.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

 

حق الجوار

حدود الجوار وحقه

طلب العثرات 

ستر العيوب

افشاء السر

كتمان السر

النميمة

السعاية

الافساد بين الناس

الاصلاح

الشماتة

المراء والجدال والخصومة

 

 

  تذنيب

حق الجوار

حق الجوار قريب من حق الرحم، إذ الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه اخوة الآسلام، فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة فمن قصر في حقه عداوة أو بخلا فهو آثم. قال رسول الله (ص): " الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق الإسلام، وحق القرابة. ومنهم من له حقان: حق الإسلام، وحق الجوار، ومنهم من له حق واحد: الكافر له حق الجوار ". فانظر كيف اثبت للكافر حق الجوار. وقال (ص): " احسن مجاورة من جاورك تكن مؤمناً ". وقال (ص): " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره ". وقال (ص): " لا ايمان لمن لم يأمن جاره بوائقة ". وقيل له (ص): " فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتتصدق، وتؤذي جارها بلسانها. فقال (ص): لا خير فيها، هي من أهل النار ". وعن علي (ع): " إن رسول الله (ص) كتب بين المهاجرين والانصار ومن لحق بهم من أهل يثرب: أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه " وقال الصادق (ع): " حسن الجوار زيادة في الاعمار وعمارة في الديار ". وقال (ع): " ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره ". وقال (ع): " قال رسول الله (ص): ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع ". وقال: " إن يعقوب (ع) لما ذهب عنه بنيامين، نادى: يا رب أما ترحمني، اذهبت عيني واذهبت ابني؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: لو كنت امتهما لأحييتهما لك، اجمع بينك وبينهما، ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها وشويتها وأكلت، وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئاً ". وفي رواية أخرى: " فكان بعد ذلك يعقوب ينادي مناديه كل غداة ومساء من منزله على فرسخ: ألا من أراد الغداء أو العشاء فليأت إلى يعقوب! "[1]. وفي بعض الأخبار[2]. " أن الجار الفقير يتعلق يجاره الغني يوم القيامة، ويقول: سل يا رب هذا لم منعني معروفه وسد بابه دوني؟ ".

 

تتميم

حدود الجوار وحقه

معرفة الجوار موكولة إلى العرف، فأي دار يطلق عليها الجار عرفاً يلزم مراعاة حقوق أهلها. والمستفاد من بعض الأخبار: أن كل أربعين داراً من كل واحد من الجوانب الأربعة جيران. ثم لا ينحصر حق الجار في مجرد كف الأذى، إذ ذلك يستحقه كل أحد، بل لابد من الرفق وإهداء الخير والمعروف، وتشريكه فيما يملكه ويحتاج إليه من المطاعم، كما ظهر من بعض الأخبار المتقدمة. وينبغي أن يبدأه بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عن حاله السؤال، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويصفح عن زلاته، ويستر ما اطلع عليه من عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره ولا في صب الماء في ميزابه، ولا في مطرح التراب في فنائه، ولا في المرور عن طريقه، ولا يمنعه ما يحتاج إليه من الماعون، ويغض بصره عن حرمه، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ويتلطف لأولاده في كلمته، ويرشده إلى ما يصلحه من أمر دينه ودنياه، وإن استعان به في أمر أعانه، وإن استقرضه أقرضه، ولا يستطيل عليه بالبناء فيحجب عنه الريح إلا باذنه، وإذا اشترى شيئاً من لذائذ المطاعم وظرفها فيهد له، وإن لم يفعل فليدخلها بيته سراً، ولا يخرج بها أولاده حتى يطلع عليها بعض أولاد جاره، فيشتهيه وينكسر لذلك خاطره.

ومنها:

 

طلب العثرات

وتجسس العيوب والعورات وإظهارها. ولا ريب في كونه من نتائج العداوة والحسد، وربما حدث في القوة الشهوية رداءة توجب الاهتزاز والانبساط، من ظهور عيب بعض المسلمين، وإن لم يكن عداوة وحقداً كما قيل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة                    ولكن عين السخط تبدى المساويا

ومن تصفح الآيات والأخبار، يعلم أن من يتبع عيوب المسلمين ويظهرها بين الناس اسوأ الناس واخبثهم، قال الله تعالى:

" ولا تجسسوا "[3]. وقال: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم "[4].

وقال رسول الله (ص): " من أذاع فاحشة كان كمبتدئها، ومن عير مؤمناً بشيء، لم يمت حتى يرتكبه ". وقال (ص): " كل امتي معافى، إلا المجاهرين "، والمجاهرة أن يعمل الرجل سوأ فيخبر به. وقال (ص): " من استمع خبر قوم وهم له كارهون، صبت في أذنية الآنك يوم القيامة ". وعن أبي جعفر (ع) قال: " قال رسول الله (ص) يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه! لا تتبعوا عثرات المسلمين، فانه من يتبع عثرات المسلمين يتتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه ". وقال الباقر (ع): " من اقرب ما يكون العبد إلى الكفر ان يؤاخي الرجل الرجل على الدين، فيحصى عليه زلاته ليعيره بها يوماً ما ". وقال الصادق (ع): " من أنب مؤمناً أنبه الله عز وجل في الدنيا والآخرة ". وقيل للصادق (ع): " شيء يقوله الناس، عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ فقال: ليس حيث تذهب، إنما عورة المؤمن أن يراه يتكلم بكلام يعاب عليه فيحفظه عليه ليعيره به يوماً إذا غضب ".

وقال الباقر (ع): " قال رسول الله (ص) إن اسرع الخير ثواباً البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه، وأن يعير الناس بما لا يستطيع تركه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعينه "[5]. والأخبار الواردة بأمثال هذه المضامين كثيرة.

 

فصل

ستر العيوب

ضد كشف العيوب: شترها واخفاؤها، وهو من أعظم شعب النصيحة ولا حد لثوابه، كما يستفاد من الأخبار الكثيرة. قال رسول الله (ص): " من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة ". وقال (ص): " لا يستر عبد عيب عبد إلا ستره الله يوم القيامة " وقال (ص): " لا يرى امرؤ من أخيه عورة فيسترها عليه، إلا دخل الجنة ". وكفى بستر العيوب فضلا أنه من أوصاف الله سبحانه، ومن شدة اعتنائه بستر الفواحش اناط ثبوت الزنا ـ وهو افحشها ـ بما لا يمكن اتفاقه إلا نادراً، وهو مشاهدة أربعة عدول كالميل في المكحلة فانظر إلى أنه تعالى كيف أسبل الستر على العصاة من خلقه في الدنيا، بتضييق الطرق المؤدية إلى كشفه. ولا تظنن أنك تحرم هذا الستر يوم تبلى السرائر، فقد ورد في الحديث: " أن الله تعالى إذا ستر على عبد عورته في الدنيا فهو اكرم من أن يكشفها في الآخرة، وإن كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها أخرى ". وورد أيضاً: " أنه يؤتى يوم القيامة بعبد يبكي، فيقول الله سبحانه له: لم تبكي؟ فيقول: أبكي على ما سينكشف عني من عوراتي وعيوبي عند الناس والملائكة. فيقول الله: عبدي ما أفتضحتك في الدنيا بكشف عيوبك وفواحشك، وأنت تعصيني وتضحك! فكيف أفضحك اليوم بكشفها وأنت لا تعصيني وتبكي! ". وفي خبر آخر: " أن رسول الله (ص) يطلب يوم القيامة من الله سبحانه ألا يحاسب أمته بحضرة من الملائكة والرسل وسائر الأمم، لئلا تظهر عيوبهم عندهم، بل يحاسبهم بحيث لا يطلع على معاصيهم غيره سبحانه، وسواه (ص)، فيقول الله سبحانه: يا حبيبي، أنا أرأف بعبادي منك، فإذا كرهت كشف عيوبهم عند غيرك، فأنا أكره كشفها عندك أيضاً، فاحاسبهم وحدي بحيث لا يطلع على عثراتهم غيري ".

فإذا كانت عناية الله سبحانه في ستر عيوب العباد بهذه المثابة، فأنى لك أيها المسكين المبتلى بأنواع العيوب والمعاصي، تسعى في كشف عيوب عباد الله، مع أنك مثلهم في الاتصاف بأنواع العيوب والعثرات! وتأمل أنه لو أظهر أحد بعض فواحشك عند الناس كيف يكون حالك، فقس عليه حال غيرك ممن تكشف أنت بعض فواحشه. وقد ثبت ووضح من الأخبار والتجربة: أن من يفضح يفتضح، فيا حبيبي، ترحم على نفسك وتأس بربك، فاسبل على عيوب غيرك.

ومنها:

 

افشاء السر

واذاعته، وهو أعم من كشف العيب، إذا السر قد يكون عيباً وقد لا يكون بعيب، ولكن في افشائه ايذاء واهانة بحق الأصدقاء أو غيرهم من المسلمين، وهو من رذائل قوة الغضب إن كان منشأه العداوة، ومن رذائل قوة الشهوة إن كان منشأه تصور نفع مالي، أو مجرد اهتزاز النفس بذلك لخبائتها، وهو مذموم منهي عنه. قال رسول الله (ص): " إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت، فهي أمانة ". وقال (ص): " الحديث بينكم أمانة ". وورد: " أن من الخيانة أن تحدّث بسر أخيك ". وقال عبد الله بن سنان للصادق (ع): " عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ فقال: نعم! قلت: يعني سفلته؟ قال: ليس حيث تذهب، إنما هو اذاعة سره "[6].

 

فصل

كتمان السر

ضد إفشاء السر: كتمانه، وهو من الأفعال المحمودة، وقد أمر به في الأخبار. قال رسول الله (ص): " طوبى لعبد نومة، عرفه الله ولم يعرفه الناس، أولئك مصابيح الهدى وينابيع العلم، تتجلى عنهم كل فتنة مظلمة، ليسوا بالمذاييع البذر، ولا الجفاة المرائين ". وقال أمير المؤمنين (ع): " طوبى لعبد نومة، لا يؤبه له، يعرف الناس ولا يعرفه الناس، يعرفه الله منه برضوان، أولئك مصابيح الهدى، تنجلى عنهم كل فتنة، ويفتح لهم باب كل رحمة، ليسوا بالبذر المذاييع، ولا الجفاة المرائين ". وقال أمير المؤمنين (ع): " قولوا الخير تعرفوا به، واعملوا الخير تكونوا من أهله، ولا تكوا عجلا مذاييع. فان خياركم الذين إذا نظر إليهم ذكر الله، وشراركم المشاؤن بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، المبتغون للبراء المعايب"[7].

 

تنبيه

النميمة

النميمة تطلق في الأكثر على أن ينم قول الغير إلى المقول فيه، كأن يقال: فلان تكلم فيك بكذا وكذا، أو فعل فيك كذا وكذا. وعلى هذا تكون نوعا خاصاً من افشاء السر وهتك الستر، وهو الذي يتضمن فساداً أو سعاية. وقد تطلق على مالا يختص بالمقول فيه، بل على كشف ما يكره كشفه، سواء كره المنقول عنه أو المنقول إليه أو كرهه ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أو الكتابه أو بالرمز والإيماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال، وسواء كان ذلك عيباً ونقصانا على المنقول عنه أو لم يكن. وعلى هذا يكون مساوية الافشاء السر وهتك الستر وحينئذ فكل ما يرى من أحوال الناس ولم يرضوا بافشائه، فاذاعته نميمة فاللازم على كل مسلم أن يسكت عما يطلع عليه من أحوال غيره، إلا إذا كان في حكايته نفع لمسلم أو دفع لمعصية. كما إذا رأى أحداً يتناول مال غيره، فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، وأما إذا رآه يخفى مالا لنفسه، فحكايته نميمة وافشاء للسر.

ثم الباعث على النميمة يكون غالباً ارادة السوء بالمحكي عنه، فيكون داخلا تحت الإيذاء، وربما كان باعثه اظهار المحبة للمحكى له، أو التفريح بالحديث، و الخوض في الفضول. وعلى أي تقدير، لا ريب في أن النميمة أرذل الافعال القبيحة واشنعها. وما ورد في ذمها من الآيات والأخبار لا يحصى كثرة، قال الله سبحانه:

" همّاز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم "[8].

والزنيم: هو ولد الزنا. فيستفاد من الآية: أن كل من يمشي بالنميمة فهو ولد الزنا، وقال سبحانه:

" ويل لكل همزة لمزة "[9]. أي النمام المغتاب.

وقال رسول الله (ص): " لا يدخل الجنة نمام " وفي خبر آخر: " لا يدخل الجنة قتات ": أي النمام. وقال (ص): " احبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا، الموطئون اكنافا، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى الله المشاؤن بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبراء العثرات "[10]. وقال (ص): " ألا انبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المشاؤن بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب "[11]. وقال (ص): " من أشار على مسلم كلمة ليشينه بها في الدنيا بغير حق، شانه الله في النار يوم القيامة ". وقال (ص): " أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها برىء ليشينه بها في الدنيا، كان حقاً على الله أن يدينه بها يوم القيامة في النار ". وقال (ص): " إن الله لما خلق الجنة قال لها: تكلمي، قالت: سعد من دخلني. قال الجبار جل جلاله: وعزتي وجلالي! لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس لا يسكنك مدمن خمر، ولا مصر على الزنا، ولا قتات ـ وهو النمام ـ، ولا ديوث، ولاشرطي، ولامخنث، ولا قاطع رحم، ولا الذي يقول علي عهد الله أن أفعل كذا وكذا ثم لم يف به ". وقال الباقر (ع): " الجنة محرمة على المغتابين المشائين بالنميمة ". وقال (ع): " يحشر العبد يوم القيامة وما ندا دماً[12]، فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا رب، انك لتعلم أنك قبضتني وما سفكت دماً، فيقول: بلى، سمعت من فلان رواية كذا وكذا فرويتها عليه، فنقلت حتى صارت إلى فلان الجبار فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه ". وقال الصادق (ع): " من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروته ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله تعالى من ولايته إلى ولاية الشيطان، ولا يقبله الشيطان "[13]. وروى: " انه اصاب بني إسرائيل قحط، فاستسقى موسى مرات، فما اجيب. فأوحى الله تعالى إليه: إني لا استجيب لك ولمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة. فقال موسى: يا رب، من هو حتى نخرجه من بيننا؟ فقال: يا موسى، انهاكم عن النميمة وأكون نماماً؟! فتابوا باجمعهم، فسقوا "وروى: " أن ثلث عذاب القبر من النميمة ".

ومن عرف حقيقة النميمة، يعلم أن النمام شر الناس واخبثهم، كيف وهو لا ينفك من الكذب، والغيبة، والغدر، والخيانة، والغل، والحسد والنفاق، والإفساد بين الناس، والخديعة. وقد قال الله سبحانه:

" ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض "[14].

والنمام يسعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسد في الأرض. وقال الله:

" إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق "[15]. والنمام منهم.

وقال رسول الله (ص): " لا يدخل الجنة قاطع ": أي قاطع بين الناس، والنمام قاطع بينهم. وقال رسول الله (ص): " شر الناس من اتقاه الناس لشره ": والنمام منهم، والنمام أعظم شراً من كل أحد.

نقل: أن رجل باع عبداً، فقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة قال رضيت. فاشتراه، فمكث الغلام أياما، ثم قال لزوجة مولاه: إن زوجك لا يحبك، وهو يريد أن يتسرى عليك، وانا اسحره لك في شعره فقالت: كيف اقدر على أخذ شعره؟ فقال: إذا نام فخذى الموسى واحلقى من قفاه عند نومه شعرات. ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلا وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف. فتناوم فجاءته المرأة بالموسى، فظن أنها تقتله، فقام وقتلها، فجاء أهلها وقتلوا الزوج، فوقع القتال بين القبيلتين، وطال الأمر بينهم.

ثم يلزم على من تحمل إليه النميمة ألا يصدق النمام، لأنه فاسق، والفاسق مردود الشهادة بقوله تعالى:

" إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا "[16].

وان ينهاه عن ذلك، وينصحه ويقبح له فعله، لقوله تعالى:

" وأمر بالمعروف وانه عن المنكر "[17].

وان يبغضه في الله، لكونه مبغوضاً عنده تعالى، وألا يظن بأخيه سوأ بمجرد قوله، لقوله تعالى:

" إجتنبوا كثيراً من الظن "[18].

وألا يحمل عمله على التجسس والبحث لتحقيق ما حكى له، لقوله تعالى: " ولا تجسسوا". وألا يرضى لنفسه ما نهى عنه النمام، فلا يحكى نميمته، فيقول: فلان قد حكى كذا وكذا، فيكون به نماماً ومغتاباً. وروى محمد بن فضيل عن الكاظم (ع): " أنه قال له (ع): جعلت فداك! الرجل من اخواني يبلغني عنه الشيء الذي اكرهه، فاسأله عنه فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات. فقال لي: يا محمد، كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فان شهد عندك خمسون قسامة، فقال لك قولا، فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم مروته، فتكون من الذين قال الله:

" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذي آمنوا لهم عذاب شديد "[19].

وقد روي عن أمير المؤمنين ـ (ع): " أن رجلا أتاه يسعى إليه برجل، فقال: يا هذا، نحن نسأل عمن قلت، فان كنت صادقا مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك قال: اقلني يا أمير المؤمنين ". ونقل: " أن رجلا زار بعض الحكماء واخبره بخبر عن غيره، فقال: قد ابطأت عني الزيارة، وبغضت إلي أخى، وشغلت قلبى الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة ".

 

تتمة

السعاية

السعاية هي النميمة، بشرط كون المحكي له من يخاف جانبه، كالسلاطين والأمراء والحكماء والرؤساء وأمثالهم، فهي أشد أنواع النميمة إثماً ومعصية وهي أيضاً تكون من العداوة ومن حب المال وطمعه، فتكون من رداءة القوتين وخباثتهما. قال رسول الله (ص): " الساعي بالناس إلى الناس لغير رشده ": يعني ليس ولد حلال. وذكرت السعاة عند بعض الأكابر، فقال: ما ظنك بقوم يحمد الصدق من كل طبقة إلا منهم!

ومنها:

 

الافساد بين الناس

وهو في الأكثر يحصل بالنميمة، وإن لم يوجب كل نميمة افساداً، ولا ريب في كونه من المهلكات المؤدية إلى النار، قال الله سبحانه:

" الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون "[20].

وقال رسول الله (ص): " إن فساد ذات البين هي الحالقة ".

 

فصل

الاصلاح

وضده: الاصلاح بين الناس، وهو أعظم أفراد النصيحة، ولا غاية لمثوبته عند الله. قال رسول الله (ص): " أفضل الصدقة اصلاح ذات البين ". وقال (ص): " اتقوا الله واصلحوا ذات بينكم، فان الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ". وقال (ص): "ليس بكذاب من اصلح بين اثنين فقال خيراً ". وقال (ص): " كل الكذب مكتوب، إلا أن يكذب الرجل فان الحرب، فان الحرب خدعة، أو يكذب بين اثنين ليصلح بينهما "... وقال الصادق (ع): " صدقة يحبها الله تعالى: اصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا ". وقال (ع) لمفضل: " إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالى ". وقال (ع) لابن عمار: " ابلغ عنى كذا وكذا في اشياء أمر بها. فقال له ابن عمار: فابلغهم عنك، وأقول عني ما قلت لي وغير الذي قلت؟ قال: نعم! إن المصلح ليس بكذاب ". وقال (ع): " المصلح ليس بكاذب "[21]: يعني إذا تكلم بما لا يطابق الواقع فيما يتوقف عليه الاصلاح لم يعد كلامه كذباً. وهذا يدل على وجوب الاصلاح بين الناس، لأن ترك الكذب واجب، ولا يسقط الواجب إلا بواجب آكد منه.

ومنها:

 

الشماتة

وهو إظهار أن ما حدث بغيره من البلية والمصيبة إنما هو من سوء فعله واساءته، والغالب صدوره عن العداوة أو الحسد. وعلامته أن يكون مع فرح ومسرة، وربما صدر عن رداءة القوة الشهوية، بأن يهتز به ويميل إليه، مع جهله بمواقع القضاء والقدر، وإن لم يكن معه حقد وحسد. والتجربة والأخبار شاهدان على أن كل من شمت بمسلم في مصيبة لم يخرج من الدنيا حتى يبتلى بمثلها ويشمت به غيره فيها. قال الصادق (ع): " لا تبدي الشماته لأخيك، فيرحمه الله ويحلها بك ". وقال (ع): " من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يفتتن "[22] على أن كل بلية ومصيبة ترد على مسلم يمكن أن تكون كفارة لذنوبه أو باعثاً لرفع درجاته واعلاء مرتبته في دار الآخرة.

والدليل على ذلك: أن أعظم البلايا والمصائب موكلة بالأنبياء، ثم بالأولياء، ثم بالأمثل فالأمثل في درجات الاعتلاء. ولا ريب في أن ورود المصائب والمحن عليهم ليس من سوء فعلهم وإساءتهم. فينبغي لكل عاقل أن يتأمل (أولا) أن الشماتة بمسلم بمصيبة لا ينفك في الدنيا من ابتلائه بمثلها، (وثانياً) أنها ايذاء لأخيه المسلم، فلا ينفك عن العذاب في الآخرة (ثالثاً) ان نزول هذه المصيبة به لا يدل على سوء حاله عند الله، بل الأرجح دلالته على حسن حاله وتقربه عند الله سبحانه. فليحافظ على نفسه عن ابداء الشماتة لأحد من المسلمين، ويخوف من يراه من الشامتين عن عقوبة العاجل وعذاب الآجل.

ومنها:

 

المراء والجدال والخصومة

إعلم ان المراء طعن في كلام الغير لاظهار خلل فيه، من غير غرض سوى تحقيره واهانته، وإظهار تفوقه وكياسته، والجدال: مراء يتعلق باظهار المسائل الاعتقادية وتقريرها. والخصومة: لجاج في الكلام لاستيفاء مال أو حق مقصود، وهذه تكون تارة ابتداء وتارة اعتراضاً، والمراء لا يكون إلا اعتراضا على كلام سبق، فالمراء داخل تحت الإيذاء، ويكون ناشئاً من العداوة أو الحسد. وأما الجدال والخصومة، فربما صدرا من أحدهما أيضاً، وربما لم يصدرا منه.

وحينئد، فالجدال إن كال بالحق ـ أي تعلق باثبات احدى العقائد الحقة ـ وكان الغرض منه الارشاد والهداية، ولم يكن الخصم لدوداً عنوداً فهو الجدال بالأحسن، وليس مذموماً، بل ممدوح معدود من الثبات في الإيمان الذي هو من نتائج قوة المعرفة وكبر النفس، قال الله سبحانه:

" ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن "[23].

وإن لم يكن بالحق، فهو مذموم اقتضته العصبية أو حب الغلبة أو الطمع، فيكون من رذائل القوة الغضبية أو الشهوية، وربما أورث شكوكاً وشبهات تضعف العقيدة الحقة، ولذا نهى الله سبحانه عنه وذم عليه، فقال:

" ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير"[24]. قال: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره "[25].

والخصومة أيضاً إن كانت بحق، أي كانت مما يتوقف عليه استيفاء مال أو حق ثابت، فهي ممدوحة معدودة من فضائل القوة الشهوية، وإن كانت بباطل، أي تعلقت بما يدعيه كذباً أو بلا علم ويقين، فهي مذمومة معدودة من رذائلها. فالخصومة المذمومة تتناول المخاصمة فيما يعلم قطعاً عدم استحقاقه، وفيما لا علم له بالاستحقاق، كخصومة وكيل القاضي، فانه قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب، يتوكل في الخصومة من أي جانب كان، ويخاصم من غير علم وايقان، فمثله خبّاط العثرات وركاب الشبهات، يضر بالمسلمين بلا عرض، ويتحمل أوزار الغير بلا عوض، فهو أخسر الناس اعمالا واعظمهم في الآخرة أوزاراً ونكالا. وتتناول أيضاً مخاصمة من يطلب حقه ولكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللدد والعناد في الخصومة قصداً للتسلط والإيذاء، ومن يمزج بخصومته كلمة مؤذية لا يحتاج إليها في اظهار الحق وبيان الحجة، ومن يحمله على الخصومة محض العناد بقهر الخصم وكسره مع استحقاره لذلك القدر من المال، وربما صرح بأن قصدي العناد والغلبة عليه وكسر عرضه، وإذ أخذت منه هذا المال رميته، ولا أبالى، فمثله غرضه اللدد واللجاج.

فتنحصر الخصومة الجائزة بمخاصمة المظلوم الذي يطلب حقه وينصر حجته بطريق الشرع من غير قصد عناد وإيذاء، مع الاقتصار على قدر الحاجة في الخصومة من دون أن يتكلم بالزائد ولا بكلمات مؤذية، ففعله ليس بحرام وإن كان الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا، إذ ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر أو متعسر، لأنها توغر الصدر، وتهيج الغضب، وإذ هاج الغضب ذهب المتنازع فيه من البين، واشتد الحقد بين المتخاصمين حتى يحزن كل واحد بمسرة صاحبه ويفرح بمساءته. فالخصومة مبدأ كل شر، فينبغي ألا يفتح بابها إلا عند الضرورة على قدر الضرورة، ولا يتعدى عن الواجب، إذ أقل درجاتها تشوش الخاطر، حتى أنه في الصلاة ليشتغل بمخاصمة الخصم، ويتضمن الطعن والاعتراض أي التجهل والتكذيب، إذ من يخاصم غيره إما يجهله أو يكذبه، فيكون آتياً بسوء الكلام، ويفوت به ضده، اعني طيب الكلام، مع ما ورد فيه من الثواب. وكذا الحال في المراء والجدال.

وبالجملة: المراء والجدال الخصومة، سوى ما استثني، من ذمائم الأفعال ومبادىء اكثر الشرور والفتن، ولذا ورد بها الذم الشديد في الأخبار قال رسول الله (ص): " من جادل في خصومة بغير علم، لم يزل في سخط حتى ينزع ". وقال (ص): " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ". وقال (ص): " ما أتاني جبرائيل قط إلا وعظني، فآخر قوله لي: إياك ومشادة الناس فانها تكشف العورة وتذهب بالعز ". وقال أمير المؤمنين (ع): " إياكم والمراء والخصومة، فانهما يمرضان القلوب على الاخوان، وينبت عليهما النفاق ". وقال علي بن الحسين (ع): " ويل أمة فاسقاً من لا يزال ممارياً! ويل أمة فاجراً من لا يزال مخاصما! ويل أمة آثماً من كثر كلامه في غير ذات الله! ". وقال الصادق (ع): " لا تمارين حليما ولا سفيهاً، فان الحليم يغلبك والسفيه يؤذيك ". وقال: " إياك والمشادة، فانها تورث المعرة وتظهر العورة ". وقال (ع) " إياكم والخصومة، فانها تشغل القلب، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن "[26] فمن تأمل في ما يدل على ذمها وسوء عاقبتها عقلا ونقلا ـ فمع عدم ترتب فائدة عليها، وتذكر ما ورد في مدح تركها وفوائد ضدها، اعني طيب الكلام ـ يسهل عليه ان يتركها ولا يحوم حولها.

 


[1] صححنا الأحاديث هنا على (اصول الكافي): باب حسن الجوار وعلى (المستدرك): 2/78و79 وعلى (الوسائل): كتاب الحج، أبواب احكام العشرة، الباب 85 ـ 88.

[2] هذا كلام ذكره في (إحياء العلوم): 2/189 بعد قوله: " إذ يقال ".

[3] الحجرات، الآية: 12.

[4] النور، الآية: 19.

[5] صححنا الأحاديث كلها على (أصول الكافي): باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم. وعلى (الوسائل): أبواب أحكام العشرة، الباب 150. وعلى (المستدرك): 2/104. وعلى (البحار): 4مج 15/175، باب تتبع عيوب الناس وافشائها.

[6] صححنا الأحاديث على البحار: 4/175مج15، باب تتبع عيوب الناس.

[7] صححنا الأحاديث كلها على (البحار): ج4مج15: باب فضل كتمان السر وعلى (أصول الكافي): باب كتمان السر، وباب الرواية على المؤمن.

[8] القلم، الآية: 11ـ 13.

[9] الهمزة، الآية: 1.

[10] صححنا الحديث على (المستدرك): 111 كتاب الحج.

[11] صححنا الحديث على الوسائل: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، الباب164. وعلى (المستدرك): 110 كتاب الحج. وعلى (أصول الكافي): باب النميمة.

[12] قال في مجمع البحرين ـ مادة (ندا) ـ: " فلان ماندا دماً ولا قتل قتلا: أي ما سفك دماً ". وقد كتبت كلمة (ندا) في جميع ما وجدناه من الكتب بالالف، وعسى أن تكون بالياء هكذا (ندى) كرضى. واحتمل في الوافى أن تكون (ندى بتشديد الدال، وذكر احتمالات كثيرة، فراجعه وقد روي في (الوسائل) ـ كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، الباب163 ـ مثل هذا الحديث عن (الشيخ الطوسي)، وقد جاء فيه: " وما ادمى دماً ". أما الحديث المذكور هنا، فقد صححناه على (أصول الكافي) باب الاذاعة.

[13] صححنا الحديث على (الوسائل): كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة الباب157. وعلى (أصول الكافي): باب الرواية على المؤمن.

[14] البقرة، الآية: 27.

[15] الشورى، الآية: 40.

[16] الحجرات، الآية: 6.

[17] لقمان، الآية: 17.

[18] الحجرات، الآية: 12.

[19] صححنا الحديث على (الوسائل): كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة الباب157. والآية من سورة النور:19.

[20] البقرة، الآية: 27.

[21] صححنا الأحاديث عن الصادق (ع) على (أصول الكافي): باب الاصلاح بين الناس وصححنا النبويات على (كنز العمال): 2/14، 128.

[22] صححنا الحديثين على (أصول الكافي): باب الشماتة.

[23] العنكبوت، الآية: 46.

[24] الحج، الآية: 8.

[25] الانعام، الآية: 68.

[26] صححنا الأحاديث على (الكافي): باب المراء والخصومة، وعلى (الوسائل): كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، الباب 135و136. وعلى (إحياء العلوم): 2/102.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست