.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

فيما يتعلق بالقوة الغضبية

التهور

الجبن

الشجاعة

الخوف

الخوف المذموم وأقسامه

 

 

المقام الثاني

(فيما يتعلق بالقوة الغضبية من الرذائل والفضائل وكيفية العلاج)

التهور والجبن والشجاعة ـ والخوف ـ الخوف المذموم واقسامه ـ الخوف المحمود واقسامه ودرجاته ـ بم يتحقق الخوف ـ الخوف من الله أفضل الفضائل ـ الخوف إذا جاوز حده كان مذموماً ـ طريق تحصيل الخوف الممدوح ـ خوف سوء الخاتمة وأسبابه ـ الفرق بين الاطمئنان والأمن من مكر الله ـ التلازم بين الخوف والرجاء ـ مواقع الخوف والرجاء وترجيح احدهما على الآخر ـ العمل على الرجاء اعلى منه على الخوف ـ مداواة الناس بالخوف والرجاء على اختلاف امراضهم ـ صغر النفس وكبرها وصلابتها ـ الثبات ـ دناءة الهمة وعلوها ـ الغيرة والحمية وعدمهما ـ الغيرة على الدين والحريم والأولاد ـ العجلة ـ الاناة والتوقف والوقار والسكينة ـ سوء الظن ـ حسن الظن ـ الغضب ـ الافراط والتفريط والاعتدال في قوته ـ ذم الغضب ـ امكان ازالة الغضب وطرق علاجه ـ فضيلة الحلم وكظم الغيظ ـ الانتقام والعفو ـ العنف والرفق ـ فضيلة الرفق ـ المداراة ـ سوء الخلق بالمعنى الاخص ـ طرق اكتساب حسن الخلق ـ الحقد ـ العدواة الظاهرة ـ الضرب والفحش واللعن والطعن ـ العجب ـ ذمه ـ آفاته ـ علاجه اجمالا وتفصيلا ـ انكسار النفس ـ الكبر ـ ذمه ـ التكبر على الله والناس ـ درجات الكبر ـ علاجه علما وعملا ـ التواضع ـ الذلة ـ الافتخار ـ البغي ـ تزكية النفس ـ العصبية ـ كتمان الحق ـ الانصاف والاستقامة على الحق ـ القساوة.

فنقول: أما جنسا رذائلها[1] " فأحدهما ":

 التهور

كما علم، وهو من طرف الافراط: أي الاقدام على ما لا ينبغي والخوض في ما يمنعه العقل والشرع من المهالك والمخاوف. ولا ريب في انه من المهلكات في الدنيا والآخرة. ويدل على ذمه كل ما ورد في وجوب محافظة النفس وفي المنع عن القائها في المهالك، كقوله تعالى:

" ولا تلقوا يأيديكم إلى التهلكة "[2]

وغير ذلك من الآيات والأخبار. والحق ان من لا يحافظ نفسه عما يحكم العقل بلزوم المحافظة عنه فهو غير خال من شائبة من الجنون، وكيف يستحق اسم العقل من القى نفسه من الجبال الشاهقة ولم يبال بالسيوف الشاهرة، أو وقع[3] في الشطوط الغامرة الجارية ولم يحذر من السباع الضارية. كيف ومن القى نفسه فيما يظن به العطب، فهلك، كان قاتل نفسه بحكم الشريعة، وهو يوجب الهلاكة الابدية والشقاوة السرمدية.

وعلاجه ـ بعد تذكر مفاسده في الدنيا والآخرة ـ ان يقدم التروي في كل فعل يريد الخوض فيه، فان جوزه العقل والشرع ولم يحكما بالحذر عنه ارتكبه، ولا تركه ولم يقدم عليه. وربما احتاج في معالجته ان يلزم نفسه الحذر والاجتناب عن بعض ما يحكم العقل بعدم الحذر عنه، حتى يقع في طرف التفريط، وإذا علم من نفسه زوال التهور تركه وأخذ بالوسط الذي هو الشجاعة.

" وثانيهما ":

الجبن

وهو سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام أو غيره، مع كونها اولى. والغضب افراط في تلك الحركة، فله ضدية للغضب باعتبار، وللتهور باعتبار أخر. وعلى الاعتبارين هو في طرف التفريط من المهلكات العظيمة، ويلزمه من الاعراض الذميمة، مهانة النفس، والذلة، وسوء العيش، وطمع الناس فيما يملكه، وقلة ثباته في الامور، والكسل، وحب الراحة، وهو يوجب الحرمان عن السعادات بأسرها وتمكين الظالمين من الظلم عليه، وتحمله للفضائح في نفسه وأهله، واستماع القبائح من الشتم والقذف، وعدم مبالاته بما يوجب الفضيحة والعار، وتعطيل مقاصده مهماته، ولذلك ورد في ذمه من الشريعة ماورد قال رسول الله (ص): " لا ينبغي للمؤمن ان يكون بخيلا ولا جباناً "، وقال (ص): " اللهم اني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، واعوذ بك ان ارد إلى أرذل العمر".

وعلاجه ـ بعد تنبيه نفسه على نقصانها وهلاكها ـ ان يحرك الدواعي الغضبية فيما يحصل به الجبن، فان القوة الغصبية موجودة في كل أحد، ولكنها تضعف وتنقص في بعض الناس فيحدث فيهم الجبن، وإذا حركت وهيجت على التواتر تقوى وتزيد، كما أن النار الضعيفة تتوقد وتلتهب بالتحريك المتواتر، وقد نقل عن الحكماء انهم يلقون انفسهم في المخاطرات الشديدة والمخاوف العظيمة دفعاً لهذه الرذيلة. ومما ينفع من المعالجات ان يكلف نفسه على المخاصمة مع من يأمن غوائله، تحريكا لقوة الغضب، وإذا وجد من نفسه حصول ملكة الشجاعة فليحافظ نفسه لئلا يتجاوز ويقع في طرف الافراط.

فصل

(الشجاعة)

قد عرفت ان ضد هذين الجنسين هو (الشجاعة)، فتذكر مدحها وشرافتها، وكلف نفسك المواظبة على آثارها ولوازمها، حتى يصير ما تكلفته طبعاً وملكة، فترتفع عنك آثار الضدين بالكلية. وقد عرفت أن الشجاعة طاعة قوة الغضب للعاقلة في الاقدام على الامور الهائلة وعدم اضطرابها بالخوض في ما يقتضي رأيها. ولا ريب في أنها اشرف الملكات النفسية وافضل الصفات الكمالية، والفاقد لها برىء عن الفحلية والرجولية، وهو بالحقيقة من النسوان دون الرجال، وقد وصف الله خيار الصحابة بها في قول

" أشداء على الكفار "[4]

وامر الله نبيه بها بقوله:

" وأغلظ عليهم "[5]

اذ الشدة والغلظة من لوازمها وآثارها، والأخبار مصرحة باتصاف المؤمن بها. قال أمير المؤمنين (ع) في وصف المؤمن: " نفسه أصلب من الصلد ". وقال الصادق (ع): " المؤمن أصلب من الجبل إذ الجبل يستفل[6] منه والمؤمن لا يستفل من دينه ".

وأما الانواع ولوازمها المتعلقة بالقوة الغضبية فمنها:

الخوف

وهو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال مشكوك الوقوع، فلو علم أو ظن حصوله سمى توقعه انتظار مكروه، وكان تألمه اشد من الخوف، وكلامنا في كليهما. وفرقه عن الجبن على ما قررناه من حدهما ظاهر، فان الجبن هو سكون النفس عما يستحسن شرعاً وعقلا من الحركة إلى الانتقام أو شىء آخر، وهذا السكون قد يتحقق من غير حدوث التألم الذي هو الخوف، مثلا من لايجترىء على الدخول في السفينة أو النوم في البيت وحده أو التعرض لدفع من يظلمه ويتعرض له يمكن اتصافه بالسكون المذكور مع عدم تألم بالفعل، فمثله جبان وليس بخائف. ومن كان له ملكة الحركة إلى الانتقام وغيره من الافعال التي يجوزها الشرع والعقل ربما حصل له التألم المذكور من توقع حدوث بعض المكاره، كما إذا أمر السلطان بقتله، فمثله خائف وليس بجبان.

ثم الخوف على نوعين: (احدهما) مذموم بجميع أقسامه، وهو الذي لم يكن من الله ولا من صفاته المقتضية للهيبة والرعب، ولا من معاصي العبد وجناياته، بل يكون لغير ذلك من الامور التي يأتي تفصيلها. وهذا النوع من رذائل قوة الغضب من طرف التفريط، ومن نتائج الجبن. و(ثانيهما) محمود وهو الذي يكون من الله ومن عظمته ومن خطأ العبد وجنايته، وهو من فضائل القوة الغضبية، إذ العاقلة تأمر به وتحسنه، فهو حاصل من انقيادها لها. ولنفصل القول في اقسام النوعين، وبيان العلاج في ازالة اقسام الاول وتحصيل الثاني:

فصل

(الخوف المذموم واقسامه)

للنوع الاول أقسام يقبحها العقل باسرها ولا يجوزها، فلا ينبغي للعاقل ان يتطرقها إلى نفسه. بيان ذلك: ان باعث هذا الخوف يتصور على أقسام

(الاول) ان يكون امراً ضرورياً لازم الوقوع، ولم يكن دفعه في مقدرة البشر. ولا ريب في ان الخوف من مثله خطأ محض، ولا يترتب عليه فائدة سوى تعجيل عقوبة بصده عن تدبير مصالحه الدنيوية والدينية. والعاقل لا يتطرق على نفسه مثل ذلك، بل يسلي نفسه ويرضيها بما هو كائن ادراكاً لراحة العاجل وسعادة الآجل.

(الثاني) ان يكون أمراً ممكناً لم يجزم بشيء من طرفيه، ولم يكن لهذا الشخص مدخلية في وقوعه ولا وقوعه. ولا ريب في ان الجزم بوقوع مثله والتألم لاجله خلاف مقتضى العقل، بل اللازم ابقاؤه على امكانه من دون جزم بحصوله، فـ:

" لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً "[7]

وهذا القسم مع مشاركته للاول في استلزامه تعجيل العقوبة بلا سبب، لعدم مدخليته لاختياره فيه، يمتاز عنه بعدم الجزم بوقوعه، فهو بعدم الخوف أولى منه.

(الثالث) ان يكون امراً ممكناً فاعله هذا الشخص، وهو ناشىء عن سوء اختياره، فعلاجه ألا يرتكبه ولايقدم على فعل يخاف من سوء عاقبته، فانه اما فعل غير قبيح من شأنه التأدي إلى ما يضره، ولا ريب في ان ارتكاب مثله خلاف حكم العقل، ولو ظهر التأدي بعد ايقاعه فيكون من الثاني، أو فعل قبيح لو ظهر أوجب الفضيحة والمؤاخذة، وانما فعله ظناً منه أنه لايظهر، ثم يخاف من الظهور والمؤاخذة، ولا ريب في ان هذا الظن ناشىء عن الجهل، إذ كل فعل يصدر عن كل فاعل ولو خفية يمكن أن يظهر، وإذا ظهر يمكن ايجابه للفضيحة والمؤاخذة. والعاقل العالم بطبيعة الممكن لا يرتكب مثله، فباعث الخوف في الثاني هو الحكم على الممكن بالوجوب، وفي هذا الحكم عليه بالامتناع، ولو حكم عليه بما يقتضي ذاته أمن من الخوفين.

(الرابع) أن يكون مما تتوحش منه الطباع، بلا داع عقلي ولا باعث نفس امري، كالميت والجن وامثالهما، (لا) سيما في الليل مع وحدته، ولا ريب في ان هذا ناشىء عن قصور العقل ومقهوريته عن الواهمة، فليحرك القوة الغضبية ويهيجها لتغلب به العاقلة على الوهم. وربما ينفع الزام نفسه على الوحدة في الليالي المظلمة والصبر عليها، حتى يزول عنه هذا الخوف على التدريج.

ثم لما كان خوف الموت أشد اقسام هذا النوع واعمها، فلنشر إلى علاجه بخصوصه، فنقول: باعث خوف الموت يحتمل اموراً:

(الاول) تصور فناء ذاته بالكلية وصيرورته عدماً محضاً بالموت. ولا ريب في كونه ناشئاً عن محض الجهل، إذ الموت ليس إلا قطع علاقة النفس عن بدنه، وهي باقية أبداً، كم دلت عليه القواطع العقلية والشواهد الذوقية والظواهر السمعية، ولعل ما تقدم يكفي لاثبات هذا المطلوب. ومع قطع النظر عن ذلك نقول: كيف يجوز لمن له ادنى بصيرة ان يجتمع عظماء نوع الإنسان بحذافيرهم، كأهل الوحى والا لهام واساطين الحكمة والعرفان على محض الكذب وصرف الباطل: فمن تأمل ادنى تأمل يتخلص من هذا الخوف.

(الثاني) تصور ايجابه ألماً جسمانياً عظيما لا يتحمل مثله ولم يدرك في الحياة شبهه. وهذا أيضاًً من الخيالات الفاسدة، فان الالم فرع الحياة، والالم الجسمانى مادامت الحياة لا يكون أشد مما رآه كل انسان في حياته من الاوجاع وقطع الاتصال، وبعد زوال الحياة لا معنى لوجوده، إذ كل جسماني ادراكه بواسطة الحياة، وبعد انقطاعها لا ادراك، فلا ألم.

(الثالث) تصور عروض نقصان لاجله. وهو أيضاًً غفلة عن حقيقة الموت والإنسان، إذ من علم حقيقتهما يعلم ان الموت متمم الإنسانية وآثارها والمائت جزء لحد الإنسان. ولذا قال أوائل الحكماء: " الإنسان حى ناطق مائت "، وحد الشىء يوجب كمال لا نقصانه، فبالموت تحصل التمامية دون النقصان " نشنيده اى كه هر كه بمرد أو تمام شد "[8] فالإنسان الكامل يشتاق إلى الموت، لاقتضائه تماميته وكماله، وخروجه عن ظلمة الطبيعة ومجاورة الاشرار إلى عالم الانوار ومرافقة الاخيار من العقول القادسه والنفوس الطاهرة، واى عاقل لا يرجح الحياة العقلية والابتهاجات الحقيقية على الحياة الموحشة الهيولانية، المشوبة بأنواع الآلام والمصائب واصناف الاسقام والنوائب!

فيا حبيبي! تيقظ من نوم الغفلة وسكر الطبيعة، واستمع النصيحة ممن هو أحوج منك إلى النصيحة: حرك الشوق الكامن في جوهر ذاتك إلى عالمك الحقيقي ومقرك الاصلى، وانسلخ عن القشورات الهيولانية وانفض عن روحك القدسى مالزقه من الكدورات الجسمانية، وطهر نفسك الزكية عن ادناس دار الغرور وارجاس عالم الزور، واكسر قفصك الترابي الظلماني وطر بجناج همتك إلى وكرك القدسي النوراني، وارتفع عن لا حضيض الجهل والنقصان إلى أوج العزة والعرفان، وخلص نفسك عن مضيق سجن الناسوت وسيرها في فضاء قدس اللاهوت، فما بالك نسيت عهود الحمى ورضيت بمصاحبة من لاثبات له ولا وفاء؟!

 

كه در اين دا امكه حادثه آرام مگير[9]

زد سحر طائر قدسم زسر سدره صفير

(الرابع) صعوبة قطع علاقته من الأولاد والاموال والمناصب والاحباب ومعلوم أن هذا ليس خوفا من الموت في نفسه، بل هو حزن على مفارقة بعض الزخارف الفانية. وعلاجه: أن يتذكر أن الامور الفانية مما لا يليق بالعاقل ان يرتبط بها قلبه، وكيف يحب العاقل خسائس عالم الطبيعة ويطمئن إليها مع علمه بأنه عن قريب يفارقها، فاللازم، يخرج حب الدنيا وأهلها عن قلبه ليتخلص من هذا الالم.

(الخامس) تصور سرور الاعداء وشماتتهم بموته. وهذا وسوسة شيطانية صادرة عن محض التوهم، إذ مسرة الاعداء أو شماتتهم لا توجب ضرراً في إيمانه ودينه، ولا ألماً في روحه وجسمه، على أن ذلك لا يختص بالموت، إذ العدو يشمت ويفرح بما يرد عليه في حال الحياة أيضاًً من البلايا والمحن فمن كره ذلك فليجتهد في قطع العدواة وإزالتها بالمعالجات المقررة للحقد والحسد.

(السادس) تصور تضييع الاولاد والعيال، وهلاك الاعوان والانصار وهذا أيضا من الوساوس الباطلة الشيطانية والخواطر الفاسدة النفسانية، إذ ذلك يوجب ظن منشئيته لاستكمال الغير وعزته، ومدخليته في قوته وثروته، وذلك ناشىء من جهله بالله وبقضائه وقدره، إذ فيضه الأقدس اقتضى إيصال كل ذرة من ذرات العالم إلى ما يليق بها وابلاغها إلى ما خلقت لأجله، وليس لأحد أن يغير ذلك أو يبدله. ولذا ترى اكثر الأفاضل يجتهدون في تربية أولادهم ولا ينجح سعيهم اصلا، وتشاهد غير واحد من لاغنياء يخلفون لأولادهم أموالا كثيرة وتخرج عن ايديهم في مدة قليلة، وترى كثيراً من أيتام الاطفال لا تربية لهم ولامال، ومع ذلك يبلغون بالتربية الأزلية مدارج الكمال، أو يحصلون مالا حصر له من الاموال. والغالب أن الايتام الذين ذهب عنهم الآباء في حالة الصبى تكون ترقياتهم في الآخرة والدنيا اكثر من الاولاد الذين نشأوا في حجر الآباء. والتجربة شاهدة بأن من اطمأن من أولاده بمال يخلفه لهم أو ذي قوة يفوض إليه امورهم، اعتراهم بعده الفقر والفاقه والذلة والمهانة، وربما صار ذلك سببا لهلاكهم وانقراضهم. ومن فوض امورهم إلى رب الأرباب وخالق العباد ازداد لهم بعده عزاً وقوة وكثرة وثروة. فاللائق بالعقلاء أن يفوضوا امور الاولاد وغيرهم من الأقارب والانصار إلى من خلقهم ورباهم، ويوكلهم إلى موجدهم ومولاهم، وهو نعم المولى ونعم الوكيل. وقد ظهر أن الخوف من الموت لأجل البواعث المذكورة لا وجه له.

ثم يبغي للعاقل أن يتفكر في أن كل كائن فاسد ألبتة، كما تقرر في الحكمة. وهو من الكائنات. والفساد ضروري له. فمن أراد وجود بدنه أراد فساده اللازم له، فتمني دوام الحياة من الخيالات الممتنعة، والعاقل لا يحوم حولها ولا يتمنى مثلها. بل يعلم يقيناً أن ما يوجد في النظام الكلي هو الاصلح الاكمل وتغييره ينافي الحكمة والخيرية، فيرضى بما هو واقع على نفسه وغيره من غير ألم وكدورة. ثم من يتمنى طول عمره فمقصود منه إن كان حب اللذات الجسمية وامتداد زمانها، فليعلم أن الشيب إذا أدركه ضعفت الاعضاء واختلت القوى وزالت عنه الصحة التي هي عمدة لذاته فضلا عن غيرها، فلا يلتذ بالاكل والجماع وسائر اللذات الحسية، ولا يخلو لحظة عن مرض وألم، وتتراجع جميع احواله، فتتبدل قوته بالضعف وعزه بالذل، وكذا سائر أحواله، كما اشير إليه في الكتاب الالهي بقوله تعالى:

 (ومن نعمره ننكسه في الخلق)[10].

ومع ذلك لا يخلو كل يوم من مفارقة حبيب أوشفيق، ومهاجرة قريب أو رفيق. وربما ابتلى بأنواع المصيبات، ويهجم عليه الفقر والفاقة والنكبات وطالب العمر في الحقيقة طالب هذه الزحمات. وان كان مقصوده منه اكتساب الفضائل العلمية والعملية فلا ريب في أن تحصيل الكمالات بعد اوان الشيخوخة في غاية الصعوبة، فمن لم يحصل الفضائل الخلقية إلى ان ادركه الشيب، واستحكمت فيه الملكات المهلكة من الجهل وغيره، فانى يمكنه بعد ذلك إزالتها وتبديلها بمقابلاتها، إذ رفع ما رسخ في النفس مع الشيخوخة التي لا يقتدر معها على الرياضات والمجاهدات غير ممكن. ولذا ورد في الآثار: " أن الرجل إذا بلغ اربعين سنة ولم يرجع إلى الخير، جاء الشيطان ومسح على وجهه وقال: بأبي وجه من لا يفلح أبداً ". على ان الطالب للسعادة ينبغي ان يكون مقصور الهم في كل حال على تحصيلها، ومن جملتها دفع طول الامل والرضا بما قدر له من طول العمر وقصره، ويكون سعيه أبداًً في تحصيل الكمالات بقدر الامكان والتخلص عن مزاحمة الزمان والمكان، وقطع علاقته من الدنيا وزخارفها الفانية والميل إلى الحياة واللذات الباقية، والاهتمام في كسب الابتهاجات العقلية والاتصال التام بالحضرة الالهية، حتى يتخلص عن شجن الطبيعة ويرتقى إلى اوج عالم الحقيقة، فيتفق له الموت الارادي الموجب للحياة الطبيعية، كما قال (معلم الاشراق): " مت بالارادة تحيى بالطبيعة "، فينقل إلى مقعد صدق هو مستقر الصديقين، ويصل إلى جوار رب العالمين، وحينئذ يشتاق للموت ولا يبالي بتقديمه وتأخيره، ولا يركن إلى ظلمات البرزخ الذي هو منزل الاشقياء والفجار ومسكن الشياطين والاشرار، ولا يتمنى الحياة الفانية اصلا، وينطلق بلسان الحال: 

راحت جان طلبم وزپى جانان بروم

تالب چشمه خورشيد در خشان بروم[11]

 

خرم آن روز كزين منزل ويران بروم

   بهو اى لب أو صفت رقص كنان

 

(السابع) تصور العذاب الجسماني والروحاني المترتب على ذمائم الاعمال وقبائح الافعال. ولا ريب في ان الخوف من ذلك ممدوح، وهو معدود من اقسام النوع الثاني، إلا ان البقاء عليه وعدم السعي فيما يدفعه من ترك الخطيئات وكسب الطاعات جهل وبطالة، إذ هذا الخوف ناشىء من سوء الاختيار، وقد بعث الله الرسل واوصياءهم لاستخلاص الناس عنه. فعلاجه ترك المعاصي وتحصيل معالي الأخلاق. ومعلوم ان المنهمك في المعاصي مع خوفه من العذاب كالملقي نفسه في البحر أو النار مع خوفه من الغرق والحرق، ولا ريب في ان إزالة هذا الخوف باختياره، فليترك المعاصي ويجتهد في كسب وظائف الطاعات ليتخلص عنه، واهتمام اكابر الدين من الانبياء والمرسلين والحكماء والصديقين في وظائف الطاعات وصبرهم على مشاق العبادات ومجاهدتهم مع جنود الشياطين إنما هو لدفع هذا الخوف عن نفوسهم، فهو في الحقيقة ناشىء منك ومن سوء اختيارك، فبادر إلى تقليله بالمواظبة على صوالح الاعمال وفضائل الافعال. وقد يأتي ان هذا الخوف هو سوط الله الباعث على العمل، ومعه لو كان مفرطاً فيعالج بأسباب الرجاء، وبدونه فلا بد ان يكون حتى يبعثه عليه، على انه مع عظم جرمه وقصور باعه عن تداركه فلا ينبغي ان ييأس من روح الله، فلعل واسع الرحمة السابقة على الغضب يدركه بسابقة من القضاء والقدر.

 


[1]  أي القوة الغضبية.

[2]  البقرة، الآية: 195.

[3] كذا في النسختين، ولعل الصحيح (أو اوقع نفسه).

[4]  الفتح، الآية: 92.

[5] التوبة، الآية: 73.

[6]  استفل الشىء: أخذ منه أدنى جزء كعشره.

[7]  الطلاق، الآية: 1.

[8]  هذه الجملة من الكلمات الحكمية القصار، ومعناها: " أما سمعت بأن كل من مات صار انساناً كاملا ".

[9]  هذا البيت للشاعر الفارسي الفيلسوف الشهير (حافظ الشيرازي) وهو من أبيات العرفان. وأراد (بالسحر) على سبيل الرمز وقت استكمال النفس وتنبهها، و (بالطائر القدسى) مايرمز إليه العرفاء المسمى عندهم أيضاً (البيضاني)، وهو أحد العقول المجردة الذي بصفيره يوقظ الراقدين في مراقد الظلمات، وبصوته ينبه الغافلين عن تذكر الآيات، و (بالسدرة) سدرة المنتهى المقصود منها منتهى قوس الصعود في سلسلة الممكنات.

وحاصل معنى البيت المطابقى: قد صفر الطائر القدسى المنسوب إلى من على السدرة في السحر، ويقول في صفيره: لاتستقر في المصيده المخيفة (وهي الدنيا وعوالم السفليات)، والمراد أن يذهب عنها إلى عالم المجردات النوراني حراً طليقاً.

[10]  يس، الآية: 68.

[11]  البيتان للشاعر الفيلسوف (حافظ الشيرازي). ومعنى الاول: " إن سروي يكون في يوم الرحيل من هذه الدار الخربة طلباً لراحة نفسي ولقاء الحبيب". ويقصد بحبيبه: الحق الاول، وبراحة نفسه: النعيم الابدي، وبالرحيل عن الدار الخربة: انتقال نفس من بدنه بالموت.

ومعنى البيت الثاني: " اني لشوقي إلى لقاء الحبيب اهتزاهتزاز الذرة في ضوء الشمس لكي اصل إلى لقاء عين الشمس المتوهجة ". ويقصد بعين الشمس: خالق الكائنات.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست