.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الفصل الثالث: في أركان الاستعاذة

الفصل الرابع: في بعض آداب التسمية

 

الفصل الثالث

في أركان الاستعاذة

وهي أربعة:

الأول: المستعيذ. الثاني: المستعاذ. الثالث: المستعاذ به. الرابع: المستعاذ لأجله.

اعلم أن لهذه الأركان تفصيلات كثيرة خارجة عن مجال هذه الأوراق ونحن نكتفي بذكر مختصر منها.

الركن الأول في المستعيذ:

وهو الحقيقة الإنسانية من أول منزل السلوك إلى الله إلى منتهى النهاية للفناء الذاتي، وإذا تم الفناء المطلق هلك الشيطان وتمت الاستعاذة. وتفصيل هذا الإجمال أن الإنسان ما دام مقيما في بيت النفس والطبيعة ولم يشتغل بالسفر الروحاني والسلوك إلى الله وهو تحت السلطنة الشيطانية بجميع شؤونها ومراتبها لم يلتبس بحقيقة الاستعاذة وقلقلة اللسان بلا فائدة بل هي تثبيت وتحكيم للسلطنة الشيطانية إلا بالتفضل والعناية الإلهية، فإذا تلبس بالسير والسلوك إلى الله وشرع في السفر الروحاني فما دام هو في السير والسلوك فكل ما كان مانعا له من هذا السفر وشوكا في طريقه فهو شيطان سواء أكان من القوى الروحانية الشيطانية أم من الجن والأنس لأن الجن والأنس أيضا إذا كانت شوكة الطريق ومانعة السلوك إلى الله فبتأييد الشيطان وتصرفه كما أشار إليه سبحانه وتعالى في سورة الناس المباركة حيث يقول: " من شرّ الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنّة والناس " (الناس - 4 - 5 - 6) فالشيطان إن كان جنّا فيستفاد من الآية الشريفة إن الوسواس الخنّاس الذي هو الشيطان جنّ وأنس أحدهما بالأصالة والآخر بالتبعية، وان كان الشيطان حقيقة أخرى شبيهة للجنة فيعلم من الآية الشريفة أن هذين النوعين يعني الجن والأنس أيضا تمثّلات شيطانية ومظاهره، وقد أشار إلى هذا المعنى في آية أخرى أيضا حيث يقول: " شياطين الأنس والجن " (الأنعام - 112) وقد أشار سبحانه في هذه السورة المباركة إلى الأركان الأربعة المذكورة كما هو ظاهر.

وبالجملة الإنسان قبل شروعه في السلوك إلى الله ليس مستعيذا وبعد تمام سيره، وبعد أن لم يبق من آثار العبودية شيء ونال الفناء الذاتي المطلق فلا يبقى أثر من الاستعادة والمستعاذ منه والمستعيذ ولا يكون في قلب العارف شيء سوى الحق والسلطنة الإلهية، وليس له خبر من قلبه ولا من نفسه أيضا، وأعوذ بك منك أيضا ليس في هذا المقام فإذا أتاه الصحو والأنس والرجوع تكون الاستعاذة حقيقة أيضا ولكن لا كاستعاذة السالك. ولهذا أمر الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا بالاستعاذة كما قـال الله تعالى: " قل أعوذ برب الفلــق " (الفلق - 1) و " قل أعوذ برب الناس " (الناس - 1). و " قل أعوذ من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون" (المؤمنون - 97 - 98). فالإنسان ليس مستعيذا في مقامين أحدهما قبل السلوك وهو حالة الاحتجاب المحض تحت تصرف الشيطان وسلطنته، والآخر بعد ختم السلوك وحصول الفناء المطلق، لأنه لا يكون ثمة خبر من المستعيذ والمستعاذ له والاستعاذة.

والإنسان مستعيذ في مقامين أحدهما حال السلوك إلى الله، وهو يستعيذ من أشواك الوصول التي قعدت على الصراط المستقيم للإنسانية كما حكى سبحانه من قول الشيطان: " فما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم " (الأعراف - 16) والآخر في حال الصحو والرجوع من الفناء المطلق، فهو إذاً يستعيذ من الإحتجابات التلوينية وغيرها.

الركن الثاني في المستعاذ منه:

وهو إبليس والشيطان الرجيم الذي يمنع الإنسان بحبائله المتنوعة من الوصول إلى المقصد، وحصول المقصد وما ذكره بعض أعاظم أهل المعرفة من أن حقيقة الشيطان عبارة عن جميع العالم بجنبته السوائية فليس بتمام لدى الكاتب لأن الجنبة السوائية التي هي عبارة عن الصورة الموهومة العارية عن الحقيقة الخالية عن التحقق والواقعية من حبائل إبليس التي يشغل الإنسان بها، ولعله إلى ذلك أشير في قوله تعالى: " ألهيكم التكاثر حتى زرتم المقابـر" (التكاثر - 1 - 2) و إلا فنفس إبليس هي حقيقة ذات تجرّد مثالي وذات حقيقة إبليسية كليّة، هي رئيس الأبالسة وإبليس الكل أيضا، كما أن الحقيقة العقلية المجرّدة الكلية وهي آدم الأول هي عقل الكل. وإن القوى الواهمة الجزئية الملكية من مظاهر إبليس وشؤونه، كما أن العقول الجزئية شؤون العقل الكلّي ومظاهره. وتفصيل هذا المقام وتحقيقه خارج عن مجال هذه الرسالة.

وبالجملة، ما كان في هذا السلوك الإلهي والسير إلى الله مانعا من السير وشوكا في الطريق فهو الشيطان أو مظاهره التي أعمالها أيضا عمل الشيطان، وما كان من عوالم الغيب والشهود والعوارض الحاصلة للنفس

وحالاتها المختلفة حجابا لجمال المحبوب سواء أكان من العوالم الملكية الدنيوية كالفقر والغنى والصحة والمرض والقدرة والعجز والجهل والآفات والعاهات وغيرها، أو كان من العوالم الغيبية التجردية والمثالية كالجنة وجهنم، والعلم المتعلق بها حتى العلوم العقلية البرهانية الراجعة إلى توحيد الحق وتقديسه كل ذلك من حبائل إبليس التي تمنع الإنسان عن الحق والأنس به والخلوة معه وتشغله بذلك حتى الاشتغال بالمقامات المعنوية والوقوف في المدارج الروحانية الذي ظاهره الوقوف في الصراط الإنساني وباطنه الوقوف في صراط الحق الذي هو جسر روحاني لجهنم الفراق والبعد وينتهي إلى جنة اللقاء. وهذا الجسر مخصوص لطائفة قليلة من أهل المعرفة وأصحاب القلوب، وهذا الاشتغال من الحبائل العظيمة لإبليس الأبالسة و لابد من الاستعاذة منه إلى ذات الحق المقدسة جلّ شأنه.

وبالجملة، ما منعك عن الحق وحجبك عن جمال المحبوب الجميل فهو شيطانك سواء أكان في صورة الإنسان أو الجن، وكل ما يمنعك به الشياطين عن هذا المقصد والمقصود فهو حبائل الشيطان سواء كان من سنخ المقامات والمدارج أو العلوم والكمالات أو الحرف والصنائع أو العيش والراحة أو المشقة و الذلّة أو غيرها، وهذه عبارة الدنيا المذمومة وحبائل الشيطان و لابد من الاستعاذة منها. وما نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه كان يقول: " أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التي لا يجاوزهنّ بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها وشر ما ينزل من الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير " فلعل المقصود منه هذا المعنى والاستعاذة بوجه الله وبكلمات الله هي الاستغراق في بحر الجمال والجلال، وما منع الإنسان منه فهو من الشرور ومرتبط بعالم الشيطان ومكائده ولا بدّ من الاستعاذة منه بوجه الله سواء أكان من الحقائق الكاملة السماوية أو الناقصة الأرضية إلا أن يكون طارقا بخير وهو الطارق الإلهي الذي يدعو إلى الحق تعالى.

الركن الثالث: في المستعاذ به:

اعلم أن حقيقة الاستعاذة حيث أنها متحققة في السالك إلى الله ومتحصلة في السير والسلوك إلى الحق، بمعنى إن الاستعاذة تختص بالسالك في مراتب السلوك فتختلف الاستعاذة والمستعيذ والمستعاذ منه والمستعاذ به على حسب مقامات السائرين و لمدارجهم ومنازل سالكي الحقيقة، ويمكن أن تكون إشارة إلى ذلك السالك السورة الشريفة الناس حيث يقول تعالى: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس " (الناس - 1 - 2) فيستعيذ السالك بمقام الربوبية من مبادئ السلوك إلى حدود مقام القلب، ويمكن أن تكون هذه الربوبيّة، الربوبية الفعلية فتطابق أعوذ بكلمات الله التامات، فإذا انتهى سير السالك إلى مقام القلب فيظهر في القلب مقام السلطنة الإلهية فيستعيذ في هذا المقام بمقام ملك الناس من شر تصرفات إبليس القلبية وسلطنته الباطنية الجائرة، كما يستعيذ في المقام الأول من شر تصرفاته الصدرية، ولعل ما قاله تعالى " الذي يوسوس في صدور الناس " (الناس - 4). مع أن الوسوسة في القلوب والأرواح أيضا من الخناس لأن الأنسب في مقام التعريف أن يكون التعريف بالشأن العمومي والصفة الظاهرة عند الكل.

 فإذا تجاوز السالك عن مقام القلب أيضا إلى مقام الروح الذي هو من النفخة الإلهية واتصاله بالحق اشّد من اتصال شعاع الشمس بالشمس فيشرع في هذا المقام مبادئ الحيرة و الهيمان والجذبة والعشق والشوق،  فيستعيذ في هذا المقام بإله الناس، فإذا ترقى من هذا المقام وتكون الذات بلا مرآة الشؤون نصب عينيه، وبعبارة أخرى يصل إلى مقام السر، فالمناسب له أعوذ بك منك وفي هذه المقامات تفصيل لا يناسب هذه المقالة.

وأعلم أن الاستعاذة بسم الله لجامعيته تناسب جميع المقامات وهي في الحقيقة الاستعاذة المطلقة، وسائر الاستعاذات استعاذات مقيّدة.

الركن الرابع: في المستعاذ له، يعني غاية الاستعاذة:

 اعلم أن ما هو المطلوب بالذات للإنسان المستعيذ فهو من نوع الكمال والسعادة والخير، ويتفاوت ذلك على حسب مراتب السالكين ومقاماتهم تفاوتا كثيرا. فالسالك ما دام في بيت النفس وحجاب الطبيعة تكون غاية سيره حصول الكمالات النفسانية و السعادات الخسيسة الطبيعية وهذا في مبادئ السلوك، فإذا خرج من بيت النفس وذاق شيئا من المقامات الروحانية و الكمالات التجردية فيصير مقصده أعلى و مقصوده أكمل فيلقي المقامات النفسانية وراء ظهره وتكون قبلة مقصودة حصول الكمالات القلبية و السعادات الباطنية فإذا ألفت عنان السير عن هذا المقام أيضا. ووصل إلى منزل السر الروحي فتبرز في باطنه مبادئ التجليات الإلهية ويكون لسان روحه في بادئ الأمر وجّهت وجهي لوجه الله ثم بعد ذلك وجهت وجهي لأسماء الله أو لله ثم بعد ذلك وجهت وجهي له، ولعل الجهة في وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض راجعة إلى المقام الأول بمناسبة الفاطرية.

 وبالجملة، فالسالك غايته الحقيقية في كل مقام حصول الكمال والسعادة بالذات، وحيث أن مع السعادات والكمالات في كل مقام شيطانها هو لها قرين وحباله من حبائله مانعة للحصول فلا بد للسالك أن يستعيذ بالحق تعالى من ذلك الشيطان وشروره وحبائله للوصول إلى المقصود الأصلي والمنظور الذاتي، ففي الحقيقة غاية الاستعاذة للسالك حصول ذلك الكمال المترقب والسعادة المطلوبة والحق تعالى جلت عظمته غاية الغايات ومنتهى الطلبات، والاستعاذة من الشيطان تقع بالتبع. والحمد لله أولا و آخراً.

 

الفصل الرابع

  في بعض آداب التسمية

روي في التوحيد عن الرضا (هو علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن ابي طالب عليهم السلام، الامام الثامن من الأئمة الاثنى عشر) عليه السلام حين سئل عن تفسير البسملة: " معنى قول القائل بسم الله أي اسم على نفسي سمة من سمات الله ن وهي العبادة. قال الراوي: فقلت: ما السمة؟ قال: العلامة ".

اعلم جعلنا الله وإياك من المتَّسمين بسمات الله أن الدخول في منزل التسمية لا يتيسر للسالك إلا بعد الدخول في منزل الاستعاذة واستيفاء حظوظ ذاك المنزل، فما دان الإنسان في تصرّف الشيطان ومقهوراً تحت سلطنته فهو متّسم بالسمات الشيطانية، وإذا غلب على باطنه وظاهره غلبة تامة يصير هو بجميع مراتبه آية وعلامة له، وإذا أتى بالتسمية في هذا المقام فيقولها بالإرادة الشيطانية والقوة الشيطانية واللسان الشيطاني ولا يحصل من استعاذته وتسميته سوى تأكيد السلطنة الشيطانية فإن أفاق بتوفيق الله من نوم الغفلة ووجدت له حالة اليقظة وأحسّ لزوم السير والسلوك إلى الله بنور الفطرة الإلهية وأنوار التعليمات القرآنية وسنن الهداة إلى طريق التوحيد في منزل اليقظة وأدرك القلب موانع السير فتحصل له حالة الاستعاذة بالتدريج وبعد ذلك يدخل منزل الاستعاذة بالتوفيق الرباني فإذا تطهّر من القذارات الشيطانية فيتجلى في مرآة السالك من تلك الأنوار الإلهية على حسب ما يناسبه بمقدار تطهيره الباطن والظاهر وفي أول الأمر تكون الأنوار مشوبة بالظلمات بل تكون الظلمة غالبة، خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وبالتدريج فكلما قوي السلوك، فبمقدار قوة السلوك يغلب النور على الظلمة وتظهر سمات الربوبية في السالك فتصير تسميته حقيقية إلى حد ما، والعلامات الشيطانية وهي في الظاهر المخالفة لنظام المدينة الفاضلة، وفي الباطن العجب والاستكبار وأمثالها، وفي باطن الباطن رؤية النفس وحبها وأمثالها ترتحل بالتدريج عن مملكة باطن السالك وظاهره وتسكن في مكانها سمات الله وهي في الظاهر حفظ نظام المدينة الفاضلة وفي الباطن العبودية و ذلة النفس وفي باطن الباطن حب الله ورؤية الله، فإذا صارت المملكة إلهية وخلت من شياطين الجن والإنس وظهرت فيها السمات الإلهية يتحقق السالك بنفسه بمقام الإسمية، فأول تسمية السالك عبارة عن الاتصاف بالسمات الإلهية وعلاماتها ثم يترقى عن هذه المرتبة ويصل بنفسه مقام الاسمية، وهذا أوائل قرب النافلة، فإذا تحقق بقرب النافلة نال تمام الاسمية فلا يبقى بعد شيء من العبد والعبودية، وإذا وصل أحد إلى هذا المقام تقع جميع صلاته بلسان الله وهذا يتحقق في القليل من الأولياء، وأما للمتوسطين أمثالنا الناقصين فالأدب أن نسمَ القلب بسمة العبودية وكيّها عند التسمية ونعلن القلب من سمات الله والعلامات الإلهية وألا نكتفي بلقلقة اللسان، فلعل من العنايات الأزلية نبذة تشمل حالنا وتجبر ما سبق منا وينفتح لقلوبنا طريق إلى تعلّم الأسماء ويحصل سبيل إلى المقصود.

ويمكن أن يكون المقصود من السمة من سمات الله في هذا الحديث الشريف سمة الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية وعلامتها لأن هذين الاسمين الشريفين من الأسماء المحيطة التي وصلت جميع دار التحقق في ظلّ هذين الاسمين الشريفين إلى أصل الوجود وكماله، ويستمر هذا الوصول، والرحمة الرحمانية والرحيمية شاملة لجميع دار الوجود، حتى أن الرحمة الرحيمية التي جميع هدايات الهادين إلى طريق التوحيد من تجلياتها تشمل الجميع إلا أن الخارجين عن فطرة الاستقامة بسوء اختيارهم، حرموا أنفسهم منها لأن الرحمة غير شاملة لحالهم حتى أنه في عالم الآخرة وهي يوم حصاد ما زرع من الحسنة والسيئة فالذين زرعوا السيئة فهم بأنفسهم قاصرون عن الاستفادة من الرحمة الرحيمية.

وبالجملة، إذا أراد السالك أن تكون تسميتة حقيقيّة فلا بد له أن يوصل مراحم الحق تعالى إلى قلبه ويتحقق بالرحمة الرحمانية والرحيمية، وعلامة حصول نموذج منها في القلب أنه ينظر إلى عباد الله بنظر العناية والتلطف ويطلب الخير والصلاح للجميع وهذا هو نظر الأنبياء العظام والأولياء الكمل عليهم السلام، غاية الأمر أن لهم نظرين أحدهما النظر إلى سعادة المجتمع ونظام العائلة والمدينة الفاضلة، والآخر النظر الشخصي، ولهم علاقة كاملة بهاتين السعادتين والقوانين الإلهية التي تؤسس وتنفّذ وتكشف وتجري بأيديهم، يراعون فيها هاتين السعادتين حتى إجراء القصاص والحدود والتعزيرات وأمثالها والتي تبدو في النظر أنها أسّست وتقنّنت مع لحاظهم نظام المدينة الفاضلة، قد لوحظ فيها كلتا السعادتين لأن لهذه الأمور دخالة كاملة في التربية الروحية في الأكثر وإيصالهم إلى السعادة حتى الذين ليس لهم نور الإيمان والسعادة فيقتلونهم بالجهاد وأمثاله كيهود بني قريظة، فهذا القتل لهم أيضا صلاح وإصلاح ويمكن أن يقال أن قتلهم كان من الرحمة الكاملة للنبي الخاتم لأنهم مع وجودهم في هذا العالم يهيّئون لأنفسهم في كل يوم أنواع العذاب الذي لا يقابل يوما من عذاب الآخرة وعسرها جميع مدة الحياة في هذا العالم، وهذا المطلب واضح جدا عند أولئك الذين يعلمون ميزان عذاب الآخرة وعقابها والأسباب والمسببات فيها، فالسيف الذي يضرب أعناق بني قريظة يهود وأمثالهم كان أقرب إلى أفق الرحمة، والآن هو أيضا أقرب منه إلى أفق الغضب والسخط.

وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجهة الرحمة الرحيمية فلا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يذيق قلبه من الرحمة الرحيمية ولا يكون نظره في الأمر والنهي أراءة نفسه والتكبّر وفرض أمره ونهيه لأنه إن مشى بهذا النظر لا يحصل المنظور من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو حصول سعادة العباد وإجراء أحكام الله في البلاد، بل يصل ربما تحصل النتيجة المعكوسة من الأمر بالمعروف ومن إنسان جاهل، وتزداد عدة منكرات لأجل أمر أو نهي من جاهل يقع من جهة الهوى النفسي والتصرف الشيطاني، وأما إذا كانت دواعي الإنسان لإرشاد الجاهلين وإيقاظ الغافلين حس الرحمة والشفقة وحق النوعية والأخوة تكون كيفية البيان والإرشاد المترشحة من القلب الرحيم على نحو يؤثر في الموارد اللائقة تأثيرا حسنا وتنزل القلوب الصلبة القاسية عن استكبارها واستنكارها.

يا للأسف، إننا لا نتعلم من القرآن، وليس نظرنا إلى هذا الكتاب الكريم الإلهي نظر التدبر والتعلم، واستفادتنا من هذا الذكر الحكيم قليلة وضئيلة، ففكر الآن في الآية الشريفة:

" اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا ليّنا لعله يتذكر أو يخشى " (طه - 24 - 25) ينفتح لك طرق من المعرفة ويفتح على قلب الإنسان أبواب من الرجاء.

إن فرعون الذي قد بلغ من الطغيان إلى حد أنه قال: " أنا ربكم الأعلى " (النازعات - 3) وبلغ علوه وفساده إلى درجة نزلت فيه " يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم " (القصص - 4) وبمجرد أنه رأى مناما وأخبرته الكهنة والسحرة أن موسى بن عمران سيطلع فرّق بين الرجال والنساء، وذبح الأطفال الأبرياء وأفسد ذلك الفساد، فإن الله الرحمن نظر برحمته الرحيمية على جميع وجه الأرض فأنتخب من نوع البشر أشدّهم تواضعا وأكملهم، ونبيّا عظيم الشأن ورسولا عالي المقام المكرم كموسى بن عمران على نبيّنا وآله وعليه السلام وعلّمه وربّاه بيده التربوية كما قال تعالى: " ولما بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين " (القصص - 14) وشدّد ظهره بأخ كريم مثل هارون عليه السلام، وأنتخب تبارك وتعالى هاتين الزبدتين في العالم الإنساني كما قال تعالى: " وأنا اخترتك " (طه - 13). وقال تعالى: " ولتصنع على عيني " (طه - 39). وقال تعالى: " واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري " (طه - 41 - 42). وسائر الآيات الشريفة الواردة في هذا الموضوع الخارجة عن مجال البيان، وللقلب منها نصيب لا يمكن أن يقال وخصوصا من هاتين الكلمتين الشريفتين ولتصنع على عيني.. واصطنعتك لنفسي.. وأنت أيضا لو فتحت عين قلبك لتسمع نغمة روحانية لطيفة تمتلئ جميع مسامع قلبك وشراشر وجودك من سرّ التوحيد.

وبالجملة، إن الله تبارك وتعالى بعد هذه التشريفات هيّأ التهيئّات وروّض موسى الكليم بالرياضات الروحانية كما قال تعالى: " وفتنّاك فتونا " (طه - 40). وأرسله سنين في خدمة شعيب شيخ طريق الهداية والمرتاض في عالم الإنسانية، كما قال تعالى: " فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى " (طه - 40) ثم بعثه للاختبار والافتتان الأعلى إلى واد، في طريق الشام وأضله الطريق وأمطر عليه المطر وغلب عليه الظلمة وعرّض زوجته للمخاض، فإذا أغلقت عليه جميع أبواب الطبيعة وانضجر قلبه عن الكثرات وانقطع إلى الحق بحبلة الفطرة الصافية وانتهى السفر الروحاني الإلهي في ذلك الوادي الظلماني غير المتناهي، آنس من جانب الطور نارا إلى أن قال: " فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين " (القصص - 30)، وبعد هذه الامتحانات الكثيرة والتربية الروحانية المتكثرة هيّأه سبحانه لماذا؟ لأن يدعو ويهدي ويرشد وينجي عبدا طاغيا، باغيا، يضرب طبل أنا ربكم الأعلى.. وأفسد في الأرض ذلك الفساد الكبير. وكان في إمكانه تعالى أن يحرقه بصاعقة غضبه ولكن الرحمة الرحيمية ترسل إليه رسولين عظيمين ويوصيهما في نفس الوقت أن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر الله أو يخشى من عمله وعاقبة أمره. هذا هو دستور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه كيفية إرشاد مثل فرعون الطاغوت.

فإذا أردت أيضا أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وترشد خلق الله فتذكر من هذه الآيات الشريفة التي أنزلت للتذكر والتعليم وتعلّم منها، فالق عباد الله بقلب مملوء من المحبة وفؤاد عطوف لعباد الله وكن طالبا لخيرهم من صميم القلب، فإذا وجدت قلبك رحمانيا ورحيميا فقم بالأمر والنهي والإرشاد كي يلين برق عطف قلبك القلوب القاسية وتلين حديد القلوب بالموعظة الخليطة بنار المحبة، وهذا الوادي غير وادي البغض في الله والحب في الله ولا بد للإنسان أن يعادي أعداء الدين، كما ورد في الروايات الشريفة والقرآن الكريم فهو في محله صحيح وهذا أيضا في محله صحيح وليس الآن مجال بيانه.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست