.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

ذم الدنيا وانها عدوة الله والإنسان

خسائس صفات الدنيا

 

فصل

(ذم الدنيا وأنها عدوة الله والإنسان)

اعلم أن الدنيا عدوة لله ولأوليائه ولاعدائه: أما عداوتها لله، فأنها قطعت الطريق على العبادة، ولذلك لم ينظر إليها مذ خلقها، كما ورد في الأخبار[1] وأما عداوتها لأوليائه وأحبائه، فانها تزينت لهم بزينتها وعمتهم بزهرتها ونضارتها، حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها. وأما عداوتها لاعدائه، فأنها استدرجتهم بمكرها ومكيدتها واقتنصتهم بشباكها وحبائلها حتى وثقوا بها وعولوا عليها، فاجتنبوا منها حيرة وندامة تنقطع دونها الأكباد، ثم حرمتهم عن السعادة أبد الآباد، فهم على فراقها يتحسرون ومن مكائدها يستغيثون ولا يغاثون، بل يقال لهم:

" اخسؤا فيها ولا تكلمون "[2]. " أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون "[3].

والآيات الواردة في ذم الدنيا وحبها كثيرة، واكثر القرآن مشتمل على ذلك وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة، بل هو المقصود من بعثة الأنبياء، فلا حاجة إلى الاستشهاد بآيات القرآن لظهورها. فلنشر إلى نبذة من الأخبار الواردة في ذم الدنيا وحبها وفي سرعة زوالها، قال رسول الله (ص): " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ". وقال رسول الله (ص): " الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها " وقال (ص): " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وقال (ص): " من أصبح والدنيا اكبر همه فليس من الله في شيء، وألزم الله قلبه أربع خصال: هماً لا ينقطع عنه أبداً، وشغلا لا يتفرغ منه أبداً وفقراً لا ينال غناه أبداً. وأملا لا يبلغ منتهاه أبداً، وقال (ص): " يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور‍ ". وقال (ص): " لتأتينكم بعدي دنياً تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب ". وقال: " ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأبقيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت؟ ". وقال: " أوحى الله ـ تعالى ـ إلى موسى: لا تركنن إلى حب الدنيا، فلن تأتين بكبيرة هي أشد عليك منها ". وقال (ص): " حب الدنيا رأس كل خطيئة ". وقال (ص): " من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى". ومر (ص): على مزبلة، فوقف عليها وقال: " هلموا إلى الدنيا‍‍‍! " وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة وعظاماً قد نخرت، فقال: " هذه الدنيا! " وقال (ص): " إن الله لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا، وإنه لم ينظر إليها منذ خلقها ". وقال (ص): " الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادى من لا علم عنده، وعليها يحسد من لافقه له، ولها يسعى من لا يقين له". وقال (ص): " لما هبط آدم من الجنة إلى الارض قال له: إن للخراب ولد للفناء ". وقال (ص): " لتجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة. فيؤمر بهم إلى النار "، فقيل: يا رسول الله! أمصلين؟ قال: نعم،! كانوا يصومون ويصلون ويأخذون هنيئة من الليل، فإذا عرض لهم من الدنيا شيء وثبوا عليه". وقال (ص): " هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً؟ ألا إنه من رغب في الدنيا وطال فيها أمله أعمى الله قلبه على قدر ذلك، ومن زهد في الدنيا وقصر أمله فيها أعطاه الله علما بغير تعلم وهدى بغير هداية ". وقال (ص): " فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم ان تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" وقال: " أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض"، فقيل: ما بركات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا". وقال (ص): " دعوا الدنيا لأهلها من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر ". وقال (ص): " سيأتي قوم بعدي يأكلون أطايب الطعام وأنواعها، وينكحون أجمل النساء وألوانها، ويلبسون ألين الثياب وألوانها ويركبون أقوى الخيل وألوانها، لهم بطون من القليل لا تشبع، وأنفس بالكثير لا تقنع، عاكفين على الدنيا، يغدون ويروحون إليها، اتخذوها آلهة دون إلههم ورباً دون ربهم إلى أمرهم ينتهون وهواهم يلعبون، فعزيمة من محمد بن عبدالله لمن أدرك ذلك الزمان من عقب عقبكم وخلف خلفكم أبداً لا يسلم عليهم ولا يعود مرضاهم ولا يتبع جنائزهم ولا يوقر كبيرهم ومن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام". وقال (ص): " مالي وللدنيا وما انا والدنيا؟! إنما مثلى ومثلها كمثل راكب سار في يوم صائف، فرفعت له شجرة، فقال تحت ظلها ساعة، ثم راح وتركها " قال (ص): " احذروا الدنيا، فانها أسحر من هاروت وماروت". وقال (ص): " حق على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه". وقال عيسى بن مريم (ع) " ويل لصاحب الدنيا! كيف يموت ويتركها، ويأمنها وتغره، ويثق بها وتخذله، ويل للمغترين! كيف ألزمهم ما يكرهون، وفارقهم ما يحبون، وجاءهم ما يوعدون، ويل لمن اصبحت الدنيا همه والخطايا عمله! كيف يفتضح غداً بذنبه". وقال (ع): " من ذا الذي يبني على أمواج البحر داراً تلكم الدنيا، فلا تتخذوا قراراً ". وقال (ع) " لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء والنار في اناء واحد ". وأوحى الله ـ تعالى ـ إلى موسى: " يا موسى:! مالك ولدار الظالمين! إنها ليست لك بدار، اخرج منها همك وفاقها بعقلك فبئست الدار هي، إلا لعامل يعمل فيها فنعمت الدار هي، يا موسى! إنى مرصد للظالم حتى أخذ منه للمظلوم ". وأوحى إليه: " يا موسى! لا تركنن إلى حب الدنيا، فلن تأتين بكبيرة هي أشد منها ". ومر موسى عليه السلام برجل وهو يبكي، ورجع وهو يبكي، فقال موسى: " يا رب عبدك يبكي من مخافتك "، فقال تعالى: " يا بن عمران! لو نزل دماغه مع عينيه ورفع يديه حتى يسقطا لم اغفر له وهو يحب الدنيا!".

وقال أمير المؤمنين (ع) بعد ما قيل له صف لنا الدنيا: " وما أصف لك من دار من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب ". وقال (ع): " إنما مثل الدنيا كمثل الحية ما الين مسها وفي جوفها السم الناقع، يحذرها الرجل العاقل ويهوى إليها الصبي الجاهل ". وقال وصف الدنيا: " ما أصف من دار اولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها آتته، ومن بصر بها بصرته، ومن ابصر إليها عمته "، وقال (ع) في بعض مواعظه: " ارفض الدنيا، فان حب الدنيا يعمى ويصم ويبكم ويذل الرقاب، فتدارك ما بقي من عمرك، ولا تقل غداً وبعد، فانما هلك من كان قبلك باقامتهم على الأماني والتسويف، حتى اتاهم أمر الله بغتة وهم غافلون فنقلوا على أعوادهم إلى قبورهم المظلمة الضيقة، وقد اسلمهم الأولاد والأهلون، فانقطع إلى الله بقلب منيب. من رفض الدنيا وعزم ليس فيه انكسار ولا انخذال ". وقال (ع): " لا تغرنكم الحياة الدنيا فانها دار بالبلاء محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة، فكل ما فيها إلى زوال، وهي بين أهلها دول وسجال، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم من شرها نزالها، بينا أهلها منها في رخاء وسرور إذا هم منها في بلاء وغرور أحوال مختلفة، وتارات متصرمة، العيش فيها مذموم، والرخاء فيها لا يدوم، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها، واعلموا عباد الله انكم وما انتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى، ممن كان أطول منكم اعماراً، واشد منكم بطشاً، واعمر دياراً وأبعد آثاراً، فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها، وأجسادهم بالية، وديارهم على عروشها خاوية، وآثارهم عافية، استبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق الممهدة الصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة فمحلها مقترب، وساكنها مغترب، بين أهل عمارة موحشين، وأهل محلة متشاغلين، لا يستأنسون بالعمران، ولا يتواصلون تواصل الجيران الاخوان، على ما بينهم من قرب الجوار ودنو الدار، وكيف يكون بينهم تواصل، وقد طحنهم بكلكله البلاء، وأكلتهم الجنادل والثرى واصبحوا بعد الحياة أمواتاً، وبعد نضارة العيش رفاتاً، فجع بهم الأحباب وسكنوا تحت التراب وظعنوا فليس لهم إياب، هيهات هيهات!

" كلاّ إنها كملة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون "[4].

فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى والوحدة في دار المثوى، وارتهنتم في ذلك المضجع، وضمكم ذلك المستودع، وكيف بكم لو عاينتم الأمور، وبعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، واوقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل، فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب، وهتكت عنكم الحجب والأستار، فظهرت منكم العيوب والأسرار، هالك.

" تجزى كلّ نفسٍ بما كسبت "[5].

وقال أيضاً ـ عليه السلام ـ في بعض خطبه: " أوصيكم بتقوى الله والترك للدنيا التاركة لكم، وان كنتم لا تحبون تركها، المبلية أجسامكم وانتم تريدون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كمثل قوم في سفر سلكوا طريقاً وكأنهم قد قطعوه، وافضوا إلى علم، فكأنهم قد بلغوه، وكم عسى أن يجري المجرى حتى ينتهى إلى الغاية، وكم عسى أن يبقى من له يوم في الدنيا، وطالب حثيث يطلبه حتى يفارقها، فلا تجزعوا لبؤسها وضرائها فإنه إلى انقطاع، ولا تفرحوا بمتاعها ونعمائها فانه إلى زوال، عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه ".

وقال السجاد (ع): " إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا وكونوا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، ألا إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطاً والتراب فراشاً والماء طيباً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً، ألا ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ألا إن لله عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياماً قليلة، فصاروا بعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم، تجرى دموعهم على خدودهم، وهم يجأرون إلى ربهم، يسعون في فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح، قد براهم الخوف من العبادة، ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى، وما بالقوم من مرض، أم خولطوا، فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار وما فيها ". وقال (ع): ما من عمل بعد معرفة الله ـ عز وجل ـ ومعرفة رسوله (ص) أفضل من بغض الدنيا، فان لذلك لشعباً كثيرة، وللمعاصي شعباً فأول ما عصى الله به الكبر معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين ثم الحرص، وهي معصية آدم وحواء حين قال الله ـ عز وجل ـ لهما:

" فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين "[6].

فاخذا مالا حاجة بهما إليه، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة وذلك إن أكثر ما يطلب ابن آدم مالا حاجة به إليه. ثم الحسد، وهو معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو والثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلهن في حب الدنيا. فقال الأنبياء والعلماء ـ بعد معرفة ذلك: ـ: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دنياآن: دنيا بلاغ ودنيا معلونة ". وقال الباقر (ع) لجابر: " يا جابر! إنه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغل قلبه عما سواه يا جابر! ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا؟! هل هي إلا طعام أكلته أو ثوب لبسته، أو امرأة أصبتها؟ يا جابر! إن المؤمنين لم يطمأنوا إلى الدنيا ببقائهم فيها، ولم يامنوا قدومهم الآخرة. يا جابر! الآخرة دار قرار والدنيا دار فناء وزوال، ولكن أهل الدنيا أهل غفلة، وكان المؤمنون هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمهم عن ذكر الله ـ جل اسمه ـ ما سمعوا باذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم "[7] وقال الصادق (ع): " مثل الدنيا كمثل ماء البحر، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله ". وقال: فيما ناجى الله ـ عز وجل ـ به موسى: " يا موسى! لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين وركون من اتخذها أباً وأما يا موسى! لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذن لغلب عليك حب الدنيا وزهرتها يا موسى! نافس في الخير أهله واستبقهم إليه، فان الخير كاسمه، واترك من الدنيا ما بك الغنى عنه ولا تنظر عينك إلى كل مفتون بها وموكل إلى نفسه، واعلم أن كل فتنة بدؤها حب الدنيا، ولا تغبط أحداً بكثرة المال فان مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق ولا تغبطن أحداً برضى الناس عنه. حتى تعلم أن الله راض عنه، ولا تغبطن مخلوقاً بطاعة الناس له، فان طاعة الناس له واتباعهم اياه على غير الحق هلاك له ولمن تبعه " وأوحى الله ـ تعالى ـ إلى موسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: " لو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا، يعرف فرعون حين يراها ان مقدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت، ولكنى أرغب لكما عن ذلك وازوى ذلك عنكما وكذلك افعل بأوليائي، إني لازويهم عن نعيمها، كما يزوى الراعي الشفيق غنمه عن مواقع الهلكة، وإني لاجنبهم عيش سلوتها، كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مواقع الغرة، وما ذلك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً، إنما يتزين لي أوليائي: بالذل والخشوع والخوف والتقوى". وقال الكاظم (ع): " قال أبو ذر ـ رحمه الله ـ: جزى الله الدنيا عن مذمة بقدر رغيفين من الشعير، اتغذى بأحدهما وأتعشى بالآخر، وبعد شملتي الصوف، اتزر بإحداهما واتردى بالأخرى ". وقال لقمان لابنه: " يا بني! بع دنياك باخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعاً. وقال له: " يا بني! إن الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ـ عز وجل ـ وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله، لعلك ناج وما أراك ناجياً ". وقال: " يا بني! إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له، وانما أنت عبد مستأجر قد امرت بعمل ووعدت عليه أجراً، فاوف عملك واستوف أجرك، ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت، فكان حتفها عند سمنها، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها وتركتها، ولم ترجع إليها آخر الدهر، أخر بها ولا تعمر، فانك لم تؤمر بعمارتها، واعلم أنك ستسأل غداً إذا وقفت بين يدي الله ـ عز وجل ـ عن أربع: شبابك فيما أبليته، وعمرك فيما أفنيته، ومالك مما اكتسبته، وفيما أنفقته، فتأهب لذلك، وأعد له جواباً، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا. فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه، وكثيرها لا يؤمن بلاؤه، فخذ حذرك وجد في أمرك، واكشف الغطاء عن وجهك، وتعرض لمعروف ربك، وجدد التوبة في قلبك، واكمش في فراغك قبل أن يقصد قصدك، ويقضى قضاؤك، ويحال بينك وبين ما تريد ".

وقال بعض الحكماء: " الدنيا دار خراب، واخرب منها قلب من يعمرها. والجنة دار عمران، وأعمر منها قلب من يعمرها ". وقال بعضهم: " الدنيا لمن تركها، والآخرة لمن طلبها". وقال بعضهم: " إنك لن تصبح في شئ من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك، ويكون له أهل بعدك، وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم، فلا تهلك نفسك في أكلة، وصم الدنيا، وافطر على الآخرة، فان رأس مال الدنيا الهوى، وربحها النار". وقال بعض أكابر الزهاد: " الدنيا تخلق الأبدان وتجدد الآمال، وتقرب المنية، وتبعد الأمنية، ومن ظفر بها تعب، ومن فاتته نصب"، وقال بعضهم: " ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد التزق به شيء يسؤك ". وقال آخر: " لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: إنه لم يشبع مما جمع، ولم يدرك ما أمل، ولم يحسن الزاد لما قدم عليه " وقال حكيم: كانت الدنيا ولم اكن فيها، وتذهب ولا أكون فيها، فكيف اسكن إليها؟ فان عيشها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على وجل، إما بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية ". وقال بعض العرفاء: " الدنيا حانوت الشيطان، فلا تسرق من حانوته شيئاً، فيجئ في طلبك ويأخذك ". وقال بعضهم: " لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى، لكان ينبغي أن يختار العاقل خزفا يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة ذهب يبقى والدنيا أدون من خزف يفنى؟ " وقد ورد: " أن العبد إذا كان معظما للدنيا، يوقف يوم القيامة، ويقال: هذا عظم ما حقره الله ". وروى: " أنه لما بعث النبي (ص) ـ أتت إبليس جنوده، فقالوا: قد بعث نبي وأخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا؟ قالوا: نعم! قال: إن كانوا يحبونها ما ابالي ألا يعبدوا الأوثان، وانا اغدو عليهم واروح بثلاثة: أخذ المال من غير حقه، وانفاقه في غير حقه، وامساكه عن حقه، والشر كله لهذا تبع ". وروى: " انه أوحى الله تعالى إلى بعض انبيائه احذر مقتك، فتسقط من عيني، فاصب عليك الدنيا صبا ". وقال بعض الصحابة: " ما اصبح أحد من الناس في الدنيا إلا وهو ضيف، وماله عارية. فالضيف مرتحل، والعارية مردودة ". وقال بعضهم: " إن الله جعل الدنيا ثلاثة أجزاء: جزء المؤمن، وجزء للمنافق، وجزء للكافر. فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع ". وقيل: " من أقبل على الدنيا احرقته نيرانها حتى يصير رماداً، ومن أقبل على الآخرة صفته نيرانها فصار سبيكة ذهب ينتفع بها، ومن أقبل على الله سبحانه، احرقته نيران التوحيد، فصار جوهراً لاحد لقيمته ". وقيل أيضا: " العقلاء ثلاثة: من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله وارضى خالقه قبل ان يلقاه ". وسأل بعض الامراء رجلا بلغ عمره مائتي سنة عن الدنيا، فقال: " سنيات بلاء وسنيات رخاء، يوم فيوم، وليلة فليلة، يولد ولد، ويهلك هالك، فلولا المولود باد الخلق، ولولا الهالك لضاقت الدنيا بمن فيها "، فقال له الأمير: سل ما شئت، قال: " اريد منك أن ترد علي ما مضى من عمري، وتدفع عني ما حضر من أجلي "، قال: لا أملك ذلك، قال: " فلا حاجة لي إليك ".

والأخبار والآثار في ذم الدنيا وحبها، وفي سرعة زوالها وعدم الاعتبار بها، وفي هلاك من يطلبها ويرغب إليها، وفي ضديتها للآخرة، أكثر من أن تحصى. وما ورد في ذلك من كلام أئمتنا الراشدين، (لا) سيما عن مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليهم أجمعين إلى يوم الدين ـ فيه بلاغ لقوم زاهدين. ومن تأمل في خطب علي (ع) ومواعظه كما في نهج البلاغة وغيره ـ يظهر له خساسة الدنيا ورذالتها. وقضية السؤال والجواب بين روح الأمين ونوح في كيفية سرعة زوال الدنيا مشهورة، وحكاية مرور روح الله على قرية هلك أهلها من حب الدنيا معروفة[8] ولعظم آفة الدنيا وحقارتها ومهانتها عند الله، لم يرضها لأحد من أوليائه وحذرهم عن غوائلها، فتزهدوا فيها وأكلوا منها قصداً، وقدموا فضلا أخذوا منها ما يكفي، وتركوا ما يلهى، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام ما سد الجوع، نظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية، والى الآخرة أنها باقية، فتزودوا منها كزاد الراكب، فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة، ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها باعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بابدانهم صبروا قليلا ونعموا طويلا.

 

فصل

(خسائس صفات الدنيا)

اعلم أن للدنيا صفات خسيسة قد مثلت في كل صفة بما تماثله فيها فمثالها في سرعة الفناء والزوال وعدم الثبات: مثل النبات الذي اختلط به ماء السماء فاخضر، ثم اصبح هشيما تذروه الرياح، أو كمنزل نزلته ثم ارتحلت عنه، أو كقنطرة تعبر عنها ولا تمكث عليها. وفي كونها مجرد الوهم والخيال، وكونها مما لا أصل لها ولا حقيقة، كفىء الظلال، أو خيالات المنام وأضغاث الأحلام، فإنك قد تجد في منامك ما تهواه، فإذا استيقظت ليس معك منه شيء.

وفي عداوتها لأهلها واهلاكها اياهم: بامرأة تزينت للخطاب، حتى إذا نكحتهم ذبحتهم. فقد روى " أن عيسى (ع) كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز شمطاء هتماء عليها من كل زينة، فقال لها، كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم، قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى (ع): بؤساً لازواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بالماضي؟ كيف تهلكينهم واحدً واحداً ولا يكونوا منك على حذر؟! ".

وفي مخالفة باطنها لظاهرها: كعجوز متزينة تخدع الناس بظاهرها. فإذا وقفوا على باطنها وكشفوا القناع عن وجهها، ظهرت لهم قبائحها روى: " انه يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء، انيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلائق، ويقال لهم: تعرفون هذه فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه! فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم عليها، وبها تقاطعتم الارحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغررتم، ثم يقذف بها في جهنم، فتنادى: أي رب! أين اتباعي واشياعي؟ فيقول الله ـ عز وجل ـ : ألحقوا بها اتباعها واشياعها ".

وفي قصر عمرها لكل شخص بالنسبة إلى ما تقدمه من الأزل وما يتأخر عنه من الأبد: كمثل خطوة واحدة، بل أقل من ذلك، بالنسبة إلى سفر طويل، بل بالنسبة إلى كل مسافة الأرض اضعافاً غير متناهية، ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضيق وضر أو في سعة ورفاهية، بل لا يبني لبنة على لبنة. توفى سيد الرسل (ص) وما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة. ورأى بعض أصحابه يبنى بيتاً من جص، فقال: " أرى الأمر اعجل من هذا ". والى هذا أشار عيسى (ع) حيث قال: " الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها ".

وفي نعومة ظاهرها وخشونة باطنها: مثل الحية التي يلين مسها ويقتل سمها.

وفي قلة ما بقى منها بالاضافة إلى ما سبق: مثل ثوب شق من أوله إلى آخره، فبقى متعلقاً في آخره، فيوشك ذلك الخيط ان ينقطع.

وفي قلة نسبتها إلى الآخرة: كمثل ما يجعل احد اصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع إليه من الأصل.

وفي تأديه علائقها بعض إلى بعض حتى ينجر إلى الهلاك: كماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله.

وفي تأديه الحرص عليها إلى الهلاك غماً: كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً.

وفي تعذر الخلاص من تبعاتها واستحالة عدم التلوث بقاذوراتها بعد الخوض فيها: كالماشي في الماء، فإنه يمتنع ألا تبتل قدماه.

وفي نضارة أولها وخباثة عاقبتها: كالأطعمة التي تؤكل، فكما أن الطعام كلما كان الذ طعماً واكثر دسومة كان رجيعه اقذر واشد نتناً، فكذلك كل شهوة من شهوات الدنيا التي كانت للقلب اشهى واقوى، فنتنها وكراهيتها والتأذى بها عند الموت أشد، وهذا مشاهد في الدنيا. فان المصيبة والألم والتفجع في كل ما فقد بقدر الالتذاذ بوجوده وحرصه عليه وحبه له، ولذا ترى أن من نهبت داره واخذت اهله واولاده، يكون تفجعه وألمهم أشد مما إذا اخذ عبد من عبيده، فكل ما كان عند الوجود اشهى عنده والذ، فهو عند الفقد أدهى وأمر، وما للموت معنى إلا فقد ما في الدنيا.

وفي تنعم الناس بها ثم تفجعهم على فراقها: مثل طبق ذهب عليه يخور ورياحين، في دار رجل هيأه فيها، ودعا الناس على الترتيب واحداً بعد واحد ليدخلوا داره، ويشمه كل واحد وينظر إليه، ثم يتركه لمن يلحقه، لا ليتملكه ويأخذه، فدخل واحد وجهل رسمه، فظن أنه قد وهب ذلك له، فتعلق به قلبه، لما ظن أنه له، فلما استرجع منه ضجر وتألم، ومن كان عالماً برسمه انتفع به وشكره ورده بطيب قلب وانشراح صدر. فكذلك من عرف سنة الله في الدنيا، علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لينتفعوا بما فيها، كما ينتفع المسافر بالعواري، ثم يتركوها ويتوجهوا إلى مقصدهم من دون صرف قلوبهم إليها، حتى تعظم مصيبتهم عند فراقها، ومن جهل سنه الله فيها، ظن أنها مملوكة له، فيتعلق بها قلبه، فلما اخذت منه عظمت بليته واشتدت مصيبته.

وفي اغترار الخلق بها وضعف ايمانهم بقوله تعالى في تحذيره إياهم غوائلها: كمفازة غبراء لا نهاية لها، سلكوها قوم وتاهوا فيها بلا زاد وماء وراحلة، فأيقنوا بالهلاك، فبيناهم كذلك إذ خرج عليهم رجل وقال: أرأيتم إن هديتكم إلى رياض خضر وماء رواء ما تعملون؟ قالوا: لا نعصيك في شيء، فأخذ منهم عهوداً ومواثيق على ذلك، فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراء، فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: الرحيل! قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، والى رياض ليست كرياضكم. فقال اكثرهم: لا نريد عيشا خيراً من هذا، فلم يطيعوه. وقالت طائفة ـ وهم الأقلون ـ : ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله ألا تعصوه وقد صدقكم في أول حديثه؟ فو الله إنه صادق في هذا الكلام أيضاً! فاتبعه هذا الأقل، فذهب فيهم إلى أن أوردهم في ماء ورياض أحسن بمراتب شتى مما كانوا فيه أولا، وتخلف عنه الأكثرون، فبدرهم عدو، فأصبحوا من بين قتيل وأسير.

 


[1] سيأتي الخبر بهذا المعنى ـ ص26 ـ وهو عامى.

[2] المؤمنون، الآية: 109.

[3] البقرة، الآية: 86.

[4] المؤمنون، الآية: 101.

[5] المؤمن، الآية: 17.

[6] الأعراف، الآية: 19.

[7] صححنا الحديث على الكافي في باب ذم الدنيا، وصدر الحديث هكذا: " قال جابر: دخلت على أبى جعفر (ع) فقال: يا جابر! والله لمحزون! واني لمشغول القلب، قلت: جعلت فداك! وما شغلك وما حزن قلبك..." إلى أخر الحديث.

[8] ذكرها (الكافي) عن أبي عبد الله الصادق (ع) في باب حب الدنيا بتمامها.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست