.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

التزاور والتآلف

قطع الرحم

صلة الرحم

المراد بالرحم

عقوق الوالدين

بر الوالدين

 

 

  فصل

التزاور والتآلف

قد اشير إلى أن ضد التباعد والهجران هو التزاور والتآلف، وهو من ثمرات النصيحة والمحبة، وثوابه اكثر من أن يحصى. عن أبي جعفر (ع): " قال رسول الله (ص): حدثني جبرائيل (ع): أن الله عز وجل أهبط إلى الأرض ملكا، فاقبل ذلك الملك يمشي حتى وقع إلى باب عليه رجل يستأذن على رب الدار، فقال له الملك: ما حاجتك إلى رب هذه الدار؟ قال: أخ لي مسلم زرته في الله تبارك وتعالى. فقال له الملك: ما جاء بك إلا ذاك؟ فقال: ما جاء بي إلا ذلك. قال: فاني رسول الله إليك، وهو يقرئك السلام، ويقول وجبت لك الجنة. وقال الملك: إن الله عز وجل يقول: أيما مسلم زار مسلماً فليس إياه زار، بل إياي زار، وثوابه علي الجنة ". وقال أمير المؤمنين (ع): " لقاء الإخوان مغنم جسيم، وإن قلوا ".

وقال أبو جعفر الباقر (ع): " إن لله عز وجل جنة لا يدخلها إلا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق، ورجل زار أخاه المؤمن في الله ورجل آثر أخاه المؤمن في الله ". وقال (ع): " إن المؤمن ليخرج إلى أخيه يزوره، فيوكل الله عز وجل به ملكا، فيضع جناحاً في الأرض وجناحاً في السماء يظله، فإذا دخل إلى منزله، ناداه الجبار تبارك وتعالى: أيها العبد المعظم لحقي، المتبع لآثار نبيي، حق علي إعظامك، سلنى اعطك، أدعنى أجبك، اسكت ابتدئك. فإذا انصرف شيعه الملك يظله بجناحه حتى يدخل إلى منزله، ثم يناديه تبارك وتعالى: أيها العبد المعظم لحقي، حق علي إكرامك، قد أوجبت لك جنتي، وشفعتك في عبادي ". وقال (ع): " أيما مؤمن خرج إلى أخيه يزوره عارفا بحقه كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحيت عن سيئة، ورفعت له درجة، فإذا طرق الباب فتحت له أبواب السماء، فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا، أقبل الله عليهما بوجهه، ثم باهى بهما الملائكة فيقول: انظروا إلى عبدي تزاورا وتحابا في، حق علي ألا أعذبهما بالنار بعد ذا الموقف. فإذا انصرف شيعه ملائكة عدد نفسه وخطاه وكلامه، يحفظونه عن بلاء الدنيا وبوائق الآخرة إلى مثل تلك الليلة من قابل، فان مات فيما بينهما اعفي من الحساب، وان كان المزور يعرف من حق الزائر ما عرفه الزائر من حق المزور كان له مثل أجره ".

وقال الصادق (ع): " من زار أخاه لله لا لغيره، التماس موعد الله وتنجز ما عند الله، وكل الله به سبعين ألف ملك ينادونه ألا طبت وطابت لك الجنة! ". وقال (ع): " من زار أخاه في الله قال الله عز وجل: إياي زرت، وثوابك علي، ولست أرضى لك ثواباً دون الجنة ". وقال (ع): " من زار أخاه في الله في مرض أو صحة، لا يأتيه خداعاً ولا استبدالا، وكل الله به سبعين ألف ملك، ينادون في قفاه: أن طبت وطابت لك الجنة! فانتم زوار الله، وأنتم وفد الرحمن، حتى يأتي منزله "، فقال له بشير: جعلت فداك! فان كان المكان بعيداً؟ قال: " نعم يا بشير! وإن كان المكان مسيرة سنة، فان الله جواد، والملائكة كثير، يشيعونه حتى يرجع إلى منزله ". وقال (ع): " من زار أخاه في الله تعالى ولله، جاء يوم القيامة يخطر بين قباطي من نور[1]، لا يمر بشيء إلا أضاء له حتى يقف بين يدى الله عز وجل، فيقول الله له: مرحباً! وإذا قال مرحباً، اجزل الله عز وجل له العطية ". وقال (ع): " لزيارة مؤمن في الله خير من عتق عشر رقاب مؤمنات، ومن أعتق رقبة مؤمنة وقي بكل عضو عضواً من النار، حتى أن الفرج يقي الفرج ". وقال (ع) لأبي خديجة: " كم بينك وبين البصرة؟ " قال: في الماء خمس إذا طابت الريح، وعلى الظهر ثمان ونحو ذلك، فقال: " ما أقرب هذا، تزاوروا وتعاهدوا بعضكم بعضاً، فانه لابد يوم القيامة يأتي كل إنسان يشاهد شهد له على دينه ". وقال: " إن المسلم إذا رأى أخاه، كان حياة لدينه إذا ذكر الله " وقال رسول الله (ص): " مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، ما لقى المؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيراً".

والأخبار الواردة بهذه المضامين كثيرة. والسر في هذا الترغيب الشديد على تزاور المؤمنين وملاقاتهم، كونه دافعاً للحسد والعداوة، جالباً للتأليف والمحبة. وهو أعظم ما يصلح به أمر دنياهم وعقباهم. ولذا ورد الثناء والمدح في الآيات والأخبار على نفس الألفة وانقطاع الوحشة،لاسيما إذا كانت الرابطة هي التقوى والدين. وورد الذم في التفرقة والتوحش، قال الله سبحانه في مقام الامتنان على المؤمن بنعمة الألفة:

" لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم "[2]. وقال: " فأصبحتم بنعمته إخواناً ": أي بنعمة الألفة. وقال سبحانه: " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا "[3].

وقال رسول الله (ص): " المؤمن إلف مألوف ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف ". وهذا هو السر في الترغيب على التسليم والمصافحة والمعانقة. قال رسول الله (ص): " أولى الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام ". وقال أمير المؤمنين (ع): " لا تغضبوا ولا تقبضوا، افشوا السلام، واطيبوا الكلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ". وقال الباقر (ع): " إن الله يحب إفشاء السلام ". وقال (ع): " من التواضع أن تسلم على من لقيت ". وقال الصادق (ع): " تصافحوا، فانها تذهب بالسخيمة ". وقال: " مصافحة المؤمن أفضل من مصافحة الملائكة ". وقال الباقر (ع): " إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا. ادخل الله تعالى يده بين أيديهما، وأقبل بوجهه على أشدهما حباً لصاحبه. فإذا أقبل الله تعالى بوجهه عليهما، تحاتت عنهما الذنوب كما تتحاتت الورق من الشجر ". وقال رسول الله (ص): " إذا لقى أحدكم أخاه فليسلم وليصافحه، فان الله تعالى أكرم بذلك الملائكة فاصنعوا صنع الملائكة ". وقال الصادق (ع): " إن المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلا وجه الله ولا يريدان غرضاً من أغراض الدنيا، قيل لهما: مغفوراً لكما فاستأنفا، فإذا اقبلا على الماء، قالت الملائكة بعضها لبعض: تنحوا عنهما، فان لهما سراً وقد ستر الله عليهما "[4].

ومنها:

 

قطع الرحم

وهو إيذاء ذوى اللحمة والقرابة، أو عدم مواساتهم بما ناله من الرفاهية والثروة والخيرات الدنيوية، مع احتياجهم إليه. وباعثه إما العداوة أو البخل والخسة، فهو من رذائل القوة الغضبية أو الشهوية، ولا ريب في كونه من أعظم المهلكات المفسدة للدنيا والدين، قال الله سبحانه.

" والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار "[5].

وقال رسول الله (ص): " أبغض الأعمال إلى الله الشرك بالله، ثم قطيعة الرحم، ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف " وقال (ص): " لا تقطع رحمك وإن قطعتك ". وقال تعالى: " أنا الرحمن، وهذه الرحم شققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ". وقال (ص): " حافتا الصراط يوم القيامة الرحم والأمانة، فاذا مر الوصول للرحم المؤدى للأمانة نفذ إلى الجنة، وإذا مر الخائن للأمانة القطوع للرحم لم ينفعهما معه عمل[6] وتكفأ به الصراط في النار ". وقال أمير المؤمنين (ع) في خطبة " أعوذ بالله من الذنوب التي تعجل الفناء "، فقام إليه عبدالله بن الكوي اليشكري، فقال: يا أمير المؤمنين، أو تكون ذنوب تعجل الفناء؟ فقال " نعم، ويلك! قطيعة الرحم. إن أهل البيت ليجتمعون ويتواسون وهم فجرة فيرزقهم الله، وإن أهل البيت ليتفرقون ويقطع بعضهم بعضاً فيحرمهم الله وهم أتقياء ". وقال (ع): " إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار ". وقال الباقر (ع): " في كتاب علي ـ صلوات الله عليه ـ: ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبداً حتى يرى وبالهن: البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة يبارز الله بها. وإن اعجل الطاعات ثواباً لصلة الرحم. وان القوم ليكونون فجاراً فيتواصلون فتنمى اموالهم ويثرون. وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من اهلها. وتنقل الرحم، وإن نقل الرحم انقطاع النسل ". وقال (ع): " اتقوا الحالقة[7]، فانها تميت الرجال "، قيل: وما الحالقة؟ قال: " قطيعة الرحم ". وجاء رجل إليه، فشكى أقاربه فقال له: " اكظم وافعل "، فقال: انهم يفعلون ويفعلون، فقال: " أتريد أن تكون مثلهم فلا ينظر الله اليكم؟ "[8]. وكتب أمير المؤمنين (ع) إلى بعض عماله: " مروا الاقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا "[9]، وذلك لأن التجاور يورث التزاحم على الحقوق، وذلك ربما يورث التحاسد والتباغض وقطيعة الرحم، كما هو مشاهد في اكثر أبناء عصرنا، وليس الخبر كالمعاينة، وإذا لم يتجاوروا وتزاحمت[10] ديارهم كان أقرب إلى التحابب، كما قيل بالفارسية: " دورى ودوستي "[11].

 

فصل

ضد قطيعة الرحم: صلة الرحم

وهو تشريك ذوي اللحمة والقرابات بما ناله من المال والجاه وسائر خيرات الدنيا، وهو أعظم القربات وأفضل الطاعات، قال الله سبحانه:

" واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذوي القربى واليتامى... "[12]. وقال: " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً "[13]. وقال: " الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ـ إلى قوله ـ أولئك لهم عقبى الدار "[14].

وقال رسول الله (ص): " أوصي الشاهد من امتي والغائب، ومن في أصلاب الرجال وارحام النساء، إلى يوم القيامة: ان يصل الرحم وإن كانت منه على مسيرة سنة، فان ذلك من الدين ". وقال (ص): " إن اعجل الخير ثواباً صلة الرحم ". وقال: " من سره النساء في الأجل، والزيادة في الرزق، فليصل رحمه ". وقال (ص): " إن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم، فتنمى أعمالهم وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا ابراراً بررة ". وقال (ص): " الصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر، وصلة الاخوان بعشرين، وصلة الرحم بأربعة وعشرين " وقيل له (ص): " أي الناس أفضل؟ فقال: اتقاهم لله، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف، وانهاهم عن المنكر ". وقال (ص): " إن أهل البيت ليكونون فجاراً، تنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا ارحامهم ". وقال (ص): " أفضل الفضائل: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك ". وقال (ص): " من سره أن يمد الله عمره، وأن يبسط في رزقه، فليصل رحمه. فان الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق، تقول: يا رب، صل من وصلني، واقطع من قطعني، فالرجل ليرى بسبيل خير حتى إذا أتته الرحم التي قطعها، فتهوى به إلى أسفل قعر في النار ".

وقال أمير المؤمنين (ع): " صلوا أرحامكم ولو بالتسليم يقول الله تعالى: اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً ". وقال الباقر (ع): " إن الرحم متعلقة يوم القيامة بالعرش، تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ". هذا تمثيل للمعقول بالمحسوس، واثبات لحق الرحم على أبلغ وجه، وتعلقها بالعرش كناية عن مطالبة حقها بمشهد من الله. وقال (ع): " صلة الأرحام تحسن الخلق، وتسمح الكف، وتطيب النفس، وتزيد في الرزق وتنسىء في الأجل ". وقال: " صلة الأرحام تزكى الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسيء في الأجل ". وقال الصادق (ع): " صلة الرحم والبر ليهونان الحساب ويعصمان من الذنوب، فصلوا ارحامكم وبروا باخوانكم، ولو بحسن السلام ورد الجواب ". وقال (ع): " صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة، وهي منسأة في العمر، وتقي مصارع السوء ". وقال (ع): " صلة الرحم وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار ". وقال (ع): " ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلا صلة الرحم، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين، فيكون وصولا للرحم، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة، فيجعلها ثلاثاُ وثلاثين سنة. ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة فيكون قاطعاً للرحم، فينقصه الله تعالى ثلاثين سنة، ويجعل أجله ثلاث سنين "[15]. والأخبار الواردة في فضيلة صلة الرحم وعظم مثوباته اكثر من أن تحصى، وما ذكرناه كاف لتنبيه الغافل.

 

تنبيه

المراد بالرحم

المراد بالرحم الذي يحرم قطعه وتجب صلته، ولو وهب له شئ لا يجوز الرجوع عنه، هو مطلق القريب المعروف بالنسب، وإن بعدت النسبة وجاز النكاح. والمراد بقطعه أن يؤذيه بالقول أو الفعل، أو كان له شدة احتياج إلى ما يقدر عليه زيادة على قدر حاجته، من سكنى وملبوس ومأكول فيمنعه، أو أمكنه أن يدفع عنه ظلم ظالم ولم يفعله، أو هاجره غيظاً وحقداً من دون أن يعوده إذا مرض، أو يزوره إذا قدم من سفر وأمثال ذلك. فان جميع ذلك وأمثالها قطع للرحم. واضدادها من دفع الأذية، ومواساته بماله، وزيارته، واعانته باللسان واليد والرجل والجاه وغير ذلك: صلة.

ثم الظاهر تحقق الواسطة بين القطع والصلة، إذ كل احسان، ولو كان مما لا يحتاج إليه قريبه وهو محتاج إليه، يسمى صلة، وعدمه لا يسمى قطعاً.

ومنها:

 

عقوق الوالدين

وهو أشد أنواع قطيعة الرحم، إذ أخص الأرحام وأمسها ما كان بالولادة، فيتضاعف تأكد الحق فيهما، فهو كقطيعة الرحم، إما يكون ناشئاً من الحقد والغيظ، أو من البخل وحب الدنيا، فيكون من رذائل احدى قوتي الغضب والشهوة. ثم جميع ما يدل على ذم قطيعة الرحم يدل على ذم العقوق، ولكونه أشد أنواع القطيعة وأفظعها، وردت في خصوص ذمه آيات وأخبار أخر كثيرة، كقوله تعالى:

" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً "[16].

وقول رسول الله (ص): " كن باراً واقصر على الجنة، وإن كنت عاقاً فاقصر على النار ". وعن أبي جعفر (ع) قال: " قال رسول الله (ص) في كلام له: إياكم وعقوق الوالدين، فان ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، ولا يجدها عاق، ولا قاطع رحم، ولا شيخ زان، ولا جار إزاره خيلاء. إنما الكبرياء لله رب العالمين ". وقوله (ص): " من أصبح مسخطاً لأبويه، أصبح له بابان مفتوحان إلى النار ". وعن أبي جعفر (ع) قال: " ان أبي (ع) نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشى والابن متكئ على ذراع الأب، فما كلمه أبي مقتاً له حتى فارق الدنيا ". وقال الصادق (ع): من نظر إلى أبويه نظر ماقت، وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة ". وقال الصادق (ع): " إذا كان يوم القيامة، كشف غطاء من أغطية الجنة، فوجد ريحها من كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام، إلا صنفاً واحداً "، فقيل له: من هم؟ قال: " العاق لوالديه ". وقال (ع): " لو علم الله شيئاً هو أدنى من اف لنهى عنه، وهو أدنى العقوق. ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحد النظر إليهما "[17] وسئل الكاظم (ع) عن الرجل يقول لبعض ولده: بأبي أنت وأمي! أو بأبوي أنت! أترى بذلك بأساً؟ فقال: " إن كان ابواه حيين فأرى ذلك عقوقاً، وان كانا قد ماتا فلا بأس ".

والأخبار في ذم العقوق اكثر من أن تحصى، وورد في بعض الأخبار القدسية: " بعزتي وجلالي وارتفاع مكاني! لو أن العاق لوالديه يعمل باعمال الأنبياء جميعاً لم أقبلها منه ". وروى أيضا: " أن اول ما كتب الله في اللوح المحفوظ: إني أنا الله لا اله إلا أنا، من رضي عنه والداه فانا منه راض، ومن سخط عليه والداه فانا عليه ساخط ". وقد ورد عن رسول الله انه قال: " كل المسلمين يروني يوم القيامة، إلا عاق الوالدين، وشارب الخمر، ومن سمع اسمي ولم يصل علي ". وقد ثبت من الأخبار والتجربة، أن دعاء الوالد على ولده لا يرد ويستجاب ألبته. ودلت الأخبار على أن من لا ترضى عنه امه تشتد عليه سكرات الموات وعذاب القبر. وكفى للعقوق ذماً أنه ورد في الاسرائيليات: " أنه تعالى أوحى إلى موسى: أن من بر والديه وعني كتبته براً، ومن برني وعق والديه كتبته عاقاً ".

 

فصل

بر الوالدين

ضد العقوق (بر الوالدين) والإحسان إليهما، وهو أفضل القربات وأشرف السعادات. ولذلك ورد ما ورد من الحث عليه، والترغيب إليه قال الله سبحانه:

" واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً "[18]. وقال: " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً "[19].

وقال رسول الله (ص): " بر الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله ". وقال (ص): " من أصبح مرضياً لأبويه، أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة ". وعن أبي عبدالله (ع) قال: " إن رجلا أتى إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله أوصني. فقال: لا تشرك بالله شيئاً وإن حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان، ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين وإن أمراك، أن تخرج من أهلك ومالك فافعل فان ذلك من الإيمان ". وعن أبي عبدالله (ع) قال: " جاء رجل وسأل النبي (ص) عن بر الوالدين. فقال: ابرر أمك، ابرر أمك ابرر أمك ابرر أباك ابرر أباك ابرر أباك وبدأ بالأم قبل الأب ". وعن أبى عبدالله (ع) قال: " جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك " واتاه رجل آخر وقال: " إني رجل شاب نشيط، وأحب الجهاد، ولي والدة تكره ذلك. فقال له النبي (ص) ارجع فكن مع والدتك، فو الذي بعثتي بالحق! لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل الله سنة ". وقال أبو عبدالله (ع): " ان رسول الله (ص) أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سر بها، وبسط ملحفته لها، فاجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت فذهبت وجاء أخوها، فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله، صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل، فقال: لأنها كانت أبر بوالديها منه ".

وقيل للصادق (ع): " أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله ". وقال له (ع) رجل: " إن أبى قد كبر جداً وضعف، فنحن نحمله إذا اراد الحاجة فقال: إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، ولقمه بيدك، فانه جنة لك غداً ". وقال له (ع) رجل: " إن لي أبوين مخالفين. فقال برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا ". وقال رجل للرضا (ع) " أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحق؟ قال: ادع لهما وتصدق عنهما، وان كانا حيين لا يعرفان الحق فدارهما، فان رسول الله (ص) قال: إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق ". وقد وردت أخبار اخر في الأمر بالبر والإحسان إلى الوالدين وإن كان على خلاف الحق وقال (ع): " ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين ويصلى عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك، فيزيده الله عز وجل ببره وصلاته خيراً كثيراً "[20].

والأخبار في ثواب بر الوالدين غير محصورة. فينبغي لكل مؤمن أن يكون شديد الاهتمام في تكريمهما وتعظيمهما واحترامهما، ولا يقصر في خدمتهما، ويحسن صحبتهما، وألا يتركهما حتى يسألاه شيئاً مما يحتاجان إليه بل يبادر إلى الاعطاء قبل أن يفتقرا إلى السؤال، كما ورد في الأخبار، وإن أضجراه فلا يقل لهما أف، وان ضرباه لا يعبس وجهه، وقال: غفر الله لكما، ولا يملأ عينيه من النظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يده فوق ايديهما، ولا يتقدم قدامهما، بل مهما أمكن له لا يجلس عندهما، وكلما بالغ في التذلل والتخضع كان أجره أزيد وثوابه اعظم.

وبالجملة: اطاعتهما واجبة وطلب رضاهما حتم، فليس للولد أن يرتكب شيئاً من المباحات والمستحبات بدون اذنهما، ولذا أفتى العلماء بانه لا تجوز المسافرة في طلب العلم إلا باذنهما، إلا إذا كان في طلب علم الفرائض من الصلاة والصوم واصول العقائد، ولم يكن في بلده من يعلمه، ولو كان في بلده من يعلمه لم تجز المسافرة. وقد روى: " أن رجلا هاجر من اليمن إلى رسول الله (ص) وأراد الجهاد، فقال له: ارجع إلى ابويك فاستأذنهما، فان اذنا فجاهد، ولا فبرهما ما استطعت، فان ذلك خير مما كلف به بعد التوحيد " وجاء آخر إليه للجهاد، فقال " ألك والدة؟ " قال: نعم! قال: "فالزمها، فان الجنة تحت قدمها " وجاء آخر، وطلب البيعة على الهجرة إلى الجهاد، وقال: ما جئتك حتى ابكيت والدي. قال: " ارجع إليهما، فأضحكهما كما ابكيتهما ". ولو وقعت بين الوالدين مخالفة، بحيث توقف رضى أحدهما على سخط الآخر فينبغي أن يجتهد في الاصلاح بينهما بأي طريق امكن، ولو بالعرض إلى فقيه البلد حتى يطلبهما ويعظهما ويقيمهما على الوفاق، لئلا ينكسر خاطر أحدهما منه.

واعلم أن حق كبير الاخوة على صغيرهم عظيم، فينبغي محافظته. قال رسول الله (ص): " حق كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده ".



[1] القبط بالكسر ـ : أهل مصر الاصليون واليهم تنسب الثياب البيض القبطية. والجمع (قباطى).

[2] الأنفال، الآية: 63.

[3] آل عمران، الآية: 103.

[4] صححنا الأحاديث كلها على (الكافي): باب زيارة الإخوان، وباب المصافحة، وباب المعانقة وعلى (سفينة البحار): 1/567.

[5] الرعد، الآية: 27.

[6] قال في (الوافي): لم ينفعهما معه عمل، أي لم ينفع الخائن ولا القطوع مع الخيانة أو القطع عمل وفي نسخة من (الكافي): لم ينفعه معهما.

[7] قال في (مجمع البحرين) ـ مادة حلق ـ: " وفي الحديث: اتقوا الحالقة قال بعض الشارحين: الحالقة هي الخصلة التي من شأنها ان تحلق، أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر ".

[8] صححنا الأحاديث كلها على (أصول الكافي): باب قطيعة الرحم، وباب صلة الرحم.

[9] لم نعثر على مصدر لهذا الحديث.

[10] كذا في النسخ، والظاهر ان الصحيح " وتباعدت ".

[11] يعني: التباعد معه التحابب.

[12] النساء، الآية: 36.

[13] النساء، الآية: 1.

[14] الرعد، الآية: 21، 22.

[15] صححنا الأخبار هنا كلها على (أصول الكافي): باب صلة الرحم وعلى (سفينة البحار): 1/514.

[16] الإسراء، الآية: 23.

[17] صححنا الأحاديث كلها على (أصول الكافي): باب العقوق، وعلى (مستدرك الوسائل): 2/631 كتاب النكاح. وعلى (الوسائل): كتاب النكاح.

[18] بني إسرائيل، الآية: 24.

[19] النساء، الآية: 36.

[20] صححنا الأحاديث كلها على (أصول الكافي): باب بر الوالدين وعلى (الوسائل): كتاب النكاح أبواب احكام العشرة، باب وجوب بر الوالدين، وباب وجوب بر الوالدين برين كانا أو فاجرين، وباب جملة من حقوق الوالدين وعلى (المستدرك) 2/628 كتاب النكاح.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست