:الموضوع

تعريف العلم

حول العدل

الانسان روحي ومادي

ضبط النفس

 

حول العلم

هل يستوي الأعمى والبصير

تعلُّم العلم ونشره من صميم الأخلاق العملية. وتكلم الباحثون في الأخلاق عن فائدة العلم وحلاوته وأطالوا.. والحديث عن ذلك نافلة وفضول تماماً كالحديث عن منافع الماء والنور والهواء، ومن الذي يجهل أن العلم أبو الحضارة، وأن أول الدين معرفته كما قال الإمام أمير المؤمنين(ع) وأعطف مكارم الأخلاق على الدين حيث لا دين ولا أخلاق بلا علم، وكيف يفعل المرء الخير لوجه الخير وهو جاهل بهوية ما يفعل؟ وان كان ولا بد من الحديث عن العلم فلا شيء وراء هذا الوضوح والإيجاز والإحكام والإعجاز: (وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات) (22 ـ فاطر).

وفرّق بعض القدامى بين العلم والمعرفة بأن العلم أعم من المعرفة حيث يقال: علم الله ولا يقال: عرف الله. وقال آخر: بينهما عموم من وجه يشتركان ويفترقان.

وبعض الجدد يستخدم كلمة العلم في الدلالة، على ما يدرك بالمناهج العلمية الحديثة كالتجربة والاستنتاج الرياضي فقط، ويستعمل كلمة المعرفة في غير ذلك كالتأمل العقلي البحت، وهذه الفوارق وما اليها مجرد اصطلاح، والمهم أن يكون الاستعمال سائغاً ذوقاً وعرفاً مع وضوح القصد. وفي شتى الأحوال فنحن نطلق كلاً من العلم والمعرفة على معنى واحد، وهو إدراك الشيء مع عدم احتمال الخلاف سواء كان الإدراك بديهياً أم نظرياً، تعلق بموضوع كلي أم جزئي.

تعريف العلم

أكثر القدامى عرفوا العلم بأنه الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل، وقال الجدد: إن أية صورة أو فكرة عن شيء من أشياء الطبيعة لا تكون صحيحة إلا أن تتولد من تحليل أوصاله والكشف عن أجزائه في المختبر، على أن هذه الصورة نسبية ومقيدة بزمان ومكان حدوثها وبالحال التي عليها الشيء، لأن أشياء الطبيعة كل يوم هي في شأن، أما الصورة والفكرة الناشئة عن التأمل وأعمال الفكر وحده كالفرضيات والمقدمات التي تدور في الرأس وكفى، فما هي إلاّ جهل في جهل ما دامت في عزلة عن الحس والتجربة، انها تماماً كخيال الشاعر الهائم في وادي الأحلام.

ومهما يكن فنحن مع القائلين: إن تعريف العلم بالحد أو الرسم يشبه أن يكون ممتنعاً لأن التعريف إنما يكون لمجهول بمعلوم، وبديهي أن العلم ليس مجهولاً كي يحتاج إلى تعريف، وأي عاقل يقول: أيها العلماء عرفونا بما نعرف وعلمونا ما نعلم.

وقد يطلق العلم على مجرد التمييز كقوله تعالى: (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) (21 ـ سبأ) وأيضاً يطلق على الظن المتاخم للعلم، ومن ذلك: (إن علمتم فيهم خيراً) (33 ـ النور) لأن العلم الحقيقي في هذا المقام وأمثاله كالعدالة الواقعية ـ متعذر فيكتفى بالظن القوي.

أسباب المعرفة في القرآن

في فصل المسئولية أشرنا إلى طرق المعرفة بالإلزام الأخلاقي ـ على سبيل الإجمال ـ ونذكر هنا نصاً من القرآن الكريم يرشدنا بوضوح أن أسباب العلم والمعرفة بالحق والباطل والخير والشر والفضيلة والرذيلة، تنحصر بثلاث لا رابع لها، وهي (1) المشاهدة والتجربة (2) العقل الكلي المنزه عن كل شائبة (3) النقل الصحيح.

قال سبحانه في الآية 8 من الحج و 20 من لقمان: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) والمفهوم من هذه الآية أن الحقائق لا تثبت وتقرر عند الجدال وغير الجدال إلا بطرق ثلاثة:

1 ـ المشاهدة والتجربة، وأشار اليها سبحانه بكلمة (علم) وفي مكان آخر أشار اليها بالسمع والبصر (أفلا تسمعون؟.. أفلا تبصرون) (26 و 27 ـ السجدة).. (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون).. (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) (42 و 43 ـ يونس).. (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (53 ـ فصلت)والمراد بالآفاق أقطار السماوات والأرض، وبالأنفس خلق الإنسان في أحسن تقويم. والمعنى أن مشاهدة الكون تؤدي حتماً إلى معرفة الله، وكذلك مشاهدة خلق الإنسان، ولكن البعض يرى أن ذكر الأنفس يومئ إلى دليل الحدس والكشف الصوفي برياضة الباطن.

2 ـ العقل، واليه أشار بكلمة (هدى) وليس مرادنا بالعقل عقل الفرد المغلوب بالأهواء أو عقل الجماعة المحجوب بالتقاليد، بل المراد العقل الذي يعقل عن الله سبحانه وخاطبه، جلت كلمته بقوله: (ولا أكملتك إلا فيمن أحب). وكل آيات القرآن الكريم تخاطب من كان له قلب وإذن وعقل.

3 ـ النقل الذي لا ينبغي الريب فيه، وإليه أشار سبحانه بكلمة (كتاب منير) وان دلت هذه الكلمة بحروفها على الوحي فانها تعم بروحها وتشمل كل خبر صحيح وان لم يك وحياً لأن السبب الموجب للعمل بالوحي هو الحق والصدق، وعليه يجري حكم الوحي على كل خبر صحيح يُعبر عن الواقع كما هو، وما من عاقل يناقش في هذا ويجادل حتى من قال بلسانه: (لا أؤمن إلا بما أرى).. اللهم إلا أن ينكر وجود أرسطو وأفلاطون وشكسبير وبيتهوفن واديسون وأينشتين!. وعندئذ يقال له: لا كلام بعد هذا الكلام.

نشر العلم

تحت هذا العنوان ذكر دراز خمس آيات قرآنية في قسم الأخلاق العملية دون أن يفسر شيئاً منها أو يشير إلى أي شيء، ومنها هذه الآية: (ان الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (159 ـ البقرة). وتومئ هذه الآية إلى معانٍ منها..

1 ـ الانذار والتحذير لمن يعرف الحقائق ويسمعها ولكنه يسكت كأن لم

يسمعها وكأن في أذنيه وقراً، أو يعلن بكل صلافة ووقاحة التكذيب بها، أو يفسرها تفسيراً يُرضي ميوله وتعصبه لقوى الشر التي أوقف نفسه لتغطية عورتها وتبرير سوءاتها.. ولا جزاء لهذا وأمثاله عند الله سوى عذاب الجحيم، وما له من ملائكة السماء وأهل الأرض الا اللعنة إلى يوم الدين(1)

2 ـ ان الحق الذي يجب اتباعه واعلانه هو ما ثبت بآية صريحة أو رواية صحيحة أو شهد له شاهد صدق من بديهة العقل أو رؤية الحس.

وبعد، فان الله سبحانه قد بين لنا في كتابه الكريم بأوضح بيان أنه لا سبيل لثبوت الحق إلا الحس والعقل والنقل الصحيح كالوحي أو ما هو بمنزلته من حيث الالزام والالتزام.. وعلى من ينشد الحق والخير، ويدعو إليهما أن لا يتخطى هذه الطرق الثلاثة، ولا يعتمد على خياله وأوهامه أو يستعين بأي كتاب أو مقال إلا أن يكون له حجة من حجج الله وبيناته التي نص عليها بوضوح في قوله: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) فهذه الآية هي مقياس الحق والصواب.. فلنحفظها كما نحفظ فاتحة الكتاب وسورة الاخلاص حين نصدر الأحكام أو نلفظ أي كلام.

لا خير في علم لا ينفع

قد ترى رجلاً صبوراً ودؤوباً على القراءة والمطالعة فتغبطه، وتقول: يا ليت لي مثل هذه الرغبة وهذا الجلد.. ولا ريب أن سعة الاطلاع خير ومن صفات الكمال، وإن منحت المطلع الذوق الحسن والقدرة على التمييز بين الغث والسليم أو محت من ذهنه وعقله ما كان قد علق به من جهالة وخرافة أيام الطفولة والصبا.

أما من يقرأ ما يضلله ويعميه عن الحقيقة، ويزيده جهلاً على جهل أو يقرأ ما لا ينتفع بمعرفته، ولا يتضرر بجهله، أما هذا فهو في أشد الحاجة إلى النصيحة والهداية.

وننطلق من هذا التمهيد إلى الاشارة إلى أن العديد من طلاب الحوزة يهتمون ويبحثون في أسفار ضخام عن معرفة أشياء لا تمتّ إلى دروسهم ولا إلى الحياة بسبب، ولا يسأل الله عنها غداً مثل ما هو اللوح المحفوظ في حقيقته؟ وفي أي مكان يوجد؟ وهل الملائكة أفضل أو الإنسان؟ وهل تزوج ابن آدم أختاً له أو حورية الخ.. وإذا سألت الباحث المنقب عن ذلك وأمثاله مسألة تتعلق بدرسه ارتبك وتلعثم.

ان الواجب الأهم على الطالب أن يهضم الكتاب المقرر ويفهم الدرس الذي يقرأ، فاذا انتهى من التحصيل في مدرسته بقي على صلة بالعلم الذي تخصص به مراجعة ومطالعة، وأنفق بعض الوقت في قراءة الصحف لمعرفة الأحداث والوقائع، وفي مطالعة الكتب التي تدعوه وتدفع به إلى التفكير فيما يهمه وينفعه، وتجعل منه انساناً متعلماً ومثقفاً.

وعقدت العزم أن لا أهتم بأي سؤال إلا أن يكون واحداً من اثنين: اما أن يكون المسئول عنه الآن يسأل الله عنه غداً ويحاسب عليه، وأما أن يمتّ إلى الحياة بسبب.. وأن لا أقرأ إلا ما أجد فيه متعة أو حسنة في هذه الدنيا أو الآخرة.

وقرأت في كتاب التربية التجريبية للدكتور عبد الله عبد الدائم أن (كورتيس) وضع كتاباً مدرسياً وفق الطريقة التجريبية بعد أن طاف في المدراس التي يريد أن يضع لها الكتاب المدرسي المنشود، وطلب إلى تلاميذها أن يطرحوا عليه الأسئلة التي يهمهم الجواب عنها. وأجاب بايجاز ووضوح على الأسئلة التي صاغوها، واستبعد من بينها الأسئلة المحلية الخاصة، والأسئلة غير العلمية التي لا يمكن الجواب عليها علمياً.

حول العدل

المراد بالعدل

للعدل، بفتح العين ـ معانٍ، منها ضد الظلم، وفي الأمثال (من ساواك بنفسه ما ظلمك) ومنها المثل والمساواة، قال سبحانه: (أو عَدل ذلك صياماً) (95 ـ المائدة). والمراد بالعدل هنا المساواة التي لا استغلال معها ولا محاباة، وأوضح مثال قول الإمام أمير المؤمنين(ع): ((لو كان المال لي لسويّت بينهم فكيف وانما المال مال الله!)).

وقال الغزالي في المقصد الأسنى ما ملخصه أن العادل هو الذي يصدر فعل العدل المضاد للجور، وعدله تعالى أنه أعطى كل شيء خلقه، ووضعه في موضعه، وسخره لغايته، أما عدل العبد فهو أن يستعمل كل عضو من أعضائه في وظيفته التي أذن الشرع بها، وأن يجعل هواه أسيراً للدين والعقل، فان اتخذ منهما خادماً لهواه فقد ظلم وجار، ومعنى هذا أن الإنسان العادل هو الذي يتحرى الحق بجميع وسائله، ويبتعد عن الهوى والغرض.

العدل قانون أخلاقي وطبيعي

القانون التشريعي على نوعين: سماوي إلهي معصوم عن الخطأ، ينزل به الوحي من الله سبحانه على قلب من يشاء من عباده، وقانون أرضي وضعي يعبر عن إرادة الإنسان الذي يصيب ويخطئ. وأيضاً القانون الطبيعي على نوعين: منه ما هو كامن في الطبيعة وأشيائها كالجاذبية وغيرها من القوانين التي لا يتم نظام الكون بدونها، ومنه ما تحتمه وتفرضه الفطرة وبديهة العقل كالعدل، فإنه مبدأ أخلاقي، ومع هذا لنا أن نسميه طبيعياً لأنه واجب بالذات لا بجعل جاعل وتشريع مشرع، بل هو الأساس والمقياس للأديان والأخلاق والقوانين، به يستدل على صحتها، ولا يستدل بها عليه، فأي مبدأ أو شرع  لا يترجم ويعتبر عن العدل فهو جهالة وضلالة، ومصيره إلى الزوال والانحلال.

ويستحيل في حق الله تعالى وحكمته أن يشرع حكماً خارج نظام العدل والطبيعة، لأنه، تقدست أسماؤه، خالق الطبيعة، وهو واضع الشريعة، ولا تهافت وتفاوت في خلقه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بالإضافة إلى أنه تعالى هو العدل بالذات، وما بالذات لا يتغير إلا أن يكون المربع بما هو مدوراً والمثلث بما هو مربعاً!.

وذهب أرسطو إلى أن العدل يحتوي كل الفضائل دون استثناء، وأن كلمته ترادف كلمة الأخلاق بشتى أنواعها لأن العدل أساس الخير كله العام منه والخاص. كما أن الظلم أساس الشر.

الإسلام عدل ورحمة

يقوم الإسلام بأصوله وفروعه على العدل، فأصوله الأساسية ثلاثة: الإيمان بالله الأحد وبرسوله وباليوم الآخر، ومن آيات الأصل الأول قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته) (115 ـ الأنعام).. (شهد الله أنه لا إله إلا هو وملائكته وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (18 ـ آل عمران).

وكلمة التوحيد بلفظها ومعناها تدل على أن جميع الموحدين يجب أن يخضعوا لحكم واحد بلا تمايز وتفاضل تماماً كالأخوة في ظل أب محب منصف. وفي الحديث: الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وفي حديث آخر: ان الله كتب على نفسه العدل فلا تظالموا. وفوق ذلك: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) (54 ـ الأنعام). وكل من العدل والرحمة قانون أخلاقي، فالرحمة أن تزيد في جزاء الخير على سبيل الاحسان، وتعفو عن السيئة على سبيل الغفران، شريطة أن لا يكون العفو تشجيعاً للجريمة وتحبيذاً للرذيلة، أما العدل، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره بلا زيادة أو نقصان.

ونقل الفيلسوف الشاعر اقبال في كتاب تجديد الفكر الديني ص 169 طبعة 1955م عن بعض عظماء الغرب ما نصه بالحرف: ((تجد الثقافة الجديدة في مبدأ التوحيد أساساً لوحدة العالم كله))، ثم قال المؤلف في ص 178: ((روح التوحيد هي المساواة والاتحاد (أي التضامن والتعاون) والحرية، والدولة في نظر الإسلام هي محاولة تبذل لتحقيق هذه المبادئ الثلاثة)) أي المساواة والتعاون والحرية.

ومن آيات الأصل الثاني التي حدد بها سبحانه رسالة أنبيائه ورسله بالقسط والعدل على أن يكون هذا المبدأ عاملاً أساسياً في حياة البشرية كلها ـ قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا

معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) (25 ـ الحديد). قرن سبحانه الحديد والبأس الشديد، بالقسط حيث لا عدالة بلا قوة، كما أن القوة بلا عدالة ظلم وجور.

ومن آيات الأصل الثالث: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وان كان مثقال حبة من خردل) (47 ـ الأنبياء). وأحوج ما يكون الإنسان للعدل حين يكون فرداً لا ناصر ولا معين ولا حول ولا قوة له إلا الحق والعدل.. وأقسى المواقف على الإنسان وأشدها موقف العرض والحساب بين يدي جبار قهار إلا من كان على بصيرة من أمره وثقة من سعيه: (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية ـ 9 الغاشية.. ووجوه باسرة (أي كالحة) تظن أنها فاقرة (أي داهية) (25 ـ القيامة).

العدل في المعاملات

أما المعاملات والتصرفات فقد وضع لها رسول الله(ص) هذا المنهج الواضح الجامع: ((عامل الناس بما تحب أن يعاملوك)). وبيّن سبحانه هذه المساواة في المعاملة بقوله: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (8 ـ المائدة).. (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) (135 ـ النساء). هذا هو دستور الأخلاق الإلهية والشريعة المحمدية في القول والفعل: عدل ومساواة بين النفس والقريب والبعيد حيث يستوي الجميع في ميزان الحق والعدل الذي لا يبخس عدواً، ولا يحابي صديقاً.

وقد يكون من الصعب العسير أن يلتزم الإنسان بالعدل في كل تصرفاته ومعاملاته، ولكن هذه الصعوبة هي المحك الذي يميز بين الطيب والخبيث، والصادق والمنافق في دينه وأخلاقه: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (2 ـ الملك).

مثل حظ الأنثيين

وقال قائل: صحيح أن الإسلام ألغى الفروق بين الأجناس والأنساب وأمام المحاكم والقضاء، وأوجب المساواة في العديد من الأشياء، وقال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولكنه فضل الذكر على الأنثى في الميراث، وقال بصريح العبارة: (للذكر مثل حظ الأنثيين) (11 ـ النساء) فما هو السبب الموجب؟.

الجواب:

السبب الموجب طارئ لا أصيل وعارض لا ذاتي تماماً كوجود المقتضي المقرون بالمانع من التأثير، ونشير إلى هذا الطارئ العارض بعد التمهيد بأن القرآن الكريم نص على المساواة بين الذكر والأنثى في العديد من آياته وبأساليب شتى منها ـ على سبيل المثال ـ (اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) (195 آل عمران).. (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) (40 ـ غافر) وأثنى على المؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات.. إلى آخر جماعة الذكور والإناث في الآية (35 من الأحزاب).

وخاطب سبحانه الذكور والإناث بخطاب الواحد في الواجبات والمحرمات.. وأعطى الإسلام كلاً من الأم والبنت والأخت التركة بكاملها في بعض الحالات ومع وجود الذكر من قرابة الميت، ولكن الأنثى أقرب منه إليه، مع أن بعض المذاهب تسوي في الميراث بين القريب والبعيد من الأرحام.

والآن وبعد هذه الإشارة نذكر الطارئ والعارض الذي أوجب التفضيل ومنع من التسوية، وهو أن المرأة ألصق بالبيت من الرجل خاصة أيام الحمل والحضانة، وأليق منه وأقدر على إدارة المنزل وتدبيره.. وللبيت وحماية العائلة ورعايتها عند الإسلام، أهمية عظمى تماماً كالسوق والحقل والمصنع أو أكثر، ومن أجل هذا وضع للأسرة قوانين وأحكاماً تكلم عنها الفقهاء باسهاب.. ومنها أن الزوجة لا يحق لها أن تخرج من بيت الأسرة ـ وهي ربة المنزل ـ إلا لحاجة ماسة أو باذن الزوج منطوقاً أو مفهوماً حرصاً على البيت ومن فيه وما فيه.

ومن جهة ثانية أوجب على الزوج القيام بكل التكاليف والنفقات لها وللأولاد بالإضافة إلى الصداق مع أنها شريكته فراشاً وحياة وأولاداً.. فضاعف الإسلام نصيبه من الميرات مقابل ما حمله من ثقل البذل ومسئولية الإنفاق.. على أن الرجل وما ملكت يداه من إرث وغيره في قبضة المرأة تستهلكه هي وأولادها.. فان بقيت منه باقية تركها ميراثاً لهم.

هذا هو الطارئ أو هذي هي الحكمة في تمييز الذكر على الأنثى إرثاً وغيره، فأين الظلم والغبن على المرأة؟ والحق أن الرجل المسكين هو المظلوم والمغبون وليس المرأة حتى ولو أخذ الميراث بكامله، لأنه رق مستعبد ومؤبد لزوجته وعائلته.

توزيع الثروة

وقال آخر: ساوى الإسلام بين الناس من جهة، ومن جهة ثانية أقرّ تقسّمهم إلى طبقات بعضها فوق بعض على أساس المال والاقتصاد (أي الغنى والفقر) ولو وزع الثروة، وسكت عن المساواة في كل الجهات ـ لكان خيراً وأفضل.

الجواب:

ان الحرية أصل من أصول الإسلام تماماً كالعدالة حيث لا إنسانية بلا حرية، ومن أخص خصائص الحرية للفرد وثمارها أن ينعم بحق التملك في نطاق عدم الإضرار بالآخرين، وأقر هذا الحق الاعلان العالمي في المادة 17 لكي يبذل الإنسان أقصى ما يملك من نشاط وطاقات في ميدان الإبداع والتعمير والانتاج والاختراع، فينفع وينتفع.

وأسباب التملك التي أقرها الإسلام ترجع إلى ثلاثة، وكلها نتيجة حتمية لمبدأ الاختيار والحرية، وهي كالآتي:

1 ـ العمل، ومنه احراز المباحثات واحياء الموات بقصد التملك حيث لا مانع شرعي من ذلك.. وما من شك أن للإنسان كل الحق في اختيار عمله لأنه الركن الركين في شخصيته بل في كيانه، وأيضاً له وحده ثمار جهده وكدحه بحكم الطبيعة والبديهة.

2 ـ العقود والتعامل مع الآخرين بالبيع والإجارة والهبة ونحوها، أيضاً على أساس الحرية والاختيار، ولذا يحكم الإسلام ببطلان المعاملة متى شابها ضغط وإكراه أو غش وخديعة.

3 ـ الإرث، وهو حق طبيعي اتفقت عليه جميع الأمم والشرائع السماوية والأرضية في كل عصر وقطر.. هذا إلى أن المال الموروث هو من جهد الميت وثمراته، ومن أولى بسعيه؟ الدولة أو الأباعد أو أرملته وشريكة حياته وأيتامه واولاده الذين وجودهم امتداد لوجوده!.

وفي سفينة البحار مادة (و. ص. ي): أن الإمام أمير المؤمنين(ع) قال: ((ما أبالي أضررت بورثتي أو سرقتهم)). ومات رجل من الأنصار، وله صبية صغار، وكان قد تصدق بكل ما يملك حين ظهرت له دلائل الموت، ولما علم رسول الله(ص) بذلك قال لقوم الميت: ماذا صنعتم بصاحبكم؟ قالوا: دفناه. قال: ((لو كنت علمت ما تركتكم تدفنوه مع أهل الإسلام، ترك صغاراً يتكففون الناس)).

وأخيراً نسأل من ينكر مبدأ الإرث: هل يرضى أن ينعم الأباعد في أمواله من بعده دون عياله وأطفاله؟ فان قال: أجل. قلنا في جوابه: هذا خروج على الفطرة والطبيعة البشرية، وصدق الله العلي العظيم: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) (74 ـ البقرة).

هذي هي أسباب التملك، والناس فيها كلهم شرع وسواء بلا تمايز وتفاضل، من شاء منهم أن يتقدم أو يتأخر، أما أن يعمل الكادح المجاهد، ويأكل ثمرة عمله وكدحه الكسول المخنث ـ فلن يرضى بذلك إلا اتكالي مخناث.. أبداً لا شيء للإنسان إلا ما سعى.

خرافة وطرافة

ولمجرد الترفيه والتسلية نختم هذا الفصل بأمثلة على التفرقة والإجحاف في تقسيم الناس والتركة.. تحتم بعض الأنظمة الغربية في هذا العصر ـ خاصة في انكلترا ـ أن يختص الولد الأكبر بالتركة كلها دون أمه وأخوته، والشريعة اليهودية تعطي البكر مثل حظ الذكرين من إخوته!.

واشتهر عن المجتمع الهندوسي أنه خمس طبقات بعضها فوق بعض (1) رجال الدين لأن الله ـ بزعمهم ـ خلقهم من رأسه (2) رجال الحرب والإدارة لأن الله خلقهم من ذراعه (3) الفلاحون وأصحاب الحرف لأن الله خلقهم من وسطه (4) العمال لأنه خلقهم من قدمه (5) المنبوذون، وهم الأنجاس والأرجاس!.

ومن هذه البيئة خرج غاندي.. ولا تفسير لذلك ـ فيما نظن ـ إلا طهارة نفسه من أدران الحقد والظلم والفساد في الأرض.

الإنسان روحي ومادي

بين الشخصية المعنوية والمادية

لكل فرد من أفراد الإنسان شخصيتان: مادية، وهي جسمه الذي يُرى ويقاس ويوزن، وتناله يد التشريح والتحليل. وشخصيته المعنوية اللامادية، وهي نفسه وطبيعته التي تُعرف بالأثر لا بالعين، وبالفعل لا بالقياس والوزن، وأيضاً هي ماء الجسم وحياته، بها يحس الإنسان ويعقل، ويرى ويسمع، ويحزن ويفرح، ويحب ويكره، ويقسو ويرحم الخ، واليها يشير بكلمة (أنا وأنت) واليها وحدها يوجه الكلام والخطاب.

وفي كتاب صوان الحكمة أن أبا نفيس كان يخطب الناس ويقول فيما يقول: ((ما خبر البدن الحامل للروح؟ وما حديث الروح المحرك للبدن؟ وما حد كل منهما؟ وما هذه الوحدة والامتزاج بينهما؟ وكيف تباعدا بعد هذا الاختلاط؟)).

خصائص الشخصيتين

وتنفرد كل من الشخصية المعنوية والمادية في الإنسان الفرد ـ بخصائص لا يوجد لها من نظير في غيرها على الإطلاق لا في الكائنات الأخرى ولا في الأشخاص الآخرين من أبناء جنسه.. وقد يكون للفرد أشباه ونظائر في طوله ولونه، وفي عرضه ووزنه، ولا يكون ولن يكون له شبه ونظير في ملامح وجهه وبصمة بنانه وصفة صوته ونطقه، وأيضاً قد يوجد للإنسان الفرد أشباه ونظائر إلى حد ما وبقدر معين في ذكائه أو بلادته وفي جوده أو بخله، وما إلى ذلك من صفات النفس والشخصية اللامادية، أما التشابه الكامل في جميع خصائصها فمحال لأنه يتميز ببعض الخصائص عن جميع الأفراد حتى عن أمه وأبيه تماماً كما تميز عنهما وعن كل الناس ببصمة الابهام وملامح الوجه. ويضاف إلى ذلك الجهل بالكثير من صفات النفس، إنها تتوارى حتى عمن هي كامنة في أعماقه، ولا تظهر له ولا لغيره إلا أن يمر بأحداث دامية وتجارب قاسية وقد تبقى طي الغيب والكتمان حتى الممات.

وأهم الفروق بين الشخصيتين أن الشخصية اللامادية هي وحدها ذات الأهلية والقابلية للدين والأخلاق لأنها تدرك ـ دون الشخصية المادية ـ أسرار الكون، وتشعر بقيمة الفعل والسلوك خيراً كان أو شراً.. ومن ينكر الشخصية اللامادية أيضاً ينكر الأديان والأخلاق بحكم البديهة القاضية بأن الفرع يسقط حتماً بسقوط الأصل، وسنتحدث عن الماديين الذين قالوا: المادة هي الموجود الوحيد في الكون كله.

ومهما اختلفت الفروق بين الشخصيتين كماً وكيفاً فان كلا منهما مكلمة للثانية، ولا غنى لاحداهما عن الأخرى.

بين الإنسان والحيوان

وأيضاً للحيوان شخصيتان: نفسية بها ينمو ويحس، وأيضاً يقبل التغيرُ والتعلم واستخدام الآلة في مضمار محدود. وشخصية مادية تشترك مع المادية الإنسانية في العديد من الصفات، منها القياس والوزن والتحليل والتشريح، ومنها المعدة والحركة وما أشبه، وتختلف هاتان الشخصيتان الماديتان في قدرة الإنسان على المشي منتصباً وتحرر اليدين واستخدامهما في أشق الأعمال وأدقها. أما الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان في النفس والشخصية اللامادية ـ فمن وجوه منها:

1 ـ ان الإنسان مهما بلغ من العلو والرقي في مستوى العلم أو العيش فانه يتطلع ـ دون الحيوان ـ إلى ما هو أعلى وأرقى.

2 ـ ان الإنسان يستطيع العلم بالماضي السحيق، والتنبؤ عن المستقبل البعيد، والحيوان لا يعرف إلا الحاضر الملموس.

3 ـ ان الإنسان ـ دون الحيوان ـ ليخترع آلات تنوب عنه في الاعمال العضلية كالمصانع والذهنية كالآلة الحاسبة. بالإضافة إلى بناء الأسرة والحضارة وقواعد السلوك.

4 ـ قال أبو بكر الرازي في كتاب الطب الروحاني: ((الحيوان يُروّث أو يتناول ما يتغذى به مع حضوره وحاجته إليه، أما الإنسان فيترك ذلك، ويقهر طبعه عليه لمعانٍ عقلية تدعوه إلى ذلك)).

شسع نعلك خير منك

كل ما في الإنسان من خصائص وطاقات فضائل وصفات فهي لله عليه حجة قائمة تماماً كعمره وماله وصحته وجاهه إلا أن يستعملها استعمالاً حكيماً ونافعاً، لله فيه رضا ولعباده صلاح، وعندئذ تكون هذه الموافقة له لا عليه وإلا يكون الحيوان خيراً وأفضل، قال سبحانه: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه... ان هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) (44 ـ الفرقان) والمراد هنا بالهوى ما يأمر بالسوء والشر وإلا فان الإنسان يهوى زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من رزقه، قال سبحانه: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) (50 ـ القصص) ومعنى هذا أن موافقة الهوى ليست بمحرمة بنهي منه تعالى، وما من شك أن من يعصي الله، الحيوان أفضل منه وأشرف، بل شسع نعله خير منه وأجدى، قال الإمام أمير المؤمنين(ع) لبعض من خان من عماله: ((جمل أهلك وشسع نعلك خير منك)).

وإذا كانت النعل أو شسعها خيراً ممن خان في دريهمات فكيف بمن يعيش حياته على الغش والخديعة، ويستهين بحقوق الله وعياله؟.

وفي العدد الأول من السنة التاسعة من رسالة الإسلام لدار التقريب، مقال بعنوان (حياة بغير مُثل حياة الحيوان) جاء فيه ما معناه أن من شأن الحيوان أن يسعى لمنفعته الخاصة، ولا تكليف عليه ومسئولية تجاه أي حيوان آخر حتى ولو كان هذا الآخر أباً له أو أبناً، أما الإنسان فعليه أن يؤدي رسالة الله لكل إنسان، وهي سموه عن الحيوان بالسعي والعمل لمنفعته وخير أخيه الإنسان.. ونعطف على قول هذا الكتاب، وهو الدكتور محمد البهي، ما قاله عالم غربي: ((صحيح أن الإنسان أناني بطبعه، ولكن هذا القول ليس صحيحاً كل الصحة لأن الإنسان مضطر أيضاً لأن يكون غيرياً.

ثم قال البهي ما نصه بالحرف: ((والفلسفة المادية لا تعرف حدوداً لحيوانية الإنسان، ولا تطلب منه في التفكير منهجاً خاصاً، ولا في السلوك طريقاً واحداً، بل تُخضع تفكيره وسلوكه حيوانيته.. أما الأخلاق فليست قوانين عامة فوق نظرات الأفراد.. ودعوة المادية سهلة ورخيصة لأنها دعوة إلى الحيوانية)).

ومن هنا أقبل عليها أكثر الناس.. وغير بعيد أن تكون الفلسفة المادية في هذا العصر هي المقصودة بكلمة الدجال الذي يخرج في آخر الزمان، ويأتيه الناس من كل بلد وطريق كما في العديد من الأسفار والأخبار.

وبهذه المناسبة نستطرد فيها يلي بالإشارة إلى أنصار الفلسفة المادية وأهدافهم.

الماديون

أنكر الماديون الشخصية اللامادية للإنسان، وقالوا: إنها كلام فارغ بناءً على أصلهم من أن المادة التي تُرى هي الموجود الوحيد، أما ما ينسب للنفس والعقل من أفعال وآثار فهي آثار للجسم لا للعقل وأفعال للمادة لا للنفس تماماً كالجمع والطرح والضرب ينسب إلى العقل الالكتروني وتسجيل درجة الحرارة إلى ميزانها الطبي (الترمومتر)!

وما أبعد ما بين هؤلاء وبين ديكارت الذي قيل عنه من جملة ما قيل: انه أبو الفلسفة الحديثة. ووجه البعد أن ديكارت استدل على وجود الجسم الذي يراه بوجود الفكر الذي لا يراه دون العكس، وذلك حيث قال: أنا أفكر فاذن أنا موجود. ولم يقل: أنا موجود فإذن أنا أفكر لأن الحقائق الرياضية لا يعترضها الشك على العكس من الحقائق الطبيعية. ومثله تماماً قول الإمام أمير المؤمنين(ع) في الحكمة 281 من نهج البلاغة: ((قد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه)).

ووقفنا طويلاً مع الماديين في كتاب فلسفة المبدأ والمعاد وكتاب شبهات الملحدين والإجابة عنها، ونكتفي هنا بسؤالين من أستاذ شهير وجوابنا عنهما:

السؤال الأول: هل ترشدني إلى دليل واضح قصير وبسيط على وجود الله يتناسب مع ادراك الصبيان كي أعلمه لتلاميذي؟. وكان الوقت ليلاً، قلت له: أرشدك إلى دليلين لا إلى دليل واحد، وخذ الدليل الأول من الله سبحانه بنصه وحروفه، وليس فيه حرف واحد لغيره، وكأنه، جلت حكمته، قد خاطب به الصبيان ومن هو في مستوى عقولهم.. احفظ الآية الآتية وحفّظها صبيانك، واسأل كل واحد منهم: ماذا فهم منها، ودعه يتكلم بما يفهم، ثم عقب على كلامه بما تراه مناسباً.

وهذه الآية الكريمة الجلية: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟) فهل تريد دليلاً أقوى وأبلغ وأبسط وأوضح من هذا الدليل؟

قال: عظيم، فأين الدليل الثاني؟ قلت له: أتنكر هذه اللمبة التي نستضيء بنورها؟. قال: وكيف أنكر نوراً أستضيء به؟. قلت: لو أنكرتها لكنت تماماً كمن ينكر وجود اديسون الذي أعطانا هذه اللمنة.. أبداً لا فرق بين انكاره وانكارها. أليس كذلك؟. قال: بلى، بكل تأكيد. قلت: هل هذه اللمبة ونورها أعظم من الشمس ونورها؟ ولا أقول لك الكون بمن فيه وما فيه. قال: الشمس ونورها أعظم، ما في ذلك ريب، قلت: كذلك انكار خالق الشمس ووجوده هو انكار لوجود الشمس ونورها تماماً كانكار الكهرباء المستلزم لانكار اديسون.

قال في سؤاله الثاني: ولكن يقولون: إن الكون بشمسه وكل ما فيه ومن فيه قد وجّد صدفة وتلقائياً. قلت: ولماذا لم توجد اللمبة صدفة؟ حتى عود الثقاب وجد بسبب. قال: زدني. قلت: لو صدقت الصدفة كقانون لما كان في الدنيا علوم وقوانين ولا مصانع ومختبرات ولا مدارس وجامعات.

قال: ولماذا؟ قلت: العلم هو انتقال من جزئي مشاهد ومحسوس إلى قاعدة كلية تنطبق على جميع أفرادها طرداً وعكساً لأن من أخص خصائص العلم الشمول والعموم وإلغاء كل ما هو خاص. مثلاً ـ لاحظ نيوتن سقوط التفاحة من الشجرة، فسنّ قانون الجاذبية وقال: كل جسم فيه قوة جاذبة كما فيه قوة سالبة دافعة: ولو صحت الصدفة وصدقت، ما ساغ لنيوتن وغيره أن يؤمن ويوقن بالجاذبية ولا بأية قاعدة علمية إطلاقاً.

التوازن بين مطالب الروح والجسم

خلق سبحانه الإنسان من جسم وروح، وهو يعلم ما يتطلب هذا وذاك، وما يصلحه ويفسده، ووضع شريعةً للإنسان ترسم له المنهج الملائم لطبيعة الجسم والروح وواقع الحياة بلا تصادم وتعارض.

والسعيد الكامل من ينسق ويوفق بين متطلبات جسمه وروحه، ويكون مادياً وروحاً في آن واحد على أساس الشريعة الإلهية: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) (77 ـ القصص) أي لا تجعل نفسك عبداً لشهواتك، ولا تظلم جسدك في حاجته، وقال الرسول الأعظم(ص): ((ليس خيركم من عمل لدنياه دون آخرته، ولا من عمل لآخرته وترك دنياه، وانما خيركم من عمل لهذه وهذه)).

وقال الدكتور زكي نجيب محمود من مقال نشره في مجلة العربي العدد 158 بعنوان الواقع وما وراء الواقع:

((ان أغلب الظن عندي هو أن أوضح سمة تُميز العربي في ثقافته هي أنه يوازن في دقة وبراعة بين وجهي الحياة: فللواقع المحسوس مجال، ولما وراءه مجال آخر، بل يتكامل المجالان في حياة سوية متزنة، وربما كان المقصود من الحديث الشريف بأن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبداً، ولآخرته كأنه يموت غداً، هو وجوب مراعاته لهذا التوازن بين النظر إلى ما يُرى وإلى ما هو أرفع وأسمى، فالأول مهما كانت قيمته فهو جزء عابر يأتي ويمضي، أما ما لا يرى فهو مطلق أزلي لا يتعاوره الحدوث والفناء)).

ضبط النفس

النفس أولاً

نحن ندرك ونشاهد ـ ولو عن طريق السلوك والأفعال ـ أن بعض النفوس مهيأة لقبول الحق بكل يسر وبمجرد ظهوره، وبعضها تكاد تصعق من اسمه ومن كل ما يمتّ إليه بسبب، وفي القرآن الكريم آيات محكمات تحكي عن هذا الواقع وتعكسه، منها في سمات الفئة الأولى قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (18 ـ الزمر) ومنها في وصف الفئة الثانية: (وما أنت بمسمع من في القبور) (22 ـ فاطر).

والسبب الموجب للأعراض عن الحق لا يخلو من أحد فرضين: إما الجهل وإما مرض القلب بالهوى الأعمى، فإذا حاولنا أن نعدّل من سلوك منحرف لهوى أو جهل الجاهل فعلينا قبل كل شيء أن نهيئ ونمهد لذلك تماماً كتطهير الأرض قبل غرسها وزرعها.. وأية جدوى من تشخيص الداء ومعرفة الدواء ووجوده بالكامل طالما المريض يرفض الحمية والعلاج؟ وكلنا يعلم أن دواء الجهل، العلم والتعلم، وأن دواء الهوى ترويض النفس الذي وصفه رسول الله(ص) بالجهاد الأكبر، لأنه صعب عسير، ولكنه العلاج الوحيد ولا سبيل سواه.

أعدى الأعداء

قال الإمام أمير المؤمنين(ع): ((لا عدو أعدى على المرء من نفسه، ولا عاجز أعجز ممن أهمل نفسه فأهلكها)). وكل من زيّن وحسّن لك القبيح وأغراك به، أو شوّه وقبّح لك الجميل وأبعدك عنه فهو أعدى أعدائك سواء أكان من ذاتك، أم من خارجها، ولكن هذا العدو الداخلي والخارجي لا سلطان له عليك اطلاقاً إذا أنت عصيته واعتصمت منه، بل تؤجر وتشكر على معصيته، قال سبحانه: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى) (40 ـ النازعات).

وقد يكون الإنسان قوياً في جنده وماله، فينتصر على عدوه من الخارج ويقهر منافسيه ساعة يشاء، ولكنه أضعف الضعفاء أمام هواه الكامن في أعماقه، وقد يكون ضعيفاً في جاهه وماله، ولكنه أقوى الناس سلطاناً على نفسه وهواه، فأي الرجلين أعلى مقاماً واعظم أجراً عند الله؟.

قال الرسول الأعظم(ص): لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لدينه. وقال الإمام الجواد(ع): من وافق هواه فقد أعطى عدوه مناه. وقال أرسطو: ((ردع النفس للنفس هو العلاج للنفس)).

وقد يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجاهد ويصارع نفسه بنفسه.. ولا شيء أيسر على الإنسان من طاعة الهوى والاستجابة لندائه لأن هواه نابع من ذاته وأول غريزة في جبلته، ولكن هل يكون إنساناً ـ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة ـ من يستسلم لأهوائه وانفعالاته في جميع المواقف؟.

وتسال: كيف يكون الإنسان عدواً لنفسه ومجاهداً ضدها وهو هي، وهي هو؟

الجواب:

المراد من محاربة النفس للنفس أن لا يستجيب الإنسان لرغبته حين تدعوه إلى ما يضره ولا ينفعه، كما لو مالت إلى الحرام ورغبت فيه فاعتصم وامتنع، فيكون بهذا عدواً لنفسه التي عصاها وأطاع الله سبحانه.

بين اللذة العاجلة والآجلة

المراد باللذة العاجلة هنا متاع قليل وحزن طويل، وبالآجلة نهاية التعب والشقاء وبداية الراحة والهناء.. إن العاجلة تماماً كطعم الحلوى ما دامت في الفم، ثم يعود كل شيء إلى ما كان، ولذا عبّر عنها القرآن الكريم باللهو واللعب، وهو أبلغ تعبير وأجمعه، واللذة في ذاتها ليست بحرام، قال سبحانه: (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه) (81 ـ طه). والطغيان فيه أن تناله وهو عليك محرم، أما لأنه ملك سواك كالزنا بذات بعل، وأما لأن ضره أقرب من نفعه وأكثر كالخمر، قال، تقدست أسماؤه: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) (7 ـ الكهف) أي يحسن العمل في الزينة نفسها، ولا يتجاوز حدودها المشروعة، ويسمى هذا في القوانين الحديثة التعسف في استعمال الحق.

قوة الإرادة

استطاع الإنسان أن يسيطر على الطبيعة، ويستغل طاقاتها وخيراتها في مآربه، ولكن وقف به العجز أمام نفسه وأهوائها الأمّارة الخاسرة، وما من شك أن عجز المرء عن كبح النزوات والشهوات آفة الآفات، عليه وعلى مجتمعه وربما على البشرية جمعاء خاصة إذا كان يمتلك أسلحة الفناء والدمار.. وما زال الضمير الحي حتى الآن يحمل آلام التفجير النووي عام 1945 ويهتز كيانه خوفاً من كارثة كونية تعم وتشمل البرية والإنسانية.

ولكي يحقق الإنسان شخصيته وإنسانيته يجب عليه أن يقاتل هواه بعقله كما قال الإمام أمير المؤمنين(ع) وقال اسكندر الكبير الذي ملك البلاد طولاً وعرضاً: ((الملك والسلطان الأعظم أن يغلب الإنسان شهوته(2) .. سلطان العقل على باطن العاقل أشد تحكماً من سلطان السيف على ظاهر الأحمق)). وقال الإمام(ع): ((العقل حسام قاطع)). وفي قواميس اللغة: الحسام السيف، وليس هذا من باب توارد الخاطر بين الإمام واسكندر، بل تعبيراً عن واقع العقل في هويته وصفاته.

وبعد، فان ضبط النفس من خلق الأنبياء والأولياء، وهو المحور الذي يدور حوله علم الأخلاق، ونستطيع القول بأن كل من فعل خيراً لوجه الله والخير أو ذُكر به فهو من الذين قاتلوا أهواءهم بالعقل والدين، وأي شاهد أصدق وأوضح من هذا الشاهد: (فان لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) (50 ـ القصص). تأمل ملياً فيما توحي به كلمتا (فاعلم أنما).

الإنسان وشريعة العدل

ورب متفلسف يعترض ويقول: الطيور والحشرات وأنواع الحيوان أيضاً تدرك وتعقل كالإنسان فيما يخصها، فكلاب البحر تبني السدود تبعاً لأغراضها، والطيور تهيء أعشاشاً لبيضها وأفراخها، وخلاياً النحل وبيوت العنكبوت صُمّمت بكل دقة وحكمة تماماً كأفعال الإنسان من الوجهة الفنية، فلماذا لم تُفرض شريعة ولا نظام على هذه المخلوقات من خارجها ، بل تركت وشأنها تسير بغريزتها وشيمتها، وفُرض على الإنسان نظام وشرع من خارجه، ولم يُترك مع نفسه وغرائزه؟.

الجواب:

ان قدرة الحيوان والطيور والحشرات محدودة في أضيق نطاق، ولا تستطيع السيطرة والتحكم بغيرها من الكائنات، أما الإنسان فله قدرة فائقة وطاقات هائلة، وبها يستطيع التحكم والسيطرة على كثير من الأنواع والأشياء، فاحتاج إلى رقابة الشرع الكامل والنظام العادل يحدد من سلوكه وتصرفاته، ويحد من طموحه ونزواته، ويسمو به عن الطغيان والعدوان.

الهوامش:

(1) نكتب هذه الكلمات في صيف سنة 1976م، وشيعة علي والحسين يقاسون أهوالاً تنوء بها الجبال ومع ذلك وجد أقلاء كما وكيفا يبررون هذه الأوضاع!. ولا بدع فقد جرت سنة الله أن يجعل لكل حق شياطين لأنهم يضطربون من صوته وسطوته (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون).

(2) وايضاً نسبت هذه الحكمة لسقراط.