.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

الاعتدال في الشهوة

حب الدنيا

لابد للمؤمن مكسب

الدنيا المذمومة هي الهوى

 

 

(الاعتدال في الشهوة)

والاعتدال أن يكتفي في اليوم بليلته بأكلة واحدة في وقت السحر، بعد الفراغ عن التهجد أو بعد صلاة العشاء، أو باكلتين: التغدي والتعشي ـ إن لم يقدر على الاكتفاء بمرة واحدة ـ وقد استفاضت أخبار أئمتنا الراشدين ـ عليهم السلام ـ بالحث على التعشي.

ثم للعرفاء ترغيبات وتصريحات على كثرة فوائده، وعلى توقف كشف الأسرار الإلهية والوصول إلى المراتب العظيمة عليه، ولهم حكايات في إمكان الصبر عليه، وعلى عدم الأكل شهراً أو شهرين أو سنة ونقلوا حصوله عن بعضهم، وهذا أمر وراء ما وردت به السنة وكلفت به عموم الأمة، فان كان ممدوحاً فانما هو لقوم مخصوصين.

وأما الجماع، فالاعتدال فيه أن يقتصر فيه على مالا ينقطع عن النسل ويحصل له التحصن، وتزول به خطرات الشهوة، ولا يؤدي إلى ضعف البدن والقوى.

وأما غير الجنسين من الأنواع والنتائج والآثار المتعلقة بالقوة الشهوية ـ وإن كان بعضها أعم الجنسين أو مساويا لهما ـ:

فمنها:

 

حب الدنيا

اعلم أن للدنيا ماهية في نفسها وماهية في حق العبد، أما ماهية الدنيا وحقيقتها في نفسها، فعبارة عن أعيان موجودة: هي الأرض وما عليها والأرض هي العقار والضياع وأمثالهما، وما عليها تجمعه المعادن والنبات والحيوان، والمعادن تطلب لكونها إما من الآلات والزينة كالنحاس والرصاص والجواهر وأمثالها، أو من النقود كالذهب والفضة، والنبات يطلب لكونه من الأقوات أو الادوية، والحيوانات تطلب إما لملكية ابدانها واستخدامها كالعبيد والغلمان أو لملكية قلوبها وتسخيرها ليترتب عليه التعظيم والاكرام وهو الجاه، أو للتمتع والتلذذ بها كالجواري والنسوان، أو للقوة والاعتضاد كالأولاد. هذه هي الاعيان المعبر عنها بالدنيا، وقد جمعها الله سبحانه في قوله:

" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا "[1].

وحب جميع ذلك من رذائل قوة الشهوة، إلا حب تسخير القلوب لقصد الغلبة والاستيلاء، فانه من رذائل قوة الغضب ـ كما تقدم ـ وبذلك يظهر أن حب الدنيا المتعلق بقوة الشهوة أعم من الشره باول تفسيريه ـ كما أشير إليه ـ.

وأما ماهيتها في حق العبد، فعبارة عن جميع ماله قبل الموت، كما أن بعد الموت عبارة عن الآخرة، فكل ما للعبد فيه نصيب وشهوة وحظ وغرض ولذة في عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقه، وللعبد فيه علاقتان، علاقة بالقلب: وهو حبه له، وعلاقة بالبدن: وهو اشغاله باصلاحه، ليستوفى منه حظوظه. إلا أن جميع ماله إليه ميل ورغبة ليس بمذموم، وذلك لأن ما يصحبه في الدنيا وتبقى ثمرته معه بعد الموت ـ أعني العلم النافع والعمل الصالح ـ فهو من الآخرة في الحقيقة، وانما سمى بالدنيا باعتبار دنوه، فان كلا من العالم والعابد قد يلتذ بالعلم والعبادة بحيث يكون ذلك ألذ الاشياء عنده، فهو وان كان حظاً عاجلا له في الدنيا إلا أنه ليس من الدنيا المذمومة، بل هو من الآخرة في الحقيقة، وان عد من الدنيا من حيث دخوله في الحس والشهادة، فان كل ما يدخل فيهما فهو من عالم الشهادة ـ أعني الدنيا ـ ولذا جعل نبينا (ص) الصلاة من الدنيا، حيث قال: " حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وقرة عيني في الصلاة " مع أنها من أعمال الآخرة.

فالدنيا المذمومة عبارة عن حظ عاجل، لا يكون من أعمال الآخرة ولا وسيلة إليها، وما هو إلا التلذذ بالمعاصي والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الضرورة في تحصيل العلم والعمل.

وأما قدر الضرورة من الرزق، فتحصيله من الأعمال الصالحة ـ كما نطقت به الأحبار ـ قال رسول الله ـ (ص): العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال ". وقال (ص): ملعون من ألقى كله على الناس :. وقال السجاد (ع): " الدنيا دنياءان: دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة ". وقال الباقر (ع): " من طلب الدنيا استعفافاً عن الناس، وسعياً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقى الله ـ عز وجل ـ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر ". وقال الصادق (ع): " الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله ". وقال (ع): " إن الله تبارك وتعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق ". وقال (ع): " ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه ". وقال (ع): " لا تكسلوا في طلب معايشكم، فان آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها ". وقال له (ع) رجل: " انا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها، فقال: تحب أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدق، وأحج وأعتمر، فقال أبو عبدالله (ع): ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة". وكان أبو الحسن (ع) يعمل في أرض قد استنقعت قدماه في العرق، فقيل له: " جعلت فداك! أين الرجال؟ فقال: وقد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي، فقيل: ومن هو؟ فقال: رسول الله (ص) وأمير المؤمنين وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين "، وقد ورد بهذه المضامين أخبار كثيرة أخر مشهورة.

 

تذنيب

(لابد للمؤمن من مكسب)

قد ظهر من هذه الأخبار أن الراجح ـ بل اللازم ـ لكل مؤمن أن يكون له مكسب طيب يحصل منه ما يحتاج إليه من الرزق وغيره من المخارج المحمودة، وقد صرح بذلك في اخبار كثيرة أخر، قال أمير المؤمنين (ع): " أوحى الله ـ عز وجل ـ إلى داود (ع): إنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئاً، قال: فبكى داود أربعين صباحاً، فأوحى الله ـ عز وجل ـ إلى الحديد أن لن لعبدي داود فألان الله له الحديد، وكان يعمل كل يوم درعاً فيبيعها بألف درهم، فعمل ثلثمائة وستين درعاً فباعها بثلثمائة وستين الفاً، واستغنى عن بيت المال ". وقال الصادق (ع): من احبنا أهل البيت فليأخذ من الفقر جلباباً أو تجفافاً "، والجلباب: كناية عن الستر على فقره، والتجفاف[2]: كناية عن كسب طيب يدفع فقره. وقيل له في رجل قال: لأقعدن في بيتي، ولأصومن، ولأعبدن ربي، فأما رزقي فسيأتيني: قال أبو عبدالله " هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم ".

وهذا ـ أي ملكة تحصيل المال الحلال من المكاسب الطيبة وصرفها في المخارج المحمودة ـ هو الحرية بأحد المعنيين، إذ للحرية اطلاقان: (أحدهما) ذلك، وهو الحرية بالمعنى الأخص، (وثانيهما) التخلص عن أسر الهوى وعبودية القوة الشهوية، وهو الحرية بالمعنى الأعم المرادفة، وضده الرقية بالمعنى الأعم الذي هو طاعة قوة الشهوة ومتابعة الهوى.

وضد الأول ـ أعني الرقية بالمعنى الأخص ـ هو افتقاره إلى الناس فيما يحتاج إليه من الرزق، والقاء نظره إلى ايديهم، وحوالة رزقه على أموالهم، إما على وجه محرم، كالغصب والنهب والسرقة وأنواع الخيانات أو غير محرم، كأخذ وجوه الصدقات وأوساخ الناس، بل مطلق الأخذ منهم إذا جعل يده يداً سفلى ويدهم يداً عليا. ولا ريب في كون الرقية بهذا المعنى مذمومة، إذ (الوجه الأول) محرم في الشريعة وموجب للهلاك الأبدي، و(الوجه الثاني) وإن لم يكن محرماً إذا كان فقيراُ مستحقاً، إلا أنه لأيجابه التوقع من الناس وكون نظره اليهم يقتضي المذلة والانكسار والتخضع للناس والرقية والعبودية لهم، وهذا يرفع الوثوق بالله والاعتماد والتوكل عليه، وينجر ذلك إلى سلب التوكل على الله بالكلية، وترجيح المخلوق على الخالق، وهذا ينافي مقتضى الإيمان والمعرفة الواقعية بالله سبحانه

 

فصل

(الدنيا المذمومة هي الهوى)

قد ظهر مما ذكر: أن الدنيا المذمومة حظ نفسك الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة، ويعبر عنه بالهوى، واليه أشار قوله تعالى:

" ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى "[3].

ومجامع الهوى هي المذكورة في قوله تعالى:

إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد "[4].

والأعيان التي تحصل منها هذه الأمور هي المذكورة في قوله سبحانه:

" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب "[5].

فهذه أعيان الدنيا، وللعبد معها علاقتان:

(علاقة مع القلب): وهي حبه لها وحظه منها وانصراف همه إليها حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بها، ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المتعلقة بالدنيا: كالرياء، والسمعة، وسوء الظن، والمداهنة والحسد، والحقد، والغل، والكبر، وحب المدح، والتفاخر والتكاثر. فهذه هي الدنيا الباطنة، والظاهرة هي الأعيان المذكورة.

و(علاقة مع البدن): وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره، وهذا الاشتغال عبارة عن الصناعات والحرف التي اشتغل الناس بها، بحيث أنستهم أنفسهم وخالقهم وأغفلتهم عما خلقوا لأجله، ولو عرفوا سبب الحاجة إليها واقتصروا على قدر الضرورة، لم يستغرقهم اشتغال الدنيا والانهماك فيها، ولما جهلوا بالدنيا وحكمتها وحظهم منها لم يقتصروا إلا على قدر الاحتياج، فأوقعوا انفهم في اشغالها، وتتابعت هذه الأشغال واتصلت بعضها ببعض، وتداعت إلى غير نهاية محدودة، فغفلوا عن مقصودها، وتاهوا في كثرة الأشغال. فان أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وتنفتح لأجله عشرة أبواب أخر، وهكذا يتداعى إلى غير حد محصور، وكأنها هاوية لانهاية لعمقها، ومن وقع في مهواة منها سقط منها إلى اخرى.... وهكذا على التوالي. ألا ترى أن ما يضطر إليه الإنسان بالذات منحصر بالمأكل والملبس والمسكن؟ ولذلك حدثت الحاجة إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات: الفلاحة، والرعاية للمواشي، والحياكة والبناء والاقتناص ـ أي تحصيل ما خلق الله من الصيد والمعادن والحشائش والأحطاب ـ وتترتب على كل من هذه الصناعات صناعات أخر، وهكذا إلى أن حدثت جميع الصناعات التي نراها في العالم، وما من أحد إلا وهو مشتغل بواحدة منها أو أكثر، إلا أهل البطالة والكسالة، حيث غفلوا عن الاشتغال في أول الصبا، أو منعهم مانع واستمروا على غفلتهم وبطالتهم، حتى نشأوا بلا شغل واكتساب، فاضطروا إلى الاخذ مما يسعى فيه غيرهم، ولذلك حدثت حرفتان خبيثتان هي (اللصوصية) و(الكدية)[6] ولكل واحد منهما أنواع غير محصورة لا تخفى على المتأمل.

 


[1] آل عمران، الآية: 14.

[2] التجفاف: آلة للحرب يتقى بها كالدرع وعن تفسير أمثال هذا الحديث راجع الجزء الأول من المجلد الخامس عشر من البحار ص65، ففيه تفصيل معناه وقد نقل عن ابن الأثير في النهاية، وابن أبي الحديد في شرحه: كلاماً في هذا الباب.

[3] النازعات، الآية: 40.

[4] الحديد، الآية: 20.

[5] آل عمران، الآية: 14.

[6] قال في المنجد: الكدية: الاستعطاء وحرفة السائل الملح.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست