.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

تشبهات الدنيا وأهلها

عاقبة حب الدنيا وبغضها

حب المال

ذم المال

الجمع بين ذم ا لمال ومدحه

غوائل المال وفوائده

 

 

 

تذنيب

(تشبيها الدنيا وأهلها)

قد شبه بعض الحكماء حال الإنسان واغتراره بالدنيا، وغفلته عن الموت وما بعده من الأهوال، وانهماكه في اللذات العاجلة الفانية الممتزجة بالكدورات: بشخص مدلى في بئر، مشدود وسطه بحبل، وفي أسفل ذلك البئر ثعبان عظيم متوجه إليه، منتظر سقوطه، فاتح فاه لالتقامه، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيض وأسود، لا يزالان يقرضان ذلك الحبل شيئاً فشيئاً، ولا يفتران عن قرضه آناً من الآنات، وذلك الشخص، مع أنه يرى ذلك الثعبان ويشاهد انقراض الحبل آنا فآنا، قد اقبل على قليل عسل قد لطخ به جدار ذلك البئر وامتزج بترابه واجتمعت عليه زنابير كثيرة، وهو مشغول بلطعه منهمك فيه، ملتذ بما أصاب منه، مخاصم لتلك الزنابير عليه، قد صرف باله باجمعه إلى ذلك، غير ملتفت إلى ما فوقه والى ما تحته. فالبئر هو الدنيا، والحبل هو العمر، والثعبان الفاتح فاه هو الموت، والجرذان الليل والنهار القارضان العمر، والعسل المختلطة بالتراب هو لذات الدنيا الممتزجة بالكدورات والآلام، والزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها.

وشبه بعض العرفاء الدنيا وأهلها، في اشتغالهم بنعيمها وغفلتهم عن الآخرة، وحسراتهم العظيمة بعد الموت، من فقدهم نعيم الجنة بسبب انغمارهم في خسائس الدنيا: بقوم ركبوا السفينة، فانتهت بها إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذرهم المقام فيها، وخوفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته، وبادر إلى السفينة، فصادف المقام خالياً، فأخذ أوسع الأماكن واوفقها بمراده. وبعضهم توقف في الجزيرة، واشتغل بالنظر إلى أزهارها وانوارها وأشجارها واحجارها ونغمات طيورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها، فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً، فاستقر فيه. وبعضهم، بعد التنبه لخطر مرور السفينة، لما تعلق قلبه ببعض احجار الجزيرة وازهارها وثمارها، لم تسمح نفسه باهمالها، فاستصحب منها جملة ورجع إلى السفينة فلم يجد فيها إلا مكاناً ضيقاً لا يسعه إلا بالتكلف والمشقة، وليس فيه مكان لوضع ما حمله، فصار ذلك ثقلا عليه ووبالا، فندم على أخذها، ولم يقدر على رميها، فحملها في السفينة على عنقه متأسفاً على أخذها. وبعضهم اشتغل بمشاهدة الجزيرة، بحيث لم يتنبه أولا من خطر مرور السفينة ومن نداء الملاح، حتى امتلأت السفينة، فتنبه أخيراً ورجع إليها، مثقلا بما حمله من احجار الجزيرة وحشائشها، ولما وصل إلى شاطىء البحر سارت السفينة، أولم يجد فيها موضعاً أصلا، فبقى على شاطىء البحر. وبعضهم لكثرة الاشتغال بمشاهدة الجزيرة وما فيها نسوا المركب بالمرة، ولم يبلغهم النداء أصلا، لكثرة انغمارهم في أكل الثمار وشرب المياه والتنسم بالانوار والأزهار والتفرج بين الاشجار، فسارت السفينة وبقوا في الجزيرة من دون تنبههم بخطر مرورها، فتفرقوا فيها، فبغضهم نهشته العقارب والحيات وبعضهم افترسته السباع، وبعضهم مات في الأوحال، وبعضهم هلك من الندامة والحسرة والغصة، وأما من بقى على شاطئ البحر فمات جوعاً، وأما من وصل إلى المركب مثقلا بما اخذه، فشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها، وقد ضيق عليه مكانه، فلم يلبث ان ذبلت ما اخذه من الأزهار، وعفنت الثمار، وكمدت الوان الأحجار، فظهر نتن رائحتها، فتأذى من نتن رائحتها ولم يقدر على القائها في البحر لصيرورتها جزاءاً من بدنه، وقد أثر فيه ما أكل منها، ولم ينته إلى الوطن إلا بعد احاطة الامراض والأسقام عليه لأجل ما لم ينفك عنه من النتن، فبلغ إليه سقيما مدنفاً، فبقى على سقمه أبداً، أو مات بعد مدة، واما من رجع إلى المركب بعد تضيق المكان، فما فاته إلا سعة المحل، فتأذى بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، ومن رجع إليه اولا ووجد المكان الأوسع فلم يتأذ من شيء أصلا ووصل إلى الوطن سالماً. فهذا مثال اصناف أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم وطنهم الحقيقي، وغفلتهم عن عاقبة امرهم. وما اقبح بالعاقل البصير ان تغره بأحجار الأرض وهشيم النبت، مع مفارقته عند الموت وصيرورته كلا ووبالا عليه.

 

فصل

(عاقبة حب الدنيا وبغضها)

اعلم انه لا يبلغ مع العبد عند الموت إلا صفاء القلب، اعني طهارته عن ادناس الدنيا وحبه لله وانسه بذكره، وصفاء القلب وطهارته لا يحصل إلا بالكف عن شهوات الدنيا، والحب لا يحصل إلا بالمعرفة، والمعرفة لا تحصل إلا بدوام الفكرة، والانس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله والمواظبة عليه، وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت، وهي الباقيات الصالحات.

أما طهارة القلب عن ادناس الدنيا، فهي الجنة بين العبد وبين عذاب الله، كما ورد في الخبر: " ان اعمال العبد تناضل عنه، فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه، وإذا جاء من قبل يديه جاءت الصدقة تدفع عنه..." الحديث.

وأما الحب والإنس، فهما يوصلان العبد إلى لذة المشاهدة واللقاء. وهذه السعادة تتعجل عقيب الموت إلى ان يدخل الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، وكيف لا يصل صاحب الصفات الثلاث بعد موته غاية البهجة ونهاية اللذة بمشاهدة جمال الحق، ولا يكون القبر عليه روضة من الرياض الخلد، ولم يكن له إلا محبوب واحد، وكانت العوائق تعوقه عن الانس بدوام ذكره ومطالعة جماله، وبالموت ارتفعت العوائق وافلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه، فقدم عليه مسروراً سالماً من الموانع آمنا من الفراق؟ وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذبا ولم يكن له محبوب إلا الدنيا، وقد غصبت منه وحيل بينه وبينها، وسدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه؟ وليس الموت عدماً، إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله، فإذن سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث، وهي: الذكر، والفكر، والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها. وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن، وصحة البدن لا تنال إلا بالقوت والملبس والمسكن، ويحتاج كل واحد إلى اسباب، فالقدر الذي لابد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا وكانت الدنيا في حقه مزرعة الآخرة، وإن اخذ ذلك على قصد التنعم وحظ النفس صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها. إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الله في الآخرة، وسمى ذلك حراماً، والى ما يحول بينه وبين الدرجات العلى ويعرضه لطول الحساب، ويسمى ذلك حلالا. والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضاً عذاب، فمن نوقش في الحساب عذب، ولذلك قال رسول الله (ص): " في حلالها حساب وفي حرامها عقاب ". بل لو لم يكن الحساب، لكان ما يفوت عن الدرجات العلى في الجنة وما يرد على القلب من التحسر على تفويتها بحظوظ حقيرة خسيسة لابقاء لها، هو أيضاً عذاب.

ويرشدك إلى ذلك حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك، وقد سبقوك إلى السعادات الدنيوية، كيف ينقطع قلبك عليها حسرات، مع علمك بأنها سعادات متصرمة لابقاء لها، ومنغصة بكدورات لاصفاء لها، فما حالك في فوات سعادات لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الأذهان والدهور دون غايتها؟ وكل من تنعم في الدنيا، ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو بشربة ماء بارد، فهو ينقص من حظه في الآخرة والتعرض لجواب السؤال فيه ذل، وحذر، وخوف، وخطر، وخجل وانكسار، ومشقة، وانتظار، وكل ذلك من نقصان الحظ.

فالدنيا ـ قليلها وكثيرها، حلالها وحرامها ـ ملعونة، إلا ما أعان على تقوى الله، فان ذلك القدر ليس من الدنيا، وكل من كانت معرفته أقوى واتم كان حذره من نعيم الدنيا أشد واعظم، حتى أن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رمى به، إذ تمثل له إبليس وقال رغبت في الدنيا. وحتى أن سليمان (ع) في ملكه كان يطعم الناس من لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير، فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتحاناً وشدة، فان الصبر من لذيذ الأطعمة مع وجودها أشد. ولذا زوى الله ـ تعالى ـ الدنيا على نبينا (ص) فكان يطوى أياماً، وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع، ولهذا سلط الله المحن والبلاء على الأنبياء والأولياء، ثم الأمثل فالأمثل في درجات العلى. كل ذلك نظراً لهم وامتنانا عليهم، ليتوفر من الآخرة حظهم، كما يمنع الوالد المشفق ولده لذائذ الفواكه والأطعمة ويلزمه الفصد والحجامة، شفقة عليه وحباً له لا بخلا به عليه. وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فليس من الدنيا.

ثم الأشياء على أقسام ثلاثة:

(الأول) مالا يتصور أن يكون لله، بل من الدنيا صورة ومعنى وهي أنواع المعاصي والمحظورات وأصناف التنعم بالمباحات، وهي الدنيا المحضة المذمومة على الإطلاق.

(الثاني) ما صورته من الدنيا، كالأكل والنوم والنكاح وأمثالها، ويمكن أن يجعل معناه لله، فإنه يمكن أن يكون المقصود منه حظ النفس فيكون معناه كصورته أيضاً من الدنيا، ويمكن أن يكون المقصود منه الاستعانة على التقوى، فهو لله بمعناه وان كانت صورته صورة الدنيا، قال رسول الله (ص): " من طلب من الدنيا حلالا مكاثراً مفاخراً لقى الله وهو عليه غضبان، ومن طلبها استعفافاً عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر".

(الثالثة) ما صورته لله، ويمكن أن يجعل معناه من الدنيا بالقصد، وهو ترك الشهوات، وتحصيل العلم، وعمل الطاعات والعبادات. فهذه الثلاث إذا لم يكن لها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله صورة معنى، ولم تكن من الدنيا أصلا، وان كان الغرض منها حفظ المال والحمية والاشتهار بالزهد والورع وطلب القبول بين الخلق باظهار المعرفة صار من الدنيا معنى وان كان يظن بصورته أنه لله.

ومنها:

 

حب المال

وهو من شعب حب الدنيا، إذ حب الدنيا يتناول حب كل حظ عاجل، والمال بعض اجزاء الدنيا، كما ان الجاه بعضها، واتباع شهوة البطن والفرج بعضها، وتشفى الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها، والكبر وطلب العلو بعضها.

وبالجملة: لها أبعاض كثيرة يجمعها كل ما للإنسان فيه حظ عاجل. فآفات الدنيا كثيرة الشعب والارجاء، واسعة الأرجاء والاكناف، ولكن أعظم آفاتها المتعلقة بالقوة الشهوية هو (المال)، إذ كل ذي روح محتاج إليه ولا غناء له عنه، فان فقد حصل الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً وإن وجد حصل منه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسرا، فهو لا يخلو من فوائد وآفات، وفوائده من المنجيات وآفاته من المهلكات، وتمييز خيرها وشرها من المشكلات، إذ من فقده تحصل صفة الفقر، ومن وجوده تحصل صفة الغناء، وهما حالتان يحصل بهما الامتحان.

ثم (للفاقد) حالتان: القناعة، والحرص. واحداهما محمودة والأخرى مذمومة. و(للحريص) حالتان: تشمر للحرف والصنائع مع اليأس عن الخلق، وطمع بما في أيديهم. وإحدى الحالتين شر من الأخرى. و(للواجد) حالتان: إمساك، وانفاق. واحدهما مذموم والآخر ممدوح و(للمنفق) حالتان: إسراف، واقتصاد، والأول مذموم والثاني ممدوح وهذه أمور متشابهة لابد أولا من تمييزها، ثم الأخذ بمحمودها والترك لمذمومها، حتى تحصل النجاة من غوائل المال وفتنتها. ومن هنا قال بعض الأكابر: الدرهم عقرب، فان لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فانه إن لدغك قتلك سمه. قيل وما رقيته؟ قال: أخذه من حله، ووضعه في حقه.

 

فصل  

ذم المال

الكتاب والسنة متظاهران في ذم المال وكراهة حبه، قال الله سبحانه:

" يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون "[1].

وقال: " واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ "[2].

وقال: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا..."[3].

وقال رسول الله (ص): حب المال والشرف ينبتان النفاق، كما ينبت الماء البقل " وقال (ص): " ما ذئبان ضاريان ارسلا في زريبة غنم باكثر فساداً من حب المال والجاه في دين الرجل المسلم "، وقال: " شر امتي الاغنياء". وقال (ص): " يقول الله ـ تعالى ـ: يا ابن آدم! مالي، مالي! وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فامضيت، أو اكلت فافنيت، أو لبست فأبليت؟!" وقال (ص): " أخلاء ابن آدم ثلاثة: واحد يتبعه إلى قبض روحه وهو ماله، وواحد يتبعه إلى قبره وهو أهله، وواحد يتبعه إلى محشره وهو عمله ". وقال (ص): " يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه، كلما يكفأ به الصراط قال له ماله: امض وقد أديت حق الله في. ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين كفيه، كلما يكفأ به الصراط قال ماله: ويلك ألا أديت حق الله في؟... فما يزال كذلك حتى يدعو بالثبور والويل "وقال (ص): " إن الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم ". وقال (ص): " لكل أمة عجل، وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم ". وقال (ص): " يؤتى برجل يوم القيامة، وقد جمع مالا من حرام وأنفقه في حرام فيقال: اذهبوا به إلى النار. ويؤتي برجل قد جمع مالا من حلال وانفقه في حرام، فيقال اذهبوا به إلى النار. ويؤتى برجل قد جمع مالا من حرام وانفقه في حلال فيقال اذهبوا به إلى النار. ويؤتى برجل قد جمع مالا من حلال وانفقه في حلال، فيقال له: قف لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها، وفرطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها، فيقول: لا يارب! كسبت من حلال وانفقت في حلال، ولم أضيع شيئاً مما فرضت، فيقال: لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به، فيقول: لا يارب! لم اختل ولم أباه في شيء، فيقال: لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فيقول: لا يارب! لم اضيع حق احد أمرتني أن اعطيه. فيجىء اولئك فيخاصمونه، فيقولون: يا رب اعطيته واغنيته وجعلته بين اظهرنا وامرته أن يعطينا، فان كان قد اعطاهم وما ضيع مع ذلك شيئاً من الفرائض ولم يختل في شيء، فيقال: قف الآن هات شكر نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لقمة أو لذة... فلا يزال يسأل ".

فليت شعري ـ يا أخي ـ ان الرجل الذي فعل في الحلال، وأدى الفرائض بحدودها، وقام بالحقوق كلها، إذا حوسب بهذه المحاسبة، فكيف يكون حال امثالنا الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها، وشبهاتها وشهواتها وزينتها، فيالها من مصيبة ما أفظعها، ورزية ما أجلها، وحسرة ما أعظمها لا ندري ما تفعل بنا الدنيا غداً في الموقف عند يدي الجبار.

ولخوف هذا الخطر قال بعض الصحابة: " ما يسرني ان اكتسب كل يوم الف دينار من حلال وانفقها في طاعة الله، ولم يشغلني الكسب عن صلاة الجماعة"، قالوا له: ولم ذلك رحمك الله؟ قال: " لأني غني عن مقامي يوم القيامة، فيقول الله: عبدي من أين اكتسبت وفي أي شئ انفقت؟ ".

فينبغي لكل مؤمن تقي ألا يتلبس بالدنيا، فيرضى بالكفاف، وإن كان معه فضل فليقدمه لنفسه، إذ لو بقي بعده لكان له مفاسد وآفات. روى: " أنه قال رجل: يا رسول الله، مالي لا أحب الموت؟ فقال: هل معك من مال؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: قدم مالك امامك فان قلب المؤمن مع ماله، إن قدمه احب أن يلحقه، وإن خلفه احب ان يتخلف معه ". ووضع أمير المؤمنين (ع) درهما على كفه ثم قال: " أما انك ما لم تخرج عني لا تنفعني ". وروى: " ان اول ما ضرب الدينار والدرهم رفعهما إبليس، ثم وضعهما على جبهته، ثم قبلهما وقال: من احبكما فهو عبدي حقاً ". وقال عيسى (ع): : لا تنظروا إلى اموال أهل الدنيا، فان بريق أموالهم يذهب بنور ايمانكم". وقال بعض الأكابر: " مصيبتان لم يسمع الاولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته"، قيل: وما هما؟ قال: " يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله ".

ثم جميع ما ورد في ذم الغنى ومدح الفقر ـ كما يأتي بعضه ـ، وجميع ما ورد في ذم الدنيا ـ كما تقدم بعضه ـ يتناول ذم المال، لأنه أعظم اركان الدنيا.

 

فصل

(الجمع بين ذم المال ومدحه)

أعلم أنه كما ورد ذم المال في الآيات والاخبار ورد مدحه فيهما أيضاً وقد سماه الله خيراً في مواضع، فقال:

" إن ترك خيراً الوصية..."[4]. وقال في مقام الامتنان: " ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً "[5]وقال رسول الله (ص) " نعم المال الصالح للرجل الصالح ". وكل ما جاء في ثواب الصدقة، والضيافة، والسخاء، والحج وغير ذلك مما لا يمكن الوصول إليه إلا بالمال، فهو ثناء عليه.

ووجه الجمع بين الظواهر المادحة والذامة هو: أن المال قد يكون وسيلة إلى مقصود صحيح هو السعادة الاخروية، إذ الوسائل إليها في الدنيا ثلاث، وهي: الفضائل النفسية، والفضائل البدنية، والفضائل الخارجية التي عمدتها المال. وقد يكون وسيلة إلى مقاصد فاسدة وهي المقاصد الصادة عن السعادة الأخروية والحياة الأبدية، والصادة سبيل العلم والعمل. فهو اذن محمود ومذموم بالاضافة إلى المقصودين. فالظواهر الذامة محمولة على صورة كونه وسيلة إلى مقاصد فاسدة، والمادحة على صورة كونه وسيلة إلى مقاصد صحيحة. ولما كانت الطبائع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله، وكان المال مسهلا لها وآلة إليها، عظم الخطر في ما يزيد على قدر الكفاية، فاستعاذ طوائف الأنبياء والأولياء من شره، حتى قال نبينا (ص): " اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً " وقال (ص): " اللهم احينى مسكيناً وأمتني مسكيناً ".

 

فصل

(غوائل المال وفوائده)

قد ظهر مما ذكر: أن المال مثل حية فيها سم وترياق، فغوائله سمه، وفوائده ترياقه، فمن عرفهما أمكنه أن يحترز من شره ويستدر منه خيره.

ولبيان ذلك نقول: إن غوائله اما دنيوية أو دينية:

والدنيوية: هي ما يقاسيه أرباب الأموال: من الخوف، والحزن، والهم، والغم، وتفرق الخاطر، وسوء العيش، والتعب في كسب الأموال وحفظها، ودفع الحساد وكيد الظالمين، وغير ذلك.

والدينية: ثلاثة أنواع:

اولها ـ اداؤه إلى المعصية. إذ المال من الوسائل إلى المعاصي، ونوع من القدرة المحركة لداعيتها. فإذا استشعرها الإنسان من نفسه، انبعثت الداعية، واقتحم في المعاصي، وارتكب أنواع الفجور. ومهما كان آيساً عن القدرة لم يتحرك داعية إليها. إذ العجز قد يحول بين المرء وبين المعصية، ومن العصمة ألا يقدر، واما مع القدرة فان اقتحم ما يشتهيه هلك، وإن صبر وقع في شدة. إذ الصبر مع القدرة أشد، وفتنة السراء من فتنة الضراء أعظم.

وثانيها ـ أداؤه إلى التنعم في المباحات. فإن الغالب أن صاحب المال يتنعم بالدنيا ويمرن عليه نفسه، فيصير التنعم محبوباً عنده مألوفاً، بحيث لا يصبر عنه، ويجره البعض منه إلى البعض. وإذا اشتد الفه به وصار عادة له، ربما لم يقدر عليه من الحلال، فيقتحم في الشبهات ويخوض في المحرمات: من الخيانة، والظلم، والغصب، والرياء، والكذب والنفاق، والمداهنة، وسائر الأخلاق المهلكة، والأشغال الردية، لينتظم أمر دنياه ويتيسر له تنعمه. وما أقل لصاحب الثروة والمال ألا يصير التنعم مألوفاً له، إذ متى يقدر أن يقنع بخبز الشعير ولبس الخشن وترك لذيذ الأطعمة بأسرها، فإنما ذلك شأن نادر من أولى النفوس القوية القدسية كسليمان بن داود (ع) وأمثاله. على أن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بد أن ينافقهم ويسخط الله في طلب رضاهم، فإن سلم من الآفة الاولى، أعني مباشرة المحرمات، فلا يسلم من هذه أصلا. ومن الحاجة إلى الناس تثور العداوة والصداقة، ويحصل الحقد، والحسد، والكبر، والرياء، والكذب، والغيبة، والبهتان والنميمة، وسائر معاصي القلب واللسان، وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه واصلاحه.

وثالثها ـ وهو الذي لا ينفك عنه أحد من ارباب الأموال، وهو أنه يلهيه اصلاح ماله وحفظه عن ذكر الله تعالى، وكل ما يشغل العبد عن الله تعالى فهو خسران ووبال. ولذا قال روح الله عليه السلام: " في المال ثلاث آفات، أن يأخذه من غير حله "، فقيل: إن أخذه من حله؟ قال: " يضعه في غير حقه"، فقيل: إن وضعه في حقه؟ فقال: " يشغله اصلاحه عن الله". وهذا هو الداء العضال، إذ أصل العبادات وروحها وحقيقتها هو الذكر والفكر في جلال الله تعالى، وذلك يستدعى قلباً فارغاً. وصاحب الضيعة يصبح ويمسي متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته وخيانته، ومنازعة الشركاء وخصومتهم في الماء والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الاجراء في التقصير في العمارة وغير ذلك. وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة الشركاء وانفرادهم بالربح وتقصيرهم في العمل وتضييعهم المال، ويكون غالباً في بلاد الغربة متفرق الهم محزون القلب من كساد ما يصحبه من مال التجارة. وكذلك صاحب المواشي وغيره من أرباب أصناف الأموال. وأبعدها عن كثرة الشغل النقد المكنون تحت الأرض، وصاحبه أيضاً لا يزال متفكراً متردداً فيما يصرف إليه، وفي كيفية حفظه، وفي الخوف ممن يعثر عليه، وفي دفع طمع الخلق منه. وبالجملة: أودية افكار أهل الدنيا لا نهاية لها، والذي ليس معه إلا قوت يومه أو سنته، ولا يطلب أزيد من ذلك، فهو في سلامة من جميع ذلك.

وأما فوائده: فهي أيضاً دنيوية ودينية:

أما الدنيوية: فهي ما يتعلق بالحظوظ العاجلة: من الخلاص من ذل السؤال، وحقارة الفقر، والوصول إلى العز والمجد بين الخلق، وكثرة الاخوان والاصدقاء والاعوان، وحصول الوقار والكرامة في القلوب.

وأما الدينية: فثلاثة أنواع:

اولها ـ أن ينفقه على نفسه في عبادة، كالحج والجهاد، أو فيما يقوى على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن.

وثانيها ـ أن يصرفه إلى اشخاص معينة: كالصدقة، والمروة، ووقاية العرض واجرة الاستخدام. وأما الصدقة بانواعها، فلا يحصى ثوابها، وربما نشير إلى فضيلتها في موضعها. وأما المروة، ونعني بها صرف المال إلى الإغنياء والاشراف في ضيافة أو هدية أو إعانة وما يجري مجراها مما يكتسب به الاخوان والاصدقاء ويجلب به صفة الجود والسخاء، إذ لا يتصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل الفتوة والمروة، فلا ريب في كونه مما يعظم ثوابه. فقد وردت اخبار كثيرة في الهدايا والضيافات واطعام الطعام، من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها. وأما وقاية العرض، ونعني بها بذل المال لدفع ثلب السفهاء، وهجو الشعراء، وقطع ألسنة الفاحشين والمغتابين، ومنع شر الظالمين وامثال ذلك فهو أيضاً من الفوائد الدينية. قال رسول الله (ص): " ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة"، وأما اجرة الاستخدام، فلا ريب في اعانته على أمور الدين، إذ الاعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة اسبابه كثيرة، ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته، وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له يحتاج أن يتولى بنفسه جميع الاعمال التي يحتاج إليها في الدنيا، حتى نسخ الكتاب الذي يفتقر إليه، وكلما يتصور أن يقوم به الغير فتضييع الوقت فيه خسران وندامة.

وثالثها ـ أن يصرفه إلى غير معين يحصل به خير عام، وهي الخيرات الجارية: من بناء المساجد، والمدارس، والقناطر، والرباطات، ونصب الخشبات في الطرق، واجراء القنوات، ونسخ المصاحف والكتب العلمية وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات المؤبدة، الدائرة بعد الموت، المستجلبة ببركة أدعية الصالحين إلى اوقات متمادية.



[1] المنافقون، الآية: 9.

[2] الأنفال، الآية: 28.

[3] الكهف، الآية: 47.

[4] البقرة، الآية: 180.

[5] نوح، الآية: 12.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست