.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الخوف المحمود وأقسامه ودرجاته

بم يتحقق الخوف

الخوف من الله الفضائل

الخوف إذا جاوز حده كان مذموماً 

 

فصل

(الخوف المحمود واقسامه ودرجاته)

وللنوع الثاني من الخوف اقسام: (الاول) ان يكون من الله سبحانه ومن عظمته وكبريائه، وهذا هو المسمى بالخشية والرهبة في عرف ارباب القلوب. (الثاني) من جناية العبد باقترافه المعاصي. (الثالث) ان يكون منهما جميعاً. وكلما ازدادت المعرفة بجلال الله وعظمته وتعاليه وبعيوب نفسه وجناياته، ازداد الخوف، إذ ادرك القدرة القاهرة والعظمة الباهرة والقوة القوية والعزة الشديدة، يوجب الاضطراب والدهشة، ولا ريب في أن عظمة الله وقدرته وسائر صفاته الجلالية والجمالية غير متناهية شدة وقوة ويظهر منها على كل نفس ما يطيقه ويستعد له. وانى لأحد من اولى المدارك ان يحيط بصفاته على ما هي عليه، فان المدارك عن إدراك غير المتناهي قاصرة. نعم، لبعض المدارك العالية ان يدركه على الاجمال. مع ان ما يظهر للعقلاء من صفاته ليس هو من حقيقة صفاته، بل هو غاية ما تتأدى إليه عقولهم ويتصور كمالا، ولو ظهر قدر ذرة من حقيقة بعض صفاته لأقوى العقول واعلى المدارك، لاحترق من سبحات وجهه، وتفرقت اجزاؤه من نور ربه. ولو انكشف من بعضها الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب فغاية ماللمدارك العالية من العقول والنفوس القادسة، ان يتصور عدم تناهيها في الشدة والقوة، وكونها في الكمال والبهاء غاية ما يمكن ويتصور ويحتمله ظرف الواقع ونفس الامر، كما هو الشأن في ذاته سبحانه. وادراك هذه الغاية أيضاً يختلف باختلاف علو المدارك، فمن كان في الدرك اقوى واقدم كان بربه اعرف، ومن كان به اعرف كان منه اخوف، ولذا قال تعالى:

(إنما يخشى الله من عباده العلماء)[1]

وقال سيد الرسل: " انا اخوفكم من الله ". وقد قرع سمعك حكايات خوف زمرة المرسلين ومن بعدهم من فرق الاولياء والعارفين، وعروض الغشيات المتواترة في كل ليلة لمولانا أمير المؤمنين (ع).

وهذا مقتضى كمال المعرفة الموجب لشدة الخوف، إذ كمال المعرفة يوجب احتراق القلب، فيفيض أثر الحرقة من القلب إلى البدن بالنحول والصفار والغشية والبكاء، وإلى الجوارح بكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات تلافياً لما فرط في جنب الله، ومن لم يجتهد في ترك المعاصي وكسب الطاعات فليس على شىء من الخوف، ولذا قيل: ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف ان يعاقب عليه. وقال بعض الحكماء: " من خاف شيئاً هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه ". وقال بعض العرفاء: " لا يكون العبد خائفاً حتى ينزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام ". وإلى الصفات بقمع الشهوات وتكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل مكروهاً عند من يشتهيه إذا عرف كونه مسموماً، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويحصل في القلب الذبول والذلة والخشوع والاستكانة، وتفارقه ذمائم الصفات، ويصير مستوعب الهم بخوفه والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المجاهدة والمحاسبة والمراقبة والضنة بالانفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس في الخطرات والكلمات، ويشتغل ظاهره وباطنه بما هو خائف منه لامتسع فيه لغيره، كما أن من وقع في مخالب ضاري السبع يكون مشغول الهم به ولاشغل له بغيره. وهذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه كما جرى عليه جماعة من الصحابة والتابعين ومن يحذوهم من السلف الصالحين

فقوة المجاهدة والمحاسبة بحسب شدة الخوف الذي هو حرقة القلب وتألمه، وهو بحسب قوة المعرفة بجلال الله وعظمته وسائر صفاته وافعاله، وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال.

واقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الاعمال ان يكف عن المحظورات ويسمى الكف منها (ورعاً)، فان زادت قوته كف عن الشبهات، ويسمى ذلك (تقوى) إذ التقوى ان يترك ما يريبه إلى مالا يريبه، وقد يحمله على ترك مالا بأس به مخافة مابه بأس، وهو الصدق في التقوى، فإذا انضم إليه التجرد للخدمة، وصار ممن لا يبني مالا يسكنه، ولا يجمع مالا يأكله، ولا يلتفت إلى دنيا يعلم انه يفارقها، ولا يصرف إلى غير الله نفساً من انفاسه، فهو (الصدق)، ويسمى صاحبه (صديقاً)، فيدخل في الصدق التقوى، وفي التقوى الورع، وفي الورع العفة، لانها عبارة عن الامتناع من مقتضى الشهوات.

فاذن يؤثر الخوف في الجوارح بالكف والاقدام.

فصل

(بم يتحقق الخوف)

إعلم ان الخوف لا يتحقق إلا بانتظار مكروه، والمكروه إما ان يكون مكروهاً في ذاته كالنار، أو مكروهاً لافضائه إلى المكروه في ذاته كالمعاصي المفضية إلى المكروه لذاته في الآخرة، ولابد لكل خائف ان يتمثل في نفسه مكروه من احد القسمين، ويقوى انتظاره في قلبه حتى يتألم قلبه بسبب استشعار ذلك المكروه، ويختلف مقام الخائفين فيما يغلب على قلوبهم من المكروهات المحظورة:

فالذين يغلب على قلوبهم خوف المكروه لذاته، فاما ان يكون خوفهم من سكرات الموت وشدته وسؤال النكيرين وغلظته، أو عذاب القبر ووحدته وهول المطلع ووحشته، أو من الموقف بين يدي الله وهيبته والحياء من كشف سريرته، أو من الحساب ودقته والصراط وحدته، أو من النار واهوالها والجحيم واغلالها، أو الحرمان من دار النعيم وعدم وصوله إلى الملك المقيم، أو من نقصان درجاته في العليين وعدم مجاورته المقربين، أو من الله سبحانه بأن يخاف جلاله وعظمته والبعد والحجاب منه ويرجو القرب منه، وهذا أعلاها رتبة، وهو خوف أرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف، والعالمين بلذة الوصال وألم البعد والفراق، والمطلعين على سر قوله:

" ويحذركم الله نفسه "[2]، وقوله: " اتقوا الله حق تقاته "[3]

وقيل: ذلك خوف العابدين والزاهدين وكافة العاملين.

وأما الذين غلب على قلوبهم خوف المكروه لغيره، فاما يكون خوفهم من الموت قبل التوبة، أو نقضها قبل انقضاء المدة، أو من ضعف القوة عن الوفاء بتمام حقوق الله، أو تخليته مع حسناته التي اتكل عليها وتعزز بها في عباد الله، أو من الميل عن الاستقامة، أو إلى اتباع الشهوات المألوفة استيلاء للعادة، أو تبديل رقة القلب إلى القساوة، أو تبعات الناس عنده من الغش والعداوة، أو من الاشتغال عن الله بغيره، أو حدوث ما يحدث في بقية عمره، أو من البطر والاستدراج بتواتر النعم، أو انكشاف غوائل طاعته حتى يبدو له من الله مالم يعلم، أو من الاغترار بالدنيا وزخارفها الفانية، أو تعجيل العقوبة بالدنيا وافتضاحه بالعلانية، أو من اطلاع الله على سريرته وهو عنه غافل، وتوجهه إلى غيره وهو إليه ناظر، أو من الختم له عند الموت بسوء الخاتمة، أومما سبق له في الازل من السابقة. وهذه كلها مخاوف العارفين.

ولكل واحد منها خصوص فائدة، هو الحذر عما يفضي إلى الخوف، فالخائف من تبعات الناس يجتهد في براءة ذمته عنها، ومن استيلاء العادة يواظب على فطام نفسه عنها. ومن اطلاع الله على سريرته يشتغل بتطهير قلبه عن الوساوس. وهكذا في بقية الاقسام.

وأغلب هذه المخاوف على المتقين خوف سوء الخاتمة، وهو الذي قطع قلوب العارفين، إذ الامر فيه مخطر ـ كما يأتي ـ وأعلى الاقسام وأدلها على كمال المعرفة خوف السابقة، لان الخاتمة فرع السابقة، ويترتب عليها بعد تخلل أسباب كثيرة، ولذا قال العارف الانصاري: " الناس يخافون من اليوم الآخر وأنا أخاف من اليوم الاول ". فالخاتمة تظهر ما سبق به القضاء في أم الكتاب، وإليه أشار النبي (ص) في المنبر، حيث رفع يده اليمنى قابضاً على كفه، ثم قال: " أتدرون أيها الناس ما في كفي؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " أسماء أهل الجنة واسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة ". ثم رفع يده اليسرى وقال: " أيها الناس! أتدرون ما في كفي؟ " قالوا: الله ورسوله اعلم، فقال: أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة ". ثم قال: "حكم الله وعدل، حكم الله:

" فريق في الجنة وفريق في السعير "[4]

وقال (ص): " يسلك بالسعيد في طريق الاشقياء حتى يقول الناس: ما اشبهه بهم بل هو منهم، ثم تتداركه السعادة. وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس: ما اشبهه بهم، بل هو منهم، ثم يتداركه الشقاء. إن من كتبه الله سعيداً وإن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة "[5].

فصل

(الخوف من الله أفضل الفضائل)

الخوف منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين، وهو أفضل الفضائل النفسانية، إذ فضيلة الشىء بقدر إعانته على السعادة، ولا سعادة كسعادة لقاء الله والقرب منه، ولا وصول إليها إلا بتحصيل محبته والانس به، ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر، ولا يحصل الانس إلا بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الفكر والذكر إلا بانقلاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقلع ذلك إلا بقمع لذاتها وشهواتها، وأقوى ما تنقمع به الشهوة هو نار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، فاذن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات ويكف من المعاصى ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف ـ كما مر ـ.

وقيل: من أنس بالله، وملك الحق قلبه، وبلغ مقام الرضا، وصار مشاهداً لجمال الحق: لم يبق له الخوف، بل يتبدل خوفه بالامن، كما يدل عليه قوله سبحانه:

" أولئك لهم الأمن وهم مهتدون "[6]

إذ لا يبقى له التفات إلى المستقبل، ولا كراهية من مكروه، ولا رغبة إلى محبوب، فلا يبقى له خوف ولا رجاء، بل صار حاله أعلى منهما. نعم، لا يخلو عن الخشية ـ أي الرهبة من الله ومن عظمته وهيبته ـ وإذا صار متجلياً بنظر الوحدة لم يبق فيه أثر من الخشية أيضاً، لأنه من لوازم التكثر، وقد زال. ولذا قيل: " الخوف حجاب بين الله وبين العبد ". وقيل أيضاًً: " إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها محل لخوف ولا رجاء ". وقيل أيضاً: " المحب إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصاً في دوام الشهود الذي هو غاية المقامات".

وأنت خبير بأن هذه الاقوال مما لا التفات لنا إليها، فلنرجع إلى ما كنا بصدده من بيان فضيلة الخوف، فنقول: الآيات والأخبار الدالة عليه اكثر من أن تحصى، وقد جمع الله للخائفين العلم والهدى والرحمة والرضوان، وهي مجامع مقامات أهل الجنان، فقال:

" إنّما يخشى الله من عباده العلماء[7]. وقال: " هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون "[8]. وقال: " رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربَّه "[9].

وكثير من الآيات مصرحة بكون الخوف من لوازم الايمان، وكقوله تعالى:

" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم "[10] وقوله: " وخافون إن كنتم مؤمنين "[11]

ومدح الخائفين بالتذكر في قوله:

" سيذّكر من يخشى "[12]

ووعدهم الجنة وجنتين، بقوله:

" وأما من خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى "[13]. وقوله: " ولمن خاف مقام ربّه جنتان "[14].

وفي الخبر القدسي: " وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له امنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ". وقال رسول الله (ص): " رأس الحكمة مخافة الله "، وقال (ص): " من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء "[15]، وقال لابن مسعود:" إن أردت أن تلقاني فاكثر من الخوف بعدي "، وقال (ص): " أتمكم عقلا أشدكم خوفا لله ".

وعن ليث بن أبي سليم قال: " سمعت رجلا من الانصار يقول: بينما رسول الله مستظل بظل شجرة يوم شديد الحر، إذ جاء رجل فنزع ثيابه، ثم جعل يتمرغ في الرمضاء، يكوي ظهره مرة، وبطنه مرة، وجبهته مرة، ويقول: يا نفس ذوقي، فما عند الله أعظم مما صنعت بك. ورسول الله ينظر إليه ما يصنع. ثم ان الرجل لبس ثيابه، ثم اقبل، فأومى إليه النبي (ص) بيده ودعاه، فقال له: ياعبد الله! رأيتك صنعت شيئاً مارأيت أحداً من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت؟ فقال الرجل: حملنى على ذلك مخافة الله، فقلت لنفسي: يانفس ذوقي فما عند الله اعظم مما صنعت بك. فقال النبي (ص): لقد خفت ربك حق مخافته، وإن ربك ليباهي بك أهل السماء، ثم قال لاصحابه: يامعشر من حضر! ادنوا من صاحبكم حتى يدعو لكم. فدنوا منه، فدعا لهم، وقال اللهم اجمع امرنا على الهدى واجعل التقوى زادنا، والجنة مآبنا ".

وقال (ص): " ما من مؤمن يخرج من عينيه دمعة، وان كانت مثل رأس الذباب، من خشية الله، ثم يصيب شيئاً من حر وجهه، إلا حرمه لله على النار "، وقال: " إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجر ورقها "، وقال: " لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ". وقال سيد الساجدين (ع) في بعض ادعيته: " سبحانك! عجباً لمن عرفك كيف لا يخافك ". وقال الباقر (ع): "صلى أمير المؤمنين عليه السلام بالناس الصبح بالعراق، فلما انصرف وعظهم، فبكى وابكاهم من خوف الله، ثم قال: أما والله لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول الله (ص): وانهم ليصبحون ويمسون شعثاً غبرا خمصاً بين اعينهم كركب البعير يبيتون لربهم سجداً وقياماً، ويراوحون بين اقدامهم وجباههم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم من النار والله لقد رأيتهم مع هذا وهم خائفون مشفقون " وفي رواية أخرى: " وكأن زفير النار في آذانهم، إذا ذكر الله عندهم مادوا كما تميد الشجر، كأنما القوم باتوا غافلين "، ثم قال (ع): " فما رئي عليه السلام بعد ذلك ضاحكاً حتى قبض ". وقال الصادق عليه السلام: " من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا "، وقال (ع): " ان من العبادة شدة الخوف من الله تعالى يقول: " انما يخشى الله من عباده العلماء ". وقال:

" فلا تخشوا الناس واخشون "[16]. وقال: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً "[17]

وقال: " إن حب الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب" وقال (ع): " المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى ما يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف " وقال (ع): " خف الله كأنك تراه، وان كنت لا تراه فانه يراك، وان كنت ترى أنه لا يراك، فقد كفرت، وان كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين اليك "، وقال (ع) " لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو"، وقال (ع): " مما حفظ من خطب النبي (ص) أنه قال: أيها الناس! ان لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وان لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا ان المؤمن يعمل بين مخافتين بين أجل قد مضى لايدري ما الله صانع فيه وبين اجل قد بقى لايدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلاّ الجنة أو النار".

ثم الأخبار الواردة في فضل العلم والتقوى والورع والبكاء والرجاء تدل على فضل الخوف، لان جملة ذلك متعلقة به تعلق السبب أو تعلق المسبب، إذ العلم سبب الخوف، والتقوى والورع يحصلان منه ويترتبان عليه ـ كما ظهر مما سبق ـ والبكاء ثمرته ولازمه والرجاء يلازمه ويصاحب إذ كل من رجا محبوباً فلا بد ان يخاف فوته، إذ لو لم يخف فوته لم يحبه فلا ينفك أحدهما عن الآخر، وان جاز غلبة احدهما على الآخر، إذ من شرطهما تعلقهما بالمشكوك، لان المعلوم لا يرجى ولا يخاف، فالمحبوب المشكوك فيه تقدير وجوده يروح القلب وهو الرجاء، وتقدير عدمه يؤلمه وهو الخوف، والتقديران يتقابلان. نعم، أحد طرفي الشك قد يترجح بحضور بعض الأسباب، ويسمى ذلك ظناً، ومقابله وهماً، فإذا ظن وجود المحبوب قوي الرجاء وضعف الخوف بالإضافة إليه، وكذا بالعكس، وعلى كل حال فهما متلازمان، ولذلك قال الله سبحانه.

" ويدعوننا رغباً ورهباً "[18]. وقال: " يدعون ربهم خوفاً وطمعاً "[19].

وقد ظهر ان ما يدل على فضل الخمسة يدل على فضيلته، وكذا ما ورد في ذم الامن من مكر الله يدل على فضيلته، لانه ضده، وذم الشيء مدح لضده الذي ينفيه. ومما يدل على فضيلته ما ثبت بالتواتر من كثرة خوف الملائكة والأنبياء وأئمة الهدى (ع) كخوف جبرائيل وميكائيل، واسرافيل، وحملة العرش، وغيرهم من الملائكة المهيمين والمسلّمين. وكخوف نبينا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وداود، ويحيى... وغيرهم. وخوف أمير المؤمنين وسيد الساجدين وسائر الأئمة الطاهرين ـ عليهم السلام ـ وحكاية خوف كل منهم في كتب المحدثين مذكورة وفي زبرهم مسطورة، فليرجع إليها من أراد، ومن الله العصمة والسداد.

فصل

(الخوف إذا جاوز حده كان مذموماً)

اعلم ان الخوف ممدوح إلى حد، فان جاوزه كان مذموماً. وبيان ذلك: ان الخوف سوط الله الذي يسوق به العباد إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب إليه تعالى ولذة المحبة والأنس به، وكما ان السوط الذي تساق به البهيمة ويأدب به الصبي، له حد في الاعتدال. لو قصر عنه لم يكن نافعاً في السوق والتأديب، ولو تجاوز عنه في المقدار أو الكيفية أو المبالغة في الضرب كان مذموماً لأدائه إلى اهلاك الدابة والصبي، فكذلك الخوف الذي هو سوط الله لسوق عباده له حد في الاعتدال والوسط، وهو ما يوصل إلى المطلوب، فان كان قاصراً عنه كان قليل الجدوى، وكان كقضيب ضعيف يضرب به دابة قوية، فلا يسوقها إلى المقصد. ومثل هذا الخوف يجري مجرى رقة النساء عند سماع شيء محزن يورث فيهن البكاء، وبمجرد انقطاعه يرجعن إلى حالهن الأولى، أو مجرى خوف بعض الناس عند مشاهدة سبب هائل، وإذا غاب ذلك السبب عن الحس رجع القلب إلى الغفلة. فهذا خوف قاصر قليل الجدوى. فالخوف الذي لا يؤثر في الجوارح بكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق ان يسمى خوفاً. ولو كان مفرطاً ربما جاوز إلى القنوط وهو ضلال:

" ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون "[20]

او إلى اليأس وهو كفر:

" لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون "[21]

ولاريب في ان الخوف المجاوز إلى اليأس والقنوط يمنع من العمل، لرفعهما نشاط الخاطر الباعث على الفعل، وايجابهما كسالة الاعضاء المانعة من العمل. ومثل هذا الخوف محض الفساد والنقصان وعين القصور والخسران ولا رجحان له في نظر العقل والشرع مطلقاً، إذ كل خوف بالحقيقة نقص لكونه منشأ العجز، لأنه متعرض لمحذور لا يمكنه دفعه، وباعث الجهل لعدم اطلاعه على عاقبة أمره،، إذ لو علم ذلك لم يكن خائفاً، لما مر من ان الخوف هو ما كان مشكوكا فيه، فبعض أفراد الخوف إنما يصير كمالا بالإضافة إلى نقص اعظم منه، وباعتبار رفعه المعاصي وافضائه إلى ما يترتب عليه من الورع والتقوى والمجاهدة والذكر والعبادة وسائر الأسباب الموصلة إلى قرب الله وأنسه، ولو لم يؤد إليها كان في نفسه نقصاً لا كمالا،، إذ الكمال في نفسه هو ما يجوز ان يوصف الله تعالى به، كالعلم والقدرة وامثالهما، وما لا يجوز وصفه به ليس كمالا في ذاته، وربما صار محموداً بالإضافة إلى غيره وبالنظر إلى بعض فوائده، فما لا يفضى إلى فوائده المقصودة منه لإفراطه فهو مذموم، وربما أوجب الموت أو المرض أو فساد العقل، وهو كالضرب الذي يقتل الصبي أو يهلك الدابة أو يمرضها أو يكسر عضواً من أعضائها. وانما مدح صاحب الشرع الرجاء وكلف الناس به ليعالج به صدمة الخوف المفرط المفضي إلى اليأس أو إلى أحد الأمور المذكورة. فالخوف المحمود ما يفضي إلى العمل مع بقاء الحياة وصحة البدن وسلامة العقل، فان تجاوز إلى إزالة شي منها فهو مرض يجب علاجه، وكان بعض مشائخ العرفان يقول للمرتاضين من مريديه الملازمين للجوع أياماً كثيرة: احفظوا عقولكم، فان لم يكن لله تعالى ولي ناقص العقل، وما قيل: " إن من مات من خوف الله تعالى مات شهيداً"، ومعناه ان موته بالخوف افضل من موته في هذا الوقت بدونه، فهو بالنسبة إليه فضيلة، لا بالنظر إلى تقدير بقائه وطول عمره في طاعة الله وتحصيل المعارف إذ للمترقي في درجات المعارف والطاعات له في كل لحظة ثواب شهيد أو شهداء فأفضل السعادات طول العمر في تحصيل العلم والعمل، فكل ما يبطل العمر أو العقل والصحة فهو خسران ونقصان.


[1] الفاطر، الآية: 28.

[2]  آل عمران، الآية: 28.

[3]  آل عمران، الآية: 152.

[4]  الشورى، الآية: 7.

[5]  هذا الحديث مروي في اصول الكافي في (باب السعادة والشقاوة) عن ابي عبدالله الصادق (ع).

[6]  الانعام الآية: 82.

[7]  الفاطر، الآية: 28.

[8]  الاعراف، الآية: 154.

[9]  البينة، الآية: 8.

[10]  الانفال، الآية: 2.

[11]  آل عمران، الآية: 175.

[12]  الاعلى، الآية: 10.

[13]  النازعات، الآية: 40 ـ 41.

[14]  الرحمن، الآية: 46.

[15]  روى الحديث في أصول الكافي في باب الخوف والرجاء عن الصادق (ع)

[16]  المائدة، الآية: 44.

[17]  الطلاق، الآية: 2.

[18]  الانبياء، الآية: 90.

[19]  السجدة، الآية: 16.

[20]  الحجر، الآية: 56.

[21]  يوسف، الآية: 87.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست