.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

السعي في الأمر بالمعروف 

وجوب الأمر بالمعروف وشروطه

عدم اشتراط العدالة فيه

مراتب الأمر بالمعروف

معنى وجوبهما كفائيا

ما ينبغي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

انواع المنكرات

الهجرة والتباعد

 

 

وفصل

السعي في الأمر بالمعروف

ضد المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي السعي فيهما والتشمير لهما. وهو أعظم مراسم الدين، والمهم الذي بعث الله لأجله النبيين، ونصب من بعدهم الخلفاء والأوصياء، وجعل نوابهم أولى النفوس القدسية من العلماء. بل هو القطب الذي تدور عليه أرحية الملل والأديان وتطرق الاختلال فيه يؤدى إلى سقوطها عن الدوران. ولهذا ورد في مدحه والترغيب عليه مما لا يمكن إحصاؤه من الآيات والأخبار، قال الله سبحانه:

" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ". وقال: " كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف ونهون عن المنكر "[1]. وقال: " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذابٍ بئيسٍ بما كانوا يفسقون "[2]. وقال: " لا خير في كثيرٍ من نجواهم، إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ". وقال: " يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط "[3].

والقيام بالقسط هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقال رسول الله (ص): " ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي، وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي " وقال (ص): " إياكم والجلوس على الطرقات! " قالوا مالنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: "فإذا أبيتم إلاّ ذلك، فاعطوا الطريق حقه "، قالوا، وما حق الطريق؟ قال: " غض البصر وكف الأذى، ورد السلام، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر ". وقال (ص): " ما بعث الله نبياً إلا وله حواري، فيمكث النبي بين أظهرهم ما شاء الله، يعمل فيهم بكتاب الله وبأمره، حتى إذا قبض الله نبيه، مكث الحواريون يعملون بكتاب الله وبأمره وسنة نبيهم، فإذا انقرضوا، كان من بعدهم قوم يركبون رؤس المنابر يقولون ما يعرفون ويعملون ما ينكرون. فإذا رأيتم ذلك، فحق على كل مؤمن جهادهم بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه. وليس وراء ذلك إسلام "[4]. وقال أمير المؤمنين (ع): " إن من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه، فقد سلم وبرئ ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن انكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي اصاب سبيل الهدى وقام على الطريق، ونور في قلبه اليقين "[5]. وقال (ع) " فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده، فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة. ومنهم المنكر بقلبه، والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة. ومنهم تارك لانكار المنكر بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميت الأحياء. وما اعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر " وفي خبر جابر عن الباقر (ع): " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض وينتصف من الاعداء، ويستقيم الأمر. فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم. فان اتعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم:

" إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم "[6].

هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وابغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالا، ولا مريدين لظلم ظفراً، حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته "[7].

 

فصل

وجوب الأمر بالمعروف وشروطه

مقتضى الآيات والأخبار المذكورة، وجوب الأمر بالمعروف النهي عن المنكر. ولا خلاف فيه أيضاً، إنما الخلاف في كون وجوبهما كفائياً أو عينياً. والحق الأول، كما يأتي.

ثم الواجب إنما هو الأمر بالواجب والنهي عن الحرام. وأما الأمر بالمندوب والنهي عن المكروه فمندوب، وإنما يجب بشروط أربعة:

الأول ـ العلم بكونهما معروفاً ومنكراً، ليأمن من الغلط، فلا يجبان في المتشابه، فمن علم بالقطع الوجوب أو الحرمة، وعدم جواز الاختلاف فيه من ضرورة الدين أو المذهب أو الاجماع القطعي النظري أو الكتاب والسنة أو من قول العلماء، فله أن يأمر وينهى ويحتسب به على كل أحد ومن لم يعلمها بالقطع، بل علمها بالظن الحاصل من الاجتهاد أو التقليد وجوز الاختلاف فيه، فليس له الأمر والنهي والحسبة، إلا على من كان على هذا الاعتقاد من مجتهد أو مقلد، أو لزم عليه أن يكون على هذا الاعتقاد وان لم يكن عليه بالفعل للجهل، كالمقلد، المطلق لمجتهد إذا لم يعلم بعض العقائد الاجتهادية لمجتهده، فيتأتى لغيره ان يحتسب به عليه. وحاصل ما ذكر: أن القطعيات الوفاقية تأتى لكل أحد أن يحتسب بها على كل أحد بعد علمها وغير القطعيات الجائز فيها الاختلاف والمرجح أحد طرفيها لاجتهاد لا يتأتى لمجتهده ومقلده فيها الاحتساب، أي الامر والنهي، إلا على من كان موافقاً في العتقاد أو يلزم أن يكون موافقاً.

الثاني ـ تجويز التأثير. فلو علم أو غلب على ظنه انه لا يؤثر فيه، لم يجب، لعدم الفائدة.

الثالث ـ القدرة والتمكن منه، وعدم تضمنه مفسدة. فلو ظن توجه الضرر إليه أو إلى أحد من المسلمين بسببه سقط، إذ لا ضرر ولا ضرار في الدين.

الرابع ـ أن يكون المأمور أو المنهي مصراً على الاستمرار. فلو ظهر منهما امارة الإقلاع سقط، للزوم العبث.

ثم هذه الشروط يختلف اشتراطها بسبب اختلاف درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما يأتي. ويدل على اشتراط الثلاثة الأول ما روى: " انه سئل مولانا الصادق (ع): " ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب على الامة جميعاً؟ فقال: لا. فقيل له: ولمَ؟ قال: انما هو على القوى المطاع، العالم بالمعروف من المنكر. لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلا إلى أي من أي يقول من الحق إلى الباطل. والدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل، قوله:

" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر "[8].

فهذا خاص غير عام، كما قال الله عز وجل:

" ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون "[9]

ولم يقل على أمة موسى، ولا على كل قوم، وهم يومئذ امم مختلفة والامة واحد فصاعداً، كما قال الله عز وجل: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله) يقول مطيعاً لله عز وجل. وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج، إذا كان لا قوة له ولاعذر ولا طاقة ". وقال مسعدة " سمعت أبا عبد الله (ع) وسئل عن الحديث الذي جاء عن النبي (ص): (إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند امام جائر) ما معناه ـ قال: " هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه وإلا فلا ". وفي خبر آخر: " إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم. فأما صاحب سوط او سيف فلا ". وفي خبر أخر: " من تعرض لسلطان جائر واصابته بلية، لم يؤجر عليها اولم يرزق الصبر عليها "[10]. ومن الشرائط أن يظهر المنكر على المحتسب من غير تجسس، فلا يجب، بل لا يجوز التجسس، كفتح الباب المغلق، ووضع الاذن والانف لاحتباس الصوت والريح، وطلب ارائة ما تحت الثوب وأمثال ذلك، لنص الكتاب والسنة.

 

فصل

عدم اشتراط العدالة فيه

لا تشترط فيه العدالة وائتمار الآمر بما يأمر به وانتهاء الناهي عما ينهى عنه، لا طلاق الأدلة، ولأن الواجب على فاعل الحرام المشاهد فعله من غيره أمران: تركه وانكاره، ولا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر، كيف ولو شرط ذلك لا قتضى عدم وجوب ذلك إلا على المعصوم، فينسد باب الحسبة بالكلية.

وأما الانكار في قوله تعالى:

" أ تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم "[11]. وقوله تعالى: " لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولون ما لا تفعلون "[12].

وما في حديث الاسرى من قرض مقاريضهم بالنار، فانما هو على عدم العمل بما يأمر به ويقوله، لا على الأمر والقول. وكذلك ما روي: " أن الله تعالى أوحى إلى عيسى: عظ نفسك، فان اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني "[13]. وقس على ذلك جميع ما ورد من هذا القبيل.

ما قيل إن هداية الغير فرع الاهتداء، وتقديم الغير فرع الاستقامة ففيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يكون بالوعظ وتارة بالقهر ومن لم يكن مهتديا مستقيما، تسقط عنه الحسبة بالوعظ، لعلم الناس بفسقه فلا يتضمن وعظه وكلامه فائدة، ولا يؤثر في العالم بفسقه، ولا يخرج ذلك وعظه وقوله عن الجواز، كما لا تخرج حسبته القهرية عن التأثير والفائدة أيضاً. إذ الفاسق إذا منع غيره قهراً عن الزنا واللواط وشرب الخمر، واراق الخمور، وكسر آلات الملاهي، حصل التأثير والفائدة بلا شبهة والحاصل: أن أحد نوعي الاحتساب ـ اعني الوعظي ـ يتوقف تأثيره على العدالة، وأما نوعه الآخر ـ أعني القهري ـ فلا يتوقف عليه مطلقاً.

فان قيل: إذا أتى رجل امرأة إكراهاً، وهي مستورة الوجه، فكشف وجهها باختيارها، فما اشنع وأقبح أن ينهاها الرجل في أثناء الزنا عن كشف وجهها، ويقوله لها: أنت مكرهة في الزنا ومختارة في كشف الوجه لغير المحرم، وما أنا بمحرم لك، فاسترى وجهك.

قلنا: القبح والاستنكار إنما هو لأجل أنه ترك الاهم واشتغل بما هو الاهون، كما إذا ترك المشتبه وأكل الحرام، أو ترك الغيبة وشهد بالزور لا لأن هذا النهي هو حرام في نفسه، أو خرج عن الوجوب إلى الاباحة أو الكراهة. ولأن نهيه هذا خرج بفسقه عن التأثير والفائدة، فالاستنكار عليه وتقبيح نهيه عن هذا من حيث أنه نزل نفسه مقام من يؤثر قوله، مع أنه لا يؤثر، كما تقدم آنفاً.

ثم ما ذكرناه من عدم اشتراط العدالة في العمل بما يأمر به وينهى عنه إنما هو في آحاد الحسبة الصادرة من أفراد الرعية المطلعين على المنكر. وأما من نصب نفسه لاصلاح الناس ونصحهم، وبيان الاحكام الإلهية نيابة عن رسول الله (ص) والأئمة المعصومين (ع) فلا بد فيه من العدالة والتقوى والعلم بالكتاب والسنة، وغير ذلك من شرائط الاجتهاد. وعلى هذا يحصل جواب آخر عن الآيات والأخبار الواردة في الانكار على الواعظ غير المتعظ بتخصيصها به دون افراد الرعية. وعليه يحمل قول الصادق (ع) في (مصباح الشريعة)[14]: " من لم ينسلخ عن هواجسه، ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها، ولم يهزم الشيطان، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته، لا يصلح له الأمر المعروف والنهي عن المنكر، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة، فكلما أظهر أمراً كان حجة عليه، ولا ينتفع الناس به. وقال الله عز وجل:

" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم "[15].

ويقال له: يا خائن! أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك! ": وكذا يحمل عليه قول الصادق (ص)[16]: " صاحب الأمر بالمعروف يحتاج إلى أن يكون عالماً بالحلال والحرام، وفارغاً من خاصة نفسه مما يأمرهم به وينهاهم عنه، ناصحاً للخلق، رحيما لهم، رفيقاً بهم، داعياً لهم باللطف وحسن البيان، عارفاً بتفاوت اخلاقهم لينزل كلا منزلته، بصيراً بمكر النفس ومكائد الشيطان، صابراً على ما يلحقه، لا يكافيهم بها ولا يشكو منهم، ولا يستعمل الحمية ولا يغتلظ لنفسه، مجرداً نيته لله، مستعيناً به ومبتغياً لوجهه، فان خالفوه وجفوه صبر، وإن وافقوه وقبلوا منه شكر، مفوضاً أمره إلى الله، ناظراً إلى عيبه ".

(تنبيه) اعلم أن المحتسب عليه ـ أعني من يؤمر به أو ينهى عنه ـ وان شترط كونه عاقلا بالغاً، إلا أن هذا الشرط إنما هو في غالب الأوامر والنواهي، وبعضها لا يشترط فيه ذلك. إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر، وجب عليه أن يمنعه ويريق خمره. وكذا إن رأى مجنوناً يزنى بمجنونة أو بهيمة، فعليه أن يمنعه منه، ولا يلزم منه أن يكون منع بهيمة عن افساد زرع إنسان حسبة ونهياً عن منكر، إذ لا يصدق اسم المحتسب عليه والمنهي إلا على من كان الفعل الممنوع عنه في حقه منكراً، وهو لا يكون إلا الإنسان دون سائر الحيوانات.

 

فصل

مراتب الأمر بالمعروف

اعلم أن للامر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب:

الأولى ـ الانكار بالقلب: بأن يبغضه على ارتكاب المعصية. وهذا مشروط بعلم الناهي واصرار المنهى، ولا يشترط بالشرطين الأخيرين.

الثانية ـ التعريف: بأن يعرف المرتكب للمنكر بأنه معصية، فان بعض الناس قد يرتكب بعض المعاصي لجهلهم بأنه معصية، ولو عرف كونه معصية تركه.

الثالثة ـ إظهار الكراهة والإعراض والمهاجرة.

الرابعة ـ الإنكار باللسان: بالوعظ، والنصح، والتخويف، والزجر، مرتباً الأيسر فالأيسر، إلى أن يصل إلى التعنيف بالقول والتغليظ في الكلام. كقوله: يا جاهل! يا أحمق! لا تخالف ربك! وههنا شبكة عظيمة للشيطان، ربما يصطاد بها اكثر الوعاظ. فينبغي لكل عالم ناصح أن يراها بنور البصيرة، وهي أن يحضره عند الوعظ والإرشاد، ويلقى في قلبه تعززه وشرافته بالعلم، وذلة من يعظه بالجهل والخسة. فربما يقصد بالتعريف والوعظ الإذلال والتجهيل، وإظهار شرف نفسه بالعلم، وهذه آفة عظيمة تتضمن كبراً ورياء. وينبغي لكل واعظ دين ألا يغفل عن ذلك، ويعرف بنور بصيرته عيوب نفسه وقبح سريرته. وعلامة براءة نفسه من هذه الآفة، أن يكون اتعاظ ذلك العاصي بوعظ غيره أو امتناعه من المعصية بنفسه أحب إليه من إتعاظه بوعظه.

الخامسة ـ المنع بالقهر مباشرة، ككسر آلات اللهو، واراقة الخمر واستلاب الثوب المغصوب منه ورده إلى صاحبه، وأمثال ذلك.

السادسة ـ التهديد والتخويف: كقوله: دع عنك هذا، وإلا ضربتك أو كسرت رأسك! أو غير ذلك مما يجوز له أن يفعل لو لم ينته عن معصيته. ولا يجوز أن يهدده بما لا يجوز فعله، كقوله: دع هذا وإلا أضرب عنقك! أو أضرب ولدك، أو استبين زوجتك، وامثال ذلك.

السابعة ـ مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك، من دون ان ينتهي إلى شهر سلاح وجراح.

الثامنة ـ الجرح بشهر بعض الأسلحة. وجوزه سيدنا المرتضى (ره) من اصحابنا وجماعة، والباقون اشترطوا إذن الإمام في ذلك، إذ ربما لا يقدر عليه بنفسه، ويحتاج فيه إلى أعوان وانصار يشهرون السلاح، وربما يستمد الفاسق أيضاً باعوانه، فيؤدي إلى المقاتلة والمحاربة وحدوث فتنة عظيمة.

 

فصل

معنى وجوبهما كفائياً

إذا اجتمعت الشرائط، وكان المطلع منفرداً، تعين عليه. وإن كان ثمة غيره، وشرع أحدهما في الأمر والنهي، فان ظن الآخر ان لمشاركته اثراً في تعجيل ترتب الأثر ورسوخ الانزجار، وجب عليه أيضا، وإلا فلا. لأن الغرض وقوع المعروف وارتفاع المنكر، فمتى حصلا بفعل واحد، كان السعي من الآخر عبثاً. وهذا معنى كون وجوبهما كفائياً.

 

فصل

ما ينبغي في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر

ينبغي لكل من الآمر المعروف والناهي عن المنكر أن يكون حسن الخلق، صابراً حليماً قوياً في نفسه، لئلا ينزعج، ولا يضطرب إذا قيل في حقه ما لا يليق به. فان اكثر الناس اتباع الهوى، فإذا نهوا عما يميلون إليه شق ذلك عليهم، فربما اطلقوا ألسنتهم في حق الناهي، ويقولون فيه ما لا يليق بشأنه، وربما تجاوزوا إلى سوء الأدب قولا وفعلا بالمشافهة.

وأن يكون رفيقاً بالناس، فان الوعظ بالرفق والملاءمة أوقع وأشد تأثيراً في قلوب أكثر الناس.

وأن يكون قاطعاً للطمع عن الناس، فان الطامع من الناس في أموالهم أو اطلاق ألسنتهم بالثناء عليه لا يقدر على الحسبة، ولذا نقل: " أن بعض المشايخ كان له سنور، وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئاً من القد لسنوره، فرأى على القصاب منكراً، فدخل الدار أولا، واخرج السنور، ثم جاء ووعظ القصاب وشدد عليه القول، فقال القصاب لا يأكل سنورك شيئاً بعد ذلك، فقال: ما احتسبت عليك إلا بعد اخراج السنور وقطع الطمع عنك! ".

 

تتميم

أنواع المنكرات

علم أن المنكرات إما محظورة أو مكروهة، والمألوفة منها في العادات أكثر من أن تحصى.

فمنها ـ ما يكون غالباً في المساجد: كاساءة الصلاة، والاخلال ببعض أفعالها، والتأخير عن اوقاتها، وادخال النجاسة فيها، والتكلم فيها بأمور الدنيا والبيع والشراء، ودخول الصبيان والمجانين فيها مع اشتغالهم باللهو واللعب، وقراءة القرآن فيها باللحن أو الغناء، ودخول النسوان فيها مع ظن تطرق الريبة، ونظر الأجانب إليهن أو نظرهن إليهم، ودخول الجنب أو الحائض فيها، وتغني المؤذنين بالأذان أو غيره مما يقرؤن، وتقديمهم الأذان على الوقت، ووعظ من لا ينبغي أن يتمكن من الموعظة كمن يكذب في حديثه أو يفتي بالمسائل وليس أهلا لها، أو يظهر من وعظه كونه مرائياً طالباً للجاه، وأمثال ذلك. فان كل ذلك من المنكرات بعضها محظورة وبعضها مكروهة، وينبغي لكل مطلع ان ينهى عنها.

ومنها ـ ما يكون غالباً في الأسواق: من الكذب في المحاولات والمعاملات واخفاء العيب، والإيمان الكاذبة، والمنازعة بالضرب والشتم والطعن واللعن وأمثال ذلك، والتبخس في الكيل والميزان، والمعاملات الفاسدة باقسامها على ما هو مقرر في الفقهيات.

ومنها ـ ما يكون في الشوارع: كوضع الاساطين، وبناء الدكات متصلة بالابنية المملوكة، وتضييق الطرق على المارة بوضع الاطعمة والاحطاب وربط الدواب فيها، وسوق الدواب فيها وعليها الاشواك والنجاسات ـ إذا تأذى الناس منها وامكن العدول بها إلى موضع واسع، وإن لم يكن فلا منع، إذ حاجة أهل البلد ربما تمس إلى ذلك ـ وتحميل الدواب مالا يطيقها من الحمل، وذبح القصاب على الطريق أو على باب دكانه بحيث تلوث الطريق بالدم، وطرح الكناسة على جواد الطرق، ورش الماء على الطرق بحيث يخشى منه الزلق والسقوط، وارسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط إلى الطرق الضيقة، وغير ذلك. وقس على ذلك منكرات الحمامات، والخانات، والاسواق، ومجالس العامة، ومجامع القضاة ومدارس الفقهاء، ورباطات الصوفية، ودواوين السلاطين، وغيرها. فان أمثال ما ذكر من المنكرات بجب أن ينهى عنها، فلو قام بالاحتساب والنهي عنها أحد سقط الحرج على البواقي، وإلا عم الحرج أهل البلد جميعاً. وأمثال ما ذكر إنما هو من المنكرات اليسيرة الجزئية.

وأما المنكرات العظيمة: من البدعة في الدين، والقتل، والظلم، والزنا، واللواط، وشرب الخمر، وأنواع الغناء، والنظر إلى غير المحارم وأكل الحرام، والصلاة في الاماكن المغصوبة، والوضوء والغسل من المياه المحرمة، والتصرف في أموال الأوقاف وغصبها، والمعاملة مع الظالمين والجهل في الاصول الاعتقادية والفروع الواجبة، وآفات اللسان، فلا يمكن حصرها لكثرتها، لاسيما في أمثال زماننا. فلو امكن لمؤمن دين أن يغير هذه المنكرات كلا أو بعضاً بالاحتساب، فليس له أن يقعد في بيته، بل يجب عليه الخروج للنهي والتعليم. بل ينبغي لكل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الطاعات وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهله وأقاربه ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم أهل بلده، ثم أهل السواد المكتنف بلده، ثم إلى غيرهم، وهكذا الاقرب فالأقرب إلى أقصى العالم. فان قام به الادنى سقط عن الابعد، وإلا لزم الحرج على كل قادر عليه، قريباً كان أو بعيداً. ولا يسقط الحرج مادام يبقى على وجه الأرض جاهل يعرض عن فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فريضة. وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن سائر المشاغل. إلا أن إعراض الناس عن أمور دينهم في عصرنا لم يبلغ حداً يقبل الاصلاح، إلى ان تتعلق به مشيئة الله، فينهض بعض عباده السعداء الأقوياء، فيدفع هذه الوصمة، ويسد هذه الثلمة، ويتلافى هذه الفترة.

ومنها:

 

الهجرة والتباعد

ولا ريب في كونه من نتائج العداوة والحقد، أو الحسد أو البخل فيكون من رذائل قوة الغضب أو الشهوة. وهو من ذمائم الأفعال. قال رسول الله (ص): " أيما مسلمين تهاجراً، فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان، إلا كانا خارجين من الإسلام، ولم يكن بينهما ولاية. فأيهما سبق الكلام لأخيه، كان السابق إلى الجنة يوم الحساب ". وقال (ص): " لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.. " وقال الصادق (ع): " لا يفترق رجلان على الهجران، إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة، وربما استحق ذلك كلاهما ". فقال له معتب: جعلني الله فداك! هذا للظالم، فما بال المظلوم؟! قال: " لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته، ولا يتعامس له عن كلامه. سمعت أبي (ع) يقول: إذا تنازع اثنان، فعاد أحدهما الآخر، فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتى يقول لصاحبه: أي أخى، انا الظالم، حتى يقطع الهجران بينه وبين صاحبه، فان الله تبارك وتعالى حكم عدل، يأخذ للمظلوم من الظالم ". وقال (ع): " لا يزال إبليس فرحاً ما اهتجر المسلمان، فإذا التقيا اصطكت ركبتاه وتخلعت أوصاله، ونادى: ياويله! ما لقى من الثبور " وقال الباقر (ع): " إن الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه، فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدد، ثم قال: فزت. فرحم الله امرأ ألف بين وليين لنا. يا معشر المؤمنين، تآلفوا وتعاطفوا "[17]. والأخبار الواردة في ذم الهجرة والتباعد كثيرة.

فيجب على كل طالب لنجاة الآخرة أن يتأمل في أمثال هذه الأخبار ثم يتذكر ثواب ضد ذلك وفوائده، أعني التآلف والتزاور بين الإخوان بنفسه، فيحافظ نفسه من حصول الانقطاع والتباعد مع أحد إخوانه، ولو حصل ذلك كلف نفسه المبادرة إلى زيارته وتألفه، حتى يغلب على الشيطان ونفسه الأمارة، ويفوز بما يرجوه المتقون من عظيم الأجر وجزيل الثواب.

 


[1] آل عمران، الآية: 104، 110.

[2] الأعراف، الآية: 165.

[3] النساء، الآية: 114، 135.

[4] صححنا هذه النبويات الثلاثة على (إحياء العلوم): 2/271، 272.

[5] صححنا الحديث على (المستدرك): كتاب الأمر بالمعروف، الباب3 وعلى (الوسائل): كتاب الأمر بالمعروف، الباب3. وكذا الحديث بعده، صححناه على (الوسائل) في الموضع المذكور.

[6] الشورى، الآية: 42.

[7] صححنا الحديث على (فروع الكافي): كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف.

[8] آل عمران، الآية: 104.

[9] آل عمران، الآية: 103.

[10] صححنا الأحاديث على (فروع الكافي): باب الأمر بالمعروف، وباب إنكار المنكر بالقلب. اسقط المؤلف من الحديث الأول قسماً فأكملناه.

[11] البقرة، الآية: 44.

[12] الصف، الآية: 2ـ3.

[13] صححنا الأحاديث كلها على (فروع الكافي): باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى (الوسائل): كتاب الأمر بالمعروف. وعلى (المستدرك) 2/360، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[14] الباب 64 وقد صححنا الحديث عليه وعلى (بحار الأنوار): 21/114 باب الأمر بالمعروف. وعلى (مستدرك الوسائل): 2/363ـ365.

[15] البقرة، الآية: 44.

[16] (مصباح الشريعة): الباب المتقدم.

[17] صححنا الأخبار كلها على (الكافي): باب الهجران.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست