:الموضوع

أخلاق العسر والشدة

جهاد النفس

كف الأذى أصل لا فرع

 

الجهد

معنى الجهد

هذا هو العنصر الخامس والأخير من عناصر الخير والفضيلة، والمراد بالجهد هنا ـ بضم الجيم وقد تفتح ـ أن يستخدم المرء كل ما يملك من طاقة لمقاومة ما يصده عن الاستقامة والخلق الكريم في نشاطه وسلوكه. والدنيا كلها نضال وكفاح، وهل ظفر الإنسان بشيء منها إلا بسعي وجهد، أو نجح فيها غير المجد الكادح والدؤوب الحاذق؟

أما الدين والإيمان فهو فعل الواجب وترك الحرام، ومثله تماماً الأخلاق، والفرق في اللغة التسمية. فالواجب الفقهي اسمه عند الأخلاقيين خير وفضيلة والحرام شر ورذيلة، والله سبحانه لا يأمر الا بخير ولا ينهى إلا عن شر، ولا بد للتنفيذ والطاعة من مكافحة الشهوة العاتية الناهية عن الخير وفعله، ومقاومة الهوى المعاكس لترك الشر والرذيلة.
والفقهاء يسمون الواجبات والمحرمات بالتكاليف الشرعية، والأخلاقيون يسمون هذه التكاليف بالإلزام فعلاً أو تركاً، ويقول الفقهاء: يجب على المكلف اطاعة التكليف وامتثاله، ويقول الأخلاقيون، الإنسان مسئول عن الإلزام، وأيضاً يشترط الفقهاء النية لوجه الله في العبادة، وأهل الأخلاق يوجبون فعل الخير لوجه الخير، وبهذا يلتقي الفريقان على صعيد واحد في الإلزام والمسئولية والنية.

والجزاء يبحثه الأخلاقيون وعلماء الكلام دون الفقهاء، أما الجهد فيُبحث في التصوف وعلم الأخلاق.

طريق الحق والفضيلة

لا شيء أكثر من العقبات في طريق الحق والخير والفضيلة، ولا بدع فان ثمن كل شيء بحسبه، وإذا عرفنا أن ثمن الجنة عند الله سبحانه النهي عن الهوى كما جاء في الآية 40 من النازعات، عرفنا أن تنفيذ هذا النهي صعب مستصعب لأن كل شيء من هذا القبيل يكاد يتحطم على صخرة الأهواء والأغراض. أليس هوى المرء مشدوداً بمنافعه الشخصية تلقائياً وعاطفياً؟ واذن فالنهي عن هواه نهي عن هذه المنافع بالذات، ومن هنا قال رسول الله(ص) وهو عائد من بعض غزواته: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)). وقال الإمام أمير المؤمنين(ع): ((الحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء)).

وأقبح القبيح أن يجهل المرء بجهله، فيظن الخير شراً، والشر خيراً، وقد يسيء بهذا الجهل إلى نفسه وهو يحسب أنه يحسن اليها صنعاً!. قال رجل لأبي ذر: اطرفني بشيء من العلم. فقال له: ان قدرت أن لا تسيء إلى من تحب فافعل. فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبه؟ قال: نعم، نفسك أحب الأنفس اليك، فاذا أنت عصيت الله فقد أسأت اليها.

وقسم المؤلفون في الأخلاق، الجهد إلى روحي وبدني، وأطالوا الكلام عن الثاني بلا طائل، لأن السعي والكدح من أجل الرزق وسد الخلة، من ضرورات الحياة، ولا أحد يسأل الزارع: لماذا تزرع؟ والعامل لماذا تعمل؟ ومن توكأ على غيره لعجز فمعه عذره، على أن فئة من الفلاسفة قالواك ((من يستهلك ولا يعمل لعجزه يجب أن يترك للموت)). ومنهم أفلاطون وبيكون ونيتشه وتومار وصاحب الإنسان هذا المجهول، وهو من أقطاب القرن العشرين، وبعض الشعوب تترك العجزة في مجاهل الصحراء (مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الثالث من المجلد الرابع) وشعوب أخرى في هذا العصر تذبح الهرم العاجز وتأكله.

أما الجهد البدني في عبادة الله سبحانه، فقد كان منذ زمان حيث كان لحياة الروح آثارها وثمارها، وكان الكثير من العباد يحرصون على الندب حرصهم على الواجب، وأذكر من ذلك مثالاً واحداً لأنه نزل من نفسي منزلته، قال رجل لأبي ميسرة العابد: ((يرحمك الله يا أبا ميسرة، أتجهد نفسك في العبادة، والله ذو رحمة واسعة!.. فقال له أبو ميسرة: هل رأيت مني ما يدل على القنوط من رحمة الله؟ ان رحمة الله قريب من المحسنين)) فليس لأحد أن يعتمد على رحمته الواسعة إلا أن يكون محسناً.. وهنا مكان العبرة والاعتبار لمن يرجو رحمة ربه.

هذا ما كان، أما ما هو كائن الآن فقد أنتج العدو الأجنبي لنا سلعاً تستنزف الدماء والأموال، وأفكاراً تضلل العقول وتعمي القلوب، فاستهلكنا هذه وتلك بالكامل، وانسلخنا عن كل قيمة وتراث، ولم يبق فينا من العابدين والمتهجدين إلا من يؤدون الفريضة المكتوبة وكفى.. على أنهم أقل من القليل، وان وجد في الزوايا بقايا من السلف الصالح فمن باب لكل قاعدة شواذ.

ومن هنا كان الجهد النفسي في هذا العصر أكثر إصراً وأشد عُسرا من أي وقت مضى، ولكن هذا لا يخفف المسئولية، بل يؤكد وجوب العمل للخروج من عهدتها، ولا يبرر الجريمة، بل يستوجب المزيد من النشاط ومقاومة المنكر، والمؤمن الصادق لا يتهرب من واجبه متعللا بالأعذار الزائفة، بل يصمد ويضاعف الجهود، والله يضاعف له ويزيده من فضله.. وتاريخ الإنسانية كله حرب وصراع بين عناصر الخير وعناصر الشر، وبين أنصار الحق والباطل.. حتى دنيانا هذه التي بلغت من الإغراء والمادة غايتها، فيها الكثير، ولله الحمد، من الشهداء والمعتقلين والمشردين، لا لشيء إلا لأنهم رفضوا الاستسلام للبغي، وأبوا إلا العدل والمضي على الحق.

هذا، إلى أن النفس الأمارة لا تملك قنابل وصواريخ، وما لها أي سلطان ظاهر وقاهر، وغاية جهدها أن تدعو إلى التمرد على الدين والعقل والخلق الكريم كما جاء في الآية 22 من سورة ابراهيم على لسان الشيطان: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتهم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم). وكم سمعنا وقرأنا عن أفراد تحرروا بالعزم الصادق وقوة الإرادة من أعمال بغيضة وعادات قبيحة بعد أن اعتادوها عشرات السنين، وصارت لهم طبيعة ثانية وثابتة: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (3 ـ الطلاق). وفي فصل الإلزام فقرة لا أخلاق بلا حرية تكلمنا حول هذا الموضوع بما يتناسب مع الحرية، وهنا تكلمنا بما يستدعيه الحديث عن الجهد.

أخلاق العسر والشدة

يرى بعض الفلاسفة أن الجهد لا يتلاءم مع الأخلاق لأن الخلق طبع وسجية، أي ان الفعل الأخلاقي يجب أن يصدر من أعماق الإنسان بيسر وسهولة بحيث يكون امتداداً لانفعالات وجدانية، وثمرة لبواعث داخلية منزها عن كل قسر وضغط. والقائلون بهذا يسمون أخلاقية الفعل وتأدية الواجب عن جهد وكبح النفس ـ بأخلاق العسر والشدة.

وقرأت العديد من الإجابات عن هذا السؤال، وأرجحها ـ فيما أرى ـ ما أجاب به الدكتور دراز في كتابه دراسات إسلامية، قال ما معناه: ليست المسألة في أخلاقية السلوك والفعل من حيث هو ـ مسألة عقل وعاطفة، وغرائز متضاربة، وانما هي مسألة نية صافية، وإرادة جادة تتعلق بهدف واضح معين، وبالإرادة مع هدفها يقاس العمل والسلوك، ويوصف بأنه خير أو شر، فضيلة أو رذيلة.

فإنْ اختار المرء وأراد ما هو خير وصلاح يكون خلقه حميدا وكريما، وإن مال إلى ما هو شر وفساد يكون خلقه قبيحا وذميما سواء أكان هذا الميل والاختيار تلقائيا وبلا واسطة، أم بسبب التربية والبيئة، أم بجهاد النفس وترويضها.

وما أبعد ما بين هذا القول وقول آخر بأنه لا أخلاق إلا بجهد وكفاح لأن النفس التي تفعل الخير تلقائياً وبكل يسر وسهولة لا أجر لها ولا فضل.

والجواب هنا هو الجواب هناك من أن السلوك الخلقي يقاس بالإرادة مع هدفها بغض الطرف عن سببها ومصدرها... ويضاف إلى ذلك أنه لو صح هذا الزعم لكان المصنوع خيرا من المطبوع،

وكان من يحيا حياة مثلى بفطرته أسوأ حالا ممن يحياها بالتمرين وعلى أيدي المربين.

وأخيراً فان الكمال المطلق لله وحده، وأشرف مخلوق لا يخلو من افتقار أو ضعف أو نقص، ولا غنى له عن الحذر والكدح والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. وأيضاً أكثر الناس شراً لا يخلو من بذرة طيبة ونفحة إنسانية يظهر أثرها ويقطف ثمرها في ساعة تمر على حين غفلة من شياطين الانس والجن. والنتيجة العائدة على هذا أو ذاك تأتي من وجه واحد وهو العمل، فانه القطب والأساس والأول والآخر مع التفاوت في الدرجات بين الفاضل والمفضول عند العليم الحكيم.

الفضيلة توحيد وانسجام

والمراد بالتوحيد هنا أن يكون الإنسان واحداً في دينه وعلمه وعمله، والمراد بالانسجام التوافق بين الشيء وحقيقته. مثلاً ـ تغريد البلبل ينسجم مع روحه وطهره، ونهيق الحمار يتفق مع خواطره شعوره.. ويُروى أن حكيما مرّ بسفيه فشتمه وأفحش، فأعرض الحكيم عنه ولم يمتعض وحين قيل له: لم لا تبالي؟. قال: لأني لا أتوقع أن أسمع من الغراب هدير الحمام.

ونقطة البداية في الفضيلة والخلق الحسن أن يعرف المرء ويميز بين الخير والشر، ويؤمن ويوقن بأن هذا يجب الكف عنه، وذاك لا يسوغ تركه واهماله بحال، فإن طاوعته النفس وانقادت له عند العمل والتنفيذ فقد تم الإنسجام واجتمع الإيمان والعلم والعمل على نهج واحد، وإن عاكست النفس الأمارة وشاكست حرصاً على مال أو جاه أو حياة إن كان الواجب بذلا وجهاداً، أو حرصاً على لذة عاجلة إن يك الواجب كفاً عن شهوة محرمة فعليه أن ينسجم مع علمه وايمانه بالوقوف إلى جانبهما ضد النفس الأمارة، ويلجمها بكل ما استطاع من شكائم حتى تستسلم للحق خاضعة صاغرة.

ومن ضعف وانقاد لشهوته فقد انفصل من عقله ووجدانه وعلمه وايمانه، وأصبح مخلوقاً مشوهاً... إن العلم ليس مجرد صورة تحتل مكاناً في الذهن والدماغ كالحبر على ورق، ولا الإيمان ألفاظاً نرددها على حبات المسابح. كلا، إن العلم والإيمان طريق وأداة إلى العمل النافع، إلى بناء حياة مثلى، وهذا العمل والبناء هو الإيمان والعلم والأخلاق.. فقد جاء في المجلد الثاني من أصول الكافي: أن رجلا سأل الإمام الصادق(ع)، هل الإيمان قولٌ وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال: الإيمان كله عمل، وفي رواية ثانية: ((لا يكون الإيمان إلا بعمل))، وفي المجلد الأول من هذا الكتاب أيضا عن الإمام الصادق(ع): ((لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته معرفته على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له)). ومن المعلوم أنه لا دين بلا معرفة.

وقول الإمام: ((دلته معرفته على العمل الخ)) يومىء إلى أن العلم بلا عمل تماماً كالجهل الذي لا يكشف عن شيء لأن هذا لا يعقبه العمل، وذاك ايضاً كذلك كما هو الفرض. وتلتقي البرجماتية مع قول الإمام(ع) لأن المعرفة عندها عين العمل، ومن قال أو يقول: أنا عارف أو عالم دون أن يعمل فقد ناقض نفسه بنفسه، والفرق أن الإمام يحصر العمل بما لا ضرر فيه على أي مخلوق، والبرجماتية تُطلق ولا تقيد.

جهاد النفس

ذكر الشيخ العاملي الحر في الجزء السادس من وسائل الشيعة كثيراً من الأحاديث عن النبي وأهل بيته(ص) بعنوان (أبواب جهاد النفس وما يناسبها) استغرقت 270 صفحة، ونذكر منها بعض ما يناسب هذا الفصل، عسى أن ينتفع به من يحرص على إصلاح ما بينه وبين خالقه، فان مدرسة أهل البيت وتعاليمهم هي وحدها تكشف ما ينطوي عليه قول جدهم سيد الكونين(ص): انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وقوله: الدين النصيحة والمعاملة. وقوله: المهاجر من هجر السيئات. وقوله: الدين بذل الجهد وصدق العمل.. إلى غير ذلك مما يربط الإسلام بالحياة، ويسير بها إلى ما هو أحسن وآمن.

واليك هذا الشاهد الناطق الصادق، مع أنه غيض من فيض. قال آل الرسالة بوحي من الله، تقدست أسماؤه:

1 ـ ((أفضل العبادة العفاف.. من كف أذاه، وعف بطنه وفرجه كان في الجنة ملكاً محبوراً.. من قدر على امرأة حراماًن فتركها مخافة الله حرم عليه النار.. طوبى لمن ترك شهوته لموعد لم يره)).

الدين صرح يقوم ويستقيم على أساسين متناقضين: فعل ما فيه للإنسان خير وصلاح، والكف عما فيه شر وفساد. وما من شك أن فعل الخيرات أيسر وأسهل على النفس من ترك الشهوات واللذات المحرمة، أليس المال والنساء والجاه والسلطان، زينة الحياة وغاية الغايات عند كثير؟ وهل من وسيلة إلى الصبر عنها إلا بورع واجتهاد؟. وهنا يكمن السر في قول المعصوم: ((أفضل العبادة العفاف)) لأن الصلاة والصيام والحج إلى بيت الله الحرام لا يحتاج إلى سد الثلمات وردم السراديب في زوايا النفس الأمارة، أما كبح الشهوة عن زينة الحياة فشاق وعسير. وفي حديث آخر ((من عصى الله فقد نسي الله، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن)). ويتفق هذا مع ظاهر الآية 27 من المائدة: (انما يتقبل الله من المتقين).

وقال الإمام الصادق(ع): قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى. فقال له سائل: وكيف يكون كثير بلا تقوى؟. قال: مثل الرجل يكون عنده مال... فينفق منه في الخيرات ولكن إذا انفتح أمامه باب الحرام دخل فيه، فهذا أبعد الناس عن التقوى والمتقين، ورجل آخر ليس عنده مال لينفق منه على المعوزين، ولكن اذا انفتح أمامه باب الحرام لم يدخل فيه، فهذا من أهل الورع والتقوى لأنه ترك المنكرات، وانتهى عن المحرمات.

والدرس الذي نستفيده من هذه الدروس المحمدية العلوية هو أن علينا أن نقيس الإنسان بمجموع أعماله ونعتبرها مكملة بعضها للبعض الآخر، ولا ننظر إليه من جانب دون جانب كقصة العميان والفيل.ـ مثلاً قد يعطف فلان الفلاني على كسيح أو جريح لا يحسده على شيء، ولا يحقد عليه لسابقة أو بادرة، فيسوغ، وهذي هي الحال، أن نحكم ونقول: هذه العاطفة بالخصوص إنسانية وطيبة، ولكن لا يسوغ بحال أن ننطلق منها إلى الحكم على صاحبها بأنه انسان طيب بقول مطلق، لأن مثل هذا الحكم يتطلب الفهم الكامل لكل جانب من شخصيته وكل اتجاه من اتجاهاته، فما يدرينا أنه لو ظفر بمن يحسد ما آتاه الله من فضله لقطعه عضواً عضواً؟

وكم رأينا من يستحسن القبيح من قريب أو حبيب، ويستقبح أحسن الحسن من آخر، أبداً لا لشيء إلا لأنه أكمل منه وأفضل؟. وأخيراً هل من العقل والعدل في شيء أن نرتضي قول من يستنكر عيوب الناس، ويرتضيها هو لنفسه؟.

2 ت من تعاليم أهل الوحي والرسالة: (من لم يعط نفسه شهوتها أصاب رشده.. من اجتنب ما حرم الله عليه فهو أعبد الناس، ومن قنع بما قسم الله له فهو أغنى الناس.. وقال الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً) (23 ـ الفرقان): ان أعمالهم كانت شديدة البياض، ولكنهم كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.. من قال: لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة، واخلاصه أن يحجزه (لا إله إلا الله) عما حرم الله.. أفضل الجهاد من أصبح لا يهم بظلم أحد.. أشد ما فرض الله على خلقه أن ينصف العبدُ الناس من نفسه، وان يواسي أخاه في ماله، وأن يذكر الله على كل حال، وليس ذكر الله أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على حرام خاف الله عز وجل عنده وتركه.. من أقرّ بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله فهو مؤمن)).

من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله يعامل في الحياة الدنيا كالمسلمين في الميراث والزواج وما أشبه سواء أكان مخلصاً في كلمة الإسلام وشهادته أم غير مخلص، والفرق بين هذا وذاك انما هو في ميزان الآخرة وعند رحمانها لا في ميزان الدنيا وشيطانها حيث لا ينجو هناك إلا من أتى الله بقلب سليم، أما غيره فله عذاب أليم حتى ولو هلل وتشهد، والمراد بالاخلاص هنا ما أوضحه المعصوم بقوله: واخلاصه أن تحجزه كلمة (لا إله إلا الله) عما نهى الله وحرم.

ويدلنا هذا الربط بين كلمة التوحيد والكف عن الحرام أن هذا الحجز والكف أصل من أصول الدين والعقيدة، وليس فرعاً كما يظن، بل هو تماماً كالإيمان بالله أو بمنزلته، ويؤيد ذلك قوله: ((وليس ذكر الله أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله وتركه).

وفي كتاب سفينة البحار عن رسول الله: ((على المسلم في كل يوم صدقة. فقيل له: ومن يطق ذلك يا رسول الله؟ فقال: كف الأذى عن الطريق صدقة.. دخل عبد الجنة بغصنٍ من شوك أماطه من الطريق.. من أماط من طريق المسلمين ما يؤذيهم كتب الله له أجر قراءة 400 آية، كل حرف منها بعشر حسنات.. وسبقت الاشارة في آخر فصل المسئولية، إلى أن النبي(ص) قال لأبي ذر: ((تصدق عن نفسك بكف الأذى عن الناس)).

وأول ما يسبق إلى ذهن القارئ من هذه الأحاديث والتي قبلها أن منفعة الناس على أنواع ودرجات متفاوتات، منها سلب محض، وهو أن لا يمس الطرف الأقوى من هو دونه قوة بأذى، ولا يستخدم قوته في معصية الله والإساءة إلى عباده وعياله، ومنها أن يزيل الأذى ولو كان شوكة في طريق، ومنها أن يبذل من نفسه وماله ما يحرر الناس من احتكار واستغلال أو رق وهوان أو فقر وجهل أو تقليدٍ ما أنزل الله به من سلطان.

وبهذه المناسبة نشير إلى أن القرآن الكريم لعن الظالمين في العديد من آياته، ونص على أنهم مخلدون في الدار، وأنهم لا يفلحون أبداً: (فأذن مؤذن بينهم ألا لعنة الله على الظالمين) (44 ـ الأعراف).. (ألا لعنة الله على الظالمين) (18 ـ هود).. (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) (52 ـ غافر).. (إلا إن الظالمين في عذاب مقيم) (45 ـ الشورى).. (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) (18 ـ غافر).. (انه لا يفلح الظالمون) (21 ـ الأنعام). وهناك بعض الآيات تومىء إلى أن الظالم كافر مثل: (فأبى الظالمون إلا كفوراً) (99 ـ الاسراء).

كف الأذى أصل لا فرع

والقصد الأول من هذا الاهتمام والتركيز على النهي عن كف الأذى بعامة وعن الظلم والعدوان بخاصة، هو الإشارة والتنبيه إلى ان المحبة وحسن التعاون بين الناس ليس شرطاً من شروط الإيمان أو لازماً من لوازمه وكفى، بل هما عصب الحياة الاجتماعية، وعليهما يقوم ويستقيم كل جانب من جوانبها حتى الحياة بين أخوين أو أبوين فضلاً عن حياة المجتمع والجماعة، وعليه فليس هذا المبدأ وضعياً أو شرعياً بل عقلياً وطبيعياً، والإسلام كشف عنه وأقره وحث على التمسك به، واليه أشار القرآن بقوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع صلوات ومساجد) (40 ـ الحج) يضاف إلى ذلك الحرص على حرية الإنسان وحقوقه وكرامته، ولولا هذا المبدأ لكان الحق للسيف والقوة لا للقانون والعدالة.

والآن تعيش البشرية كلها إلى جانب قوتين عالميتين رهيبتين تتسابقان إلى السلاح الأكثر فتكاً وسفكاً حتى حولتا إليه قرص الجائع وطمر العاري وكوخ المشرد، وكل منهما تزهو بأسلحتها الجهنمية وترهب بها عباد الله وعياله، أما مثلهما الأعلى فواحد، وهو أن تكون كل منهما أشد قوة وأكثر جمعاً، وبهذا يمكننا أن نعرف ما هي الآثار والأضرار التي يتركها هذا المثل أو المبدأ على العالم كله بلا استثناء.

وإذا كانت فلسفة نيتشه القائلة بأن القوة هي الحق والعدل والقانون والأخلاق، وأن الضعيف يجب أن يكون رقاً مؤبداً للقوي تماماً كالحيوان أو يجب أن يقتل كالديدان، إذا كانت هذه (النيتشية) باطلة عند أهل الشرق والغرب فان قوى الشر في عصرنا تطبقها بدقة وأمانة، وكفى شاهداً على ذلك مساعدتها على تشريد شعب بمجموعه، وغزو شعب في عقر داره، والمكر بكل بلد لا يخضع للقوة.. والتآمر عليه بايقاظ الفتنة من الداخل، أو بانقلاب عسكري أو بتحريض شعب مجاور.. إلى أشكال وألوان من الاغتيال والاحتيال، ويبدو أن هذه القوى لا تبلغ غاياتها إلا على حساب الضعفاء والأبرياء.

ومشكلة البشرية مع أقوياء هذا الزمان أعصى من أن تحل بطول الكلام والشكوى من أولاد الحرام.. ولكن للحق سلاحاً لا تراه الأعين، وهيهات أن تنام الشعوب على الضيم وإن طال بها الزمن.. وعلى أية حال فهذا الكلام لا يمتّ إلى ما نحن فيه بسبب، وهو أشبه بنفثة مصدور، لأن حديثنا يختص بمن يؤمن بالإلزام الخلقي والواجب الإنساني، ولكن نفسه الأمارة تعاكس وتشاكس، وعليه أن يكافحها ويكبحها، وقوى الشر في عصرنا لا تخاف المعاد، ولا تعترف بعقل وضمير، ولا ترى الا منافعها الشخصية.

3 ـ من تعاليم الهداة ((ذمك لنفسك أفضل من عبادة أربعين سنة.. من مقت نفسه دون مقت الناس أمنّه الله من فزع يوم القيامة. سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك.. والله لا ينجو من الذنب إلا من أقر به)).

قد يسهل على المرء أن يعترف بالخطأ ويعتذر منه لمجرد التخلص من مشكلة لا سبيل إلى انهائها إلا بالاعتراف والاعتذار، ولكن لا يسهل عليه أبداً أن يمقت نفسه ويعترف بخطئها، ويشعر بالحاجة الماسة إلى محاسبتها أو اصلاحها إلا أن يكون واقعياً ومعقولاً، ولا يكون واقعياً ومعقولاً إلا أن يتهم نفسه في صواب ما أحبت وتحسين ما اشتهت.

وهذا الإحساس والشعور لا يُعدّ جهاداً للنفس، ولكنه يمهد الطريق اليه، ويبشر بالعزم والتصميم على بذل الجهد لحياة أكمل..

أما الذي يرى نفسه على صواب دائم فميئوس منه، بخاصة إذا اعتقد أن صوابه جاء من وحي العبقرية والإلهام، وان من كان على موهبته وشاكلته فهو في غنى عن الدرس والعلم والتجربة والممارسة.

ونختم هذا الفصل بكلمة جاءت في آخر الخطبة 88 من خطب النهج، وفيها غنى عن كل ما قيل ويمكن أن يقال عن جهاد النفس: ((من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ)). وهذا الواعظ والزاجر هو الذي عناه الأخلاقيون بالحاسة الخلقية والضمير الأخلاقي.

والخلاصة أن الدين عند أهل البيت(ع) ليس مجموعة من الاعتقادات والعبادات والمعاملات وكفى، أي اعتقاد مجرد عن العمل وكلام يردده اللسان دون أن يترك أثراً، وانما الدين في جوهره فعل الخيرات والكف عن المحرمات، وبدون هذين الأصلين لا دين ولا أخلاق لأن الحياة التي عناها سبحانه بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم) (24 ـ الأنفال) لا تستقيم إلا بالأمن والسلام والحرية والمساواة والحق والعدل، ولا يوجد شيء من ذلك إلا بكف الظلم والأذى وحجز المطامع والشهوات، وما من إنسان إلا وهو قادر على هذا الكف والحجز.