.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الفرق بين الانفاق والبر والمعروف

طلب الحرام

عزة تحصيل الحلال

انواع الأموال

الفرق بين الرشوة والهدية

الورع عن الحرام

 

   

تنبيه

الفرق بين الأنفاق والبر والمعروف

اعلم أن لفظ الأنفاق والمعروف والبر يتناول جميع ما تقدم من الانفاقات الواجبة والمستحبة. والفرق بينها: أن الأنفاق خاص بالمال، والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والاحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع من فعل وترك، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه، والغالب في الأخبار إرادة ما يتعلق بالمال من معانيه. والبر كالمعروف في شموله لجميع أعمال الخير في الأصل، وانصراف إطلاقه غالباً في الأخبار إلى ما يتعلق بالمال من وجوه الانفاقات المتقدمة بأسرها، وربما خص بما سوى الصدقة منها، لما ورد أن البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر. والظاهر أن مبنى الخبر على ذكر الخاص بعد العام، فلا وجه للتخصيص. ثم الصدقة تتناول جميع ما تقدم من وجوه الأنفاق، سوى المروة. وعلى أي تقدير، لا ريب في أن ما ورد من الآيات والأخبار في فضيلة مطلق الأنفاق والمعروف والبر يدل على فضيلة كل واحد مما تقدم من وجوه الأنفاق، كقوله سبحانه:

" أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم "[1].

وقوله: " وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خيرٍ يوف إليكم وأنتم لا تظلمون "[2]. وقوله: " وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى..." الآية[3].

وقوله: " قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والأقربين..."[4]. وقوله: " يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة "[5]. وقوله: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ..." الآية[6]. وقوله: " الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "[7].

وقول رسول الله (ص): " أول من يدخل الجنة المعروف وأهله، وأول من يرد علي الحوض ". وقوله (ص): " إن البركة أسرع إلى البيت الذي يمتار فيه المعروف من الشفرة في سنام الجزور، أو من السيل إلى منتهاه ". وقول الباقر (ع): " إن من أحب عباد الله إلى الله، لمن حبب إليه المعروف وحبب إليه فعاله" وقول الصادق (ع): " إن من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق ويصنع المعروف، وإن من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في ايدي من لا يعرف فيها الحق ولا يصنع فيها المعروف " وقوله (ع): " رأيت المعروف كاسمه، وليس شيء أفضل من المعروف إلا ثوابه ". وقوله (ع) مخاطباً لزرارة " ثلاثة إن تعلمهن المؤمن كانت زيادة في عمره وبقاء لنعمه عليه. فقلت وما هن؟ فقال: تطويله في ركوعه وسجوده في صلاته، وتطويله لجلوسه على طعامه إذا اطعم على مائدته، واصطناعه المعروف إلى أهله ". وقوله (ع): " أقيلوا لاهل المعروف عثراتهم، واغفروا لهم، فان كف الله عليهم هكذا ـ وأومأ بيده كأنه يظلل بها شيئاً ". وقوله (ع): " صنائع المعروف تقى مصارع السوء ". وقال (ع): " إن للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف. وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ": يعني كما أنهم يصنعون المعروف في الدنيا كذلك يصنعونه في الآخرة، يهبون حسناتهم لمن شاؤا، كما قال الصدق (ع) في خبر آخر: " يقال لهم في الآخرة: إن ذنوبكم قد غفرت لكم، فهبوا حسناتكم لمن شئتم وادخلوا الجنة ". وقال (ع): " قال اصحاب رسول الله (ص): يا رسول الله فداك آباؤنا وامهاتنا! إن اصحاب المعروف في الدنيا عرفوا بمعروفهم، فبم يعرفون في الآخرة؟ فقال (ص): إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة، أمر ريحاً عبقة طيبة فلصقت باهل المعروف، فلا يمر أحد منهم بملأ من أهل الجنة إلا وجدوا ريحه، فقالوا: هذا من أهل المعروف "[8].

ومنها ـ أي من رذائل القوة الشهوية ـ:

 

طلب الحرام

وعدم الاجتناب عنه. ولا ريب في كونه مترتباً على حب الدنيا والحرص عليها، وهو أعظم المهلكات، وبه هلك اكثر من هلك، وجل الناس حرموا عن السعادة لأجله، ومنعوا عن توفيق الوصول إلى الله بسببه. ومن تأمل يعلم أن أكل الحرام أعظم الحجب للعبد من نيل درجة الأبرار، وأقوى الموانع له عن الوصول إلى عالم الأنوار، وهو موجب لظلمة القلب وكدرته، وهو الباعث لخبثه وغفلته، هو العلة العظمى لخسران النفس وهلاكها، وهو السبب الأقوى لضلالتها، وخباثتها، هو الذي أنساها عهود الحمى، وهو الذي أهواها في مهاوى الضلالة والردى وما للقلب المتكون من الحرام والاستعداد لفيوضات عالم القدس! وأنى للنطفة الحاصلة منه والوصول إلى مراتب الانس وكيف يدخل النور والضياء في قلب أظلمته أدخنة المحرمات؟‍ وكيف تحصل الطهارة والصفاء لنفس اخبثتها قذرات المشتبهات؟‍

ولأمر ما حذر عنه أصحاب الشرع وأمناء الوحي غاية التحذير، وزجروا منه أشد الزجر، قال رسول الله (ص): إن لله ملكا على بيت المقدس، ينادى كل ليلة: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل ": أي لا نافلة ولا فريضة. وقال (ص): " من لم يبال من أين اكتسب المال، لم يبال الله من أين أدخله النار ". وقال (ص): " كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به ". وقال (ص): " من أصاب مالا من مأثم، فوصل به رحماً أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله، جمع الله ذلك جمعاً، ثم ادخله في النار ". وقال (ص): إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي هذه المكاسب الحرام، والشهوة الخفية، والربا ". وقال (ص): " من اكتسب مالا من الحرام فان تصدق به لم يقبل منه، وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار "[9]. وقال الصادق (ع): " إذا اكتسب الرجل مالا من غير حله ثم حج فلبى، نودى: لا لبيك ولا سعديك[10]! وان كان من حله، نودي لبيك وسعديك! ". وقال (ع): " كسب الحرام يبين في الذرية ". وقال (ع) في قوله تعالى:

" وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً "[11]

" ان كانت اعمالهم أشد بياضاً من القباطى، فيقول الله عز وجل لها: كوني هباء. وذلك أنهم كانوا إذا شرع لهم الحرام أخذوه "[12]. وقال الكاظم (ع): إن الحرام لا ينمى، وان نمى لم يبارك فيه، وإن انفقه لم يؤجر عليه، وما خلفه كان زاده إلى النار ". وفي بعض الأخبار: " أن العبد ليوقف عند الميزان، وله من الحسنات أمثال الجبال، فيسأل عن رعاية عياله والقيام بهم، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم انفقه، حتى تفنى تلك المطالبات كل أعماله، فلا تبقى له حسنة. فتنادى الملائكة: هذا الذي أكل عياله حسناته في الدنيا، وارتهن اليوم باعماله " وورد: " أن اهل الرجل واولاده يتعلقون به يوم القيامة، فيوقفونه بين يدي الله تعالى، ويقولون: يا ربنا خذ لنا، بحقنا منه، فانه ما علمنا ما نجهل، وكان يطعمنا من الحرام ونحن لا نعلم. فيقتص لهم منه "[13].

 

فصل

عزة تحصيل الحلال

ينبغي لطالب النجاة أن يفر من الحرام فراره من الاسد، ويحترز منه احترازه من الحية السوداء، بل أشد. وأنى يمكنه ذلك في أمثال زماننا الذي لم يبق فيه من الحلال إلا الماء الفرات والحشيش النابت في ارض الموات، وما عداه قد أخبثته الايدي العادية، وأفسدته المعاملات الفاسدة ما من درهم إلا وقد غصب من أهله مرة بعد أولى، وما من دينار إلا وقد خرج من ايدى من أخذه قهراً كرة غب أولى، جل المياه والاراضي من أهلها مغصوبة، وأنى يمكن القطع بحلية الأقوات واكثر المواشي والحيوانات من اهلها منهوبة، فأنى يتأتى الجزم بحلية اللحوم والالبان والدسوم. فهيهات ذلك هيهات! ما من تاجر إلا ومعاملته مع الظالمين، وما من ذي عمل إلا وهو مخالط للجائرين من عمال السلاطين.

وبالجملة: الحلال في امثال زماننا مفقود، والسبيل دون الوصول إليه مسدود. ولعمري! أن فقده آفة عمّ في الدين ضررها، ونار استطار في الخلق شررها. والظاهر أن أكثر الإعصار كان حالها كذلك، ولذلك قال الإمام جعفر بن محمد الصادق ـ عليهما السلام ـ: " المؤمن يأكل في الدنيا بمنزلة المضطر ". وقا ل رجل للكاظم (ع): " ادع الله جل وعز أن يرزقني الحلال، فقال:: أتدري ما الحلال؟ قال: الكسب الطيب. فقال: كان علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ يقول: الحلال قوت المصطفين. ولكن قل: أسألك من رزقك الواسع ". ومع ذلك كله، لا ينبغي للمؤمن أن ييأس من تحصيل الحلال، ويترك الفرق والفصل بين الأموال، فان الله سبحانه أجل واعظم من أن يكلف عباده بأكل الحلال ويسد عنهم طريق تحصيله.

 

فصل

أنواع الأموال

اعلم أن الأموال على أقسام ثلاثة: حلال بين، وحرام بين، وشبهات بينهما. ولكل منها درجات، فان الحرام وإن كان كله خبيثاً، إلا أن بعضه أخبث من بعض، فان ما يؤخذ بالمعاملة الفاسدة مع التراضي ليس في الحرمة كمال اليتيم الذي يؤخذ قهراً. وكذا الحلال وإن كان كله طيباً، إلا أن بعضه أطيب من بعض. والشبهة كلها مكروهة، ولكن بعضها أشد كراهة من بعض، وكما أن الطيب يحكم على كل حلو بالحرارة ولكن يقول بعضه حار في الدرجة الأولى، وبعضه في الثانية، وبعضه في الثالثة، وبعضه في الرابعة، فكذلك الحرام بعضه خبيث في الدرجة الأولى وبعضه في الثانية، وبعضه في الثالثة، وبعضه، في الرابعة، وكذلك درجات الحلال في الصفاء والطيبة، ودرجات الشبهة في الكراهة.

ثم الحرام إما يحرم لعينه، كالكلب والخنزير والتراب وغيرها من المحرمات العينية، أو لصفة حادثة فيه، كالخمر لاسكاره، والطعام المسموم لسميته، أو لخلل في جهة اثبات اليد عليه. وله أقسام غير محصورة، كالمأخوذ بالظلم والقهر والغصب والسرقة والخيانة في الامانة غيرها، والغش والتلبيس والرشوة، وبالبخس في الوزن والكيل، وباحدى المعاملات الفاسدة من الربا والصرف والاحتكار، وغير ذلك مما هو مذكور في كتب الفقه وقد نهى الله سبحانه عن جميع ذلك في آيات كثيرة، كقوله تعالى:

" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل "[14]. وقوله: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً..."[15]، وعن خصوص الربا بقوله: " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين "، ثم قال " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله "، ثم قال " وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم "[16]، ثم قال: " ومن عاد فأولئك أصحاب النار "[17].

جعل أكل الربا في أول الامر مؤدياً إلى محاربة الله، وفي آخره متعرضاً للنار. وقد ورد الذم الشديد على كل واحد منها بخصوصه في أخبار كثيرة، وهي في كتب الأخبار والفقه مذكورة، وتفصيل جميع المحرمات موكول إلى كتب الفقه، وليس هنا موضع بيانه، فليرجع فيه إلى كتب الفقهاء.

 

الفرق بين الرشوة والهدية

وربما يتوهم الاشتباه في بعض الموارد بين الرشوة والهدية، فلنشر إلى جلية الحال فيهما، فنقول: ههنا صور:

الأولى ـ أن يسلم أو يرسل مالا إلى بعض الاخوان طلباً للاستئناس وتأكيداً للصحبة والتودد. وقد عرفت كونه هدية وحلالا، سواء قصد به الثواب في الآخرة والتقرب إلى الله تعالى أيضاً، أولم يقصد به الثواب بل قصد مجرد الاستئناس والتودد.

الثانية ـ أن يقصد بالبذل عوض مالي معين في العاجل، كأن يهدى الفقير إلى الغني أو الغني شيئاَ طمعاً في عوض أكثر أو مساو من ماله. وهذا أيضاً نوع هدية، وحقيقتة ترجع إلى هبة بشرط العوض، وإذا وفى بما (يطمع فيه)[18] من العوض فلا ريب في حليته. قال الصادق (ع): " الربا رباءان: ربا يؤكل، وربا لا يؤكل فاما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها، فذلك الربا الذي يؤكل وهو قول الله تعالى:

" وما أتيتم من رباً ليربو في أموال الناس فلا يربوا عند الله "[19].

وأما الذي لا يؤكل، فهو الذي نهى الله عز وجل عنه، وأوعد عليه النار"[20] وعنه (ع): " قال: الهدية على ثلاثة وجوه: هدية مكافأة، وهدية مصانعة، وهدية لله عز وجل "[21]. وفي بعض الأخبار نوع إشعار بالحل، وإن لم يتحقق الوفاء بما (يطمع فيه)[22] من العوض، كخبر اسحاق بن عمار عن الصادق (ع): " قال: قلت له (ع): الرجل الفقير يهدى الي الهدية، يتعرض لما عندي، فآخذها ولا أعطيه شيئاً أيحل لي؟ قال نعم! هي لك حلال، ولكن لا تدع أن تعطيه "[23] وهل يحل مع إعطائه العوض المطموع فيه إذا لم يكن من ماله، بل كان من الأموال التي أعطته الناس ليصرف إلى الفقراء من الزكوات والاخماس وسائر وجوه البر، والظاهر الحل إذا كان المهدي من أهل الاستحقاق والمهدى له معطياً إياه، وإن لم يكن ليهدى له شيئاً. وفيه تأمل، كما يظهر بعد ذلك.

الثالثة ـ أن يقصد به الاعانة بعمل معين، كالمحتاج إلى السلطان أو ذي شوكة يهدي إلى وكيلهما، أو من له مكانة عندهما، فينظر إلى ذلك العمل، فان كان حراماً، كالسعي في تنجز إدرار حرام أو ظلم إنسان أو غير ذلك، أو واجباً، كدفع ظلم أو استخلاص حق ينحصر الدفع والاستخلاص به، أو شهادة معينة، أو حكم شرعي يجب عليه، أو امثال ذلك، فهو رشوة محرمة يحرم أخذها، وإن كان العمل مباحاً لا حراماً ولا واجباً. فان كان فيه تعب، بحيث جاز الاستئجار عليه، فما يأخذه حلال وجار مجرى الجعالة، كأن يقول: أوصل هذه الفضة إلى السلطان ولك دينار أو أقترح على فلان أن يعينني على كذا أو يعطيني كذا، وتوقف تنجز غرضه على تعب أو كلام طويل، فما يأخذه في جميع ذلك مباح، إذا كان الغرض مشروعاً مباحاً، وهو مثل ما يأخذه وكيل القاضي للخصومة بين يديه، بشرط ألا يتعدى من الحق. وإن لم يكن العمل مما فيه تعب بل كان مثل كلمة أو فعلة لا تعب فيها أصلا، ولكن كانت تلك الكلمة أو تلك الفعلة من مثله مفيدة، لكونه ذا منزلة، كقوله للبواب لا تغلق دونه باب السلطان، فقال بعض العلماء: الآخذ على هذا حرام، إذ لم يثبت في الشرع جواز ذلك. ويقرب من هذا أخذ الطبيب العوض على كلمة واحدة ينبه بها على دواء يتفرد بمعرفته. وفيه نظر، إذ الظاهر جواز هذا الأخذ مع مشروعية الغرض وعدم كونه واجباً عليه.

الرابعة ـ أن يطلب به حصول التودد والمحبة، ولكن لا من حيث إنه تودد فقط، بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض ينحصر جنسها وإن لم ينحصر عينها، وكان بحيث لولا جاهه لكان لا يهدى إليه، فان كان جاهه لأجل علم أورع أو نسب فالامر فيه أخف، والظاهر كون الأخذ حينئذ مكروهاً، لأنه هدية في الظاهر مع كونه مشابهاً للرشوة. وإن كان لأجل ولاية تولاها، من قضاء أو حكومة أو ولاية صدقة أو وقف أو جباية مال أو غير ذلك من الاعمال السلطانية، فالظاهر كون ما يأخذه حراماً لو كان بحيث لا يهدى إليه لولا تلك الولاية، لأنه رشوة عرضت في معرض الهدية، إذ القصد بها في الحال طلب التقرب والمحبة، ولكن لأمر ينحصر في جنسه، لظهور أن ما يمكن التوصل إليه بالولايات ماذا، قال رسول الله (ص): " يأتي على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية، والقتل بالموعظة، يقتل البرىء لتوعظ به العامة ". وروى: " أنه (ص) بعث والياً على صدقات الأزد، فلما جاء أمسك بعض ما معه، وقال: هذا لكم وهذا لي هدية. فقال (ص): ألا جلست في بيت أبيك وبيت امك حتى تأتيك هدية إن كنت صادقاً! ثم قال: مالي استعمل الرجل منكم، فيقول: هذه لكم وهذه هدية لي، ألا جلس في بيت أمه ليهدى له! والذي نفسي بيده! لا يأخذ منكم أحد شيئاً بغير حقه إلا أتى الله بحمله، ولا يأتين احدكم يوم القيامة ببعير له رغاء، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر... ثم رفع يديه حتى رأوا بياض ابطيه، وقال: اللهم هل بلغت؟ "[24].

وعلى هذا، فينبغي لكل وال أوحاكم وقاض وغيرهم من عمال السلاطين، أن يقدر نفسه في بيت أبيه وامه معزولا بلا شغل، فما كان يعطى حينئذ يجوز له أن يأخذه في ولايته أيضاً، وما لا يعطى مع عزله ويعطى لولايته يحرم أخذه، وما أشكل عليه من عطايا اصدقائه فهو شبهة وطريق الاحتياط فيها واضح.

 

فصل

الورع عن الحرام

ضد عدم الاجتناب عن الحرام التنزه والاحتياط عنه، وهو الورع بأحد اطلاقيه، فان الورع قد يفسر بملكة التنزه والاجتناب عن مال الحرام اكلا وطلباً واخذاً واستعمالا، وقد يفسر بكف النفس عن مطلق المعاصي ومنعها عما لا ينبغي. فعلى الأول يكون ضداً لعدم الاجتناب عن المال الحرام، ويكون من رذائل قوة الشهوة، وعلى الثاني يكون ضداً لملكة الولوع على مطلق المعصية، ويكون من رذائل القوة الغضبية والشهوية جميعاً.

ثم الظاهر ان التقوى مرادفة للورع، فان لها أيضاً تفسيرين: أحدهما الإتقاء عن الأموال المحرمة، وقد اطلقت التقوى في بعض الأخبار على هذا المعنى. وثانيهما: ملكة الاتقاء عن مطلق المعاصي، خوفاً من سخط الله وطلباً لرضاه. فعلى الأول يكون ضداً لعدم التنزه عن المال الحرام ورذيلة لقوة الشهوة، وعلى الثاني يكون ضداً لملكة ارتكاب المعاصي ورذيلة للقوتين معاً.

ثم اللازم على طريقتنا ان يذكر الورع والتقوى بالتفسير الأول هنا وبالتفسير الثاني في المقام الرابع الذي نذكر فيه ما يتعلق بالقوتين أو بالثلاث من الرذائل والفضائل. إلا انا نذكر ما ورد في فضيلتهما هنا، لدلالة ما ورد في فضيلتهما بالتفسير الثاني على فضيلتهما بالتفسير الأول أيضاً، ولعدم فائدة في استئناف عنوان على حدة لمطلق المعصية وذكر ما ورد في ذمها، ثم تذييلها بضدها الذي هو الورع والتقوى بتفسيرهما العام. إذ بعد ذكر جميع الأجناس والأنواع والأصناف من المعاصي والطاعات، بأحكامها ولوازمها وذمها ومدحها، لا فائدة لاستئناف ذكر مطلق المعصية أو الطاعة إذ لا يتعلق بهما غرض سوى ذكر ما ورد في ذم مطلق المعصية، وما ورد في مدح مطلق الطاعة، وهذا أمر ظاهر لا حاجة إليه في كتب الأخلاق. نعم، نشير إلى مطلق العصيان وضده، أعني الورع والتقوى بالمعنى الأعم أجمالاً، ضبطاً للأنواع والأقسام.

 


[1] البقرة، الآية: 267.

[2] البقرة، الآية: 272.

[3] البقرة، الآية:177.

[4] البقرة، الآية: 215.

[5] البقرة، الآية:254.

[6] البقرة، الآية: 261.

[7] البقرة، الآية: 262.

[8] صححنا الأحاديث الواردة هنا على (الوافي): 6/289-290. وعلى (الوسائل): كتاب الأمر بالمعروف، أبواب فعل المعروف، الباب 1ـ6.

[9] هذه النبويات ـ عدا الخامس ـ مذكورة في (إحياء العلوم): 2/81، وصححناها عليه. اما الخامس، فقد رواه في (الوسائل) عن (الكافي): كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب منه، الباب1، الحديث1.

[10] صححنا الحديث على (الوسائل): كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب عدم جواز الأنفاق من الكسب الحرام، الحديث3. وفي نسخ (جامع السعادات): " إذا كسب ".

[11] الفرقان، الآية: 23.

[12] صححنا الحديث على (الوسائل): كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به الباب1، الحديث6. وكذا ما قبله في هذا الباب، الحديث3.

[13] هذان الخبران الاخيران لم نعثر لهما على مستند. وقد ذكرهما في (إحياء العلوم): 3/30، فقال عن الأول: " وفي الخبر "، وعن الثاني: " ويقال ".

[14] البقرة، الآية: 188.

[15] النساء، الآية: 10.

[16] البقرة، الآية: 278 ـ 279.

[17] البقرة، الآية: 275.

[18] في النسخ: " يطعمه "، فرجحنا ما اثبتناه.

[19] الروم، الآية: 39.

[20] صححناه على (الوسائل): كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب3، الحديث1.

[21] صححناه على (الوسائل): كتاب التجارة، أبواب ما يكسب به، الباب 119، الحديث2.

[22] في النسخ: (يطمعه).

[23] صححناه على (الوسائل): كتاب التجارة، أبواب ما يكسب به، الباب 119، الحديث2.

[24] صححنا هذين النبويين على ما في (إحياء العلوم): 2/137.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست