:الموضوع

الوجود فلسفة اباحية

بين الاسلام والوجودية

الماركسية والطبيعة البشرية

علم الاخلاق منه نظري ومنه عملي

 

الوجوديون وكلمة الوجود

إذا أردنا معرفة الوجودية الملحدة(1) على وجهها وفي صورتها الكاملة ـ فلا بد أن نعرف أولاً ماذا أراد الوجوديون بكلمة الوجود التي هي المصدر لكلمة الوجودية.

ومن الواضح أن الوجود في اللغة خلاف العدم، والوجودي خلاف العدمي، ولكن هذا المعنى على عمومه غير مراد لهذه الطائفة الوجودية، وأنما أرادوا بالوجود خصوص الوجود الإنساني و (الأنا) وأيضاً ليس المراد بالوجود الإنساني عندهم وجود هذا الجسم كما نراه وكفى، بل المراد وجود ما يفعله الإنسان عن وعي منه وحرية وإرادة، وغير مفروض عليه من الخارج تكويناً ولا تشريعاً بحيث يكون الإنسان بنفسه فاعل الفعل والواضع والمشرع لحكمه في آن واحد.

وبأسلوب آخر أن الإنسان لا يكون ولن يكون موجوداً بحق إلا أن يعرف ويفكر، وتفيض أفعاله من ذاته، من وعيه وحريته وارادته وحده لا شريك له منسلخاً عن كل عرف ودين وعقل ـ غير عقله ـ وبهذا دون سواه يحقق وجوده وماهيته وصفاته كإنسان وإلا فهو بالحشرة أشبه حتى ولو ملأ الدنيا بناءً وأفعالاً طالما كان ذلك بدافع من خارجه لا من اعماقه (انظر كتاب سارتر مفكراً وإنساناً ص 45 ومجلة عالم الفكر العدد الأول من المجلد الأول مقال أمراض الفكر في القرن العشرين).

معنى الوجودية

والآن، وبعد أن مهدنا بطائفة من أقوال الوجوديين، واستضأنا بها على ما يدينون، نعرض ما ترتكز وتقوم عليه فلسفتهم فيما يلي:

1 ـ ان كل فرد من الإنسان هو أمة في نفسه وعالم برأسه.. ولماذا؟ لأن الصدف قذفت به في هذا الوجود، وتركته في خضم من الطوفان أو كريشة في مهب الريح، لا شيء ينجده ويهديه إلا نفسه وحدها.. وكل ما حوله ويحيط به من أديان ومذاهب وأنظمة وشرائع وآداب وفلسفات ـ إن هي إلا وهم وخيال وعدم وفراغ، وعليه ـ وهذي هي الحال ـ أن يصنع نفسه من خلال فعله كمشرع ومنفذ غني عن كل نصح وهداية متحرر من كل تبعة ومسئولية.. أبداً لا يُسأل عما يفعل لأنه هو المالك لذاته والرقيب عليها وحده لا شريك له.

وبكلمة أن الفرد لا يكون إنساناً بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة إلا إذا انطلق في أفعاله من أصل وجوده وأنانيته لا يستوحي ولا يستعين بشيء من خارجه على الاطلاق، فإذا عمل بدافع من الخارج فقد انتقل من وجوده الواقعي إلى عالم الوهم والخيال.

2 ـ يرفض الوجوديون فكرة الماهية والطبيعة القبلية للإنسان، وهي التي أشار إليها ابن سينا بقوله: ((هبطت اليك من المحل الأرفع)) وديكارت بكلمته الشهيرة: ((أنا أفكر إذن أنا موجود)) حيث اعتبر التفكير ممكناً من غير أداة وجعله أصلاً والجسم فرعاً، والكثير من مؤمني الفلاسفة يشاركون الوجوديين في هذا الرفض، ولكن يختلفون معهم في تحديد ماهية الإنسان، فغير  الوجوديين من الفلاسفة يرون الحرية صفة للنفس ومظهراً من مظاهرها، أما الوجوديون ـ كما يبدو من ظاهر كلامهم ـ فيحصرون الماهية بالحرية المطلقة من كل قيد إلا الحرص على حرية الآخرين لأن اطلاق الحرية واستبداد الإرادة يؤدي حتماً في النهاية إلى تحطيم حرية الجميع من الأساس.. اللهم إلا حرية الأقوياء وارادتهم، وعندئذ تسود شريعة نيتشه والغاب.

والشاهد على حصر ماهية الإنسان بحريته ما جاء في كتاب سارتر مفكراً وإنساناً ص 225 بلسان أحد أقطاب الوجوديين: ((إن وجودنا يسبق ماهيتنا، وماهيتنا هي ذاتنا، وذاتنا هي ما نصنعه بمحض حريتنا، وحريتنا ملتزمة، والتزامنا يتحدد في أن حريتنا حين تختار انما تختار أيضاً حرية الآخرين)). ونحن نفهم من هذا الكلام وسياقه بقرينة (هي) أن ماهية الإنسان تنحصر بحريته في أن يفعل ما يشاء غير مسئول عن شيء إلى عن الاعتداء على غيره!.

وفي ص 172 من الكتاب المذكور (ليس الإنسان عند سارتر حراً فحسب. بل هو أيضاً الحرية). وفي مجلة عالم الفكر العدد الأول من المجلد الأول ص 9 قال سارتر: ((ان الحرية هي تعريف الإنسان)).

ولسارتر كلمة هتف لها وهنأه عليه العديد من الكتّاب وهي ((لسنا أحراراً في أن لا نكون أحراراً)) وعلى أساسها بنى سارتر حكمه بأن الوجودية فلسفة إنسانية.

الوجودية فلسفة إباحية

ونحن لا نشك في أن لا إنسانية بلا حرية، ولكن نتساءل: هل الهدف من الحرية أن يكون للإنسان القدرة على تنفيذ ما يراه أحسن وأصلح له ولغيره، ويتحمل المسئولية كإنسان مستقل وعاقل، أو أن الهدف من الحرية أن يسترسل المرء مع سفهه وأهوائه يُفسد ويفجر، ويخون ويمكر، ثم يبرر مفاسده وآثامه بقوله: (أنا حر) ويكون قوله هذا حجة كافية ومعذرة وافية؟ ثم هل وجد الإنسان ليعيش ويحيا فوضوياً بلا تنظيم ونظام ولا إلزام والتزام؟ وإذن ما الفرق بينه وبين وحش الغاب؟ وهل في الكون مجتمع بغير قانون؟ وإذا كان الشيوعيون قد أمموا وسائل الانتاج جبراً لفقر البائسين كما يزعمون، فهل أمّم الوجوديون الأديان والشرائع والآداب والأخلاق ليبرروا فوضى (الخنافس والهيبيين) وشذوذهم وفساد الأشقياء وإجرامهم؟.

وليس هذا التساؤل تحاملاً أو تهكماً أو خيالاً، بل تفسيراً لقول سارتر: ((ان خير الإنسانية هو ما يراه الإنسان أنه خيرها، فإذا رأى أن الخير الإنساني يكمن في الانضمام إلى الكاثوليكية فهو صحيح من الناحية الوجودية المنطقية، وإذا رأى العكس فهو صحيح كذلك)). إن كل ما تطلبه منا الأخلاق الوجودية عند سارتر هو أن نقرر فحسب ـ أنظر كتاب سارتر مفكراً وإنساناً ص 225 وما بعدها.

والذي نفهمه من هذا الكلام أنه لا حق ولا عدل ولا خير على الإطلاق إلا ما يراه الإنسان الفرد ويريده، فإن أراد هذا الشيء بالذات فهو صحيح، وإن كرهه فهو فاسد لا لشيء إلا لأنه أحب أو كره، فإن عدل عما كان قد أحب بالأمس وكرهه الآن يصبح الصحيح فاسداً، أو ما كره يصير الطالح صالحاً!. فالمقياس هو المشيئة والإرادة ولا شيء سواها حتى ولو كانت بلا عقل وعلم!. هذا هو الابتكار والإبداع!.

ولا كلام بعد هذا الكلام إلا أن يقال: أن الوجودية فلسفة إباحية شيطانية لأن الشيطان قد تعهد بتزيينها وترويجها، فتقتحم قلوب الشباب المتفسخ المتمزق بلا استئذان ومن غير عسر وحرج حيث الجاذبية في الشهوات والملذات أقوى منها في أي شيء آخر، قال الإمام أمير المؤمين(ع): ((الحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء)).

وأيضاً قال سارتر في كتاب الوجود والعدم ما معناه أن الإنسان يبرر كل فعل يقدم عليه، أو يحجم عنه، فإذا أراد الانتحار صاغ كلاماً منمقاً يحتمه ويوجبه، ونفس الشيء إذا حرص على حياته.. وقد يدمن على الخمر والقمار فيخلق لنفسه الأعذار، فإذا أقلع عنهما جمع عشرات الأدلة على خير ما صنع، وإذا عاد اليهما كما كان وزيادة ألبس الأدلة ثوباً جديداً يبرر العودة والأوبة!.

ونحن نقول لسارتر: فمن فمك ندينك. فإذا كانت أفعال الناس وأقوالهم مجرد تصورات ذهنية وايحاءات ذاتية لا تمتّ بسبب إلى الواقع فكذا فلسفة الوجودية ضلال وخيال لا أصل لها في الواقع ولا اساس.. والحق أن الوجودية ليست فلسفة أو علماً أو مجموعة من المبادئ تهدف إلى معقول، وانما هي شطحة أو غلطة أو نزعة أو حيرة وما أشبه، والوصف الأخير بها أجدر وأليق لأنها ترى الكون بما فيه ومن فيه غربة وغثياناً ولغواً وعبثاً لا معقولاً!.

بين الإسلام والوجودية

والإسلام يلتقي مع الوجوديين في قولهم: ليس للإنسان إلا ما سعى كما نصت الآية 41 من النجم، وفي تحرره من التقليد الأعمى كما جاء في الآية 170 من البقرة، وفي أنه حر مخير حتى في الدين والمذهب، ويقول القرآن في ذلك: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (256 ـ البقرة).. (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ـ 29) أي أن الله، تقدست حكمته، لا يلجئ أحداً ويقهره على الإيمان به أو الكفر، بل يهديه النجدين، ويترك الخيار له. وأيضاً يُحتّم الإسلام على كل امرئ أن يحرص على حرية الآخرين تماماً كما يحرص على حريته بالذات: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (190 البقرة).

ويبتعد الإسلام عن الوجودية كل البعد في الفوضى والاباحية، وعدم الاكتراث بالخير والحق، وفي ترك الإنسان يسترسل مع أهوائه يعيث شراً وفساداً في الأرض كما يشاء بلا رادع وزاجر، ولا سؤال وجواب.

قال سبحانه: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) (26 ـ القيامة). وقال: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) (41 ـ النجم) وفي هذه الآية على ايجازها ثلاثة مبادئ أساسية في الشرع والنظام الإسلامي: الأول أن الإنسان رهن

بأعماله. الثاني أن عليه رقيب وحفيظ لا يغفل عنه. الثالث أنه مجزي بما أسلف وقادم على ما قدم لا محالة.

الوضعية المنطقية

المراد بالوضعية النظرة العلمية آخذاً من الموضوع المستقل في وجوده عن شعور الإنسان، أما المنطقية فنسبة إلى المنطق، ومعنى الكلمتين مجتمعتين النظرة العلمية في المنطق، ويكون المراد المنطق التطبيقي دون الصوري(2). قال الدكتور زكي نجيب محمود في (كتاب نحو فلسفة عملية ص 30): ((لما كان وضع الأمور في عالم الواقع هو وحده مجال البحث العلمي، أطلق على النظرة العلمية اسم الوضعية، فإن كان الوضع القائم الذي يشغل الباحث عبارة من عبارات اللغة أو لفظة من ألفاظها كانت الوضعية في هذه الحال وضعية منطقية، ومن ثم كان هذا الإسم: الوضعية المنطقية مميزاً لطائفة من أصحاب يصوغ فيها سائر العلماء علومهم على اختلاف موضوعاتها)).

ومعنى هذا الكلام أن العلم، أي علم، لا بد وأن يكون موضوعه شيئاً يمكن أن يدرك إدراكاً حسياً بحيث يُرى بالعين، ويُلمس باليد، وعليه فكلمة نظرية علمية لا تطلق إلا على قضية

تُعبر عن شيء مشاهد ومحسوس في العالم الخارجي وإلا فهي عبث لا طائل تحته، ولا شأن للمنطق والعلم به من قريب أو بعيد.

أما كلمة الوضعية المنطقية فتطلق على المنطق الصحيح السليم الذي يقسم الكلام إلى نوعين: أحدهما يوصف بالخطأ أو الكذب، أو بالصواب والصدق، وهو ما كان له معنى في الخارج يمكن التثبت من صدقه أو كذبه بالحس كقول القائل: الشمس طالعة حيث ينظر فإن رأيناها فالقول صادق وإلا فهو كاذب.

وثاني النوعين من الكلام يوصف بالكلام الفارغ الهاذر حيث لا يحمل أي معنى على الإطلاق مثل النفس خالدة، ومثل الماهية الكلية، فأين النفس والماهية والخلود حتى نتثبت من صواب هذا الكلام أو خطئه، وهل من المستطاع أن نشاهد معناه؟ ومن هنا لا يوصف بالكذب حيث لا يمكن أن يوصف بالصدق تماماً كما لا يوصف الحجر بعدم النطق، وبكلمة لا يكون الكلام كاذباً إلا حيث يمكن أن يكون صادقاً. وبأسلوب آخر إن علماء الطبيعة يكتفون بتسجيل ما يرون فيها ويشاهدون، وهكذا الفلسفة الوضعية ينبغي أن تحلل الألفاظ، ثم تُسجل وتُعلن أن أية عبارة لا تحكي عن معنى في عالم المادة فهي لغو وعبث.

والقيم الأخلاقية من هذا النوع لأنها ليست مادية يمكن أن تدرك بالحس، وكذلك القيم الدينية.

الجواب:

1 ـ لا هدف للوضعية المنطقية أو الفلسفة التحليلية إلا القضاء على الدين والأخلاق واعلان الحرب على كل ما يمتّ إلى الإنسانية بسبب حيث لا شيء من قيمها كالعدل والاحسان يدرك بالحس. ولا أدري كيف يعيش الناس بلا وجدان وإنسانية في سلوكهم!. وهل بديل عن الأخلاق تستقيم معه الحياة؟ وما هو هذا البديل؟ واين نجده؟ في الصهيونية أو الرأسمالية الفاشية أو الانبريالية أو الاشتراكية التي تحاسب الفرد وتعاقبه على حريته في التعبير عن نفسه وآرائه، أو غير ذلك من الفلسفات والنزعات الحديثة التي تبث السموم في النفوس، وتغرس فيها أخطر العادات وأقبحها؟.

2 ـ ان حقائق الكون بما فيه ومن فيه على أنواع في طبائعها وصفاتها، وليست كلها من نوع واحد نستطيع إدراكه بالحس وإلا كان الإنسان في غنى عن العقل والحقائق العقلية، والبحث عن الحق والباطل والخير والشر والكامل والناقص، ومعنى هذا ـ لو تم ـ أن أي جهد يبذله الإنسان لمعرفة شيء من العالم المجهول فهو سفه وحماقة لأن جهده لا يؤدي به إلى شيء!. وأيضاً معنى هذا أن الإنسان والحيوان بمنزلة سواء.

ان الموجود على نوعين: ظاهر وباطن، والأول يدرك بالحس مباشرة كالحجر والشجر، والثاني يدرك بأفعاله وآثاره كالجاذبية والمغناطيس والعقل وغيره من ملكات النفس، وهذا تماماً كالأول في وجوده ورسوخه. قال اينشتين: ((من الخطأ أن نعطي الأولية للتجربة الحسية.. فهناك عالم موضوعي وحقيقي وراء حواسنا))(3) وفي كتاب المنطق للدكتور صليبا ص 395 ما نصه:

((من الخطأ الظن أن ما لا يقع تحت الحس الظاهر لا حقيقة له. قال (جوفروا): ان نجاح العلوم الطبيعية في هذه السنوات جعلنا نعتمد على الرأي القائل: أن لا وجود للحوادث إلا إذا وقعت

تحت حواسنا.. ولكننا لا نسلم أبداً بأن الحقيقة محصورة فيما يقع تحت الحواس من الحوادث. إننا نعتقد أن هناك حوادث من طبيعة أخرى لا تُرى بالعين، ولا تلمس باليد، ولا يكشف عنها المجهر والمبضع، ولا تدرك بالشم أو بالذوق، ولا تسمع بالأذن، بل نشعر بها مع ذلك شعوراً يقينياً، وهذه الحوادث هي الحوادث النفسية من احساسات وفكر وذكريات وعواطف وتهيجات ورغبات وأحكام)).

ونعطف على قول هذا الفيلسوف فنقول لو حصرنا المعرفة بالمادة فقط لحجرنا على العقل أن يفكر في أي شيء سواها، ولم يكن للعلوم النفسية والإنسانية ومؤلفات العقل أيّ شأن ووزن مع أن المعرفة أوسع نطاقاً من العلم بمعناه الجديد، بل من صميم العلم أن يفكر الإنسان في مصدر وجوده وفي مصيره، وماذا ينبغي أن يغفل ويترك، وأن يمهد الطريق لتغيير ما يجب تغييره من نفسه ومحيطه.

3 ـ إن أخص خصائص العلم الغاء كل ما هو جزئي وخاص. وابقاء ما هو عام، ومعنى هذا أن قضايا العلوم تتجاوز حدود الحس إلى العقل لأن الحس مقصور على ما هو خاص فقط، فإذا حصرنا طريق المعرفة بالحس وحده انسد باب العلوم بالكامل، وكان طلب أي علم كان، محاولة للمحال! ومن هنا قال كل العلماء مع أرسطو: العلم بالفرد ليس علماً، ولا علم إلا بالكليات.

وبعد، فإن الكون يزخر بالحقائق الخفية التي لا تُرى بالعين ذات الطاقة المحدودة، وما من عاقل على وجه الأرض إلا ويؤمن بالعديد من الحقائق، بل ويرى الإيمان بها من الضرورات والمسلمات الأولية.

وكلمة أخيرة نرد بها على الوضعيين المناطقة القائلين بأن الأخلاق نسبية لا واقعية، وهي يجب ـ على منطقهم ـ أن لا يوجد في الدنيا صالح وفاضل حقاً وواقعاً حتى ولو ملأ الأرض قسطا وعدلاً، وخيراً وأمناً، وجعل الناس كلهم قلباً واحداً ويداً واحدة، وقضى على الجهل والمرض والفقر، وأيضاً يجب أن لا يوجد شرير وفاسد حتى ولو سعى في الأرض فساداً، وأهلك الحرث والنسل، لأن الخير والفضيلة والشر والرذيلة كلام فارغ من المعنى!. ولا كلام إطلاقاً بعد هذه الثرثرة والغرغرة.

البرجماتية

البرجماتية في أساسها مذهب أو نزعة عملية تقيس كل فكرة وعقيدة بالمنفعة الشخصية وبخاصة المال، فلا علم وصواب ولا دين وأخلاق ولا خير وعدل إلا ما يجلب للإنسان نفعاً خاصاً أو يدفع عنه ضراً. وزعماء هذه النزعة ثلاثة: شيلر وديوي ووليم جيمس، كما في كتاب مدخل جديد إلى الفلسفة لعبد الرحمن بدوي والموسوعة الفلسفية المختصرة، وفي ص 305 من هذه الموسوعة ما نصه:

((فالأفكار عند البرجماتيين ما هي إلا أدوات تحاول البشرية بواسطتها أن تنجز ما تصبو إليه من غايات، كما أنه يجب أن يحكم عليها بمدى كفايتها في خدمة هذه الغايات، وعلى ذلك فالعقائد بمثابة أدوات نعالج بها الخبرة، ويجب أن نحكم عليها على هذا الأساس، ومن ثم فقد أصبحت البرجماتية اسمأ لأي موقف يؤكد أهمية النتائج من حيث أنها اختيار لصلاحية الأفكار)).

ومعنى هذه العبارة أن الفكرة أو العقيدة مهما كانت أو تكون، لا تُعبر عن الحق والواقع إلا إذا أدت إلى المنفعة التي يتوخاها ويهدف اليها المفكر والمعتقد وإلا فهي سراب ويباب تماماً كالخريطة التي لا تهدي السائل الضال عن الطريق ـ إلى مقصده وغايته لأن خطوطها رسمت عبثاً وعلى غير هداية وبصيرة.

وفي كتاب منطق البرهان ص 337 نقلاً عن كتاب إرادة الاعتقاد لوليم جيمس: ((ان الحق في مذهب البرجماتيين ليس إلا ما أعتقده أنا أنه حق، والمعتقد عندهم إرادة تحقق الرغبات الشخصية)).

الجواب:

1 ـ لو ربطنا الحق بالرغبة والإرادة لكان الحق يدور مدار الأهواء الشخصية والمنافع الذاتية وجوداً وعدماً، ومعنى هذا أن كل إنسان يمثل معياراً خاصاً للحق، وأيضاً معنى هذا أن تسود الفوضى وشريعة الغاب، وأنه لا منطق وعدل ولا نظام وحرام.

2 ـ ان العالم حقاً وواقعاً يتجه أولاً ـ وقبل كل شيء ـ إلى الكشف عن الواقع ومعرفة الحقيقة، أما البرجماتي فكل همه واهتمامه الغنيمة والمنفعة الذاتية ولو على حساب الآخرين تماماً كاللص وقاطع الطريق.

3 ـ وأخيراً ينبغي ـ على منطق البرجماتيين ـ أن لا نطلق كلمة علم على من درس وأتقن علماً من العلوم إلا إذا ظهر له أثر محسوس وملموس.. وإن قال قائل: إن البرجماتية لا تربط معنى الافكار بالنتائج العملية، بل تربط صدق القضية بما تحققه من نتائج ـ قلنا في جوابه : إن الإشكال ما زال قائماً لأن كل القضايا العلمية المدونة في الكتب هي نظرية لا عملية، وقد لا يكون لها نتائج عملية على الإطلاق.

وبعد، فنحن لا نشك أن العلم وسيلة للعمل، وكذلك الإيمان وسيلة لصالح الأعمال، ومن هنا قرن سبحانه الإيمان بالعمل الصالح في العديد من الآيات معطوفة على قوله تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (17 ـ الرعد) وقوله: (فاستبقوا الخيرات.. وسارعوا في الخيرات) إلى عشرات الآيات. فليس المراد بالنفع والخير هنا مجرد اللذة ودفع الألم ولا الجاه والمال، بل المراد كل ما فيه صلاح بجهة من الجهات سواء أكان الصلاح عاماً أم خاصاً، شريطة أن لا يكون على حساب الآخرين.

الماركسية والطبيعة البشرية

تناولت الماركسية في بحوثها الطبيعة وما وراءها، وعالجت مشكلات الاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة، وتحدثت عن ماهية الإنسان وغيرها.. ونشير هنا إلى تعريف الإنسان ومفهومه عند الماركسيين مقتصرين على هذه الإشارة، لأن الإنسان هو المنظور إليه بالأخلاق، والمقصود الوحيد فيما ينبغي أن يفعل أو يترك بإرادته واختياره.

والمشهور عن الماركسية القول ـ على وجه العموم ـ بأنه لا واقع إلا المادة، وأنه لا خير إلا الإنتاج، وأنه لا عدل، إلا في دكتاتورية البروليتاريا الثورية، أما الإنسان فهو من نتاج الطبيعة وجزء لا يتجزأ منها، ويصدق على طبيعته ما يصدق على الأشياء المادية التي تتبدل من حال إلى حال آخر.. حتى عقل الإنسان واراته وجميع ما فيه من غرائز وملكات هي من عوارض المادة وظواهرها.. وإذا كان الإنسان بالكامل مادة في مادة فقيمه بكاملها مادية أيضاً، ولا مكان فيه للمثل والقيمة الدينية والأخلاقية. وجاء في الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 289 ما نصه بالحرف:

((يعتقد ماركس أن الإنسان شيء في الطبيعة وكتلة ذات ثلاثة أبعاد من لحم ودم وعظم... تنطبق عليها قوانين الطبيعة التي اكتشفتها العلوم كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية الأخرى، وقد أنكر ماركس وجود روح لا مادية ووجود جواهر روحية من أي نوع، وبالتالي أنكر وجود الله، واعتبر اللاهوت والميتافيزيقا أنسجة من الأكاذيب)).

وحول هذا الكلام نتساءل: إذا كان عقل الإنسان وفهمه ومشيئته مادة أو من ثمارها، وكان حبه للحق والخير وعفته ونزاهته وتواضعه وتسامحه واخلاصه وتعاونه مادة، وأيضاً إذا كان الإبداع والاختراع والمبادئ والنظريات والصعود إلى القمر ووضع السفينة على المريخ تتحدث عنه وعن صفاته مع أهل الأرض، إذا كان كل ذلك وفوق ذلك من صنع المادة في الإنسان وكفى، فكيف؟ ومن أين جاءته هذه الخصائص والمميزات عن غيره من الكائنات المادية؟ وهل في الإنسان عناصر مادية لا توجد في غيره؟. لقد حلل علماء الطبيعة جسم الإنسان وقلبه ودماغه حتى دماغ اينشتين بعد موته، فلم يجدوا فيه أية مادة تفرد بها عن سواه.. ألا يدل هذا بمنطق العقل والبديهة أن هناك سراً يكمن وراء لحم الإنسان ودمه وعظمه؟ وإلا فبأي شيء نفرق بينه وبين غيره من الأجسام وبين العالم الاجتماعي والعالم الطبيعي طالما الجميع من فصيلة واحدة؟ ثم هل من أحد أساء إلى نفسه وإلى الإنسانية جمعاء أكثر ممن يقول: ليس الإنسان سوى كتلة من لحم ودم وعظم؟ أليست هذه الأبعاد بكاملها موجودة في الحيوان؟. وصدق الله العلي العظيم: (ولقد كرمنا بني آدم ـ 70 الإسراء.. من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ـ 32 المائدة).

وأجاب الماركسيون ((بأن بعض الفلاسفة قد ذهب إلى القول: إن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو الوعي والشعور، والحق أن الإنسان لم ينفصل عن الحيوان إلا في أن الإنسان هو الذي ينتج مقومات حياته، ومعنى هذا أن ماهية الإنسان تتوقف على انتاجه. لأن العلم هو الذي ميز الجماعة البشرية عن طوائف القردة التي تتسلق الأشجار ـ مجلة عالم الفكر العدد الأول من المجلد الثاني 257 وما بعدها)). وفي العدد الرابع من هذا المجلد ص 266: ((ان الإنسان عند ماركس يظل دائماً العامل المنتج.. أما الإنسان بغرائزه وارادته ونزوعه إلى الحب فلا مكان له في فكر ماركس)).

وهذا اعتراف صريح بأن الإنسان يفترق عن الحيوان في العلم والعمل الدائب على إخضاع الطبيعة لسيطرته وتطويعها تبعاً لأغراضه وحاجاته، وعليه يأتي الكلام والسؤال: كيف وجد هذا الفارق العميق السحيق بين شيئين هما من فئة واحدة مادة وعنصراً؟ ولا أدري كيف التأم المفرق والموحد في شيء واحد؟

وأيضاً قال الماركسيون: ان طبيعة الإنسان ليست مستقرة ولا مستقلة، بل تتغير وتختلف تبعاً لبيئته ومستواه المادي.. وعن كتاب بؤس الفلسفة لماركس: ((ان التاريخ بأجمعه ليس سوى تغيير مستمر للطبيعة الإنسانية)). وأيضاً اشتهر عن الماركسيين أن ((الاشتراكية هي الكفيلة بتغيير الطبيعة البشرية)).

(أنظر مقالاً بعنوان الطبيعة البشرية في فلسفة كارل ماركس في مجلة عالم الفكر العدد الأول من المجلد الثاني).

1 ـ نحن لا نشك في أن الدخل والإنتاج يلعب دوراً خطيراً في حياة الإنسان وعاداته، ويؤثر تأثيراً جسمياً في العلاقات الاجتماعية.. وفي القرآن الكريم آيات تشير إلى ذلك بوضوح منها قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم واياكم) (31 ـ الإسراء).. (ان الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) (7 ـ العلق) ولكن هذا التأثير والتفاعل تبعاً لمستوى المعيشة، يرجع إلى الظواهر الاجتماعية والصفات الطارئة على طبيعة الإنسان لا إلى طبيعته بالذات، وبديهي أن تغيير الصفة والمحمول لا يستدعي تغيير الموصوف والموضوع، ولا يبدّل ويحوّل شيئاً من عناصره ومقوماته إلى شيء آخر تماماً كالأرض تبقى على هويتها وحقيقتها سواء أزرعت فيها شوكاً أم ورداً، وبنيت فيها قصراً أم كوخاً.. ولكن الماركسيين يخلطون بين الطوارئ والصفات من جهة وبين الطبيعة والموصوف من جهة ثانية.

2 ـ إن فكرة الإشتراكية انبثقت وانطلقت من وجود هذا النظام الرأسمالي الجائر حيث تضع الدولة نفسها أساساً في خدمة الأثرياء ومن يملكون وسائل الانتاج، ومن أجلهم وحدهم تدمر القيم الإنسانية وتغرق البشرية في حروب وحشية طاحنة، وتحول بين الشعوب المستضعفة وبين أقواتها ومصدر حياتها، فقامت الاشتراكية على اساس أن تكون الدولة في خدمة الفقراء وتحريرهم من استغلال الأغنياء والأقوياء كثورة على الرأسمالية الطاغية، وراجت هذه الفكرة في العديد من الأوساط، وتوجد الآن 14 دولة اشتراكية(4) ولكنها تُجند شعوبها، وتُعبئ الجماهير لخدمة أهداف الدولة ورجالها خلافاً للأساس والهدف الذي قامت عليه الإشتراكية(5)

ونترك هذا الموضوع إلى سؤال نوجهه للماركسيين حيث زعموا بأن الاشتراكية كفيلة بتغيير الطبيعة البشرية!. وهذا هو السؤال: هل طبيعة الإنسان بعناصرها ومقوماتها في البلد الاشتراكي غيرها في البلد الرأسمالي؟ ثم هل جميع أبناء البلد الاشتراكي وأفراده على مستوى واحد مقدرة وامكاناً، وعقلاً ووجداناً وميولاً وأحلاماً، وعقيدة وإيماناً؟.

ان نوع الإنسان واحد اينما كان ويكون.. تجد بين أفراده الطيب والخبيث، والشجاع والجبان والكريم والبخيل هنا وهناك، وأيضاً تجد الإبداع والإختراع والعلوم والفنون، كل ذلك وما إليه من نوع واحد وطبيعة واحدة في الكتلة الشرقية والغربية. فقد جاء في العدد الرابع من المجلد الرابع لمجلة عالم الفكر ص 150: ((ان النظرة إلى تقسيم الفن نوعين، برجوازي واشتراكي ، تقسيماً حاداً متعسفاً قد عُدل عنها في جميع أنحاء العالم بما في ذلك النقاد الماركسيين أنفسهم)).

وخلاصة الفلسفات الأربع المتقدمة أن لكل فرد من الإنسان أن يفعل ما يحلو له عند الوجوديين الملحدين حيث لا حلال ولا حرام إلا ما يحلله أو يحرمه على نفسه بنفسه، شريطة أن يحرص على حرية الآخرين.. ولا خير وفضيلة عند البرجماتيين إلا ما يعود على الإنسان بالمنفعة الشخصية ولو على حساب الناس أجمعين، وخاصة المال باعتباره القوة السحرية.. والقيم الدينية والإنسانية عند أنصار الوضعية المنطقية أسطورة وكلام فارغ.. ولا يمكن بحال أن نتصور الطبيعة البشرية إلا في مجتمع عند الماركسيين، أما الاقتصاد والإنتاج فهو المعبود الوحيد.

ونسأل ونجيب بالاجمال لا بالتفصيل والمتن لا بالشرح حيث تقدم الشرح والتفصيل..

أولاً هل من أحد على وجه الأرض يستطيع العيش والحياة بلا دين وأخلاق، ولا قيود وحدود على الإطلاق؟. أبداً حتى من ينكر الأخلاق يحرص كل الحرص على حريته وكرامته، ويكره الإعتداء عليه، ويجب أن يفي له من عاهده بعهده، ومن حياه أن يرد عليه بالمثل أو بالأحسن، وأن لا يستعلي عليه مخلوق، وأن يكون ولده باراً، وحاكمه عادلاً، وجاره صالحاً.. وكل ذلك وما إليه من صميم الدين القويم والخلق الكريم.

ثانياً هل المادة هي الموجود الوحيد، وكل لفظ لا يدل عليها فهو كلام فارغ من المعنى؟. كلا وألف كلا، إن في العالم الغائب عن الحواس الظاهرة طاقات لا عدّ لها ولا حد، وفي الإنسان ملكات وغرائز تمكنه أن يضيف إلى العالم أشياء جديدة ومفيدة ـ كما حدث ـ وهذه الغرائز والملكات موجودة في الإنسان بما هو وخبيئة في نفسه وعقله سواء أعاش وحده أم في مجتمع، انخفض دخله أم ارتفع، ويستحيل أن تتحول إلى شيء آخر حتى ولو تحول من بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع.

وأخيراً هل من أحد يشك أن النزعة الإنساينة والأخلاقية لو سادت وتوطدت أركانها ـ لعاش الناس، كل الناس، في أمن ورخاء، وسعادة وهناء؟ وإذن علام الخلاف في وجود الأخلاق؟.

علم الأخلاق منه نظري ومنه عملي

هناك أمور قد يسميها بعض الناس (علماً) وما هي بشيء كمعرفة الانساب، وطول سفينة نوح وعرضها، واسم نملة سليمان وهل هي ذكر أو أنثى؟ وغير ذلك مما لا خير في معرفته، وموسع على العباد في جهله. وفي أصول الكافي عن الإمام الصادق(ع): ((لا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له)). وفي سفينة البحار عن الإمام الكاظم(ع): ((أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلا به، وأوجبه عليك ما أنت مسئول عن العمل به، وألزمه لك ما دلك على صلاح قلبك، وأظهر لك فساده)).

وكل هذه الأوصاف تصدق وتنطبق على علم الأخلاق، فهو بقواعده ومبادئه يهدي للتي هي أقوم وأسلم من السلوك والأفعال بحيث لا يسوغ الفصل بينهما بحال، لأن العلم والعمل لا يصلحان إلا على أساس الخلق الكريم، ومن عرف هذا الخلق لزمته الحجة، وأصبح عنه مسئولاً، ومن هنا قسموا علم الأخلاق إلى نظري وعملي.

والنظري هو الذي يبحث عن أسس الخير المطلق وفكرة الفضيلة من حيث هي بغضّ النظر عن المصاديق والأفراد تماماً كالبحث عن العبادة من حيث هي عبادة لا من حيث هي صوم أو صلاة فقط. وأيضاً يسمى العلم النظري للأخلاق بفلسفة الأخلاق، أما علم الأخلاق العملي فلا يبحث عن الخير المطلق والفضيلة كفكرة ومبدأ، بل يبحث عن مصاديق الخير التي تقع تحت الحواس والفضائل الخارجية كالوفاء بالأمانة والإحسان إلى المعوزين تماماً كما يقول الفقيه: يجب رد التحية، وتحرم السرقة، وعليه يكون موضوع علم الأخلاق النظري بمنزلة الجنس الذي لا يوجد في الخارج إلا بوجود أفراده، وموضوع علم الأخلاق العملي نفس المصاديق التي تحس وتظهر للعيان كالكرم والشجاعة.

مثلاً ـ إذا قلنا: كل ما أمر به الوحي والعقل فيه خير أو كل ما فهي نفع وصلاح للناس في جهة من الجهات فهو حسن، كانت هذه القضية أخلاقية نظرية بحتة وفكرة مجردة، وإذا قلنا: هذا الميتم أو المستشفى المجاني خير تكون القضية عملية مع العلم بأن الأخلاق النظرية ليست غاية في ذاتها، بل خطوة مرحلية ينتقل منها الباحث إلى التطبيق والعمل، وهذه المرحلة التطبيقية العملية هي الهدف الأسمى لعلم الاخلاق بل لكل علم على الاطلاق.

أما مجرد الحفظ والفهم لما دونّه العلماء في كتبهم أو دار في رءوسهم فهو كلام في كلام تماماً كالحرف المسطور في كتاب مقبور، والفرق ان الذي في هذا الكتاب حبر على ورق، أما الحفظ فصورة في مرآة الذهن.

والخلاصة ان العلم النظري للأخلاق مجرد معرفة، والعلم العملي سلوك، والصلة بينهما تماماً كالصلة بين اليد والعمل بها، وبين العين ورؤية الطريق. وكما ان كلا من اليد والعين ليست لمجرد الجمال والتناسب بين الأعضاء. كذلك المعرفة ليست لمجرد الترف وتراكم الصور

الذهنية، بل للعمل من أجل الحياة الطيبة الخيرة التي يوحي بها الحب والعدل، ويهدي إليها الوحي والعقل.

موضوع البحث

ونبحث أول ما نبحث في الصفحات الآتية النظرية الأخلاقية، أو العلم النظري للأخلاق أو فلسفة الأخلاق أو التخطيط للعمل والتطبيق، قل ما شئت. وتفصيل هذا الإجمال أن البيت ـ مثلاً ـ يتألف من عناصر ومواد أولية كالحديد والأخشاب والأحجار والتراب، ونحن نبحث هنا عن العناصر والمواد الأولية لحقيقة الخير والفضيلة بوجه عام من غير تقييد وتخصيص بخير دون خير وفضيلة دون فضيلة كالعدل أو الإحسان أو إيتاء ذوي القربى أو غير ذلك من الفضائل والخيرات التي يبحث عنها في علم الأخلاق العملي.

واكرر مؤكداً أن علم الأخلاق النظري وسيلة وأداة للعمل بما تقتضيه قواعد الاخلاق ومبادئها تماماً كالإيمان بالنسبة إلى عمل الصالحات، فالإيمان (معرفة بالقلب، واقرار باللسان، وعمل بالأركان)، وكذلك الأخلاق، علم وعمل، قول وفعل ايمان وصالح الأعمال تماماً كما قال الإمام أمير المؤمنين(ع) في وصف أخ له في الله: (كان يفعل ما يقول، ولا يقول ما لا يفعل).(6)

وعناصر الخير والفضيلة على العموم خمسة(1) الإلزام الخلقي الذي يأمر بالخير وينهى عن الشر(2) المسئولية المنبثقة من هذا الإلزام والمتفرعة عنه(3) الجزاء بالثواب على طاعة هذا الإلزام والعقاب على معصيته(4) النية الخاصة المخلصة لوجه الله والخير(5) الجهد الروحي بضبط النفس عن الهوى، والجهد البدني بالصبر والثبات على مواجهة الصعاب والعوائق من أجل عمل الخير وترك الشر.

ونتحدث عن كل واحد من العناصر الخمسة في فصل مستقل، وبديهي أن وجود اللإلزام الخلقي الداخلي يفترض وجود العلم به حتماً، ولذا لم نذكر هذا العلم مع عناصر الخير والفضيلة.

الهوامش:

(1) الوجودية متنوعة متعددة، فزعماؤها الأولون كانوا من المؤمنين، ومنهم كيركجارد ويسبرز ومارسل، ونحن هنا لا نؤرخ للوجودية لأن تاريخها يحتاج إلى كتاب ضخم، وإنما نتحدث عن الوجودية الشائعة المعاصرة لأنها ترتكز على الإلحاد والتحرر من الدين والأخلاق، ومن زعمائها هيديجر وسارتر والبير كامي وسيمون دي بوفوار.

(2) موضوع المنطق الفكر الإنساني، وتعريفه فن التفكير، وغايته الوصول إلى معرفة الحقيقة، وينقسم إلى صوري وتطبيقي، والأول هو منطق ارسطو القديم، ويبحث عن الصور الذهنية وانسجام الفكر مع نفسه بغض النظر عن الأشياء الخارجية، أما المنطق التطبيقي فيبحث عن اتفاق الفكر وانسجامه مع الأشياء الخارجية، وليس من شك أن الأصول تستدعي أن يتفق الفكر مع الخارج لأن النظرية يجب أن تؤدي إلى العمل، كما أن العمل يجب أن يهتدي بالنظرية الحقة.

(3) مجلة عالم الفكر العدد الثاني من المجلد الثاني، مقال بعنوان ماخ وانيشتين.

(4) هي روسيا والصين ويوغوسلافيا والبانيا وفيتنام وكوبا وكوريا الشمالية وبولند وبلغاريا ورومانيا وتشكسلوفاكيا والمجر ومنقوليا والمانيا الشرقية.

(5) اقرأ قصة ذوبان الجليد للأديب الروسي الشهير ايليا اهر نبورج وغيرها مما يصور الرعب والقلق والضغط خلال عهد ستالين.

(6) قال فيلسوف كبير ومعاصر: يهتم الغربيون بالعمل وأحكام العقل، ومن أجل هذا يقدمون: الاسم على الفعل ويقولون زيد جاء لأن الاسم يومىء إلى العلم والعقل، أما العرب فيهتمون: بالفعل وقيم السلوك، ولذا يقدمون الفعل على الاسم، ويقولون: جاء زيد، ولا بأس بهذا النوع من التفنن في الأسلوب والتعبير والتفلسف في التأمل والتفكير