعائم: اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل ". وقال أمير المؤمنين (ع): " الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عندما حرم الله ـ عز وجل ـ عليك ". وقال علي (ع): " الصبر وحسن الخلق والبر والحلم من أخلاق الأنبياء ". وقال لأمير المؤمنين (ع): " أيما رجل حبسه السلطان ظلماً فمات، فهو شهيد، وان ضربه فمات، فهو شهيد "[15]. وقال لأمير المؤمنين (ع): " من اجلال الله ومعرفة حقه ألا تشكوا وجعك، ولا تذكر مصيبتك ". وقال أمير المؤمنين (ع): " ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله؟ قالوا: بلى! فقرأ عليهم:

 " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير "[16].

فالمصائب في الدنيا بكسب الأوزار،فإذا عافاه الله في الدنيا فالله أكرم من ان يعذبه ثانياً، وان عفى عنه في الدنيا فالله اكرم من ان يعذبه يوم القيامة ". وقال الباقر (ع): " الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة. وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن اعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار ". وقال (ع): " مروة الصبر في حال الفاقة والحاجة والتعفف والغنى اكثر من مروة الاعطاء "[17]. وقال (ع): " لما حضرت أبى علي بن الحسين (ع) الوفاة، ضمني إلى صدره، ثم قال: يا بني! أوصيك بما اوصاني به أبى حين حضرته الوفاة، وبما ذكر ان اباه اوصاه به، قال: يا بني! اصبر على الحق وان كان مراً ". وقال الصادق (ع): " إذا دخل المؤمن قبره، كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره، والبر مطل عليه، ويتنحى الصبر ناحيته. فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فانا دونه ". وقال (ع): " إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة، فيضربونه، فيقال لهم: من انتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيقال لهم : على ما صبرتم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصي الله، فيقول الله ـ تعالى ـ : صدقوا! ادخلوهم الجنة. وهو قول الله ـ تعالى ـ : إنما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ". وقال (ع): " من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه، كان له مثل اجرا الف شهيد ". وقال (ع): " إن الله ـ عز وجل ـ انعم على قوم فلم يشكروا، فصارت عليهم وبالا، وابتلى قوما بالمصائب فصبروا، فصارت عليهم نعمة ". وقال (ع): " من لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز ". وقال (ع): " إن من صبر صبر قليلا وإن من جزع جزع قليلا.. ثم قال عليك بالصبر في جميع امورك، فان الله ـ عز وجل ـ بعث محمداً (ص) فأمره بالصبر والرفق، فقال:

" واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً "[18].

وقال أبو الحسن (ع) لبعض اصحابه: "ان تصبر تغتبط، والا تصبر يقدر الله مقاديره، راضيا كنت ام كارها "[19]. والأخبار في فضيلة الصبر على البلاء وعظم ثوابه واجره اكثر من تحصى. ولذلك كان الاتقياء والاكابر محبين طالبين له، حتى نقل " ان واحداً منهم دخل على ابن مريض له، فقال: يا بني! لئن تكن في ميزاني احب الي من ان اكون في ميزانك. فقال: يا أبه! لئن يكن ما تحب أحب الي من أن يكون ما احب ". وقال بعضهم: " ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة، ما علم به أحد ".

فصل

(الصبر على السراء)

كل ما يلقى العبد في الدنيا، مما يوافق هواه، أولا يوافقه، بل يكرهه، وهو في كل منهما محتاج إلى الصبر. إذ ما يوافق هواه، كالصحة الجسمية، واتساع الأسباب الدنيوية، ونيل الجاه والمال، وكثرة الأولاد والاتباع، لو لم يصبر عليه، ولم يضبط نفسه عن الانهماك فيه والاغترار به، أدركه الطغيان والبطر. (فان الإنسان ليطغى ان رآه استغنى). وقال بعض الأكابر: " البلاء يصير عليه المؤمن، والعوافي لا يصبر عليها إلا الصديق ". وقال بعض العرفاء: " الصبر على العافية اشد من الصبر على البلاء ". ولذا لما توسعت الدنيا على الصحابة وزال عنهم ضيق المعاش، قالوا: " ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وابتلينا بفتنة السراء فلا نقدر على الصبر عليها ". ومن هنا قال الله ـ سبحانه ـ:

" يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله "[20]. وقال: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم "[21].

ومعنى الصبر على متاع الدنيا: ألا يركن إليه، ويعلم أنه مستودع عنده وعن قريب يسترجع عنه، فلا ينهمك في التنعم والتلذذ، ولا يتفاخر به على فاقده من إخوانه المؤمنين، ويرعى حقوق الله في ماله بالانفاق، وفي بدنه ببذل المعونة للخلق، وفي منصبه باعانة المظلومين، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه.

والسر في كون الصبر عليها اشد من الصبر على البلاء: انه ليس مجبوراً على ترك ملاذ الدنيا، بل له القدرة والتمكن على التمتع بها، بخلاف البلاء، فانه مجبور عليه، ولا يقدر على دفعه، فاصبر عليه أسهل. ولذا ترى أن الجائع إذا لم يقدر على الطعام أقدر على الصبر منه إذا قدر عليه.

وأما ما لا يوافق هواه وطبعه، فله ثلاثة أقسام:

الأول ـ ما يكون مقدوراً للعبد، كالطاعات والمعاصي. أما الطاعة، فالصبر عليها شديد، لأن النفس بطبعها تنفر عنها، وتشتهي التقهر والربوبية، كما يأتي وجهه. ومع ذلك يثقل عليها بعض العبادات باعتبار الكسل، وبعضها باعتبار البخل، وبعضها باعتبارهما، كالحج والجهاد، فلا تخلو طاعة من اعتبار يشق على النفس ان تصبر عليه، ومع ذلك يحتاج المطيع فيها إلى الصبر في حالات الثلاثة تتضاعف لأجلها الصعوبة، إذ يحتاج إليها قبل العمل في تصحيح النية والاخلاص، وتطهيرها عن شوائب الرياء وفي حالة العمل لئلا يغفل عن الله في اثنائه،ولا يخل بشيء من وظائفه وآدابه، ويستمر على ذلك إلى الفراغ وبعد الفراغ عنه، لئلا يتطرق إليه العجب، ولا يظهر رياء وسمعة. والنهي عن ابطال العمل وعن ابطال الصدقات بالمن والاذى أمر بهذا القسم من الصبر. وأما المعاصي، فلكون جميعها مما تشتهيها النفس، فصبرها عليها شديد، وعلى المألوفة المعتادة اشد، إذ العادة كالطبيعة الخامسة، ولذا ترى أن كل معصية شاعت وتكررت ثقل استنكارها، فان الاستبعاد في مثل لبس الحرير اكثر من الاستبعاد في اطلاق اللسان طول النهار في اعراض الناس، مع ان الغيبة أشد من الزنا، كما انطقت به الأخبار. فإذا انضافت العادة إلى الشهوة، ظهر جندان من جنود الشيطان على جند الله، فيصعب تركها.

ثم المعصية ان كانت مما يسهل فعلها، كان الصبر عنها اشد، كمعاصي اللسان من الغيبة والكذب، ولو كانت مع ذلك مشتملة على تمام ما تقتضيه جبلة النفس من الاستعلاء والربوبية، كالكلمات التي توجب نفي الغير والقدح فيه، والثناء على ذاتها تصريحاً أو تعريضاً، كان الصبر عنها اشد. إذ مثل ذلك ـ مع كونها مما تيسر فعله وصار مألوفاً معتاداً ـ انضافت ليه شهوتان للنفس فيه: إحداهما نفي الكمال من غيرها، واخراهما اثباته لذاتها. وميل النفس إلى مثل تلك المعصية في غاية الكمال، إذ به يتم ما تقتضيه جبلتها من التفوق والعلو، فصبرها عنها في غاية الصعوبة. وقد ظهر مما ذكر: أن اكثر ما شاع وذاع من المعاصي انما يصدر من اللسان. فينبغي لكل أحد ان يجتهد في حفظ لسانه بتقديم التروي على كلام يريد أن يتكلم به، فان لم يكن معصية تكلم به، والا تركه، ولو لم يقدر على ذلك. وكان لسانه خارجاً عن طاعته في المحاورات، وجبت عليه العزلة والانفراد وتركه التكلم مع الناس، حتى تحصل له ملكة الاقدار على حفظه، ثم صعوبة الصبر وسهولته لما كانت تختلف في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعاصي قوة وضعفاً، فينبغي لكل طالب السعادة أن يعلم ان داعية نفسه إلى أي معصية اشد، فيكون سعيه في تركها اكثر. ثم حركة الخواطر باختلاج الوساوس ايسر بكثير من حركة اللسان بقبائح الكلمات. فلا يمكن الصبر عنها اصلا. إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرفه، كمن اصبح وهمومه هم واحد. واكثر جولان الخاطر إنما يكون في فائت لا تدارك له، أو في مستقبل لا بد وان يحصل منه ما هو مقدور. وكيف كان فهو تصور باطل، وتضييع وقت. إذ آلة استكمال العبد قلبه، فإذا غفل القلب في لحظة من ذكر يستفيد به انساً بالله، أو فكر يستفيد به معرفة بالله، ويستفيد بالمعرفة حب الله، فهو مغبون.

الثاني ـ ما ليس حصوله مقدورا للعبد، ولكنه يقدر على دفعه بالتشفي، كما لو اوذى بفعل أو وقول، أو جنى عليه في نفسه أو ماله، فان حصول الاذية والجناية وان لم يرتبط باختياره، إلا انه يقدر على التشفي من المؤذي أو الجاني بالانتقام منه، والصبر على ذلك بترك المكافآت. وهو قد يكون واجباً، وقد يكون فضيلة، وهو اعلى مراتب الصبر. ولاجل ذلك خاطب الله نبيه (ص) بقوله:

 " واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل "[22]. وبقوله: " فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً "[23]. وبقوله: " ودع أذاهم وتوكل على الله "[24]. وقال: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور "[25]. وقال: " وإن عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين "[26].

وقال رسول الله (ص): " صل من قطعك، واعط من حرمك، واعف عمن ظلمك ". وروى: " أنه (ص) قسم مره مالا، فقال بعض الاعراب من المسلمين: هذه قسمة ما اريد بها وجه الله! فاخبر به رسول الله، فاحمرت وجنتاه، ثم قال: رحم الله أخي موسى، قد اوذي باكثر من هذا فصبر ".

الثالث ـ ما ليس مقدوراً للعبد مطلقاً، كالمصائب والنوائب. والصبر عليه شديد في غاية الصعوبة، ولا ينال إلا ببضاعة الصديقين، والوصول إليه يتوقف على اليقين التام. ولذا قال النبي (ص): " أسألك من اليقين ما يهون علي مصائب الدنيا ". وقد تقدم بعض الأخبار الواردة في فضيلة هذا القسم من الصبر. وقال (ص): " قال الله: إذا ابتليت عبدي ببلائى فصبر، ولم يشكني إلى عواده، أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، فان ابرأته ابرأته ولا ذنب له، وأن توفيته فالى رحمتي ". وقال (ص): " من اجلال الله ومعرفة حقه: ألا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك ". وقال (ص): " من ابتلى فصبر، واعطى فشكر، وظلم فغفر، أولئك لهم الامن وهم مهتدون ". وقال (ص): " إن الله ـ تعالى ـ قال لجبرئيل: ما جزاء من سلبت كريمته؟ فقال: سبحانك! لا علم لنا إلا ما علمتنا. قال: جزاؤه الخلود في داري، والنظر إلى وجهي ". وقال داود (ع): " يا رب! ما جزاء الحزين يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك؟ قال: جزاؤه أن ألبسه لباس الأمان، لا انزعه عنه أبداً ". وقال لابنه سليمان (ع): " يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر في ما قد فات ". وروى: " أن من ابتلى بموت ثلاثة أولاد، لم يرد على النار اصلا ".

تذنيب

(اختلاف مراتب الصبر في الثواب)

لما كان الصبر على العافية بمعنى ترك الشهوات المحرمة وعدم الانهماك فيها، فهو راجع إلى الصبر عن المعصية. وعلى هذا، فاقسام الصبر ثلاثة: الصبر على المصائب والنوائب، والصبر على الطاعة، والصبر على المعصية. ثم ما تقدم من الخبر النبوي صريح في كون الأول اقل ثواباً، والآخر أكثر ثواباً، والوسط وسطاً بينهما. وربما ظهر من بعض الأخبار: كون الأول أكثر ثواباً. وابو حامد الغزالي رجح الأول أولا، وبه صرح بعض المتأخرين من اصحابنا للخبر النبوي، ثم رجح الثاني ثانياً محتجاً بما روى عن ابن عباس أنه قال: " الصبر في القرآن على ثلاثة اوجه: صبر على أداء فرائض الله ـ تعالى ـ فله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله ـ تعالى ـ وله ستمائة درجة، وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، فله تسعمائة درجة ". وبأن كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم، وأما الصبر على بلاء الله فلا يقدر عليه إلا ببضاعة الصديقين، لكونه شديداً على النفس.

وعندي: ان القول بكون أحدهما أكثر ثواباً على الإطلاق غير صحيح، إذ القول بأن الصبر عن كلمة كذب أو لبس ثوب من الحرير لحظة اكثر ثواباً من الصبر على موت كثير من أعز الأولاد بعيد، وكذا القول بأن الصبر على فقد درهم اكثر ثواباً من كف النفس عن كبائر المعاصي وفطامها عن ألذ اللذات والشهوات مع القدرة عليها أبعد، فالصواب: التفصيل بأن كل صبر من أي قسم كان من الثلاثة إذا كان على النفس أشد واشق فثوابه اكثر مما كان اسهل وأيسر، كائناً ما كان، لما ثبت وتقرر ان أفضل الأعمال احمزها، وبه يحصل الجمع والتلاؤم بين الأخبار.


[1]  السجدة، الآية: 24.

[2]  الأعراف، الآية: 137.

[3]  النحل، الآية: 96.

[4]  القصص، الآية: 54.

[5]  الزمر، الآية: 10.

[6]  الأنفال، الآية: 46.

[7]  آل عمران، الآية: 125.

[8]  البقرة، الآية: 157.

[9]  النحل، الآية: 96.

[10]  صححنا النبويات  على (إحياء العلوم): 4/53، كتاب الصبر.

[11]  صححنا الرواية على (البحار): مج15: 2/148، باب الصبر واليسر بعد العسر.

[12]  صححنا الرواية، وكذا ما قبلها، على (أصول الكافي): ج2، باب الصبر. وعلى (الوفي): 3/321 ـ 323، باب الصبر.

[13]  الانعام، الآية: 44.

[14]  صححنا الأحاديث الاربع على (إحياء العلوم): 4/114، باب الصبر.

[15]  صححنا الروايات الثلاث على (أصول الكافي): ج2، باب الصبر. وعلى (الوافي): 3/321 ـ 323، باب الصبر.

[16]  الشورى، الآية: 30.

[17]  قال العلامة (المجلسي) ـ قدس سره ـ في (بحار الأنوار): مج15ج2، في باب الصبر على المعصية، في ذيل هذا الخبر: " بيان المروة: هي الصفات التي بها تكمل إنسانية الإنسان ".

[18]  المزمل، الآية: 10.

[19]  صححنا الأحاديث الواردة عن أهل البيت (ع) في باب الصبر، على الجزء الثاني من (أصول الكافي) باب الصبر، وعلى (الوافي): 3/321 ـ 323، كتاب الصبر.

[20]  المنافقون، الآية: 9.

[21]  التغابن، الآية: 14.

[22]  الأحقاف، الآية: 35.

[23]  المزمل، الآية: 10.

[24]  الأحزاب، الآية: 48.

[25]  آل عمران، الآية: 186.

[26]  النحل، الآية: 126.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست