.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

آداب التعلم والتعليم

العلم الإلهي وعلم الأخلاق والفقه أشرف العلوم

أصول العقائد المجمع عليها

 

 

آداب التعلم والتعليم

[تنبيه] لكل من التعلم والتعليم آداب وشروط:

[أما آداب التعلم]:

(فمنها) أن يجتنب المتعلم عن اتباع الشهوات والهوى والاختلاط بأبناء الدنيا. ولقد قال بعض الأكابر: " كما أن الحاسة الجليدية إذا كانت مؤوفة برمد ونحوه فهي محرومة من الاشعة الفائضة عن الشمس، كذلك البصيرة إذا كانت مؤوفة بمتابعة الشهوات والهوى والمخالطة بأبناء الدنيا فهى محرومة من أدراك الانوار القدسية ومحجوبة عن ذوق اللذات الانسية ".

(ومنها) ان يكون تعلمه لمجرد التقرب إلى الله والفوز بالسعادات الاخروية، ولم يكن باعثه شيئاً من المراء والمجادلة، والمباهاة والمفاخرة، والوصول إلى جاه ومال، أو التفوق على الاقران والامثال. قال الباقر (ع): " من طلب العلم ليباهي به العلماء اويمارى به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لاهلها " وقال الصادق (ع): " طلبة العلم ثلاثة، فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم صنف يطلبه للجهل[1] والمراء وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل. فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار، متعرض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم، وقد تسربل بالخشوع وتخلى من الورع، فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه، وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق، يستطيل على مثله من أشباهه، ويتواضع للاغنياء من دونه، فهو لحلوانهم[2] هاضم ولدينه حاطم، فاعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره. وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه، يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقاً مقبلاً على شأنه عارفاً بأهل زمانه مستوحشاً من أوثق اخوانه، فشد الله من هذا اركانه وأعطاه يوم القيامه أمانه ".

(ومنها) أن يعمل بما يفهم ويعلم، فان من عمل بما يعلم ورثه الله ما لم يعلم. وقال الصادق (ع): " العلم مقرون إلى العمل، من علم عمل ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فان أجابه وإلا ارتحل عنه ". وعن السجاد (ع): " مكتوب في الانجيل: لا تطلبوا علم مالا تعلمون ولمّا تعملوا بما علمتم، فان العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفراً ولم يزدده من الله إلا بعداً ". وعن النبي ـ (ص) ـ: " من أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا، ومن أراد به الدنيا فهى حظه ". وعنه ـ (ص) ـ: " العلماء رجلان: رجل عالم أخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وأن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وأن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه، فاطاع الله فأدخله الجنة، وأدخل الداعي النار بترك عمله[3] واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الأمل ينسى الآخرة ".

(ومنها) أن يحافظ شرائط الخضوع والادب للمعلم، ولا يرد عليه شيئاً بالمواجهة، ويكون محباً له بقلبه، ولا ينسى حقوقه، لأنه والده المعنوي الروحاني، وهو أعظم الآباء الثلاثة قال الصادق (ع): " اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولاتكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم ".

هذا وقد اشرنا سابقاً إلى ان اللازم لكل متعلم أن يطهر نفسه اولا من رذائل الأخلاق وذمائم الاوصاف باسرها، إذ مالم يجرد لوح نفسه عن النقوش الردية لم تشرق عليه لمعات أنوار العلم والحكمة من الواح العقول الفعالة القدسية.

(وأما آداب التعليم):

(فمنها) ان يخلص المعلم تعليمه لله سبحانه ولم يكن له فيه باعث دنيوى من طمع مالي أوجاه ورئاسة أو شهرة بين الناس، بل يكون الباعث مجرد التقرب إلى الله تعالى والوصول إلى المثوبات الابدية، فان من علم غيره علماً كان شريكا في ثواب تعليم هذا الغير لآخر، وفي ثواب تعليم هذا الآخر لغيره... وهكذا إلى غير النهاية، فيصل بتعليم واحد إلى مثوبات التعاليم الغير المتناهية، وكفى بهذا له فضلا وشرفاً.

(ومنها) ان يكون مشفقاً على المتعلم ناصحاً له، مقتصراً في الافادة على قدر فهمه، متكلماً معه باللين والهشاشة لا بالغلظة والفظاظة.

(ومنها) أن لا يضن العلم من أهله ويمنعه عن غير أهله، لأن بذل الحكمة للجهال ظلم عليها، ومنعها عن أهلها ظلم عليهم، كما ورد في الخبر[4].

(ومنها) أن يقول ما يعلم ويسكت عما لا يعلم حتى يرجع إليه ويعلمه، ولايخبر المتعلمين ببيان خلاف الواقع. وهذا الشرط لا يختص بالمعلمين، بل يعم كل من تصدر عنه المسائل العلمية كالمفتى والقاضي وأمثالهما. وقال الباقر (ع): " حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند مالا يعلمون "[5]

وقال الصادق (ع): " إن الله تعالى خص عباده بآيتين من كتابه! ألا يقولوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا، فقال:

" ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق "[6] وقال! " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله "[7]

وعنه (ع)! " إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم، فليقل! لا أدري، ولا يقل! الله اعلم، فيوقع في قلب صاحبه شكا. وإذا قال المسؤل! لا أدري، فلا يتهمه السائل " وعنه (ع): " إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك إياك أن تفتى الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم " وعن الباقر (ع): " من افتى الناس بغير علم ولاهدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه ".

وربما كان لكل من المتعلم والمعلم آداب أخر تظهر لمن وقف على فن الأخلاق. ثم العارف بأهل زماننا يعلم ان آداب التعلم والتعليم كسائر الآداب والفضائل فيهم مهجورة، والأمر في مثل الزمان كما قال في وصفه بعض أهل العرفان! " قد فسد الزمان وأهله، وتصدى للتدريس من قل علمه وكثر جهله فانحطت مرتبة العلم وأصحابه، واندرست مراسمه بين طلابه".

تتميم

(العلم الالهي وعلم الأخلاق والفقه أشرف العلوم)

العلم كله وإن كان كمالا للنفس وسعادة، إلا ان فنونه متفاوتة في الشرافة والجمال ووجوب التحصيل وعدمه، فان بعضها كالطب والهندسة والعروض والموسيقى وامثالها، مما ترجع جل فائدته إلى الدنيا ولا يحصل بها مزيد بهجة وسعادة في العقبى، ولذا عدت من علوم الدنيا دون الآخرة، ولا يجب تحصيلها، وربما وجب تحصيل بعضها كفاية.

وما هو علم الآخرة الواجب تحصيله، واشرف العلوم واحسنها هو العلم الالهي المعرف لاصول الدين، وعلم الأخلاق المعرف لمنجيات النفس ومهلكاتها، وعلم الفقه المعرف لكيفية العبادات والمعاملات، والعلوم التي مقدمات لهذه الثلاثة كالعربية والمنطق وغيرهما يتصف بالحسن ووجوب التحصيل من باب المقدمة، وهذه العلوم الثلاثة وإن وجب أخذها اجمالا إلا انها في كيفية الأخذ مختلفة! فعلم الأخلاق يجب أخذه عيناً على كل أحد على ما بينته الشريعة وأوضحه علماء الأخلاق، وعلم الفقه يجب أخذ بعضه عينا إما بالدليل أو التقليد من مجتهد حي، والتارك للطريقين غير معذور، ولذا ورد الحث الأكيد على التفقه في الدين، قال الصادق (ع): " عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا اعراباً، فانه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا "، وقال: " ليت السياط على رؤس اصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام "، وقال (ع): " إن آية الكذاب ان يخبرك خبر السماء والأرض والمشرق والمغرب، فإذا سألته عن حرام الله وحلاله لم يكن عنده شيء ".

وأما اصول العقائد فيجب أخذها عيناً من الشرع والعقل، وهما متلازمان لا يتخلف مقتضى أحدهما عن مقتضى الآخر، إذ العقل هو حجة الله الواجب امتثاله والحاكم العدل الذي تطابق احكامه الواقع ونفس الامر فلا يرد حكمه، ولولاه لما عرف الشرع، ولذا ورد! " انه ما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل"[8]، فهما متعاضدان ومتظاهران، وما يحكم به أحدهما يحكم به الآخر أيضاً، وكيف يكون مقتضى الشرع مخالفاً لمقتضى ما هو حجة قاطعة وأحكامه للواقع مطابقة، فالعقل هو الشرع الباطن والنور الداخل، والشرع هو العقل الظاهر والنور الخارج، وما يتراءى في بعض المواضع من التخالف بينهما إنما هو لقصور العقل أو لعدم ثبوت ماينسب إلى الشرع منه، فان كل عقل ليس تاماً، وكلما ينسب إلى الشرع ليس ثابتاً منه، فالمناط هو العقل الصحيح وما ثبت قطعاً من الشريعة، وأصح العقول وأقواها وأمتنها وأصفاها هو عقل صاحب الوحي، ولذا يدرك بنوريته ما لا سبيل لأمثال عقولنا إلى دركه، كتفاصيل أحوال نشأة الآخرة، فاللازم في مثله أن نأخذه منه إذعاناً وإن لم نعرف مأخذه العقلي.

اصول العقائد المجمع عليها

ثم ما أجمعت الامة المختارة عليه من اصول العقائد هو: أن الواجب سبحانه موجود، وانه واحد في الالوهية، وبسيط عن شوائب التركيب، ومنزه عن الجسمية وعوارضها، وان وجوده وصفاته عين ذاته، وانه متقدم على الزمان والمكان ومتعال عنهما، وانه حي قديم أزلي قادر مريد عالم بجميع الأشياء، وعلمه بها بعد ايجادها كعلمه بها قبله، ولا يزداد باحداثها علما، وان قدرته عامة بالنسبة إلى جميع الممكنات، وانه يخلق مايشاء ويفعل ما يريد ولا يكون شيء إلا بمشيئته، وانه عدل في حكمه صادق في وعده، وبالجملة مستجمع لجميع الصفات الكمالية، وليس كمثله شيء، ولا يتصور عقل ولا وهم مثله، بل هو تام فوق التمام.

وأن القرآن كلامه، ومحمد (ص) رسوله، ما اتى به من أمور النشأة الآخرة من الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب والصراط والميزان والشفاعة وغير ذلك مما ثبت في شريعته المقدسة حق ثابت، فيجب على كل مؤمن أن يأخذ بجميع ذلك ويتشبث به ويجرد باطنه له، بحيث لو أورد عليه ما ينقصه لم يقبله ولم يعرضه شك وريب.

ثم ان المكلفين مختلفون في كيفية التصديق والاذعان بالعقائد المذكورة، فبعضهم فيها على يقين مثل ضوء الشمس، بحيث لو كشف عنهم الغطاء ما ازدادوا يقيناً[9]، وبعضهم على يقين دون ذلك، واقل هؤلاء رتبة ان تصل مرتبة يقينهم إلى طمأنينة لا اضطراب فيها، وبعضهم على مجرد تصديق ظني يتزلزل من الشبهات والقاء النقيض، وإلى هذا الاختلاف أشار الإمام محمد ابن علي الباقر ـ عليهما السلام ـ بقوله "ان المؤمنين على منازل: منهم على واحدة، ومنهم على اثنتين، ومنهم على ثلاث، ومنهم على اربع، ومنهم على خمس، ومنهم على ست، ومنهم على سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو، وعلى صاحب الثنتين ثلاثاُ لم يقو... إلى آخره"[10]. والإمام أبو عبدالله الصادق (ع) بقوله: "ان للايمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهى تمامه، ومنه الناقص البين نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه"

ولا ريب في أن تحصيل ما يطمئن به القلب في العقائد الواجبة اخذها مما لابد منه لكل مكلف، ومجرد التصديق من غير اطمئنان القلب غير كاف للنجاة في الاخرى والوصول إلى مراتب المؤمنين. ومع حصول الاطمئنان تحصل النجاة والفوز بالفلاح وإن لم يكن حصوله من تفاصيل البراهين الحكمية والدلائل الكلامية، بل كان حاصلاً من دليل اجمالي برهاني أو اقناعي، إذ الشرع الشريف لم يكلف بأكثر من التصديق والجزم بظاهر العقائد المذكورة، ولم يكلف البحث والتفتيش عن كيفياتها وحقائقها وعن تكلف ترتيب الأدلة في نظمها، فلو حصل لأحد طمأنينة في اتصاف الواجب بجميع الصفات الكمالية وبراءته عن الصفات السلبية، بمجرد ان عدم الاتصاف بالأولى والاتصاف بالثانية نقص لا يليق بذاته الأقدس، كان كافياً في النجاة والدخول في زمرة المؤمنين. وكذا إذا حصل له ذلك بمجرد ان هذا مما اتفق عليه فرق الأنبياء واساطين الحكماء والعلماء، وقوة عقولهم ودقة افهامهم تأبى عن اتفاقهم على محض الخطأ. وقس على ذلك غيره مما يفيد الاطمئنان كائناً ما كان.

قال العلامة " الطوسي " ـ ره ـ في بعض تصانيفه! " اقل ما يجب اعتقاده على المكلف هو ما ترجمة قول لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، ثم إذا صدق الرسول ينبغي ان يصدقه في صفات الله واليوم الآخر وتعيين الإمام المعصوم، كل ذلك مما يشتمل عليه القرآن من غير مزيد برهان! اما في صفات الله فبأنه حي عالم قادر مريد متكلم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، واما في الآخرة فبالايمان بالجنة والنار والصراط والميزان والحساب والشفاعة وغيرها، ولا يجب عليه ان يبحث عن حيقيقة الصفات، وان الكلام والعلم وغيرهما حادث أو قديم، بل لو لم تخطر هذه بباله ومات مات مؤمنا، فان غلب على قلبه شك أو إشكال، فان امكن إزالته بكلام قريب من الافهام وإن لم يكن قوياً عند المتكلمين ولا مرضياً فذلك كاف، ولاحاجة إلى تحقيق الدليل، فان الدليل لا يتم إلا بذكر الشبهة والجواب، ومهما ذكرت الشبهة لا يؤمن أن تتشبث بالخاطر والقلب فيظنها حقة لقصوره عن ادراك جوابها، إذ الشبهة قد تكون جلية والجواب دقيقاً لا يحتمله عقله، ولذا ورد الزجر عن البحث والتفتيش في الكلام، وإنما زجر ضعفاء العوام، وأما أئمة الدين فلهم الخوض في غمرة الاشكالات. ومنع العوام عن الكلام يجري مجرى منع الصبيان عن شاطىء دجلة خوفاً من الغرق، ورخصة الأقوياء فيه أيضاً هي رخصة الماهر في صنعة السباحة، إلا أن ههنا موضع غرور ومزلة قدم، وهو ان كل ضعيف في عقله يظن انه يقدر على ادراك الحقائق كلها، وانه من جملة الاقوياء فربما يخوضون ويغرقون في بحر الجهالات من حيث لا يشعرون، فالصواب منع الخلق كلهم ـ إلا الشاذ النادر الذي لاتسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين ـ من تجاوز سلوك أهل العلم في الايمان المرسل والتصديق المجمل بكل ما انزل الله وأخبر به رسول الله (ص) فمن اشتغل بالخوض فيه فقد أوقع نفسه في شغل شاغل، إذ قال رسول الله (ص) حين رأى اصحابه يخوضون، بعد ان غضب حتى احمرت وجنتاه! افبهذا أمرتم؟ تضربون كتاب الله بعضه ببعض! انظروا فيما أمركم الله فافعلوا وما نهاكم عنه فانتهوا " فهذا على تنبيه منهج الحق.

ثم لا ريب في ان نورانية اليقين ووضوحه، بل واطمئنان القلب وسكونه. لايحصل من مجرد صنعة الجدل والكلام، كما لا يحصل من محض التلقين وتقليد العوام. بل (الاول) ـ اعني الاستضاءة بنور اليقين ـ يتوقف على ملازمة الورع والتقوى، وفطام النفس عن الهوى، وازالة كدرتها وصدأها!

" وقد أفلح من زكاها "[11].

وتطهيرها عن ذمائم الصفات والاشتغال بمشاق الرياضة والمجاهدات، حتى يقذف في قلبه نور إلهي تنكشف به الحجب والأستار عن حقائق هذه العقائد، وهو غاية مقصد الطالبين وقرة عيون الصديقين والمقربين وله درجات ومراتب، والناس فيه مختلفون بحسب اختلافهم في القوة والاستعداد والسعي والاجتهاد، كما هم مختلفون في ادراك أنواع العلوم والصنائع " وكل ميسر لما خلق له "[12].

وأما (الثاني) ـ اعني مجرد الاعتقاد الجازم الراسخ بظواهر تلك العقائد ـ فيمكن ان يحصل بما دون ذلك، بأن يشتغل ـ بعد تلقين هذه العقائد والتصديق بها ـ بوظائف الطاعات، ويصرف برهة من وقته في شرائف العبادات، ويواظب على تفسير القرآن وتلاوته، ودرس الحديث ودرايته، ويحترز عن مخالطة أولى المذاهب الفاسدة وذوي الآراء الباطلة، بل يجتنب كل الاجتناب عن مرافقة أرباب الهوى واصحاب الشر والشقاء، ويختار مصاحبة أهل الورع واليقين، ومجالسة الأتقياء والصالحين، ويلاحظ سيماهم وسيرتهم وهيئاتهم في الخضوع لله والاستكانة، فيكون التلقين كالقاء البذر في الصدر، وهذه الامور كالسقي والتربية له، فينمو ذلك البذر بها ويتقوى ويزداد رسوخاً، حتى يرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء. ثم من وصل إلى مقام العقيدة الجازمة إن اشتغل بالشواغل الدنيوية ولم يشتغل بالرياضة والمجاهدة لم ينكشف له غيره، ولكنه إذا مات مات مؤمناً على الحق وسلم في الآخرة، وإن اشتغل بتصقيل النفس وارتياضها انشرح صدره وانفتح له باب الافاضة، ووصل إلى المرتبة الأولى.

 


[1]  (الجهل) هنا بمعنى الجفاء والغلظة.

[2]  قال الشيخ (ملا صالح المازندراني) في تعليقته على اصول الكافي عن هذا الحديث: " الحلوان ـ بضم الحاء المهملة وسكون اللام ـ ما تأخذه الحكام والقضاة والكاهن من الاجر والرشوة على اعمالهم، يقال: حلوته أحلوه حلواناً، فهو مصدر كالغفران، ونونه زائدة، وأصله من الحلاوة، وفي بعض النسخ (بحلوائهم) ـ بالهمزة بعد الالف ـ والحوا ـ بالمد والقصر ـ ما يتخذ من الحلاوة ".

[3]  صححناه على بعض نسخ اصول الكافي المصححة وفي نسخ جامع السعادات هكذا: (بتركه عمله).

[4]  روى في اصول الكافي في باب بذل العلم عن الصادق عليه السلام: " قام عيسى بن مريم خطيبا في بني اسرائيل فقال: يا بني اسرائيل! لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها ولا تمنعوها اهلها فتظلموهم ".

[5]  الحديث المروى في اصول الكافي هكذا: " عن زرارة بن اعين قال سألت أبا جعفر ـ (ع) ماحق الله على العباد؟ قال: ان يقولوا مايعلمون..." إلى آخر الحديث.

[6]  الاعراف، الآية: 169.

[7]  يونس، الآية: 39.

[8]  هذا الحديث رواه في اصول الكافي عن النبي ـ (ص) في كتاب العقل والجهل فصححناه عليه، وفي نسخ جامع السعادات اختلاف عما هنا.

[9]  كما قال أمير المؤمنين ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً".

[10]  الحديث مروي في اصول الكافي في باب درجات الايمان وبقيته: "وعلى صاحب الثلاث اربعاً لم يقو، وعلى صاحب الاربع خمساً لم يقو، وعلى صاحب الخمس ستاً لم يقو، وعلى صاحب الست سبعاً لم يقو... وعلى هذه الدرجات".

[11]  الشمس، الآية:9.

[12]  حديث نبوي شريف مشهور تقدم ذكره صفحة "26".

 

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست