.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

 

علاج الحرص

الطمع

الاستغناء عن الناس

البخل

ذم البخل

السخاء

معرفة ما يجب أن يبذل

الايثار

 

 

فصل

علاج الحرص

طريق المعالجة في إزالة الحرص وتحصيل القناعة: أن يتذكر أولا ما في القناعة من المدح والشرافة، وعز النفس وفضيلة الحرية، وما في الحرص من الذم والمهانة، وتحمل الذلة ومتابعة الشهوة. ويعرف أن من لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن، فهو قليل العقل ناقص الإيمان. ثم يتذكر ما في جمع المال من الآفات الدنيوية والعقوبات الآخروية، ويكثر التأمل فيما مضى عليه عظماء الخلق وأعز اصنافهم، أعنى الأنبياء والأوصياء ومن سار بسيرتهم من السلف الأتقياء، من صبرهم على القليل، وقناعتهم باليسير، وفيما يجري عليه الكفار من الهندو واليهود والنصارى وأراذل الناس واغنيائهم وامثالم، من التنعم وجمع المال الكثير. وبعد هذا التأمل لا أظنه يشك في أن الاقتداء بأعز الخلائق أحسن من الاقتداء بأراذلهم، بل المتأمل يعرف أن الحريص المتكالب على لذات الدنيا خارج عن افق الإنسانية، وداخل في جريدة البهائم، إذ الحرص على شهوات البطن والفرج من لوازم البهيمية، واحرص الناس على الشهوات لا يبلغ رتبة البهائم في ذلك. فما من حريص على التنعم في البطن إلا والحمار اكثر أكلا منه، وما من حريص على الجماع إلا والخنزير أشد نزواً منه. فظهر ان الحريص في مرتبة الخنزير والحمير واليهود والهندو، والقانع لا يساهمه في الرتبة إلا الأنبياء والأولياء. وبعد التأمل في جميع ما ذكر، يتم العلاج العلمي، وبه تسهل إزالة الحرص واكتساب القناعة. فليبادر إلى العلاج العملي، وهو العمل بالاقتصاد في أمر المعيشة، ليسد أبواب الخرج ما أمكن ورد النفس إلى ما لا بد منه. فان من كثر خرجه واتسع انفاقه، لم تمكنه القناعة، فان كان وحده، اكتفى بثوب خشن، ويقنع بأي طعام كان ويقلل من الأدام ما أمكنه، وهكذا الحال في سائر ما يضطر إليه ويوطن نفسه عليه. وان كان له عيال رد كل واحد منهم إلى هذا القدر. وإذا بنى أمره على الاقتصاد، لم يحتج إلى كثير جهد وإن كان معيلا. قال رسول الله (ص): " ما عال من اقتصد "[1]. وقال (ص): " ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغناء والفقر، والعدل في الرضا والغضب ". وقال: " التدبير نصف المعيشة ". وقال: " من اقتصد أغناه الله، ومن بذر أفقره الله ". وقال " الاقتصاد، وحسن الصمت، والهدي الصالح، جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة ". وقال أمير المؤمنين (ع): " القصد مثراة والسرف متواة "[2]. وقال السجاد (ع): " لينفق الرجل بالقصد وبلغة الكفاف، ويقدم منه الفضل لآخرته، فان ذلك أبقى للنعمة وأقرب إلى المزيد من الله تعالى، وانفع في العافية ". وقال الصادق (ع): " إن القصد أمر يحبه الله، وأن السرف أمر يبغضه الله، حتى طرحك النواة، فانها تصلح لشيء، وحتى صبك فضل شرابك[3] وقال (ع): " ضمنت لمن اقتصد ألا يفتقر "وقال (ع): " إن السرف يورث الفقر، وان القصد يورث الغناء ". والأخبار في مدح الاقتصاد أكثر من أن تحصى.

ثم إذا تيسرت له المعيشة في الحال، فلا ينبغي أن يكون مضطربا لاجل الاستقبال، ويعتمد على فضل الله ووعده بأن الرزق الذي قدر له يأتيه وإن لم يكن حريصاً ولا مضطربا لأجله ولا يعلم لنفسه مدخلا يأتي رزقه منه. وقال الله تعالى:

" وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها "[4]. وقال: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب "[5].

وقال رسول الله (ص): " أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب ".

ثم ينبغي ألا ينظر إلى من هو فوقه، بل ينظر إلى من هو دونه في التنعم وفي مال الدنيا، فان الشيطان يصرف نظره في أمر الدنيا إلى من هو فوقه، ويقول: لم تفتر عن طلب الدنيا وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس؟ ويصرف نظره في امر الدين إلى من هو دونه، ويقول: لم تضيق على نفسك وتخاف الله وفلان أعلم منك ولا يخاف الله؟ قال أبو ذر (ره): " أوصاني خليلي رسول الله أن انظر إلى من هو دونى، لا إلى من هو فوقي في الدنيا ". وقال (ص): " إذا نظر احدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ".

ومنها:

 

الطمع

وهو التوقع من الناس في أموالهم، وهو أيضاً من شعب حب الدنيا ومن انواعه، ومن الرذائل المهلكة، قال رسول الله (ص): " اياك والطمع، فانه الفقر الحاضر ". وقال أمير المؤمنين (ع): " استغن عمن شئت تكن نظيره، وارغب إلى من شئت تكن اسيره، واحسن إلى من شئت تكن اميره ". وقال الباقر (ع): " بئس العبد عبد له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذله " وقيل للصادق (ع): ما الذي يثبت الإيمان في العبد؟ قال: " الورع والذي يخرجه منه الطمع "[6] والأخبار في ذم الطمع كثيرة، وكفى به ذماً أن كل طامع يكون ذليلا مهيناً عند الناس، وأن وثوقه بالناس واعتماده عليهم أكثر من وثوقه بالله، إذ لو كان اعتماده على الله أكثر من اعتماده على الناس لم يكن نظره إليهم، بل لم يطمع من أحد شيئاً إلا من الله سبحانه.

 

فصل

الاستغناء عن الناس

ضد الطمع هو (الاستغناء عن الناس) وهو من الفضائل الموجبة لتقرب العبد إلى الله سبحانه، إذا من استغنى بالله عن غير الله أحبه الله. والأخبار الآمرة بالاتصاف به والمادحة له كثيرة. قال رسول الله (ص): " ليس الغنى عن كثرة العروض، إنما الغنى غنى النفس " وقال لأعرابي طلب منه موعظة: " إذا صليت فصل صلاة مودع، ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غداً، واجمع اليأس عما في أيدي الناس ". وقال (ص): " عليك باليأس عما في أيدي الناس، فإنه الغنى الحاضر ". وقال أمير المؤمنين (ع): " ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك " وقال سيد الساجدين (ع): " رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في ايدي الناس، ومن لم يرج الناس في شئ، ورد أمره إلى الله تعالى في جميع أمره، استجاب الله تعالى له في كل شيء ". وقال الباقر (ع): " سخاء المرء عما في ايدي الناس اكثر من سخاء النفس والبذل، ومروة الصبر في حال الفاقة والحاجة والتعفف والغنى اكثر من مروة الاعطاء، وخير المال الثقة بالله واليأس مما في ايدي الناس " وقال (ع): " اليأس مما في ايدي الناس عز المؤمن في دينه " وقال الصادق (ع): " شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس ". وقال (ع): شيعتنا من لا يسأل الناس، ولو مات جوعا". وقال (ع): " ثلاث هن فخر المؤمن وزينته في الدنيا والآخرة: الصلاة في آخر الليل، ويأسه مما في أيدي الناس، وولايته للامام من آل محمد ـ عليهم السلام ـ ". وقال (ع): " إذا أراد أحدكم ألا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه، فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله ذلك من قلبه، لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه "[7] ثم طريق العلاج في قطع الطمع، وكسب الاستغناء قريب مما ذكر في علاج إزالة الحرص وتحصيل القناعة، فتذكر.

ومنها:

 

البخل

وهو الامساك حيث ينبغي البذل، كما أن الاسراف هو البذل حيث ينبغي الامساك، وكلاهما مذمومان، والمحمود هو الوسط، وهو الجود والسخاء. إذ لم يؤمر رسول الله (ص) إلا بالسخاء، وقيل له:

" ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كلّ البسط "[8]. وقال تعالى: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً[9].

فالجود وسط بين الاقتار والاسراف، وبين البسط والقبض، وهو تقدير البذل والامساك بقدر الواجب اللائق. ولا يكفي في تحقق الجود والسخاء أن يفعل ذلك بالجوارح ما لم يكن قلبه طيبا غير منازع له فيه. فان بذل في محل وجوب البذل ونفسه تنازعه وهو يضايرها فهو متسخ وليس بسخي، بل ينبغي ألا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له، وهو صرفه إلى ما يجب أو ينبغي صرفه إليه.

 

فصل

ذم البخل

البخل من ثمرات حب الدنيا ونتائجه، وهو من خبائث الصفات ورذائل الأخلاق. ولذا ورد في ذمه ما ورد من الآيات والأخبار. قال الله سبحانه:

" الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله..."[10]. وقال تعالى: " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة "[11].

وقال رسول الله (ص): " إياكم والشح، فانه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وقال (ص): " لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن ولا سىء الملكة ". وقال (ص): " البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار. وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل، وأدوى الداء البخل "[12] وقال (ص): " الموبقات ثلاث: شح مطاع، وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه ". وقال (ص): " إن الله يبغض الشيخ الزاني، والبخيل المنان، والمعيل المختال ". وقال (ص): " إياكم والشح، فانما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطعية فقطعوا "[13] وقال (ص): " البخل شجرة تنبت في النار، فلا يلج النار إلا بخيل ". وقال: " خلق البخل من مقته، وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة الزقوم، ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا، فمن تعلق بغصن منها أدخله النار. ألا إن البخل من الكفر، والكفر في النار ". وقتل في الجهاد رجل من أصحاب رسول الله (ص) فبكته باكية وقالت: واشهيداه! فقال النبي (ص): " ما يدريك انه شهيد؟ فلعله كان يتكلم بما لا يعنيه، أو يبخل بما لا ينقصه ". وقال (ص): " إن الله يبغض البخيل في حياته، والسخي عند موته ". وقال (ص): " السخي الجهول احب إلى الله عز وجل من العابد البخيل ". وقال: " الشح والايمان لا يجتمعان في قلب واحد ". وقال أيضاً: " خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق ". وقال (ص): " لا ينبغي للؤمن أن يكون بخيلا ولا جبانا ". وقال (ص): " يقول قائلكم: الشحيح أعذر من الظالم. وأي ظلم أظلم عند الله من الشح؟ حلف الله بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل ". وقال: " اللهم إني أعوذ بك من البخل! ". وروى: " أنه (ص) كان يطوف البيت، فإذا رجل متعلق باستار الكعبة وهو يقول: بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي ذنبي! قال رسول الله (ص): وما ذنبك؟ صفة لي. قال: هو أعظم من أن أصفه لك. قال ويحك! ذنبك أعظم أم الارضون؟ قال: بل ذنبي يا رسول الله. قال (ص) ويحك! ذنبك أعظم أم الجبال؟ قال: بل ذنبي يا رسول الله. قال (ص): فذنبك أعظم أم البحار؟ قال: بل ذنبي يا رسول الله قال (ص): فذنبك أعظم أم السماوات؟ قال: بل ذنبي يا رسول الله. قال: ذنبك أعظم أم العرش؟ قال: بل ذنبي يا رسول الله. قال: ذنبك أعظم أم الله؟ قال: بل الله اعظم وأعلى وأجل. قال: ويحك اتصف لي ذنبك، قال: يا رسول الله، إني رجل ذو ثروة من المال، وأن السائل ليأتيني ليسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من النار. فقال رسول الله (ص): اليك عنى! لا تحرقني بنارك! فو الذي بعثني بالهداية والكرامة، لو قمت بين الركن والمقام، ثم صليت الفي الف عام، وبكيت حتى تجرى من دموعك الانهار وتسقي بها الاشجار، ثم مت وأنت لئيم، لأكبك الله في النار! ويحك! أما علمت أن الله يقول:

" ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه "[14].

" ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون "؟![15]

وقال أمير المؤمنين (ع): " سيأتي على الناس زمان عضوض، يعض المؤمن على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك. قال الله تعالى:

" ولا تنسوا الفضل بينكم "[16].

وروى: " أنه ما من صباح إلا وقد وكل الله تعالى ملكين يناديان: اللهم اجعل لكل ممسك تلفاً، ولكل منفق خلفاً!". والأخبار في ذم البخل اكثر من أن تحصى، مع أن تضمنه للمفاسد الدنيوية والأخروية مما يحكم به الوجدان ولا يحتاج إلى دليل وبرهان حتى أن النظر إلى البخيل يقسى القلب، ومن كان له صفاء سريرة، يكرب قلبه ويظلم من ملاقاته وقد قيل: (أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه).

 

فصل

السخاء

ضد البخل (السخاء). وقد عرفت معناه، وهو من ثمرة الزهد كما أن البخل من ثمرة حب الدنيا. فينبغي لكل سالك لطريق الآخرة أن يكون حاله القناعة إن لم يكن له مال، والسخاء واصطناع المعروف إن كان له مال. ولا ريب في كون الجود والسخاء من شرائف الصفات ومعالي الأخلاق، وهو أصل من أصول النجاة، وأشهر اوصاف النبيين واعرف أخلاق المرسلين. وما ورد في مدحه خارج عن حد الاحصاء، قال رسول الله (ص): " السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية إلى الأرض، فمن أخذ منها غصناً قاده ذلك الغصن إلى الجنة". وقال (ص): " إن السخاء من الإيمان والإيمان في الجنة "وقال (ص): " السخاء شجرة تنبت في الجنة، فلا يلج الجنة إلا سخي ". وقال (ص): " قال الله سبحانه إن هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما استطعتم ". قال (ص): " ما جعل الله أولياءه إلا على السخاء وحسن الخلق ". وقال (ص): " إن من موجبات المغفرة: بذل الطعام. وإفشاء السلام، وحسن الكلام ". وقال (ص): إن السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار". وقال (ص): " تجافوا عن ذنب السخي، فان الله آخذ بيده كلما عثر " وقال (ص): " طعام الجواد دواء، وطعام البخيل داء "[17] وقال (ص): " أفضل الأعمال: الصبر والسماحة ". وقال (ص): " خلقان يحبهما الله، وهما: حسن الخلق، والسخاء " وقال (ص): " إن الله جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفاسفها " وقال (ص): " الرزق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير، وان الله تعالى ليباهي بمطعم الطعام الملائكة ـ عليهم السلام ـ: ". وقال (ص): " إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن بخل بتلك المنافع عن العباد، نقلها الله عنه وحولها إلى غيره ". وقال (ص): " الجنة دار الأسخياء ". وقال (ص): " لشاب سخي مرهق في الذنوب، أحب إلى الله من شيخ عابد بخيل[18] وقال (ص): " اصنع المعروف إلى من هو أهله والى من ليس بأهله، فان أصبت أهله فقد أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله ". وقال (ص): " إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا صيام، ولكن دخلوها بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للمسلمين ". وقال (ص): " إن الله عز وجل جعل للمعروف وجوهاً من خلقه، حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله، ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه، كما ييسر الغيث إلى البلدة الجدبة فيحييها ويحيى بها أهلها ". وقال (ص): " السخي محبب في السماوات ومحبب في الأرضيين، خلق من طينة عذبة، وخلق ماء عينيه من ماء الكوثر، والبخيل مبغض في السماوات مبغض في الأرضين، خلق من طينة سبخة، وخلق ماء عينيه من ماء العوسج". وقال (ص): " إن أفضل الناس إيماناً أبسطهم كفاً ". وقال (ص): " يؤتى يوم القيامة برجل، فيقال: احتج فيقول: يا رب، خلقتني وهديتني، وأوسعت علي فلم أزل اوسع على خلقك، وأنشر عليهم لكي تنشر علي هذا اليوم رحمتك وتيسره. فيقول الرب ـ تعالى ذكره ـ: صدق عبدي، أدخلوه الجنة ". وروى: " أنه أتى النبي (ع) وفد من اليمن، وفيهم رجل كان أعظمهم كلاماً وأشدهم استقصاء في محاجة النبي (ص) فغضب النبي حتى التوى عرق الغضب بين عينيه، وتربد وجهه وأطرق إلى الأرض فأتاه جبرئيل (ع) فقال: " ربك يقرئك السلام ويقول لك: هذا رجل سخي يطعم الطعام. فسكن عن النبي (ص) الغضب، ورفع رأسه قال: لولا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخى تطعم الطعام لشردت بك، وجعلتك حديثاً لمن خلفك! فقال له الرجل: إن ربك يحب السخاء؟ فقال: نعم! فقال: إني أشهد ألا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والذي بعثك بالحق، لا رددت عن مالي أحداً! "[19]، وقال (ص): " كل معروف صدقة، وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة، وما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها ". وقال (ص): " كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله، والله تعالى يحب اغاثة اللهفان " وروى: أنه أوحى الله إلى موسى (ع): لا تقتل السامري، فإنه سخى "[20] وقال عيسى (ع): " استكثروا من شيء لا تأكله النار " قيل: وما هو؟ قال: " المعروف ".وقال أمير المؤمنين (ع) " ومن يبسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف الله له ما أنفق في دنياه، ويضاعف له في آخرته "[21]. وقال الباقر (ع): " إن الشمس لتطلع ومعها أربعة أملاك: ملك ينادي: يا صاحب الخير أتم وابشر وملك ينادي يا صاحب الشر انزع واقصر، وملك ينادى: أعط منفقاً خلفاً وآت ممسكا تلفاً، وملك ينضح الأرض بالماء، ولولا ذلك اشتعلت الأرض". وقال الصادق (ع) لبعض جلسائه: " ألا أخبرك بشيء تقرب به من الله وتقرب من الجنة وتباعد من النار؟ "، فقال: بلى. فقال: " عليك بالسخاء". وقال: " خياركم سمحاؤكم، وشراركم بخلاؤكم. ومن خالص الإيمان: البر بالإخوان والسعي في حوائجهم، وأن البار بالإخوان ليحبه الرحمن، وفي ذلك مرغمة للشيطان، وتزحزح عن النيران ودخول الجنان ". وقال الكاظم (ع): " السخي الحسن الخلق في كنف الله، لا يستخلى الله منه حتى يدخله الجنة. وما بعث الله نبياً ولا وصياً إلا سخياً، ولا كان أحد من الصالحين إلا سخياً، وما زال أبي يوصيني بالسخاء حتى مضى ".

 

فصل

معرفة ما يجب أن يبذل

لعلك تقول: إنك قلت: السخاء هو الوسط بين الإقتار والإسراف وهو صرف المال إلى ما يجب أو ينبغي صرفه إليه، وهذا غير كاف لمعرفة حد السخاء، لتوقفه على معرفة ما يجب أو ينبغي، وهو عندنا مبهم.

وقلنا: ما يجب أو ينبغي يتناول الواجب واللائق بحسب الشرع والمروة والعادة، فالسخي هو الذي يؤدى واجب الشرع وواجب المروة والعادة جميعاً، فان امنع واحداً منها فهو بخيل، وإن كان الذي يمنع واجب الشرع أبخل. ثم ما يجب بذله شرعاً مضبوط معين، من الزكاة والخمس وغيرهما من أطيب ماله أو وسطه دون الخبيث منه، والإنفاق على أهله وعياله على قدر احتياجهم. فمن أدى جميع ذلك فقد أدى الواجب الشرعي ويستحق اسم السخي شرعا، إذا كان الأداء بطيبة من قلبه، من دون أن يشق عليه، إذ لو شق عليه ذلك كان بخيلاً بالطبع ومتسخياً بالتكلف وأما ما يجب مروة وعادة، فهو ترك المضايقة في بذل ما يستقبح المضايقة فيه عرفاً وعادة، وهو يختلف في الأحوال والأشخاص، فتستقبح من الغني المضايقة مالا يستقبح من الفقير، ومع الأهل والأقارب ما لا يستقبح مع الأجانب، ومع الجار مالا يستقبح من البعيد، وفي الضيافة مالا يستقبح أقل منه في المبايعة والمعاملة، ويستقبح من المضايقة في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها. وبالجملة: يختلف ذلك بما فيه المضايقة من ضيافة أو معاملة وبما فيه المضايقة من طعام أو ثوب أو فرش أو غير ذلك. وبمن معه المضايقة من صديق أو قريب أو جار أو أجنبي أو بعيد، وبمن منه المضايقة من غني أو فقير أو أمير أو رعية أو عالم أو جاهل أو صبي أو كامل. فالسخي هو الذي لا يمنع حيث ينبغي ألا يمنع شرعاً أو مروة أو عادة، والبخيل من يمنع شيئاُ مما ينبغي ألا يمنع شرعاً أو مروة أو عادة. ولا يمكن التنصيص على مقدار ذلك، فلعل حد البخل هو إمساك المال لغرض وذلك الغرض أهم من حفظ المال، وفي مقابله الجود والسخاء.

ثم من يؤدى الواجب ويحفظ العادة والمروة، ولكن له مال كثير قد جمعه، لا يصرفه إلى المحتاجين ولا ينفقه في الصدقات المستحبة ليكون له عدة على نوائب الزمان، وإن لم يكن بخيلا عند عوام الخلق، ولكنه بخيل عند أهل الفطانة والكياسة، إذ التبري عن البخل والاتصاف بصفة الجود السخاء لا يتحقق عندهم ما لم يبذل زيادة على قدر واجب الشرع وواجب المروة والعادة اللائقة به، لطلب الفضيلة والثواب، ونيل الدرجات في الآخرة. وتختلف هذه الزيادة باختلاف مقدار ماله، وباختلاف حاجة المحتاجين وصلاحهم وورعهم. فاتصافه بالجود، بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير، وتختلف درجات ذلك. فاصطناع المعروف أمر وراء ما توجبه العادة والمروة، وهو الجد بشرط أن يكون عن طيبة من النفس ولا يكون لأجل غرض من خدمة أو مدح وثناء. إذ من يبذل المال بعوض المدح والثناء أو غيره فليس بجواد، بل هو بياع يشترى المدح بماله، لكون المدح ألذ عنده من المال.

فالجود هو بذل الشيء عن طيبة من القلب من غير غرض، هذا وإن كان حقيقته، إلا انه لا يتصور في غير حق الله، إذ ما من إنسان يبذل الشيء إلا لغرض، لكن إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة ورفع الدرجات، واكتساب فضيلة الجود، وتطهير النفس عن رذيلة البخل، سمى جواداً، وإن كان غرضه شيئاً من الأمور الدنيوية لم يسم جواداً.

 

تنبيه

الإيثار

أرفع درجات الجود والسخاء (الإيثار)، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه. قال الله سبحانه في معرض الثناء على أهل الإيثار:

" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ "[22].

وقال رسول الله (ص): أيما امرؤ اشتهى شهوة، فرد شهوته وآثر على نفسه، غفر له ".

وكان الإيثار من شعار رسول الله (ص)، ولقد قالت بعض زوجاته: " إنه (ص) ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا " وروي: " أن موسى بن عمران قال: يا رب، أرني بعض درجات محمد وامته. قال: يا موسى، إنك لن تطيق ذلك، لكني اريك منزلة من منازله، جليلة عظيمة، فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي. قال: فكشف له عن ملكوت السماوات، فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله، فقال: يا رب، بماذا بلغ إلى هذه الكرامة؟ قال تعالى: بخلق اختصصته به من بينهم، وهو الإيثار يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء " وسئل الصادق (ع): " أي الصدقة أفضل؟ قال (ع): جهد المقل، أما سمعت قول الله عز وجل: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ " وإيثار علي (ع) غيره في جميع أوقات عمره مشهور، وفي الكتب مسطور ولقد آثر حياة رسول الله (ص) على حياته ليلة المبيت فباهي الله به الملائكة، وأنزل فيه:

" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله "[23].

ولقد كان الخواص من شيعته والمقتدون به في سنته وسيرته، يجتهدون في المحافظة على هذه الفضيلة مهما أمكن.



[1] روى في (سفينة البحار): 2: 431، عن أمير المؤمنين (ع) مثل هذا الحديث هكذا: " ما عال امرؤ اقتصد "، وكذا في (بحار الأنوار): 2مج15/199.

[2] صححنا الحديث على ما في (الواقي)

[3] صححنا الحديث على ما في (الوافي): 5/245.

[4] هود، الآية: 6.

[5] الطلاق، الآية: 2 ـ 3.

[6] صححنا الحديث على (الكافي) في باب الطمع كما اثبتناه، لكن في (سفينة البحار): 2/93، رواه عن الصادق (ع) هكذا: "قال: قلت: ما الذي يثبت الإيمان في قلب العبد؟ قال: الذي يثبته فيه الورع، والذي يخرجه منه الطمع ".

[7] صححنا الأحاديث هنا ـ ابتداء من الحديث المروي عن علي (ع) على (الكافي): باب الاستغناء عن الناس. و(الوسائل): كتاب الزكاة، أبواب الصدقة، الباب 37.

[8] الإسراء، الآية: 29.

[9] الفرقان، الآية: 67.

[10] النساء، الآية: 36.

[11] آل عمران، الآية: 180.

[12] الأحاديث كلها عامية، صححناها على (إحياء العلوم) و(إحياء الأحياء).

[13] صححنا الحديث (على البحار): ج3 من المجلد الخامس عشر ص143 وكذا الحديث المتقدم.

[14] محمد، الآية: 38.

[15] الحشر، الآية: 9. التغابن، الآية: 16.

[16] البقرة، الآية: 237.

[17] (البحار): 2مج 15/221، باب السخاء والسماحة.

[18] صححنا الحديث على (البحار) في الموضع المتقدم: (الشحيح) بدل (البخيل).

[19] صححنا الحديث على (سفينة البحار): 1/607، وعلى (الوافي): 5/293، في باب الجود والبخل. لكن بينهما اختلاف يسير، فرجحنا تصحيح الحديث على ما في (السفينة).

[20] الروايات كلها عامية، صححناها على إحياء العلوم: 3/210.

[21] صححنا الحديث على (الوافي): 5/294، باب الجود والبخل.

[22] الحشر، الآية: 9.

[23] البقرة، الآية: 207.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست