.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

المقام الرابع

الحسد

ذم الحسد

المنافسة والغبطة

بواعث الحسد

لا تحاسد بين علماء الآخرة والعارفين

 

 

المقام الرابع

(فيما يتعلق بالقوى الثلاث من العاقلة وقوتى الغضب والشهوة، أو باثنتين منها من الرذائل والفضائل).

الحسد وذمه ـ الغبطة ـ بواعث الحسد ـ لا تحاسد بين علماء الآخرة والعارفين ـ علاج الحسد ـ القدر الواجب في نفي الحسد ـ النصيحة ـ الإيذاء والإهانة ـ كف الأذى ـ ذم الظلم ـ العدل ـ إخافة المؤمن ـ إدخال السرور على المؤمن ـ ترك إعانة المسلمين ـ قضاء حوائج المسلمين ـ المداهنة في الأمر بالمعروف ـ السعى فيه ـ وجوبه وشروطه ـ لا تشترط العدالة فيه ـ مراتبه ـ ما ينبغي في الآمر والناهي ـ أنواع المنكرات ـ الهجران ـ التآلف ـ قطع الرحم ـ صلة الرحم ـ المراد منه ـ عقوق الوالدين ـ برهما ـ حق الجوار ـ حدود الجوار وحقه ـ طلب العثرات ـ ستر العيوب ـ إفشاء السر ـ كتمان السر ـ النميمة ـ السعاية ـ الإفساد بين الناس ـ الإصلاح ـ الشماتة ـ المراء علاجه ـ طيب الكلام ـ السخرية ـ المزاح ـ المذموم منه ـ الغيبة ـ لا تنحصر الغيبة باللسان ـ بواعثها ـ ذمها ـ مسوغاتها ـ كفارتها ـ البهتان ـ المدح ـ الكذب ـ ذمه ـ مسوغاته ـ التورية ـ المبالغة ـ شهادة الزور ـ علاج الكذب ـ الصدق ومدحه ـ أنواعه ـ اللسان اضر الجوارح ـ الصمت ـ حب الجاه ـ ذمه ـ الجاه أحب من المال ـ لا بد للإنسان من جاه ـ دفع إشكال ـ الكمال الحقيقي في العلم والقدرة والجاه والمال ـ علاج حب الجاه ـ الخمول ـ مراتب حب المدح ـ أسبابه ـ علاجه ـ ضد حب المدح ـ الرياء ـ ذمه ـ أقسامه ـ تأثير الرياء على العبادة السرور بالاطلاع على العبادة ـ متعلقات الرياء ـ بواعثه ـ الرياء الجلي والخفي ـ كيف يفسد الرياء العمل ـ شوائب الرياء المبطلة للعمل ـ علاجه ـ الوسوسة بالرياء ـ الإخلاص ـ مدحه ـ آفاته ـ النفاق.

فمنها:

 

الحسد

وهو تمنى زوال نعم الله تعالى عن أخيك المسلم مما له فيه صلاح، فان لم ترد زوالها عنه ولكن تريد لنفسك مثلها فهو (غبطة) ومنافسة، فان لم يكن له فيها صلاح وأردت زوالها عنه فهو (غيرة). ثم إن كان باعث حسدك مجرد الحرص على وصول النعمة إلى نفسك، فهو من رداءة القوة الشهوية، وإن كان باعثه محض وصول المكروه إلى المحسود فهو من رذائل القوة الغضبية، ويكون من نتائج الحقد الذي هو من نتائج الغضب، وإن كان باعثه مركبا منهما، فهو من رداءة القوتين. وضده (النصيحة)، وهي إرادة بقاء نعمة الله على أخيك المسلم مما له فيه صلاح.

ولا ريب في أنه لا يمكن الحكم على القطع بكون هذه النعمة صلاحا أو فساداً. فربما كانت وبالا على صاحبه وفساداً له، مع كونها نعمة وصلاحاً في بادى النظر. فالمناط في ذلك غلبة الظن، فما ظن كونه صلاحاً فإرادة زواله حسد وارادة بقائه نصيحة، وما ظن كونه فاسداً فإرادة زواله غيرة. ثم إن اشتبه عليك الصلاح والفساد، فلا ترد زوال نعمة أخيك ولا بقاءها إلا مقيداً بالتفويض وشرط الصلاح، لتخلص من حكم الحسد ويحصل لك حكم النصيحة. والمعيار في كونك ناصحاً: أن تريد لأخيك ما تريد لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، وفي كونك حاسداً: أن تريد له ما تكره لنفسك، وتكره له ما تريد لنفسك.

 

فصل

ذم الحسد

الحسد أشد الأمراض وأصعبها، وأسوأ الرذائل وأخبثها، ويؤدى بصاحبه إلى عقوبة الدنيا وعذاب الآخرة، لأنه في الدنيا لا يخلو لحظة عن الحزن والألم، إذ هو يتألم بكل نعمة يرى لغيره، ونعم الله تعال غير متناهية لا تنقطع عن عباده، فيدوم حزنه وتألمه. فوبال حسده يرجع إلى نفسه، ولا يضر المحسود اصلا، بل يوجب ازدياد حسناته ورفع درجاته من حيث إنه يعيبه، ويقول فيه مالا يجوز في الشريعة، فيكون ظالماً عليه، فيحمل بعضاً من أوزاره وعصيانه، وتنقل صالحات أعماله إلى ديوانه، فحسده لا يؤثر فيه إلا خيراً ونفعاً، ومع ذلك يكون في مقام التعاند والتضاد مع رب الأرباب وخالق العباد، إذ هو الذي أفاض النعم والخيرات على البرايا كما شاء وأراد بمقتضى حكمته ومصلحته، فحكمته الحقة الكاملة أو جبت بقاء هذه النعمة على هذا العبد، والحاسد المسكين يريد زوالها، وهل هو إلا سخط قضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض وتمنى انقطاع فيوضات الله التي صدرت عنه بحسب حكمته وارادة خلاف ما أراد الله على مقتضى مصلحته؟! بل هو يريد نقصه سبحانه، وعدم اتصافه بصفاته الكمالية. إذ إفاضة النعم منه سبحانه في أوقاتها اللائقة على محالها المستعدة من صفاته الكمالية التي عدمها نقص عليه تعالى، وإلا لم يصدر عنه، هو يريد ثبوت هذا النقص، ثم لتمنيه زوال النعم الإلهية التي هي الموجودات ورجوع الشرور إلى الإعدام يكون طالباً للشر ومحباً له، وقد صرح الحكماء بأن من رضى بالشر، ولو بوصوله إلى العدو، فهو شرير فالحسد أشد الرذائل، والحاسد شر الناس. وأي معصية أشد من كراهة راحة مسلم من غير أن يكون له فيها مضرة؟ ولذا ورد به الذم الشديد في الآيات والأخبار، قال الله سبحانه في معرض الإنكار:

" أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله "[1]. وقال: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم "[2]. وقال: " إن تمسسكم حسنة تسوءهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها "[3].

وقال رسول الله (ص): " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ". وقال (ص): " قال الله عز وجل لموسى بن عمران: يا بن عمران، لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فان الحاسد ساخط لنعمي، صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادى. ومن يك كذلك فلست منه وليس منى ". وقال (ص): " لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا ". وقال (ص): " دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضة هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين. والذي نفس محمد بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم! " وقال (ص): " كاد الفقر أن يكون كفراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر ". وقال (ص): " سيصيب أمتي داء الأمم. قالوا: وما داء الأمم؟ قال: الأشر، والبطر، والتكاثر، والتنافس في الدنيا، والتباعد والتحاسد، حتى يكون البغي ثم الهرج ". وقال (ص): " أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال فيتحاسدون ويقتتلون ". وقال (ص): " إن لنعم الله أعداء. فقيل: ومن هم؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ". وورد في بعض الأحاديث القدسية: " أن الحاسد عدو لنعمتي، متسخط لقضائي، غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي ". وقال الإمام أبو جعفر الباقر (ع): " إن الرجل ليأتي بأدنى بادرة فيكفر[4]، وان الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب". وقال أبو عبد الله (ع): " آفة الدين: الحسد والعجب والفخر ". وقال (ع): " إن المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط "[5]. وقال: " الحاسد مضر بنفسه قبل أن يضر بالمحسود، كإبليس أورث بحسده لنفسه اللعنة، ولآدم الاجتباء والهدى والرفع إلى محل حقائق العهد والاصطفاء. فكن محسوداً ولا تكن حاسداً فان ميزان الحاسد أبداً خفيف بثقل ميزان المحسود، والرزق مقسوم، فماذا ينفع الحسد الحاسد، وماذا يضر المحسود الحسد. والحسد أصله من عمى القلب والجحود بفضل الله تعالى، وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهلكا لا ينجو منه أبداً، ولا توبة للحاسد لأنه مصر عليه معتقد به مطبوع فيه، يبدو بلا معارض به ولا سبب، والطبع لا يتغير عن الأصل، وان عولج "[6]. وقال بعض الحكماء: " الحسد جرح لا يبرأ " وقال بعض العقلاء: " ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه ". وقال بعض الأكابر: " الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلا، ولا من الملائكة إلا لعنة وبغضاً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولا، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالا ". والأخبار والآثار في ذم الحسد أكثر من أن تحصى، وما ذكرناه يكفى لطالب الحق ثم ينبغي أن يعلم أنه إذا أصاب النعمة كافر أو فاجر وهو يستعين بها على تهيج الفتنة وايذاء الخلق وافساد ذات البين، فلا مانع من كراهتها عليه وحب زوالها منه، من حيث أنها آلة للفساد، لا من حيث أنها نعمة.

 

فصل

المنافسة والغبطة

قد علمت أن المنافسة هي تمنى مثل ما للمغبوط، من غير أن يريد زواله عنه، وليست مذمومة، بل هي في الواجب واجبة، وفي المندوب مندوبة وفي المباح مباحة. قال الله سبحانه:

" وفي ذلك فليتنافس المتنافسون "[7].

وعليها يحمل قول النبي (ص): " لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مال، فسلطه على ملكه في الحق. ورجل آتاه الله علما، فهو يعمل به ويعلمه الناس ": أي لا غبطة إلا في ذلك، سميت الغبطة حسداً كما يسمى الحسد منافسة اتساعاً لمقارنتهما. وسبب الغبطة حب النعمة التي للمغبوط، فان كانت أمراً دينياً فسببها حب الله وحب طاعته، وإن كانت دنيوية فسببها حب مباحات الدنيا والتنعم فيها. والأول لا كراهة فيه بوجه، بل هو مندوب إليه. والثاني وان لم يكن حراماً، إلا أنه ينقص درجته في الدين، ويحجب عن المقامات الرفيعة، لمنافاته الزهد والتوكل والرضا.

ثم الغبطة لو كانت مقصورة على مجرد حب الوصول إلى ما للمغبوط لكونه من مقاصد الدين والدنيا، من دون حب مساواته له وكراهة نقصانه عنه، فلا حرج فيه بوجه، وان كان معه حب المساواة وكراهة التخلف والنقصان، فهنا موضع خطر. إذ زوال النقصان اما بوصوله إلى نعمة المغبوط أو بزوالها عنه، فإذا انسدت احدى الطريقتين تكاد النفس لا تنفك عن شهوة الطريقة الأخرى. إذ يبعد أن يكون إنسان مريداً لمساواة غيره في النعمة فيعجز عنها، ثم لا ينفك عن ميل إلى زوالها، بل الأغلب ميله إليه، حتى إذا زالت النعمة عنه كان ذلك عنده اشهى من بقائها عليه، إذ بزوالها يزول نقصانه وتخلفه عنه. فان كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه، كان حاسداً حسداً مذموماً وإن منعه مانع العقل من ذلك السعى، ولكنه وجد من طبعه الفرح والارتياح بزوال النعمة عن المغبوط، من غير كراهة لذلك ومجاهدة لدفعه فهو أيضاً من مذموم الحسد، وإن لم يكن في المرتبة الأولى. وإن كره ما يجد في طبعه من السرور والانبساط بزوال النعمة بقوة عقله ودينه، وكان في مقام المجاهدة لدفع ذلك عن نفسه، فمقتضى الرحمة الواسعة أن يعفى عنه، لأن دفع ذلك ليس في وسعه وقدرته إلا بمشاق الرياضات. إذ ما من إنسان إلا ويرى من هو فوقه من معارفه واقاربه في بعض النعم الإلهية، فإذا لم يصل إلى مقام التسليم والرضا، كان طالباً لمساواته له فيه وكارهاً عن ظهور نقصانه عنه. فإذا لم يقدر أن يصل إليه، مال طبعه بلا اختيار إلى زوال النعمة عنه، واهتز وارتاح به حتى ينزل هو إلى مساواته. وهذا وإن كان نقصاً تنحط به النفس عن درجات المقربين، سواء كان من مقاصد الدنيا أو الدين، إلا أنه لكراهته له بقوة عقله وتقواه، وعدم العمل بمقتضاه، يعفى عنه إن شاء الله، وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له.

وقد ظهر من تضاعيف ما ذكر: أن الحسد المذموم له مراتب أربع:

الأولى ـ أن يحب زوال النعمة عن المحسود وإن لم تنتقل إليه، وهذا اخبث المراتب وأشدها ذماً.

الثانية ـ أن يحب زوالها لرغبته في عينها، كرغبته في دار حسنة معينة، أو امرأة جميلة بعينها، ويحب زوالها من حيث توقف وصوله إليها عليه، لا من حيث تنعم غيره بها. ويدل على تحريم هذه المرتبة وذمها قوله تعالى:

" ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعضٍ "[8].

الثالثة ـ ألا يشتهى عينها، بل يشتهى لنفسه مثلها، إلا أنه إن عجز عن مثلها احب زوالها عنه، كيلا يظهر التفاوت بينهما، ومع ذلك لو خلى وطبعه، اجتهد وسعى في زوالها.

الرابعة ـ كالثالثة، إلا أنه إن اقتدر على إزالتها منعه قاهر العقل أو غيره من السعى فيه، ولكنه يهتز ويرتاح به من غير كراهة من نفسه لذلك الارتياح.

والغبطة لها مرتبتان:

الأولى ـ أن يشتهى الوصول إلى مثل ما للمغبوط، من غير ميل إلى المساواة وكراهة للنقصان، فلا يحب زوالها عنه.

الثانية ـ أن يشتهى الوصول إليه مع ميله إلى المساواة وكراهته للنقصان، بحيث لو عجز عن نيله، وجد من طبعه حباً خفياً لزوالها عنه وارتاح من ذلك ادراكاً للمساواة ودفعاً للنقصان، إلا أنه كان كارهاً من هذا الحب، ومغضباً على نفسه لذلك الارتياح، وربما سميت هذه المرتبة بـ(الحسد المعفو عنه) وكأنه المقصود من قوله (ص): " ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن: الحسد، والظن، والطيرة...ثم قال: وله منهن مخرج، إذا حسدت فلا تبغ ـ أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به، وكن كارهاً له ـ وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض ".

 

فصل

بواعث الحسد

بواعث الحسد سبعة:

الأول ـ خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله. فانك تجد في زوايا العالم من يسر ويرتاح بابتلاء العباد بالبلايا والمحن، ويحزن من حسن حالهم وسعة عيشهم. فمثله إذا وصف له اضطراب أمور الناس وادبارهم، وفوات مقاصدهم وتنغص، عيشهم يجد من طبعه الخبيث فرحاً وانبساطاً وإن لم يكن بينه وبينهم عداوة ولا رابطة، ولم يوجب ذلك تفاوتاً في حاله من وصوله إلى جاه أو مال أو غير ذلك. وإذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله وانتظام أموره، شق ذلك عليه، وإن لم يوجب ذلك نقصاً في شيء مما له. فهو يبخل بنعمة الله على عباده من دون قصد وغرض، ولا تصور انتقال النعمة إليه، فيكون ناشئاً عن خبث نفسه ورذالة طبعه. ولذا يعسر علاجه، لكونه مقتضى خباثة الجبلة، وما يقتضيه الطبع والجبلة تعسر إزالته، بخلاف ما يحدث من الأسباب العارضة.

الثاني ـ العداوة والبغضاء. وهي أشد أسبابه، إذ كل أحد ـ إلا أو حدي من المجاهدين ـ إذا أصابت عدوه بلية فرح بذلك، إما لظنها مكافأة من الله لأجله، أو لحبه طبعاً ضعفه وهلاكه. ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك، لأنه ضد مراده، وربما تصور لأجله أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم من عدوه وأنعم عليه، فيحزن لذلك.

الثالث ـ حب الرئاسة وطلب المال والجاه. فان من غلب عليه حب التفرد والثناء، واستقره الفرح بما يمدح به من أنه وحيد الدهر وفريد العصر في فنه، من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو غير ذلك، لو سمع بنظير له في اقصى العالم ساءه ذلك، وارتاح بموته أو زوال النعمة التي يشاركه فيها، ليكون فائقاً على الكل في فنه، ومتفرداً بالمدح والثناء في صفته.

الرابع ـ الخوف من فوت المقاصد. وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فان كل واحد، منهما يحسد صاحبه في وصوله هذا المقصود طلباً للتفرد به، كتحاسد الضرات في مقاصد الزوجية. والأخوة في نيل المنزلة في قلب الأبوين توصلا إلى مالهما، والتلامذة لأستاذ واحد في نيل المنزلة في قلبه، وندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة والكرامة عنده، والوعاظ والفقهاء المتزاحمين على أهل بلدة واحدة في نيل القبول والمال عندهم، إذا كان غرضهم ذلك.

الخامس ـ التعزز: وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه بعض اقرانه ويعلم أنه لو أصاب بعض النعم يستكبر عليه ويستصغره، وهو لا يطيق ذلك لعزة نفسه، فيحسده لو أصاب تلك النعمة تعززاً لنفسه. فليس غرضه أن يتكبر، لأنه قد رضى بمساواته، بل غرضه أن يدفع كبره.

السادس ـ التكبر: وهو أن يكون في طبعه الترفع على بعض الناس ويتوقع منه الانقياد والمتابعة في مقاصده، فإذا نال بعض النعم خاف إلا يحتمل تكبره ويترفع عن خدمته، وربما أراد مساواته أو التفوق عليه، فيعود مخدوماً بعد ان كان خادماً، فيحسده في وصول النعمة لأجل ذلك وقد كان حسد اكثر الكفار لرسول الله (ص) من هذا القبيل، حيث قالوا: كيف يتقدم علينا غلام فقير يتيم؟

" لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم "[9].

السابع ـ التعجب: وهو أن يكون المحسود في نظر الحاسد حقيراً والنعمة عظيمة، فيعجب من فوز مثله بمثلها، فيحسده ويحب زوالها عنه ومن هذا القبيل حسد الأمم لأنبيائهم، حيث قالوا:

" ما أنتم إلا بشر مثلنا "[10]. "فقالوا: أنؤمن لبشرين مثلنا؟ "[11]. " ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون "[12].

فتعجبوا من فوز من هو مثلهم برتبة الوحي والرسالة، وحسدوه بمجرد ذلك، من دون قصد تكبر أو رئاسة أو عداوة أو غيرها من أسباب الحسد.

وقد تجتمع هذه الأسباب أو أكثرها في شخص واحد، فيعظم لذلك حسده، وتقوى قوة لا يقدر معها على المجاملة، فتظهر العداوة بالمكاشفة. وربما قوي الحسد بحيث يتمنى صاحبه أن يزول عن كل أحد ما يراه له من النعمة، وينتقل إليه. ومثله لا ينفك عن الجهل والحرص، إذ هو يتمنى استجماع جميع النعم والخيرات الحاصلة لجميع الناس له، ولا ريب في استحالة ذلك، ولو قدر امكانه لا يمكنه الاستمتاع بها، فلو لم يكن حريصاً لم يتمن ذلك أصلا، ولو كان عالماً لدفع هذا التمني بقوته العاقلة.

(تنبيه) بعض الأسباب المذكورة، كما يقتضي أن يتمنى زوال النعمة والسرور به كذلك يقتضي تمنى حدوث البلية والارتياح منه. إلا أن المعدود من الحسد هو الأول، والثاني معدود من العداوة. فالعداوة اعم منه، إذ هي تمني وقوع مطلق الضرر بالعدو. سواء كان زوال نعمة أو حدوث بلية. والحسد تمنى زوال مجرد النعمة.

 

فصل

لا تحاسد بين علماء الآخرة والعارفين

الأسباب المذكورة إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون لأجلها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض، فإذا خالف بعضهم بعضاً في غرض من اغراضه، أبغضه وثبت فيه الحقد، فعند ذلك يريد استحقاره والتكبر عليه، ويكون في صدد مكافاته على المخالفة لغرضه، ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه، فيتحقق الحسد. ولذا ترى أنه لا تحاسد بين شخصين في بلدتين متباعدتين، لعدم رابطة بينهما، إلا إذا تجاورا في محل واحد، وتواردا على مقاصد تظهر فيها مخالفة بينهما فيحدث منهما التباغض ـ وتثور منه بقية أسباب الحسد. وترى كل صنف يحسد مثله دون غيره، لتواردهما على المقاصد، وتزاحمهما على صنعة واحدة فالعالم يحسد العالم دون العابد، والتاجر يحسد التاجر دون غيره، إلا بسبب آخر سوى الاجتماع على الحرفة، وهكذا يغم من اشتد حرصه على حب الجاه وأحب الصيت والاشتهار في جميع أطراف العالم وشاق التفرد بما هو فيه، فانه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الفن الذي يتفاخر به.

ثم منشأ جميع ذلك حب الدنيا، إذ منافعها لضيقها وانحصارها تصير محل التزاحم والتعارك، بحيث لا يمكن وصول منفعة منها، كمنصب أو مال إلى أحد إلا بزوالها عن الآخر. وأما الآخرة، فلا ضيق فيها، فلا تنازع بين أهلها. ومثالها في الدنيا العلم، فانه منزه عن المزاحمة، فمن يحب العلم بالله وصفاته وافعاله ومعرفة النظام الجملي من البدو إلى النهاية لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً. إذ العلم لا يضيق عن كثرة العالمين، والمعلوم الواحد يعرفه ألف ألف عالم، ويفرح كل واحد منهم بمعرفته ويلتذ به، ولا ينقص ما لديه بمعرفة غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الانس وثمرة الافادة والاستفادة. إذ معرفة الله بحر واسع لا ضيق فيه، وكل علم يزيد بالإنفاق وتشريك غيره من أبناء النوع، يصير منشأ لزيادة اللذة والبهجة، وقس على العلم التقرب والمنزلة عند الله وغيرهما من النعم الأخروية. فان أجلّ ما عند الله من النعم وأعلى مراتب المنزلة والقرب عنده تعالى لذة لقائه، وليس فيها ممانعة ومزاحمة، ولا يضيق بعض أهل اللقاء على بعض، بل يزيد الأنس بكثرتهم.

وقد ظهر مما ذكر: انه لا تحاسد بين علماء الآخرة، لأنهم يلتذون ويبتهجون بكثرة المشاركين في معرفة الله وحبه وأنسه، وإنما يقع التحاسد بين علماء الدنيا، وهم الذين يقصدون بعلمهم طلب المال والجاه. إذ المال أعيان وأجسام، إذا وقعت في يد واحد خلت عنها أيدي الآخرين. والجاه ملك القلوب، وإذا امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم، انصرف عن تعظيم الآخر، أو نقص عنه لا محالة، فيكون ذلك سبباً للتحاسد. وأما إذا امتلأ قلبه من الابتهاج بمعرفة الله، لم يمنع ذلك من أن يمتلئ غيره به. فلو ملك إنسان جميع ما في الأرض، لم يبق بعده مال يملكه غيره لضيقه وانحصاره. وأما العلم فلا نهاية له، ومع ذلك لو ملك إنسان بعض العلوم لم يمنع ذلك من تملك غيره له.

فظهر أن الحسد انما هو في التوارد على مقصود مضيق عن الوفاء بالكل، فلا حسد بين العارفين ولا بين أهل العليين، لعدم ضيق ومزاحمة في المعرفة ونعيم الجنة، ولذا قال الله سبحانه فيهم:

" ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين "[13].

بل الحسد من صفات المسجونين في سجن السجين.

فيا حبيبي، إن كنت مشفقاً على نفسك، طالباً لعمارة رمسك، فاطلب نعمة لا مزاحمة فيها، ولذة لا مكدر لها. وما هي إلا لذة معرفة الله وحبه وانسه، والانقطاع إلى جناب قدسه، وإن كنت لا تلتذ بذلك. ولاتشتاق إليه، وتنحصر لذاتك بالأمور الحسية والوهمية، فاعلم أن جوهر ذاتك معيوب، وعن عالم الأنوار محجوب، وعن قريب تحشر مع البهائم والشياطين، وتكون مغلولا معهم في أسفل السافلين. ومثلك في عدم درك هذه اللذة، مثل الصبي والعنين في عدم درك لذة الوقاع. فكما أن هذه اللذة يختص بإدراكها رجال أصحاء، فكذلك لذة المعرفة يختص بادراكها:

" رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله "[14]. ولا يشتاق غيرهم إليها، إذ الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك كان مطروداً عن العليين، ممنوعاً عن مجاورة المقربين، محبوساً مع المحرومين في أضيق دركات السجين.

" ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين "[15].

 


[1] النساء، الآية: 54.

[2] البقرة، الآية: 109.

[3] آل عمران، الآية: 120.

[4] في بعض نسخ (الكافي): " ليتأذى " وفي نسخ (جامع السعادات): " ليأتي بأي " ورجحنا نسخة (الوسائل) و (البحار) كما في المتن.

[5] صححنا أحاديث هذا الفصل على (البحار): 3مج15/131ـ132 باب الحسد. وعلى (الكافي): باب الحسد. وعلى (سفينة البحار): 1/250ـ251 وعلى (إحياء العلوم): 3/162ـ164 وعلى (الوسائل): أبواب جهاد النفس الباب54.

[6] هذا الخبر في (مصباح الشريعة): الباب51، وصححناه عليه.

[7] المطففين، الآية: 26.

[8] النساء، الآية: 32.

[9] الزخرف، الآية: 31.

[10] يس، الآية: 15.

[11] المؤمنون، الآية: 47.

[12] المؤمنون، الآية: 34.

[13] الحجر، الآية: 47.

[14] النور، الآية: 37.

[15] الزخرف، الآية: 36.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست