.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

 

 

  الفصل السابع

 نبذة  تفسير السورة المباركة القدر

قوله تعالى: إنّا أنزلناه في ليلة القدر: وفي هذه الآية الشريفة مطالب عالية لا تخلو الإشارة إلى بعضها من الفائدة:

المطلب الأول: في أن الآية الشريفة وكثيرا من الآيات الشريفة تنسب تنزيل القرآن إلى ذاته المقدسة كقوله تعالى: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " (الدخان - 3). " إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون " (الحجر - 9)، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، وفي بعضها تنسب إلى جبرائيل وهو الروح الأمين كقوله تعالى: " نزل به الروح الأمين " (الشعراء - 93).

فعلماء الظاهر يقولون في هذه المقامات: هذا مجاز من قبيل " يا هامان ابن لي صرحا " (فاطر - 36) فنسبه التنزيل إلى الحق تعالى مثلا من باب أن الذات المقدسة سبب للتنزيل وآمر به أو أن التنزيل بالنسبة إلى الحق تعالى حقيقة وينسب إلى الروح الأمين مجازا لأنه واسطته، وهذا من جهة أنهم يحسبون أن نسبة فعل الحق إلى الخلق كنسبة فعل الخلق إلى الخلق فيرون مأمورية جبرائيل وعزرائيل عن الحق تعالى كمأمورية هامان عن فرعون والبنّائين والمعماريين عن هامان، وهذا قياس باطل كثيرا وقياس مع الفارق وأن فهم نسبة الخلق إلى الحق وفعل الخلق والخالق من مهمات المعارف الإلهية وأمهات المسائل الفلسفية تنحل به كثير من المهمات ومن جملتها مسألة الجبر والتفويض، ومطلبنا هذا من شعبها.

وليعلم أنه من المقرر والثابت في العلوم العالية أن جميع دار التحقق ومراتب الوجود صورة الفيض المقدس الذي هو التجلي الاشراقي للحق تعالى، وكما أن الإضافة الإشراقية هي محض الربط وصرف الفقر كذلك تعيناتها وصورها أيضا محض الربط وليست لها من أنفسها حيثية واستقلال. وبعبارة أخرى جميع دار التحقق فانية في الحق ذاتا وصفة وفعلا لأنه لو استقل موجود من الموجودات في شأن من الشؤون الذاتية سواء أكان في الهوية الوجودية أم في شؤونها لخرج عن حدود بقعة الإمكان فيتبدل إلى الوجوب الذاتي وهذا واضح البطلان فإذا رسخت هذه اللطيفة الإلهية في القلب وذاقها الفؤاد كما ينبغي فيكشف له سرّ من أسرار القدر وتنكشف لطيفة من حقيقة الأمر بين الأمرين فيمكن إذاً نسبة الآثار والأفعال الكمالية إلى الخلق بنفس النسبة التي لها إلى الحق من دون أن تكون مجازا في جانب، وهذا يتحقق في نظر الوحدة في الكثرة والجمع بين الأمرين، نعم ما كان واقعا في الكثرة محضا ومحجوبا عن الوحدة ينسب الفعل إلى الخلق ويغفل عن الحق كنحن المحجوبين، ومن تجلت في قلبه الوحدة فيحجب عن الخلق وينسب جميع الأفعال إلى الحق، والعارف المحقق يجمع بين الوحدة والكثرة وفي حال أنه ينسب الفعل إلى الحق من دون شائبة مجاز ينسبه في نفس الحال إلى الخلق بلا شائبة مجاز والآية الشريفة " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " (الأنفال - 17) التي نفت الرمي في عين إثباته وأثبتته في عين نفيه تشير إلى هذا المشرب العرفاني الأحلى والمسلك الإيماني الدقيق، وإنما قلنا من نسبة الأفعال والآثار إلى الله سبحانه وقيّدناها بالكمالية لنخرج النقائص من هذه النسبة لأن النقائص ترجع إلى الإعدام وهي من تعينات الوجود وليست منسوبة إلى الحق إلا بالعرض ولا يمكن شرح هذا المبحث في هذه الأوراق. فإذا علمت هذه المقدمة تعلم نسبة التنزيل إلى جبرائيل وإلى الحق والأحياء إلى إسرافيل وإلى الحق، والإماته إلى عزرائيل والملائكة الموكلة على النفوس وإلى الحق، والإشارة إلى هذا المطلب في القرآن كثيرة وهذا من إحدى معارف القرآن التي لم يكن قبل هذا الكتاب الشريف في آثار الحكماء والفلاسفة منها عين ولا أثر، والعائلة البشرية في هذه اللطيفة مرهونة لعطيّة هذه الصحيفة الإلهية كسائر المعارف الإلهية القرآنية.

المطلب الثاني: في الإشارة إلى نكتة أنه تعالى قال " إنّا " بصيغة الجمع وأنزلناه بصيغة الجمع.

اعلم أن نكتة ذلك هي تفخيم مقام الحق تعالى بمبدئيّته لتنزيل هذا الكتاب الشريف ولعل هذه الجمعية باعتبار الجمعية الأسمائية والإشارة أن الحق تعالى مبدأ لهذا الكتاب الشريف بجميع الشؤون الأسمائية والصفاتية ولهذه الجهة كان هذا الكتاب الشريف صورة أحدية جمع جميع الأسماء والصفات ومعرفا لمقام الحق المقدس بتمام الشؤون والتجليات.

وبعبارة أخرى هذه الصحيفة النورانية صورة الاسم الأعظم كما أن الإنسان الكامل أيضا صورة الاسم الأعظم بل حقيقة هذين في الحضرة الغيبية واحدة وهما في عالم التفرقة متفرقان على حسب الصورة ولكن على حسب المعنى أيضا لا يتفرقان وهذا أحد معاني لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.. وكما أن الحق تعالى خمّر طينة آدم الأول والإنسان الكامل بيدي والجلال والجمال كذلك أنزل الكتاب الكامل والقرآن الجامع بيدي الجمال والجلال، ولعله لهذه الجهة أيضا يقال له القرآن لأن مقام الأحدية جمع الوحدة والكثرة ولهذه الجهة ليس هذا الكتاب قابلا للنسخ والانقطاع لأن الاسم الأعظم ومظاهره أزلي وأبدي، وجميع الشرائع دعوة إلى هذه الشريعة والولاية المحمدية، ولعل الذكر في الآية الشريفة " إنّا عرضنا الأمانة " (الأحزاب - 72) بصيغة الجمع لما ذكرنا من النكتة في " إنّا أنزلنا " لأن الأمانة على حسب الباطن هي حقيقة الولاية وعلى حسب الظاهر هي الشريعة أو دين الإسلام أو القرآن والصلاة.

المطلب الثالث: في إجمال كيفية نزول القرآن:

وهذا من لطائف المعارف الإلهية ومن أسرار الحقائق الدينية التي قلما يوجد من يطلّع على نبذة منها بالطريق العلمية ولا يتيسر لأحد الإطلاع على هذه اللطيفة الإلهية بطريق الكشف والشهود إلا للكمّل من الأولياء أوّلهم نفس الرسول والخاتم وبعده سائر الأولياء وأهل المعارف وبمساعدته صلى الله عليه وآله لأن مشاهدة هذه الحقيقة لا تكون إلا بالوصول إلى عالم الوحي والخروج عن حدود العوالم الإمكانية ونحن نبيّن هنا من هذه الحقيقة بيانا بالرمز والإشارة فليعلم أن القلوب التي تسير إلى الله بطريق السلوك المعنوي والسفر الباطني وتهاجر من منزل النفس المظلم وبيت الإِنّيّة والأنانية طائفتان بالطريق الكلّي.

الأولى هم الذين يدركهم الموت بعد إتمام السفر إلى الله ويبقون في هذه الحال من الجذبة والفناء والموت فقد وقع أجرهم على الله وهو الله وهؤلاء محبوبون فانون تحت قباب الله لا يعرفهم أحد ولا يرتبطون بأحد ولا يعرفون أحدا إلا الحق تعالى " أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري ".

الطائفة الثانية هم الذين فيهم قابلية أن يرجعوا إلى أنفسهم بعد تمامية السير إلى الله وفي الله وتحصل لهم حالة الصحو والتنبيه هؤلاء الذين قدّر استعدادهم على حسب تجلّي الفيض الأقدس الذي هو سر القدر وانتجبهم لتكميل العباد وتعمير البلاد وهؤلاء بعد الاتصال بالحضرة العلمية والرجوع إلى حقائق الأعيان يحصل لهم السير في الأعيان بالكشف فيتصلون بحضرة القدس ويكون سفرهم إلى الله وإلى السعادة ويخلّعون بخلعة النبوة، وهذا الكشف وحي إلهي قبل التنزّل إلى عالم الوحي الجبرائيلي وبعدما توجهوا من هذا العالم إلى العوالم النازلة يكتشفون ما في الأقلام العالية والألواح القدسية بقدر إحاطتهم العلمية ونشأتهم الكمالية المختصة بهم التابعة للحضرات الأسمائية. واختلاف الشرائع والنبوات بل جميع الاختلافات من هنا.

وفي هذا المقام تلك الحقيقة الغيبية والسريرة القدسية التي شوهدت في الحضرة العلمية والأقلام والألواح العالية تنزل إلى قلوبهم المباركة تارة عن طريق غيب النفس وسرّ روحهم الشريف بتوسط ملك الوحي وهو جبرائيل وأخرى يتمثل لهم جبرائيل تمثلا مثاليا في حضرة المثال وثالثة يتمثل تمثلا ملكيا، وبتوسّط تلك الحقيقة يظهر عن مكمن الغيب إلى مشهد عالم الشهادة ويتنزل بتلك اللطيفة الإلهية وصاحب الوحي يدركها ويشاهدها في كل نشأة على طور، ففي الحضرة العلمية على طور وفي حضرة الأعيان على طور وفي حضرات الأقلام على طور وفي حضرات الألواح على طور وفي حضرة المثال على طور وفي الحس المشترك على طور وفي الشهادة المطلقة على طور وهذه سبع مراتب من التنّزل ولعل نزول القرآن على سبعة أحرف يكون إشارة إلى هذا المعنى وهذا لا ينافي ما قال عليه السلام القرآن واحد من واحد كما هو معلوم ولهذا المقام تفصيل لا يناسب ذكره.

المطلب الرابع: في سر (هاء) في إنّا أنزلناه:

قد علم أن للقرآن قبل التنزيل إلى هذه النشأة مقامات وكينونات فمقامه الأول: كينونته العلمية في الحضرة الغيبية بالتكلم الذاتي والمقارعة الذاتية بطريق أحدية الجمع، ولعل ضمير الغائب يكون إشارة إلى ذاك المقام وقد ذكره الله تعالى بضمير الغيبة لإفادة هذا المعنى فكأنه يقول: هذا القرآن النازل في ليلة القدر هو ذاك القرآن العلمي في السرّ المكنون، والغيبي في النشأة العلمية قد أنزلناه على تلك المراتب وكان متحدا في مقام مع الذات وكان من التجليات الأسمائية وهذه الحقيقة الظاهرة ذلك السرّ الإلهي وهذا الكتاب الذي ظهر في كسوة العبارات والألفاظ هو صورة التجليات الذاتية في مرتبة الذات وعين التجلي الفعلي في مرتبة الفعل، كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه " إنما كلامه فعله ".

المطلب الخامس: في بيان ليلة القدر:

وفيه مباحث كثيرة ومعارف لا تعدّ قد بحث عنها العلماء الأعلام رضوان الله عليهم على حسب مشاربهم ومسالكهم، ونحن نبيّن في هذه الأوراق بعضا منها بطريق الإشارة ونشير إلى مطالب أخرى لم يذكروها وذلك في ضمن أمور:

الأول: في وجه تسمية ليلة القدر:

إن العلماء قد اختلفوا فيه فبعضهم على أن ليلة القدر حيث أنها صاحبة شرف ومنزلة وقد نزل فيها القرآن صاحب القدر بتوسط ملك صاحب القدر على رسول صاحب القدر لأمة صاحبة القدر فلهذا سميت بليلة القدر.

وقال بعض: إن تسميتها ليلة القدر لأجل تقدير الأمور والآجال وأرزاق الناس في تلك الليلة.

وقال بعض: لأن الأرض تضيق بواسطة كثرة الملائكة فسميت ليلة القدر وهذا من قبيل " ومن قدر عليه رزقه " وهذه كلمات قيلت في المقام وفي كل من تلك الوجوه تحقيقات لا تخلو الإشارة إليها إجمالا من الفائدة.

أما المطلب الأول وهو كونها بمعنى صاحبة المنزلة والقدر.

فأعلم أن في هذا المقام كلاما وهو أن مطلق الزمان والمكان الذي بعض منه شريف وبعض غير شريف وبعض سعيد وبعض نحس فهل هذا من نفس ذات الزمان ومن تشخصاته الذاتية، وهكذا في المكان أو أنه بواسطة وقوع الوقائع وحصول الأمور الشريفة والخسيسة يكون صاحب تلك المزية بالعرض، وهذا وإن لم يكن مبحثا مهما وشريفا والبحث في أطرافه ليس له كثير فائدة ولكن نأتي بذكر منه بطريق الاختصار.

إن وجه ترجيح الاحتمال الأول هو أن ظاهر الأخبار والآيات التي أثبتت للزمان والمكان شرافة أو نحوسه إنها صفة نفس الزمان والمكان لا إنها صفة للحال المتعلق وحيث أنه لا مانع عقليا فيتعيّن حملها على ظاهرها.

ووجه ترجيح الاحتمال الثاني إن حقيقة كل من الزمان والمكان حقيقة واحدة بل شخصية كل منهما أيضا شخصية واحدة فلهذه الجهة لا يمكن أن يكون شخص واحد متجزيا ومختلفا في الحكم. فبناء على هذا فلا بد أن يحمل ما ورد في شرفهما أو نحوستهما على الوقائع والقضايا الحاصلة فيهما، وهذا الوجه ليس برهانيا لأن الزمان وإن كان شخصا واحدا ولكن حيث أنه متدرج وممتد وحقيقة مقدارية لا مانع من أن يكون بعض أجزائه مع بعض آخر مختلفا في الحكم والأثر ولم يقم برهان بأن الشخص كيفما كان لا يكون له حكمان وأثران بل خلافه ظاهر، فمثلا أفراد الإنسان مع أن كل واحد منهما شخص واحد فلهم مع ذلك في الصورة الجسمية اختلافات كثيرة مثل الجليدية والدماغ والقلب أشرف وألطف من الأعضاء الأخر وكذلك القوى الباطنية والظاهرة منه بعضها أشرف من بعض وهذا لأن الإنسان لم يظهر في هذا العالم بنعت الوحدة التامة وإن كان شخصا واحدا ولكن حيث إنه ظهر بنعت الكثرة فأحكامه أيضا تختلف.

وأما وجه ترجيح الاحتمال الأول فليس أيضا وجها صحيحا مرضيا لأن مرجع هذا الوجه إلى أصالة الظهور وأصالة الحقيقة مثلا وقد علم في الأصول أن أصالة الحقيقة وأصالة الظهور لتعيين المراد في مورد الشك في المراد لا أنها بعد معلومية المراد لتعيين الحقيقة فتأمل (وجه التأمل انه يمكن أن يقرر هذه الدعوة بوجه آخر وهو أن الظاهر في نسبة موضوع إلى محمول هو أن الموضوع واجد للحكم وتمام الموضوع له كما أن شيخنا وأستاذنا في العلوم النقلية كان يثبت بهذا البيان الاطلاق في باب الاطلاق من دون حاجة الى مقدمات الاطلاق منه عفي عنه: أي من المؤلف دام ظله).

فبناء على هذا فكلا الوجهين محتمل، ولكن الثاني أرجح في النظر. فبناء عليه أن ليلة القدر صارت صاحبة قدر لأنها ليلة وصال النبي الخاتم وليلة وصول العاشق الحقيقي إلى محبوبه، وقد علم في المباحث السابقة أن تنزل الملائكة ونزول الوحي يكون بعد حصول الفناء والقرب الحقيقي.

ويستفاد من الأخبار الكثيرة والآيات الشريفة أيضا أن شرف الأزمنة والأمكنة ونحوستها بسبب الوقائع فيها وهذا يعلم بمراجعتها وإن كان يستفاد من بعضها الشرف الذاتي أيضا.

أما الاحتمال الآخر وهو أنها تسمى بليلة القدر لتقدير أمور أيام السنة فيها فأعلم أن حقيقة القضاء والقدر وكيفيتها ومراتب ظهورها من أجلّ العلوم الإلهية وأشرفها، وقد نهي عامة الناس عن الغور في أطرافها ولأنه يوجب الحيرة والضلالة لكمال دقتها ولطافتها ولهذا لا بد أن تعد هذه الحقيقة من أسرار الشريعة وودائع النبوة ويصرف النظر عن البحث الدقيق في أطرافها، ونحن نشير إلى مبحث منه يناسب هذا المقام.

وهو أن تقدير الأمور مع أنها كانت في علم الحق تعالى في أزل الآزال وليس من الأمور التدريجية بالنسبة إلى مقام العلم الربوبي المنزه فما معنى التقدير في كل سنة في ليلة معينة؟

اعلم أن للقضاء والقدر مراتب تتفاوت أحكامه على حسب تلك المراتب:

المرتبة الأولى من تلك المراتب عبارة عن الحقائق التي تتقدر وتتحدد في حضرة العلم بالتجلي بالفيض الأقدس تبعا لظهور الأسماء والصفات وبعده تقدر وتحكم في الأقلام العالية والألواح العالية على حسب الظهور بالتجلي الفعلي ولا تقع التغيرات والتبديلات في هذه المراتب، والقضاء الحتم الذي لا يبدل هو الحقائق المجردة الواقعة في حضرات والنشأة العلمية والنازلة في الأقلام والألواح المجردة ثم تظهر الحقائق بالصور البرزخية والمثالية في الألواح الأخر والعالم الأنزل وهو عالم الخيال المنفصل وخيال الكل الذي يقال له عالم المثل المعلقة على طريقة حكماء الإشراق، وفي هذا العالم يمكن وقوع التغيرات والاختلافات بل هي واقعة.

ثم يكون التقديرات والتحديدات بتوسط الملائكة الموكلين بعالم الطبيعة، وفي لوح القدر هذا تغييرات دائمية وتبديلات أبدية، بل هو نفسه الصورة السيالة والحقيقة المتصرمة والمتدرجة والحقائق في هذا اللوح قابلة للشدة والضعف والحركات قابلة للسرعة والبطءِ والزيادة والنقيصة ومع ذلك فالوجهة التي تلي الله والوجهة الغيبية لهذه الأشياء التي هي جهة التدلي بالحق وصورة ظهور الفيض المنبسط والظل الممدود وحقيقة العلم الفعلي للحق لا مجال فيها للتغيير والتبديل بوجه.

وبالجملة، فجميع التغيرات والتبدلات وزيادة الآجال وتقدير الأرزاق تقع عند الحكماء في لوح القدر العلمي وهو عالم المثال، وعند الكاتب تقع في لوح القدر العيني الذي هو محل نفس التقديرات على أيدي الملائكة الموكلين بها فبناء على هذا فلا مانع من أن تقع التغيرات والتبديلات في عالم الطبع في ليلة القدر بما أنه ليلة التوجه التام للولي الكامل وليلة ظهور سلطنته الملكوتية بتوسط النفس الشريفة للولي الكامل وأمام كل عصر وقطب كل زمان وهو اليوم حضرة بقية الله في الأرضين سيدنا ومولانا وإمامنا وهادينا الحجة بن الحسن (أرواحنا لمقدمه الفداء) فما أراد عليه السلام من جزئيات الطبيعة يبطئ حركته، وما أراد سرعته يسرعه وما أراد من رزق يوسعه وما أراد يضيقه، وهذه الإرادة إرادة الحق وظل الإرادة الأزلية وشعاعها وتابعة للفرامين الإلهية كما أن ملائكة الله أيضا لا يتصرفون من عند أنفسهم. وتصرفات جميعهم بل تصرفات جميع ذرات الوجود تصرف إلهي وهي من تلك اللطيفة الغيبية الإلهية " فاستقم كما أمرت " (هود - 112).

وأما ما ذكر من الاحتمال في وجه تسمية ليلة القدر من أن الأرض تضيق بواسطة الملائكة ولهذا سميت ليلة القدر، فهذا الوجه وإن كان بعيدا وإن كان القائل به أعجوبة الزمان الخليل بن أحمد رضوان الله عليه ولكن ما يمكن أن يقع موردا للبحث هو أن ملائكة الله ليست من سنخ عالم الطبيعة والمادة فما معنى ضيق الأرض بهم؟

فاعلم أنه قد ورد نظير هذا المطلب في الروايات الشريفة مثل قضية تشييع سعد بن معاذ رضي الله عنه (في الكافي: صلـة ى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - على سعد بن معاذ مع تسعين ألف ملك فيهم جبرائيل (الحديث)) ومثل بسط الملائكة أجنحتهم لطالب العلم، فهذا إما من باب تمثل الملائكة بالصور المثالية وتنزلها من عالم الغيب إلى عالم المثال وتضييق ملكوت الأرض أو من باب تمثلهم الملكي في ملك الأرض وإن كانت الأبصار الطبيعية الحيوانية لا تراها. وبالجملة التضييق باعتبار التمثلات المثالية أو الملكية.

الأمر الثاني في حقيقة ليلة القدر:

اعلم أن لكل رقيقة ولكل صورة ملكية باطناً ملكوتياً وغيبيّاً وأهل المعرفة يقولون أن مراتب نزول حقيقة الوجود باعتبار احتجاب شمس الحقيقة في أفق تعينات الليالي ومراتب الصعود باعتبار خروج شمس الحقيقة من آفاق تعينات الأيام وإن شرافة الأيام والليالي ونحوستها تتضح على حسب هذا البيان.

وباعتار قوس النزول، فليلة القدر المحمدية وباعتبار قوس الصعود فيوم القيامة الأحمدية لأن هذين القوسين مدّ النور المنبسط الذي هو الحقيقة المحمدية وجميع التعيينات هي من التعين الأولى للاسم الأعظم.

ففي نظر الوحدة، العالم ليلة القدر ويوم القيامة وليس أكثر من ليلة واحدة ويوم واحد وهذا تمام دار التحقق أي وليلة القدر المحمدية ويوم القيامة الأحمدية، ومن تحقق بهذه الحقيقة فهو دائما في ليلة القدر ويوم القيامة وهذان يجتمعان.

وباعتبار نظر الكثرة تظهر الليالي والأيام، فبعض الليالي صاحبة القدر وبعضها ليست بصاحبة القدر وبين جميع الليالي البنية الأحمدية والتعين المحمدي صلى الله عليه وآله التي غرب في أفقها نور حقيقة الوجود بجميع شؤونه وكذلك الأسماء والصفات بكمال نوريتها وتمام حقيقتها قد غربت فيها هي ليلة القدر المطلقة كما أن اليوم المحمدي يوم القيامة وأما سائر الليالي والأيام فهي ليال وأيام مقيّدة ونزول القرآن في هذه البنية الشريفة والقلب المطهّر نزول في ليلة القدر، فالقرآن كما أنه نزل جملة في ليلة القدر بطريق الكشف المطلق الكلي كذلك نزل نجوما في خلال ثلاث وعشرين سنة نجوما في ليلة القدر، والشيخ شاه آبادي دام ظله كان يقوليلة القدر هي الدورة المحمدية، وهذا أمّا باعتبار أنّ جميع الأدوار الوجودية هي الدورة المحمدية وأما إن في هذه الدورة الأقطاب الكمّل المحمدية والأئمة الهداة المعصومين ليالي القدر.

ويدل على هذا ما ذكرنا من حقيقة ليلة القدر الحديث الشريف المطوّل في تفسير البرهان نقله عن الكافي الشريف، وفي ذلك الحديث: " إن نصرانيا قال لموسى بن جعفر عليه السلام ما تفسير باطن " حم والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنّا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم "؟ فقال علية السلام: إما حم محمد وإما الكتاب المبين أمير المؤمنين علي وأما الليلة فاطمة عليها السلام ".

وفي رواية فسرت ليال عشر بالأئمة الطاهرين من الحسن إلى الحسن وهذه إحدى مراتب ليلة القدر قد ذكرها موسى بن جعفر عليه السلام ومما يشهد بأن ليلة القدر تمام الدورة المحمدية.. الرواية التي في تفسير البرهان عن الباقر عليه السلام وهذه الرواية حيث أنها رواية شريفة وتشير إلى معارف عديدة وتكشف أسرارا مهمّة ننقلها نصّا تيمّنا.

قال رحمه الله وعن الشيخ أبي جعفر الطوسي عن رجاله عن عبد الله بن عجلان السكوني قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: " بيت علي وفاطمة حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسقف بيتهم عرش رب العالمين وفي قعر بيوتهم فرجة مكشوطة إلى العرش معراج الوحي. والملائكة تنزل عليهم بالوحي صباحا ومساء وكل ساعة وطرفة عين والملائكة لا تنقطع أفواجهم، فوج ينزل وفوج يصعد وإن الله تبارك وتعالى كشف لإبراهيم عليه السلام عن السماوات حتى أبصر العرش وزاد الله في قوّة ناظره وإن الله زاد في قوة ناظر محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وكانوا يبصرون العرش ولا يجدون لبيوتهم سقفا غير العرش، فبيوتهم مسقفة بعرش الرحمن ومعارج الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام.. قال: قلت: من كل أمر سلام؟ قال: بكل أمر، فقلت: هذا التنزيل؟ قال: نعم ".

والتدبر في هذا الحديث الشريف يفتح أبوابا من المعرفة لأهلها فتنكشف له نبذة من حقيقة الولاية وباطن ليلة القدر.

الأمر الثالث:

اعلم كما أن لليلة القدر حقيقة وباطنا قد أشرنا إليهما، كذلك لها صورة ومظهر، بل مظاهر في عالم الطبع وحيث أنه من الممكن أن تكون في المظاهر من جهة النقص والكمال فروق كثيرة فمن هذه الجهة يمكن أن يجمع بين الأقوال والأخبار التي وردت في تعيين ليلة القدر بأن الليالي الشريفة التي وردت في الروايات كلها من مظاهر ليلة القدر إلا أنه يفرق بعضها في الشرافة وكمال المظهرية والليلة الشريفة التي لها تمام ظهور ليلة القدر وليلة الوصول التام الختمي والوصول الكامل الخاتمي مختفية في ليالي جميع السنة أو شهر رمضان المبارك أو في العشر الأخير أو في الليالي الثلاثة منه، وفي الروايات للعامة والخاصة أيضا اختلافات، وفي روايات الخاصة ذكر بالترديد في ليلة التاسع عشر والحادي والعشرين والثالث والعشرين وفي بعضها الترديد بين الحادي والعشرين والثالث والعشرين.

قال شهاب بن عبد ربّه: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أخبرني بليلة القدر. قال (ع) " هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين ". وعن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال: سألت أبا جعفر عن ليلة القدر، قال: " في ليلتين ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين. فقلت افرد لي أحدهما. قال: " وما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما ".

وعن حسان بن أبي علي قال: سألت أبا عبد الله عن ليلة القدر فقال: " اطلبها في تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين ".

وقال السيد العابد الزاهد رضي الله عنه في الإقبال: اعلم أن هذه الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان وردت أخبار صريحة بأنها ليلة القدر على الكشف والبيان فمن ذلك ما رويناه بإسناده إلى سفيان السمط قال: قلت لأبي عبد الله: " افرد لي ليلة القدر، قال: ليلة ثلاث وعشرين ". ومن ذلك ما رويناه بإسناده إلى زرارة عن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن ليلة القدر فقال " أخبرك والله ثم لا أعمي عليك هي أول ليلة من السبع الآخر ". ثم يروي عن زرارة أنه قال كان ذلك الشهر تسعة وعشرين ثم يروي روايات أخر أن ليلة القدر هي ليلة ثلاث وعشرين منها قضية الجهني المعروفة (أقول: قال السيد بن طاووس قدس سره: ومن ذلك ما رويناه.. باسنادنا أيضا الى حماد بن عيسى عن محمد بن يوسف عن أبيه قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول أن الجهني أتى الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله إن لي إبلا وغنما وغلمة فأحب أن تأمرني ليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة وذلك في شهر رمضان فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسارّه في أذنه قال: فكان الجهني اذا كانت ليلة ثلاث وعشرين دخله بإبله وغنمه وأهله وولده وغلمته فكان تلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين بالمدينة فاذا أصبح خرج بأهله وغنمه وإبله الى مكانه واسم الجهني عبد الرحمن بن أنيس الأنصاري).

تنبيه عرفاني

كما ذكرنا في السورتين المباركتين المذكورتين الأظهر أن بسم الله في كل سورة متعلق بتلك السورة فلهذا يكون المعنى في السورة المباركة القدر إنّا أنزلنا الحقيقة الشريفة القرآنية واللطيفة المقدسة الإلهية في ليلة القدر المحمدية باسم الله الذي هو الحقيقة الجمعية الأسمائية والاسم الأعظم الربوبي والمتعين بالرحمة المطلقة الرحمانية والرحيمية بمعنى أن ظهور القرآن بتبعية الظهور الجمعي الإلهي والقبض والبسط الرحيمية والرحمانية بل حقيقة القرآن هي مقام ظهور اسم الله الأعظم بظهور الرحمانية والرحيمية وجامع للجمع والتفصيل. فهذا الكتاب لهذه الجهة قرآن وفرقان. كما أن روحانية الرسول الخاتم ومقام ولايته المقدس أيضا قرآن وفرقان ومقام أحدية الجمع والتفصيل.

فعلى هذا الاحتمال كأن الذات المقدسة تقول:

إنّا بالتجلي بمقام الاسم الأعظم وهو مقام أحدية الجمع والتفصيل بظهور رحمة الرحمانية والرحيمية نزّلنا القرآن في ليلة القدر المحمدية، وحيث أن في عالم الفرق بل فرق الفرق حصلت الفرقانية بين القرآنين يعني القرآن المكتوب المنزل والقرآن المنزل عليه يعني الكتاب الإلهي والحقيقة المحمدية فواصلنا بين القرآنين وجمعنا بين الفرقانين في ليلة الوصال، وبهذا الاعتبار أيضا هذه الليلة ليلة القدر ولكن لا يعرف أحد قدرها كما ينبغي غير نفس خاتم النبيين صاحب ليلة القدر بالأصالة وأوصيائه المعصومين أصحابها بالتبعية.

تتمة: في ذكر بعض روايات التي وردت في فضل ليلة القدر:

منها: ما رواه العارف بالله السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال الشريف، قال: وجدت في كتاب كنز اليواقيت تأليف أبي الفضل أبي محمد الهروي أخبارا في ليلة القدر إلى أن قال عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " قال موسى: إلهي أريد قربك قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر. قال: إلهي أريد رحمتك، قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر. قال: إلهي أريد الجواز على الصراط، قال: ذلك لمن تصدّق في ليلة القدر. قال: إلهي أريد من أشجار الجنة وثمارها قال: ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر. قال: إلهي أريد النجاة، قال: النجاة من النار؟ قال: نعم، قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر. قال: إلهي أريد رضاك، قال: رضائي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر ".

ومن الكتاب المذكور عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " تفتح أبواب السماء في ليلة القدر فما من عبد يصلى فيها إلا كتب الله تعالى له بكل سجدة شجرة في الجنة لو يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها وبكل ركعة بيتا في الجنة من در وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، وبكل آية تاجا من تيجان الجنة وبكل تسبيحة طائرا من العجب وبكل جلسة درجة من درجات الجنة وبكل تشهّد غرفة من غرفات الجنة وبكل تسليمة حلّة من حلل الجنة، فإذا انفجر عمود الصبح أعطاه الله من الكواعب المؤلفات والجواري المهذبات والغلمان المخلّدين والنجائب المطيرات والرياحين المعطرات والأنهار الجاريات والنعيم الراضيات والتحف والهديات والخلع والكرامات ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ".

ومن هذا الكتاب عن الباقر عليه السلام " من أحيا ليلة القدر غفرت له ذنوبه ولو كانت ذنوبه عدد نجوم السماء ومثاقيل الجبال ومكاييل البحار ". والأخبار في فضائلها أكثر من أن تكتب في هذه الأوراق.  

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست