.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

علاج مرض البخل

الزكاة

سر وجوب الزكاة وفضيلة سائر الانفاقات

الحث على التعجيل في الاعطاء

فضيلة اعلان الصدقة الواجبة

ذم المن والأذى في الصدق

 

 

فصل

علاج مرض البخل

علاج مرض البخل يتم بعلم وعمل. والعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل وفائدة الجود، والعمل يرجع إلى البذل على سبيل التكلف إلى أن يصير طبعاً له. فكل طالب لإزالة البخل وكسب الجود ينبغي أن يكثر التأمل في أخبار ذم البخل ومدح السخاء، وما توعد الله به على البخل من العذاب العظيم، ويكثر التأمل في أحوال البخلاء وفي نفرة الطبع عنهم، حتى يعرف بنور المعرفة أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة. ثم يكلف نفسه على البذل ومفارقة المال، ولا يزال يفعل ذلك إلى أن يهيج رغبته في البذل، وكلما تحركت الرغبة ينبغي ان يجتنب الخاطر الأول ولا يتوقف لان الشيطان يعده الفقر ويخوفه ويوسوسه بأنواع الوساوس الصادة عن البذل.

ولو كان مرض البخل مزمناً غير مندفع بما مر، فمن معالجاته أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالجود، فيبذل على قصد الرياء، حتى تسمح نفسه بالبذل طمعاً في الاشتهار بصفة الجود، فيكون قد زال عن نفسه رذيلة البخل واكتسب خبث الرياء، ولكن يتعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه، ويكون طلب الشهرة والاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال، كما يسلى الصبي عند فطامه عن الثدى باللعب بالعصافير وغيرها لا لكون اللعب مطلوبا بذاته، بل لينتقل من الثدى إليه ثم ينتقل عنه إلى غيره. فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض حتى يندفع الجميع، فتسلط الشهوة على الغضب حتى تكسر سورته بها، ويسلط الغضب على الشهوة حتى تكسر رعونتها به. وقد جرت سنة الله بدفع المؤذيات والمهلكات بعضها ببعض، إلى أن يندفع الجميع، سواء كانت من الصفات المؤذية أو من الأشخاص المؤذية من الظلمة والأشرار، ألا ترى انه يسلط الظالمين والأشرار بعضهم على بعض إلى أن يهلك الجميع؟

ومثال ذلك ـ كما قيل ـ: ان الميت تستحيل جميع اجزائه دوداً، ثم يأكل بعض الديدان بعضاً، إلى ان يرجع إلى اثنين قويين، ثم لا يزالان يتقابلان ويتعارضان، إلى أن يغلب أحدهما الآخر فيأكله ويسمن به، ثم لا يزال يبقى وحده جائعاً إلى أن يموت. فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعض على بعضها حتى يقمعها، فيجعل الأضعف قوتا للاقوى، إلى أن لا تبقى إلا واحدة. ثم تقع العناية بمحوها واذابتها بالمجاهدة، وهو منع القوت منها، أي عدم العمل بمقتضاها، فانها تقتضي لا محالة آثاراً، فإذا خولفت خمدت وماتت. مثلا البخل يقتضى إمساك المال، فإذا منع مقتضاه وبذل المال مع الجهد والمشقة مرة بعد أخرى، ماتت صفة البخل وصارت صفة البذل طبعاً، وسقط التعب والمشقة فيه.

ثم العمدة في علاجه أن يقطع سببه، وسببه حب المال، وسبب حب المال إما حب الشهوات التي يتوقف الوصول إليها على المال مع طول الأمل، إذ لو لم يكن له طول أمل وعلم أنه يموت بعد أيام قلائل ربما لم يبخل بماله، او ادخاره وابقاؤه لأولاده، فانه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه، فيمسك المال لاجلهم، أو حبه عين المال من حيث إنه مال فيحب، فان بعض الناس من المشايخ والمعمرين يكون له من المال ما يكفيه لغاية ما يتصور من بقية عمره، وتزيد معه أموال كثيرة، ولا ولد له ليحتاط لأجله، مع ذلك لا تسمح نفسه بإخراج مثل الزكاة ومداواة نفسه عند المرض، بل هو محب للدنانير، عاشق لها، يتلذذ بوجودها في يده، مع علمه بأنه عن قريب يموت، فتضيع أو تأخذها اعداؤه، ومع ذلك لا تسمح نفسه بأن يأكل منها او يتصدق ببعضها. وهذا مرض عسر العلاج، لا سيما في كبر السن، إذ حينئذ يكون المرض مزمناً والطبيعة المدافعة له قاصرة والبدن ضعيفاً. ومثله مثل من عشق شخصاً فاحب رسوله، ثم نسى محبوبه واشتغل برسوله. فان الدنانير رسول مبلغ إلى الحاجات، وهي محبوبة من هذه الحيثية، لا من حيث أنها دنانير، فمن نسي الحاجات وصارت الدنانير محبوبة عنده في نفسها فهو في غاية الضلالة والخسران بل من رأى بين الفاضل منها عن قدر الحاجة وبين الحجر فرقا، فهو في غاية الجهل.

ثم لما كان الطريق في قطع سبب كل علة أن يواظب على ضد هذا السبب، فيعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر، ويعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت والنظر في موت الافران وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم، ويعالج التفات القلب إلى الأولاد بأن الذي خلقهم خلق ارزاقهم، وكم من ولد لم يرث مالا من أبيه وحاله أحسن ممن ورث، وبأن يعلم أن ولده إن كان تقياً صالحاً فيكفيه الله، وإن كان فاسقاً فيستعين بماله على المعصية وترجع مظلمته عليه، ويعالج حب المال من حيث أنه مال، بأن يتفكر في مقاصد المال وانه لماذا خلق، فلا يحفظ منه إلا بقدر حاجته، ويبذل الباقي على المستحقين ليبقى له ثوابه في الآخرة.

 

تذنيب

اعلم أن بذل الأموال وانفاقها المترتب على صفة الجود والسخاء يتناول اموراً: بعضها واجب، وبعضها مندوب. وقد ورد في فضيلة كل منها بخصوصه أخبار، فلا بد لنا أن نشير إلى ذلك تأكيداً لبيان فضل السخاء، والى بعض مالها من الآداب والدقائق الباطنة، ونحيل مالها من الأحكام والشروط الظاهرة إلى كتب الفقه، فنقول:

اما الأمور الواجبة، فأولها:

 

الزكاة

الآيات الأخبار الواردة في ذم تاركها مدح فاعلها كثيرة. قال الله سبحانه:

" فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "[1]. وقال تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم "[2].

ومعنى الأنفاق في سبيل الله اخراج الزكاة، كما ورد عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، وأجمع عليه المفسرون. وقال رسول الله (ص): " إذا منعت الزكاة منعت الأرض بركاتها ". وقال الباقر (ع): " إن الله عز وجل قرن الزكاة بالصلاة، قال:

" فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "[3].

فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة، فلم يقم الصلاة ". وقال الصادق (ع): " ما من ذي مال ذهب أو فضة يمنع زكاة ماله، إلا حبسه الله يوم القيامة بقاع قرقر، وسلط عليه شجاعاً اقرع يريده وهو يحيد عنه، فإذا رأى أنه لا يتخلص منه، أمكنه من يده، فقضمها كما يقضم الفحل، ثم يصير طوقا في عنقه، وذلك قول الله تعالى:

" سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة "[4].

وما من ذي مال إبل أو غنم أو بقر يمنع زكاة ماله، إلا حبسه الله يوم القيامة بقاع قرقر، تطأه كل ذات ظلف بظلفها، وتنهشه كل ذات ناب بنابها، وما من ذي مال نخل أو كرم أو زرع يمنع زكاتها، إلا طوقه الله تعالى ريعة ارضه إلى سبع أرضين إلى يوم القيامة "[5]. وقال (ع): " ما فرض الله على هذه الأمة شيئاً أشد عليهم من الزكاة، وفيها تهلك عامتهم ". وقال: " من منع قيراطاً من الزكاة، فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله تعالى:

" قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت "[6].

وقال (ع): " إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء، ومعونة للفقراء. ولو أن الناس ادوا زكاة اموالهم، ما بقى مسلم فقيراً محتاجا، ولا ستغنى بما فرض الله له. وان الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء، وحقيق على الله أن يمنع رحمته ممن منع حق الله في ماله. واقسم بالذي خلق الخلق وبسط الرزق: أنه ما ضاع مال في بر ولا بحر إلا بترك الزكاة، وما صيد صيد في بر ولا بحر إلا بتركه التسبيح في ذلك اليوم، وإن أحب الناس إلى لله تعالى أسخاهم كفاً وأسخى الناس من أدى زكاة ماله، ولم يبخل على المؤمنين بما افترض الله لهم في ماله ". وقال (ع): " إن الزكاة ليس يحمد بها صاحبها وإنما هو شيء ظاهر حقن بها دمه وسمى بها مسلما، ولو لم يؤدها لم تقبل له صلاة "[7]. والأخبار في فضل الزكاة وذم تاركها اكثر من أن تحصى، وما ذكرناه كاف لايقاظ الطالبين.

 

فصل

سر وجوب الزكاة، وفضيلة سائر الانفاقات

السر في ايجاب الزكاة، بل فضيلة مطلق انفاق المال، ثلاثة أمور:

الأول ـ أن التوحيد العام ألا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد، إذ المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى، وانما تمتحن درجة الحب بمفارقة سائر المحاب، والأموال محبوبة عند الناس، لأنها آلة تمتعهم بالدنيا، ولاجلها يأنسون بهذا العالم، ويخافون من الموت ويتوحشون منه، مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا في صدق دعواهم الحب التام لله تعالى بمفارقتهم عن بعض محابهم، اعنى المال، ولذلك قال الله سبحانه:

" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة "[8].

ولفهم هذا السر في بذل الأموال، انقسم الناس بحسب درجاتهم في التوحيد والمحبة ثلاثة أقسام: (قسم) صدقوا التوحيد ووفوا بعهده، ولم يجعلوا قلوبهم إلا محلا لحب واحد. فنزلوا عن جميع أموالهم، ولم يدخروا شيئاً من الدرهم والدينار وغيرهما من أنواع المال، ولم يتعرضوا لوجوب الزكاة عليهم، حتى قيل لبعضهم: كم يجب من الزكاة في مائتي درهم؟ فقال: أما على العوام ـ بحكم الشرع ـ فخمسة دراهم، وأما نحن، فيجب علينا بذل الجميع. وسئل الصادق (ع) " في كم تجب الزكاة من المال؟ فقال: أما الزكاة الظاهرة، ففي كل الف خمسة وعشرون، وأما الباطنة، فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك ". و(قسم) درجتهم دون هذا، وهم الذين أمسكوا اموالهم، ولكنهم راقبوا مواقيت الحاجات ومراسم الخيرات، ويكون قصدهم من الإمساك الأنفاق على قدر الحاجة، دون التنعم، وصرف الفاضل عن قدر الحاجة إلى وجوه البر. وهؤلاء لا يقتصرون على اعطاء مجرد ما يجب عليهم من الزكاة والخمس، بل يؤدون جميع أنواع البر والمعروف أو اكثرها و(قسم) اقتصروا على اداء الواجب، فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه. وهو أدون الدرجات وأقل المراتب، وهو درجة العوام الراغبين إلى المال، لجهلهم بحقيقته وفائدته، وضعف حبهم للآخرة.

الثاني ـ تطهير النفس عن رذيلة البخل، فانه من المهلكات ـ كما تقدم ـ، وإنما تزول هذه الرذيلة ببذل المال مرة بعد أخرى حتى يتعود إذ حب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته، حتى يصير ذلك اعياداً. وعلى هذا، فالإنفاق يطهر صاحبه من خبث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله، وبقدر فرحه باخراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى.

الثالث ـ شكر النعمة، فان لله سبحانه على عبده نعمة في نفسه ونعمة في مال فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال. وما أقبح بالغني المسلم أن ينظر إلى فقير مسلم، وقد ضيق الرزق عليه واحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدى شكر الله تعالى على اغنائه عن السؤال، واحواج غيره إليه، باعطاء عشر أو ربع عشر من ماله.

 

فصل

الحث على التعجيل في الاعطاء

ينبغي للمعطى المنفق، عند ظهور داعية الخير من باطنه، أن يغتنم الفرصة، ويسارع إلى الامتثال، تعجيلا لادخال السرور في قلوب الفقراء وحذراً عن عوائق الزمان المانعة عن الخيرات، وعلما بأن في التأخير آفات وتنبها بأن انبعاث داعية الخير لمة الملك، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، فما أسرع تقلبه، والشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر، وله لمة عقيب لمة الملك، وصوناً للفقراء عن الاضطرار إلى السؤال، إذ ورد: ان الإعطاء معه مكافاة لوجهه المبذول وثمن لما أخذ منه، وليس بمعروف. وروى: " أن أمير المؤمنين عليه السلام بعث إلى رجل بخمسة أوساق من تمر البغيبغة، وكان الرجل ممن ترجى نوافله، ويؤمل نائله ورفده، وكان لا يسأل علياً ولا غيره شيئاً، فقال رجل لأمير المؤمنين (ع) والله ما سألك فلان شيئاً! ولقد كان يجزيه من الخمسة أو ساق وسق واحد. فقال له أمير المؤمنين (ع): لا كثر الله في المؤمنين ضربك! أعطي أنا، وتبخل أنت! لله أنت! إذا أنا لم أعط الذي يرجوني إلا من بعد المسألة، ثم أعطيه بعد المسألة، فلم اعطه إلا ثمن ما أخذت منه، وذلك لأنى عرضته أن يبذل لي وجهه الذي يعفره في التراب لربي وربه عز وجل عند تعبده له وطلب حوائجه إليه. فمن فعل هذا بأخيه المسلم، وقد عرف أنه موضع لصلته ومعروفه، فلم يصدق الله في دعائه، حيث يتمنى له الجنة بلسانه، ويبخل عليه بالحطام من ماله "[9]. ثم ينبغي أن يعين لأداء صدقته وقتاً فاضلا، كيوم الغدير وشهر ذي الحجة، (لا) سيما العشرة الأولى، أو شهر رمضان، (لا) سيما العشرة الأخيرة. وقد ورد أن رسول الله (ص) كان أجود الخلق، وكان في رمضان كالريح المرسلة، لا يمسك فيه شيئاً.

 

فصل

فضيلة إعلان الصدقة الواجبة

الصدقة الواجبة، أعني الزكاة، إعلانها أفضل من أسرارها ـ إن كان في إظهارها ترغيب للناس في الاقتداء، وأمن من تطرق الرياء، ولم يكن الفقير بحيث يستحي من أخذها علانية. قال الصادق (ع): " كلما فرض الله عليك فإعلانه افضل من إسراره، وكلما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه، ولو أن رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه علانية كان ذلك حسناً جميلا ". وقال في قوله تعالى:

" وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم "[10]:

" هي ما سوى الزكاة فإن الزكاة علانية غير سر ". فلو دخل في نفسه الرياء مع الاظهار، أو كان الفقير يستحي من أخذها علانية، كان الأسرار بها أفضل: أما الأول: فظاهر، وأما الثاني: فلما روى: " انه قيل لأبي جعفر الباقر (ع): الرجل من أصحابنا يستحي من أن يأخذ من الزكاة، فاعطيه من الزكاة ولا أسمي له انها من الزكاة. فقال: اعطه ولا تسم له، ولا تذل المؤمن ".

وبالجملة: الإعلان كما يتصور فيه فائدة الترغيب، يتطرق إليه محذور الرياء والمن والأذى، وذلك يختلف بالأحوال والأشخاص. فبالنظر إلى بعض الأحوال والأشخاص، يكون الإعلان أفضل، وبالنظر إلى بعض آخر، يكون الأسرار أفضل. فلابد لكل منفق أن يلاحظ حاله ووقته ويقابل الفائدة بالمحذور، ويختار ما هو الأفضل. ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة، اتضح له ما هو الأولى والألبق،

 

فصل

(ذم المن والأذى في الصدقة)

ينبغي للمتصدق أن يجتنب عن المن والأذى. قال الله سبحانه:

" لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى "[11]. وقال: " قول معروف ومغفرة خير من صدقةٍ يتبعها أذىً "[12].

وقال رسول الله (ص): " إن الله تبارك وتعالى كره لي ست خصال، وكرهتهن للاوصياء من ولدى وأتباعهم من بعدى: العبث في الصلاة، والرفث في الصوم، والمن بعد الصدقة، وإتيان المساجد جنباً، والتطلع في الوفد، والضحك بين القبور".

و(المن): أن يرى نفسه محسناً. ومن ثمراتها الظاهر: الاظهار بالانفاق، والتحدث به، وطلب المكافاة منه، بالشكر والخدمة والتعظيم والمتابعة في الأمور. و(الأذى): التعبير، والتوبيخ، والاستخفاف والاستخدام، والقول السيء، وتقطيب الوجه، وهتك الستر. ثم معرفة الأذى ظاهرة، وكذا معرفة الثمرات الظاهرة للمن. واما المن الباطني، أي رؤية نفسه محسناً، فيعرف بأن يكون استبعاده من خيانة القابض بعد العطاء اكثر من استبعاده منه قبله.

وعلاج المن: أن يعرف ان المحسن هو الفقير القابض لايصاله الثواب والانجاء من العذاب، وكونه نائباً عن الله تعالى، وكون ما يعطيه حقاً من الله سبحانه، أحال عليه الفقير انجازاً لما وعده من الرزق. وعلاج الأذى: أن يعرف أن سببه استكثار العطاء وكراهية إنفاق المال والتكبر على الفقير القابض برؤية نفسه خيراً منه، لغنائه واحتياجه، وجميع ذلك جهل وحماقة. اما استكثاره العطاء، فلأن ما أعطاه بالنظر إلى ما يطلبه لأجله من رضا الله وثواب الآخرة في غاية القلة والخسة، وكيف يستعظم العاقل بذل خسيس إذا أخذ في مقابله خطيراً باقياً. واما استحقاره الفقير، فلما تقدم من فضل الفقير على الغني، فكيف يرى نفسه خيراً منه؟ وكفى للفقير فضلا: ان الله سبحانه جعل الغني مسخراً له، بأن يكتسب المال بالجهد والتعب، ويسعى في حفظه، ويسلمه إلى الفقير بقدر حاجته، ويكف عنه الفاضل الذي يضره لو سلمه إليه. فالغني يخدم الفقير في طلب المال، مع كون ما يحمد منه للفقير، وكون ما يذم منه من تحمل المشاق وتقلد المظالم وحراسة الفضلات إلى أن يموت فتأكله الأعداء، على الغنى.

وبالجملة: العاقل، بعد التأمل، يعلم أن ما يعطيه قليل في مقابلة ما يأخذه، وأن الفقير محسن إليه. قال أمير المؤمنين (ع): " ومن علم أن ما صنع إنما صنع إلى نفسه، لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم في مودتهم، فلا تلتمس من غيرك شكر ما أتيت إلى نفسك ووقيت به عرضك، وأعلم أن الطالب اليك لحاجة لم يكرم وجهه عن وجهك، فاكرم وجهك عن رده "[13]. وينبغي للمحترز عن المن والأذى أن يتواضع ويتخضع للفقير عند اعطائه، بأن يضع الصدقة لديه ويمثل قائماً بين يديه، أو يبسط كفه ليأخذ الفقير، وتكون يد الفقير هي العليا.



[1] الحج، الآية: 78.

[2] التوبة، الآية: 35.

[3] المجادلة، الآية: 13.

[4] آل عمران، الآية: 180.

[5] قال في (الوافي): 6/241، باب الزكاة: " بيان (القاع): الأرض السهلة المطمئنة. و(القرقر): الأرض المستوية اللينة. و(الشجاع) ـ بالضم والكسرـ: الحية، أو الذكر منها، أو ضرب منها. و(الفحل) ـ بالمهملة ـ: الذكر من كل حيوان، ومن الإبل خاصة، وهو المراد هنا. (الريع) ـ بكسر الراء وفتحها ـ المرتفع من الأرض ".

[6] المؤمنون، الآية: 99 ـ 100.

[7] صححنا الأحاديث كلها على (الوافي): 6/241 ـ 242، باب الزكاة.

[8] التوبة، الآية: 111.

[9] صححنا الحديث على (الوافي): 6/286، باب آداب الاعطاء. قال (البغيبغة) ضيعة بالمدينة، و(النوافل): العطايا، و(لله انت!): أي كن لله وانصفني في القول.

[10] البقرة، الآية: 271.

[11] البقرة، الآية: 264.

[12] البقرة، الآية: 263.

[13] صححنا الحديث على (الوافي): 6/290، كتاب الزكاة باب 57 المعروف وفضله.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست