.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

مدح الورع

مداخل الحلال

درجات الورع

الغدر والخيانة

أنواع الفجور

الخوض في الباطل

التكلم بما لا يعنى أو الفضول 

حد التكلم بما لا يعنى

علاج الخوض بما لا يعنى

الصمت

 

 

فصل

مدح الورع

الورع والتقوى عن الحرام أعظم المنجيات، وعمدة ما ينال به إلى السعادات ورفع الدرجات. قال رسول الله (ص): " خيركم دينكم الورع ". وقال (ص): " من لقي الله سبحانه ورعاً أعطاه الله ثواب الإسلام كله ". وفي بعض الكتب السماوية " وأما الورعون، فانى استحيي أن أحاسبهم ". وقال الباقر (ع): " إن أشد العبادة الورع ". وقال (ع): " ما شيعتنا إلا من أتقى الله واطاعه، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة. احب العباد إلى الله تعالى واكرمهم عليه أبقاهم واعملهم بطاعته " وقال الصادق (ع): " أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه ". وقال: " اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع ". وقال (ع): " عليكم بالورع، فانه لا ينال ما عند الله إلا بالورع ". وقال (ع): " إن الله ضمن لمن اتقاه، أن يحوله عما يكره إلى ما يحب، ويرزقه من حيث لا يحتسب ". وقال (ع): " إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى ". وقال (ع): " ما نقل الله عبداً من ذل المعاصي إلى عز التقوى، إلا أغناه من غير مال، واعزه من غير عشيرة، وآنسه من غير بشر ". وقال (ع): " إنما أصحابي من أشتد ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، هؤلاء أصحابي ". وقال (ع): " ألا وإن من اتباع امرنا وارادته الورع، فتزينوا به يرحمكم الله، وكيدوا أعداءنا ينعشكم الله ". وقال (ع): " أعينونا بالورع، فان من لقي الله منكم بالورع، كان له عند الله فرجاً. إن الله عز وجل يقول:

" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [1].

فمنا النبي، ومنا الصديق والشهداء والصالحون " وقال أبو جعفر (ع): " قال الله عز وجل. يابن آدم اجتنب ما حرم عليك تكن من أورع الناس ". وسئل الصادق (ع) عن الورع من الناس، فقال: " الذي يتورع عن محارم الله عز وجل "[2].

ولكون طلب الحرام وعدم الاجتناب عنه باعثاً للهلاك، وتوقف النجاة والسعادة في الآخرة على الورع عن المحرمات، مع افتقار الناس في الدنيا إلى المطاعم والملابس، ورد في فضيلة كسب الحلال ومدحه ما ورد

قال رسول الله (ص): " طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة ". وقال (ص): " من بات كالا من طلب الحلال، بات مغفوراً له ". وقال (ص): " العبادة سبعون جزأ أفضلها طلب الحلال ". وقال (ص): " العبادة عشرة أجزاء تسعة... أجزائه في طلب الحلال ". وقال (ص): " من أكل من كد يده، مر على الصراط كالبرق الخاطف ". وقال (ص): " من أكل من كد يده، نظر الله إليه بالرحمة، ثم لا يعذبه أبداً ". وقال (ص): " من أكل من كد يده حلالا، فتح الله له أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء ". وقال (ص): " من أكل من كد يده، كان يوم القيامة في عداد الأنبياء، ويأخذ ثواب الأنبياء ". وقال (ص): " من طلب الدنيا استعفافا عن الناس وسعياً على أهله وتعطفاً على جاره لقي الله عز وجل يوم القيامه ووجهه كالقمر ليلة البدر "[3] وكان (ص) إذا نظر إلى الرجل واعجبه، قال: هل له حرفة؟ فان قال: لا، قال: سقط من عيني. قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: لأن المؤمن إذا لم تكن له حرفة يعيش بدينه ". وقال (ص): " من سعى على عياله من حله، فهو كالمجاهد في سبيل الله ". وقال (ص): " من طلب الدنيا حلالا في عفاف، كن في درجة الشهداء " وقال (ص): " من أكل الحلال أربعين يوماً، نور الله قلبه، وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ". طلب منه (ص) بعض الصحابة أن يجعله الله تعالى مستجاب الدعوة، فقال له: " أطب طعمتك تستجب دعوتك ". وقال الصادق (ع): " اقرؤا من لقيتم من اصحابكم السلام، وقرلوا لهم: إن فلان بن فلان يقرؤكم السلام، وقولوا لهم: عليكم بتقوى الله عز وجل، وما ينال به ما عند الله، إني والله ما آمركم إلا بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجد والاجتهاد، وإذا صليتم الصبح وانصرفتم، فبكروا في طلب لرزق، واطلبوا الحلال، فإن الله عز وجل سيرزقكم ويعينكم عليه "[4].

 

فصل

مداخل الحلال

إعلم أن مداخل الحلال خمسة:

الأول ـ مالا يؤخذ من مالك، كنيل المعادن، وإحياء الموات، والاصطياد، والاحتطاب، والاحتشاش، والاستقاء من الشطوط والأنهار وهذا حلال بشرط عدم صيرورته مختصاً بذي حرمة من الناس، وتفصيل ذلك موكول إلى كتاب إحياء الموات.

الثاني ـ ما يؤخذ قهراً ممن لا حرمة له، وهو الفىء، والغنيمة، وسائر أموال الكفار المحاربين. وذلك حلال للمسلمين بالشروط المقررة في كتاب الغنائم والجزية.

الثالث ـ ما ينتقل إليه بالرضى من غير عوض، من حى أو ميت، كالهبة، والميراث، والوصية، والصدقات. وهذا حلال بشرط أن يكون المنقول منه اكتسبه من مداخل الحلال، ويضمن سائر الشروط المقررة في كتاب الهبات والفرايض والوصايا والصدقات.

الرابع ـ ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة، وذلك حلال بالشرائط والآداب المقررة في فن المعاملات من الفقه، من البيع، والسلم، والإجارة، والصلح والشركة، والمضاربة، والمزارعة، والمساقاة، والحوالة، والضمان، والكتابة، والخلع، والصداق، وغير ذلك من المعاوضات.

الخامس ـ ما يحصل من الزراعة ومنافع الحيوانات. وهو حلال إذا كان الأرض والبذر والماء والحيوانات حلالا بأحد الوجوه المتقدمة.

فهذه مداخل الحلال، فينبغي لطالب النجاة أن يكون ما يكتسبه من المال من أحد هذه المداخل، بعد فتوى الفقيه العدل بحصول شرائط الحلية.

 

فصل

درجات الورع

قسم بعض العلماء الورع والتقوى عن الحرام على أربع درجات:

الأولى ـ ورع العدول: وهو الاجتناب عن كل ما يلزم الفسق باقتحامه، وتسقط به العدالة، ويثبت به العصيان والتعرض للنار، وهو الورع عن كل ما يحرمه فتوى المجتهدين.

الثانية ـ ورع الصالحين: هو الاجتناب من الشبهات أيضاً.

الثالثة ـ الورع عما يخاف اداؤه إلى محرم أو شبهة أيضا، وإن لم يكن في نفسه حراماً ولا شبهة، فهو ترك مالا بأس به مخافة ما به بأس.

الرابعة ـ ورع الصديقين: وهو الاجتناب عن كل ما ليس لله، ويتناول لغير الله، وغير نيته التقوى على عبادته وإن كان حلالا صرفاً لا يخاف اداؤه إلى حرام أو شبهة. والصديقون الذين هذه درجتهم هم الموحدون المتجردون عن حظوظ أنفسهم، المتفردون لله تعالى بالقصد، الراؤن كل ما ليس لله تعالى حراماً، والعاملون بقوله سبحانه:

قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون "[5].

 

تتميم

قال الصادق (ع): " التقوى على ثلاثة أوجه: تقوى من خوف النار والعقاب، وهو ترك الحرام، وهو تقوى العام. وتقوى من الله، وهو ترك الشبهات فضلا عن الحرام، وهو تقوى الخاص. وتقوى في الله، وهو ترك الحلال فضلا عن الشبهة "[6] والى هذه المراتب الثلاث أشير في الكتاب الإلهى بقوله:

" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين "[7]

 

الغدر والخيانة

في المال أو العرض أو الجاه. ويدخل تحته الذهاب بحقوق الناس خفية، وحبسها من غير عسر، وبالبخس في الوزن والكيل، وبالغش بما يخفى، وغير ذلك من التدليسات المموهة والتلبيسات المحرمة. وجميع ذلك من خباثة القوة الشهوية ورذائلها، ومن الرذائل المهلكة وخبائثها. وقد وردت في ذم الخيانة وبأقسامها أخبار كثيرة، وجميع ما يدل على ذم الذهاب بحقوق الناس وأخذ أموالهم بدون رضاهم يدل على ذمها.

وضد الخيانة (الأمانة)، وقد وردت في مدحها وعظم فوائدها أخبار كثيرة، كقول الصادق (ع): إن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر" وقوله (ع): " لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فان الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم بصدق الحديث وأداء الأمانة "[8] وقوله (ع): " انظر ما بلغ به علي (ع) عند رسول الله (ع): فالزمه، فان علياً (ع) إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (ص) بصدق الحديث وأداء الأمانة "[9] وقوله (ع): " ثلاث لا عذر فيها لأحد: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد إلى البر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين "[10]. وقوله (ع): " كان أبي يقول أربع من كن فيه كمل إيمانه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك، وهي: الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحسن الخلق "[11]. وقوله (ع): " أهل الأرض مرحومون ما يخافون وأدوا الأمانة وعملوا بالحق ". وقيل له (ع): " إن امرأة بالمدينة كان الناس يضعون عندها الجواري فيصلحن، ومع ذلك ما رأينا مثل ما صب عليها من الرزق. فقال: إنها صدقت الحديث وأدت الأمانة، وذلك يجلب الرزق "[12] والأخبار في فضيلة الأمانة كثيرة. و لقد قال لقمان: " ما بلغت إلى ما بلغت إليه من الحكمة، إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة ". فمن تأمل في ذم الخيانة وايجابها الفضيحة والعار في الدنيا والعذاب والنار في الآخرة، وفي فضيلة الأمانة وأدائها إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة، سهل عليه ترك الخيانة والاتصاف بالأمانة.

 

أنواع الفجور

من الزنا، واللواط، وشرب الخمر، والاشتغال بالملاهي، واستعمال آلاتها، من العود، والمزمار، والرباب، والدف، وامثالها. فان كل ذلك من رذائل القوة الشهوية. وكذا لبس الذهب والحرير للرجال. وقد وردت في ذم كل واحد منهما بخصوصه أخبار كثيرة، ولا حاجة إلى ذكرها، لشيوعها واشتهارها.

ومنها:

 

الخوض في الباطل

وهو التكلم في المعاصي والفجور وحكايتها، كحكايات أحوال النساء ومجالس الخمر، ومقامات الفساق، وتنعم الأغنياء، وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة واحوالهم المكروهة، وأمثال ذلك. فكل ذلك من رداءة القوة الشهوية وخباثتها.

ثم لما كانت أنواع الباطل غير محصورة لكثرتها، فالخوض فيه أيضاً كذلك، وتكون له أنواع غير متناهية، ولا يفتح باب كلام إلا وينتهي إلى واحد منها، فلا خلاص منه إلا باقتصار الكلام على قدر الحاجة من مهمات الدين والدنيا. وربما وقعت من الرجل من أنواع الخوض في الباطل كلمة تهلكه هو مستحقر لها، فان أكثر الخوض في الباطل حرام، ولذا قال رسول الله (ص): " أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل ". وإليه الإشارة بقوله تعالى:

" وكنا نخوض مع الخائضين "[13]. وقوله تعالى: " فلا تعقدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره "[14].

وقال (ص): " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة. وان الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة "[15] وقال سلمان الفارسي (رض): " أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة، أكثرهم كلاماً في معصية الله ". وكان رجل من الأنصار يمر على مجلس الخائضين في الباطل، فيقول لهم: " توضؤا، فإن بعض ما تقولون شر من الحدث "

ثم الخوض في الباطل هو ذكر محظورات سبق وجودها بمجرد شهوة النفس، من دون حاجة داعية إليه، فلا مدخلية له بمثل الغيبة والنميمة والفحش والمراء والجدال وامثالها، ويدخل فيه الخوض في حكايات البدع والمذاهب الفاسدة، فان الحديث عنها خوض في الباطل، وورد النهى عنه.

ومنها:

 

التكلم بما لا يعنى أو بالفضول

والمراد بالأول: التكلم بما لا فائدة فيه أصلا، لا في الدين ولا في الدنيا، والثاني ـ أعني فضول الكلام ـ: أعم منه، إذ يتناول الخوض في مالا يعني والزيادة في ما يعني على قدر الحاجة. فان من يعنيه أمر ويتمكن من تقريره وتأديته وتأدية مقصوده بكلمة واحدة، ومع ذلك ذكر كلمتين فالثانية فضول، أي فضل على الحاجة. ولا ريب في أن التكلم بما لا يعني وبالفضول مذموم، وإن لم يكن فيه إثم، وهو ناش عن رداءة القوة الشهوية، إذ الباعث عليه ليس إلا مجرد تشهى النفس وهواها.

والسر في ذمه: أنه يوجب تضييع الوقت، والمنع من الذكر والفكر وربما يبني لأجل تهليله أو تسبيحه قصر في الجنة، وربما ينفح من نفحات رحمة الله عند الفكرة ما يعظم جدواه، فمن قدر على أن يأخذ كنزاً من الكنوز، فأخذ بدله مدرة لا ينتفع بها، كان خاسراً. فمن ترك ذكر الله والفكر في عجائب قدرته، واشتغل بمباح لا يعنيه، وان لم يأثم، إلا أنه قد خسر، حيث فاتة الربح العظيم بذكر الله وفكره. فان رأس مال العبد أوقاته، ومهما صرفها إلى مالا يعنيه، ولم يدخر بها ثواباً في الآخرة، فقد ضيع رأس ماله. على أن الغالب تأدية الخوض في مالا يعني وفي الفضول إلى الخوض في الباطل، وربما أدى إلى الكذب بالزيادة والنقصان. ولذا ورد في ذمه ما ورد، وقد روى: " أنه استشهد يوم أحد غلام من أصحاب النبي (ص)، ووجد على بطنه حجر مربوط من الجوع فمسحت امه التراب عن وجهه، وقالت: هنيئاً لك الجنة يا بني! فقال النبي (ص): وما يدريك! لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع مالا يضره؟ ". وورد أيضاً: " أن رسول الله (ص) قال لبعض أصحابه ـ وهو مريض ـ: ابشر. فقالت امه: هنيئاً لك الجنة!فقال رسول الله (ص): وما يدريك؟ لعله قال مالا يعنيه أو منع ما يعنيه؟ " : يعني إنما تتهنأ الجنة لمن لا يحاسب ومن يتكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه، وإن كان كلامه مباحاً، فلا تتهنأ له الجنة مع المناقشة في الحساب، فانه نوع من العذاب. وروى: " أنه تكلم رجل عند النبي (ص) فاكثر، فقال له النبي كم دون لسانك من حجاب؟ فقال: شفتاى وأسناني. فقال: أفما كان في ذلك ما يرد كلامك؟ ". وفي رواية أخرى: " أنه قال ذلك في رجل اثنى عليه، فاستهتر في الكلام، ثم قال: ما أوتي رجل شراً من فضل في لسانه ". وروى: " أنه قدم رهط من بني عامر على رسول الله (ص)، فشرعوا بالمدح والثناء عليه. فقال (ص): قولوا قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان "[16]. ومراده (ص): أن اللسان إذا اطلق الثناء، ولو بالصدق، فيخشى أن يستهويه الشيطان إلى الزيادة المستغنى عنها. وقال بعض الصحابة " إن الرجل ليكلمنى بالكلام وجوابه أشهى إلي من الماء البارد على الظمآن فاتركه خيفة أن يكون فضولا ". وقال بعض الأكابر: " من كثر كلامه كثر كذبه ". وقال بعضهم: " يهلك الناس في خصلتين: فضول المال وفضول الكلام ".

 

فصل

حد التكلم بما لا يعنى

التكلم بما لا يعني وبالفضول لا تنحصر أنواعه وأقسامه، لعدم تناهيها، وإنما حده أن تتكلم بما لو سكت عنه لم تأثم، ولم تتضرر في شيء مما يتعلق بك، ولم يعطل شيء من أمورك. مثاله: أن تحكى مع قوم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقايع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم. فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تتضرر، ولا يتصور فيها فائدة دينية ولا دنيوية لأحد، فإذا بالغت في الاجتهاد حتى لا تمتزج بحكايتك زيادة ونقصان ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة، ولا اغتياب شخص ولا مذمة شيء مما خلقه الله، فانك مع ذلك كله مضيع وقتك.

ثم كما أن التكلم بما لا يعنيك مذموم، كذلك سئوالك غيرك عما لا يعنيك مذموم، بل هو أشد ذماً، لأنك بالسؤال مضيع وقتك، وقد الجأت أيضاً صاحبك بالجواب إلى تضييع وقته. وهذا إذا كان الشيء مما لا يتطرق إلى السؤال عنه آفة، ولو كان في جوابه آفة ـ كما هو الشأن في اكثر الأسئلة عما لا يعنيك ـ كنت آثماً عاصياً. مثلا: لو سألت غيرك عن عبادته، فتقول: هل أنت صائم؟ فان قال: نعم، كان مظهراً عبادته فيدخل عليه الرياء، وان لم يدخل الرياء سقطت عبادته ـ على الأقل ـ ومن ديوان عبادة السر، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات، وإن قال: لا، كان كاذباً، وإن سكت، كان مستحقراً إياك وتأذيت به، وان احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى تعب وجهد فيه. فقد عرضته بالسؤال إما للرياء أو الكذب، أو للاستحقار، أو التعب في حيلة الدفع.

وكذلك سؤالك عن كل ما يخفى ويستحيي من إظهاره، أو عما يحتمل أن يكون في إظهاره مانع، كان يحدث به أحد غيرك، فتسأله وتقول: ماذا تقول؟ وفيم أنتم؟ وكأن ترى إنساناً في الطريق فتقول: من أين؟ إذ ربما يمنع مانع من إظهار مقصوده. ومن هذا القبيل سؤالك غيرك: لم أنت ضعيف؟ أو ما هذا الضعف أو الهزال الذي حدث بك؟ أو أى مرض فيك؟ وامثال ذلك. وأشد من ذلك ان تخوف مريضاً بشدة مرضه وتقول: ما اشد مرضك وما أسوأ حالك! فان جميع ذلك وامثالها، مع كونها من فضول الكلام والخوض في مالا يعني، يتضمن إثماً وإيذاء. وليس مجرد التكلم بما لا يعني والفضول، وانما مجرد مالا يعني مالا يتصور فيه إيذاء وكسر خاطر واستحياء من الجواب، كما روى: " أن لقمان دخل على داود (ع) وهو يسرد الدرع، ولم يكن يراها قبل ذلك فجعل يتعجب مما يرى. فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته الحكمة، فأمسك نفسه ولم يسأله. فما فرغ داود، قام ولبسها، وقال: نعم الدرع للحرب فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله ". وهذا وامثاله من الأسئلة إذا لم يكن فيه ضرر وهتك ستر وإيقاع في رياء أو كذب، فهو مما لا يعنى، وتركه من حسن الإسلام.

 

فصل

علاج الخوض فيما لا يعني

سبب الخوض في مالا يعني وفي فضول الكلام: إما الحرص على معرفة مالا حاجة إليه، أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد، أو تزجية الوقت بحكايات أحوال لا فائدة فيها، وكل ذلك من رداءة قوة الشهوة. وعلاج ذلك من حيث العلم: أن يتذكر ذمه كما مر، ومدح ضده، أعني الصمت، وتركه ـ كما يأتي ـ ويعلم أن الموت بين يديه، وانه مسؤل عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يقدر على أن يقتنص بها الحور العين، فإهماله وتضييعه خسران، ومن حيث العمل أن يعتزل عن الناس مهما امكن، ويلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه ليتعود لسانه ترك مالا يعنيه، وأن يقدم التأمل والتروى على كل كلام يريد أن يتكلم به فان كان فيه فائدة دينية أو دنيوية تكلم به وإلا تركه. وكان بعضهم يضع في فمه حجراً، خوفاً من التكلم بالفضول وما لا يعنيه.

 

فصل

الصمت

ضد التكلم بما لا يعنيه وبالفضول تركها، إما بالصمت أو بالتكلم فيما يعنيه مما يتعلق بدينه أو دنياه. وفوائد الصمت ومدحه يأتي في موضعه. وقد وردت أخبار في المدح على خصوص ترك مالا يعني وفضول الكلام كقول النبي (ص): " من حسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه " وقوله (ص): " طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وانفق الفضل من ماله! ". وانظر كيف قلب الناس الأمر في ذلك، فامسكوا فضل المال واطلقوا فضل اللسان. وروى: " أنه (ص) قال ذات يوم: إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة. فلما دخل هذا الرجل، قالوا له: اخبرنا بأوثق عملك في نفسك ترجو به. فقال: اني رجل ضعيف العمل، وأوثق ما ارجو الله به سلامة الصدر وترك مالا يعنيني " وقال (ص) لأبي ذر " ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن ثقيل في الميزان. قال: بلى يا رسول الله قال: هو الصمت، وحسن الخلق، وترك مالا يعنيك ". وقال ابن عباس: " خمس هن أحسن من الدارهم المونقة: لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر. ولا تتلكم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً، فانه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت. ولا تمار حليما ولا سفيهاً، فان الحليم يغلبك بصمته، وإن السفيه يؤذيك بمنطقه. واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه مما تحب أن يعفيك منه. واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالاحسان مأخوذ بالاحترام "[17] وقيل للقمان: ما حكمتك؟ قال: " لا أسأل عما كفيت، ولا أتكلف مالا يعنيني " وما ورد في فضيلة ترك الفضول وما لا يعني في أخبار الحجج (ع) وكلمات الأكابر من الحكماء والعرفاء كثر من ان تحصى، وما ذكرناه كاف لأهل الاستبصار.



[1] النساء، الآية: 69.

[2] صححنا الأحاديث الواردة في هذا الفصل على الكافي باب الطاعة والتقوى وباب الورع. وعلى (البحار): 2مج15/96ـ89 باب الطاعة والتقوى، وباب الورع واجتناب الشبهات.

[3] صححنا اكثر الأحاديث المذكورة هنا على الوسائل: كتاب التجارة، أبواب مقدماتها، الباب4. وعلى فروع الكافي: كتاب المعيشة، باب الحث على الطلب والتعرض للرزق.

[4] صححنا الحديث على الوسائل: كتاب التجارة، في الباب المتقدم.

[5] الأنعام، الآية: 91.

[6] هذا مقتبس من (مصباح الشريعة): الباب83 وفيه تقديم وتأخير في مراتب التقوى عما هنا ولم يتبين لنا وجه صحة التعبير: تقوى العام وتقوى الخاص فأثبتناه كما وجدناه.

[7] المائدة، الآية: 93.

[8] في نسخ جامع السعادات والبحار والوسائل: " عند صدق الحديث... " ورجحنا نسخة الكافي.

[9] صححنا هذه الأحاديث الثلاثة على البحار: 2مج15 /123ـ124 باب الصدق ولزوم أداء الأمانة، وعلى الكافي: باب الصدق واداء الأمانة. وعلى الوسائل: كتاب الوديعة الباب1.

[10] روى في الكافي باب بر الوالدين ـ: هذا الحديث عن أبي جعفر (ع) وجاء فيه: " ثلاث لم يجعل الله عز وجل لأحد فيهن رخصة... " ولكن في الوسائل ـ كتاب الوديعة الباب2 الطبعة الحجرية ـ رواه عن الكافي كما في المتن.

[11] روى في الكافي باب حسن الخلق ـ هذا الحديث عن الصادق (ع)، وليس فيه: " كان أبي يقول ".

[12] صححنا الحديث على الوسائل: كتاب الوديعة، الباب1 وهو يرويه عن الكافي.

[13] المدثر، الآية: 45.

[14] النساء، الآية: 139.

[15] صححناه على كنز العمال: 2/112.

[16] صححنا أحاديث الباب كلها على (إحياء العلوم): 3/93ـ99، وعلى (كنز العمال): 2/130، 184.

[17] ذكر هده الرواية عن ابن عباس في (إحياء العلماء): 3/97. وفيه اختلاف كثير عما هنا، ولم يحصل لنا تحققها على مصدر آخر. والأحاديث النبوية هنا رواها في (إحياء العلوم) أيضاً في الموقع المذكور.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست