.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

     النميمة

السعاية

الفحش والسب والقذف

 بواعث البذاء

السخرية

 الكلم الطيب

التوبة

 
 

النميمة

وهي: نقل الأحاديث التي يكره الناس إفشاءها ونقلها من شخص الى آخر، نكاية بالمحكي عنه ووقيعةً به.

والنميمة من أبشع الجرائم الخُلقية، واخطرها في حياة الفرد والمجتمع، والنمّام ألأم الناس وأخبثهم، لاتصافه بالغيبة، والغدر، والنفاق، والافساد بين الناس، والتفريق بين الأحباء.

لذلك جاء ذمّه، والتنديد في الآيات والأخبار:

قال تبارك وتعالى: «ولا تُطِع كل حلاّف مهين، همّاز مشّاء بنميم، منّاع للخير معتد أثيم، عتلّ بعد ذلك زنيم» (القلم: 10 - 13).

والزنيم هو الدعيّ، فظهر من الآية الكريمة، أنّ النميمة من خلال الأدعياء، وسجايا اللقطاء.

{ 231 }

وقال سبحانه: «ويل لكل هُمزةٍ لُمزة» فالهُمزَة النمّام واللمزة المغتاب.

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله:

«ألا اُنبئكم بشراركم. قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: المشّاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبّة، الباغون للبراء العيب»(1).

وقال الباقر عليه السلام: «محرمة الجنة على العيّابين المشائين بالنميمة»(2).

وقال الصادق عليه السلام للمنصور: «لا تقبل في ذي رحمك، وأهل الرعاية من أهل بيتك، قول من حرّم اللّه عليه الجنة، وجعل مأواه النار، فإن النمام شاهد زور، وشريك إبليس في الاغراء بين الناس، فقد قال اللّه تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» (الحجرات: 6) (3).

_____________________

(1)، (2) الوافي ج 3 ص 164 عن الكافي.

(3) البحار كتاب العشرة ص 190 عن أمالي الصدوق.

{ 232 }

بواعث النميمة:

للنميمة باعثان:

1 - هتك المحكيّ عنه، والوقيعة به.

2 - التودد والتزلف للمحكيّ له بنم الأحاديث اليه.

مساوئ النميمة:

تجمع النميمة بين رذيلتين خطيرتين: الغيبة والنَّم، فكل نميمة غيبة، وليست كل غيبة نميمة، فمساوئها كالغيبة، بل أنكى منها وأشّد، لاشتمالها على إذاعة الأسرار، وهتك المحكيّ عنه، والوقيعة فيه، وقد تسول سفك الدماء، واستباحة الأموال، وانتهاك صنوف الحرمات، وهدر الكرامات.

كيف تعامل النمّام:

وحيث كان النمّام من أخطر المفسدين، وأشدهم إساءة وشراً بالناس، فلزم الحذر منه، والتوقي من كيده وإفساده، وذلك باتّباع النصائح الآتية:

1 - أن يكذب النمام، لفسقه وعدم وثاقته، كما قال تعالى: «إن

{ 233 }

جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» (الحجرات: 6).

2 - أن لا يظن بأخيه المؤمن سوءاً، بمجرد النمّ عليه، لقوله تعالى: «اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم» (الحجرات: 12).

3 - أن لا تبعثه النميمة على التجسس والتحقق عن واقع النمّام، لقوله تعالى: «ولاتجسسوا» (الحجرات: 12).

4 - أن لا ينمّ على النمّام بحكاية نميمته، فيكون نماماً ومغتاباً، في آن واحد.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أن رجلاً أتاه يسعى اليه برجل. فقال: يا هذا نحن نسأل عما قلت، فان كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك. قال: أقلني يا أمير المؤمنين»(1).

وعن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: «قلت له: جعلت فداك، الرجل من إخوتي يبلغني عنه الشيء الذي أكره له، فأسأله عنه فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات. فقال لي: يا محمد كَذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة، وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم، ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به، وتهدم به مروته، فتكون من الذين قال اللّه عز وجل: «إن الذين يحبون أن تشيع

_____________________

(1) سفينة البحار م 2 ص 613.

{ 234 }

الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة» (النور: 19)(1).

———————————————————————

(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال للصدوق.

 

السعاية

ومن متممات بحث النميمة (السعاية): وهي أقسى صور النميمة، وأنكاها جريرة وإثماً، إذ تستهدف دمار المسعى به وهلاكه بالنّم عليه، والسعاية فيه لدى المرهوبين، من ذوي السلطة والسطوة.

وأكثر ضحايا السعاية هم المرموقون من العظماء والأعلام، المحسودون على أمجادهم وفضائلهم، مما يُحفّز حاسديهم على إذلالهم، والنكاية بهم، فلا يستطيعون سبيلاً الى ذلك، فيكيدونهم بلؤم السعاية، إرضاءاً لحسدهم وخبثهم، بيد أنه قد يبطل كيد السعاة، وتُخفق سعايتهم، فتعود عليهم بالخِزي والعقاب، وعلى المسعي به بالتبجيل والاعزاز.

لذلك كان الساعي من ألأم الناس، وأخطرهم جناية وشراً، كما جاء عن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: «شر الناس المثلث؟ قيل: يا رسول اللّه ومن المثلث؟ قال: الذي يسعى بأخيه الى السلطان، فيهلك نفسه، ويهلك أخاه، ويهلك السلطان»(2).

_____________________

(2) البحار م 15 كتاب العشرة ص 191 عن كتاب الامامة والتبصرة.

 

 

الفحش والسب والقذف

الفحش هو: التعبير عمّا يقبح التصريح به، كألفاظ الوقاع، وآلاته مما يتلفظ به السفهاء، ويتحاشاه النبلاء، ويعبّرون عنها بالكنابة والرمز كاللمس والمس، كناية عن الجماع.

وهكذا يكنّي الأدباء عن ألفاظ ومفاهيم يتفادون التصريح بها لياقة وأدباً، كالكناية عن الزوجة بالعائلة، وأم الأولاد، وعن التبول والتغوط، بقضاء الحاجة، والرمز الي البرص والقرع بالعارض مثلاً، إذ التصريح بتلك الألفاظ والمفاهيم مُستهَجَن عند العقلاء والعارفين.

وأما السب فهو: الشتم، نحو «يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا خائن» وأمثاله من مصاديق الاهانة والتحقير.

وأما القذف: نحو يا منكوح، أو يا ابن الزانية، أو يا زوج الزانية، أو يا أخت الزانية.

وهذه الخصال الثلاث من أبشع مساوئ اللسان، وغوائله الخطيرة، التي استنكرها الشرع والعقل، وحذّرت منها الآثار والنصوص.

أما الفحش: فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في ذمّه: «إن اللّه حرّم الجنة على كل فحّاش بذيء، قليل الحياء، لا يُبالي

{ 236 }

ما قال ولا ما قيل له، فانك إن فتشته لم تجده الا لغية، أو شرك شيطان فقيل يا رسول اللّه وفي الناس شرك شيطان؟! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: أما تقرأ قول اللّه تعالى: «وشاركهم في الأموال والأولاد» (الاسراء: 64)(1).

المراد بمشاركة الشيطان للناس في الأموال دفعهم على كسبها بالوسائل المحرمة، وإنفاقها في مجالات الغواية والآثام. وأما مشاركته في الأولاد: فبمشاركته الآباء في حال الوقاع إذا لم يسموا اللّه تعالى عنده، وولد غية أي ولد زنا.

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إن من شرار عباد اللّه من تُكره مجالسته لفحشه»(2).

وقال الصادق عليه السلام: «من خاف الناس لسانه فهو في النار»(3).

وقال عليه السلام لنفر من الشيعة: «معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»(4).

وأما السب: فعن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: سَبَابُ المؤمن فُسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه

_____________________

(1)، (2)، (3) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.

(4) البحار م 15 ج 2 ص 192 عن امالي الشيخ الصدوق وامالي ابن الشيخ الطوسي.

{ 237 }

معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»(1).

وعن أبي الحسن موسى عليه السلام في رجلين يتسابان فقال: «البادئ منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه، ما لم يتعدّ المظلوم»(2).

وأما القذف: فقد قال الباقر عليه السلام: «ما من إنسان يطعن في مؤمن، إلا مات بشر ميتة، وكان قمناً أن لا يرجع الى خير»(3).

وكان للامام الصادق عليه السلام صديق لايكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذائين، ومعه غلام سِندِي يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال: يابن الفاعلة أين كنت؟!

قال الراوي: فرفع الصادق يده فصلت بها جبهة نفسه، ثم قال: سبحان اللّه تقذف أمه!! قد كنت أريتَني أن لك ورعاً، فاذا ليس لك ورع. فقال: جعلت فداك إن أمه سندية مشركة. فقال: أما علمت أن لكل أمة نكاحاً، تنح عني.

قال الراوي: فما رأيته يمشي معه، حتى فرّق بينهما الموت»(4).

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي والفقيه.

(2)، (3)الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.

(4) الوافي ج 3 ص 161 عن الكافي.

 بواعث البذاء

من الواضح أن تلك المهاترات والقوارص، تنشأ غالباً عن العداء،

{ 238 }

أو الحسد، أو الغضب، وسوء الخُلق، وكثيراً ما تنشأ عن فساد التربية، وسوء الأدب، باعتياد البذاء وعدم التحرج من آثامه ومساوئه.

مساوئ المهاترات:

لا ريب أن لتلك المهاترات من الفحش، والسب، والقذف، أضراراً خطيرة وآثاماً فادحة:

فمن مساوئها: أنها تجرد الانسان من خصائص الانسانية المهذبة، وأخلاقها الكريمة، وتسمه بالسفالة والوحشية.

ومنها: أنها داعية العداء والبغضاء، وإفساد العلاقات الاجتماعية، وإيجابها المقت والمجافاة من أفراد المجتمع.

ومنها: أنها تعرض ذويها لسخط اللّه تعالى وعقابه الأليم، كما صورته النصوص السالفة.

لذلك جاء التحريض على رعاية اللسان، وصونه عن قوارص البذاء.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «اللسان سبع إن حُلّي عنه عقر».

وستأني النصوص المشعرة بذلك في بحث الكلم الطيب.

 

السُّخرية

وهي: محاكاة أقوال الناس، أو أفعالهم، أو صفاتهم على سبيل استنقاصهم،والضحك عليهم، بألوان المحاكاة القولية والفعلية.

وقد حرّمها الشرع لايجابها العداء، وإثارة البغضاء، وإفساد العلاقات الودّية بين أفراد المسلمين.

وكيف يجرأ المرء على السخرية بالمؤمن؟! واستنقاصه، وإعابته، وكل فرد سوى المعصوم، لا يخلوا من معائب ونقائص، ولا يأمن أن تجعله عوادي الزمن يوماً ما هدفاً للسخرية والازدراء.

لذلك ندد القرآن الكريم بالسخرية وحذّر منها:

فقال تعالى: «يا أيها الذين امنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الايمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون» (الحجرات: 11).

وقال تعالى: «إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، واذا انقلبوا الى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إنّ هؤلاء لضالون» (المطففين: 29 - 32).

{ 240 }

وقال الصادق عليه السلام: «من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه، وهدم مروّته، ليسقط من أعين الناس، أخرجه اللّه تعالى من ولايته الى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان»(1).

وعنه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإنه من تتبع عثرات المؤمنين تَتَبّع اللّه عثراته، ومن تتبع اللّه عثراته يفضحه ولو في جوف بيته»(2).

فجدير بالعاقل أن ينبذ السخرية تحرجاً من آثامها وتوقياً من غوائلها، وأن يقدّر الناس على حسب إيمانهم وصلاحهم، وحسن طويتهم غاضاً عن نقائصهم وعيوبهم، كما جاء في الخبر: «إن اللّه تعالى أخفى أولياءه في عباده، فلا تستصغرن عبداً من عباد اللّه، فربما كان وليّه وأنت لا تعلم».

_____________________

(1)، (2) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.

 الكلم الطيب

من استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعية، والأزمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علم أن منشأها في الأغلب بوادر اللسان، وتبادل المهاترات الباعثة على توتر العلائق الاجتماعية، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.

من أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلم الطيب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع.

فطيب الحديث، وحسن المقال، من سمات النبيل والكمال، ودواعي التقدير والاعزاز، وعوامل الظفر والنجاح.

وقد دعت الشريعة الاسلامية الى التحلي بأدب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.

قال تعالى: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان كان للانسان عدواً مبيناً»

(الاسراء: 53).

وقال سبحانه: «وقولوا للناس حسناً» (البقرة : 83).

وقال عز وجل: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي

{ 242 }

أحسن، فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (فصلت: 34).

وقال تعالى: «واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» (لقمان: 19).

وقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم» (الأحزاب: 70 - 71).

وقال رجل لأبي الحسن عليه السلام: أوصني. فقال، «احفظ لسانك تعزّ، ولا تمكّن الناس من قيادك فتذل رقبتك»(1).

وجاء رجل الى النبي صلى اللّه عليه وآله فقال: يا رسول اللّه أوصني. قال: «إحفظ لسانك. قال: يا رسول اللّه أوصني. قال: احفظ لسانك. قال: يا رسول اللّه أوصني. قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم!! »(2).

وقال الصادق عليه السلام لعبّاد بن كثير البصري الصوفي «ويحك يا عبّاد، غرّك أن عن بطنك وفرجك، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه «يا أيها الذين امنوا اتقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم» (الأحزاب: 70 - 71). إنه لا يتقبل اللّه منك شيئاً حتى تقول قولاً عدلاً»(3).

وقال علي بن الحسين عليهما السلام: «القول الحسن يثري المال، وينمّي الرزق، وينسئ في الأجل، ويحبب الى الأهل، ويدخل الجنة»(4).

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 84 عن الكافي.

(2)، (3) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي.

(4) البحار م 15 ج 2 ص 192 عن الخصال وأمالي الصدوق.

{ 243 }

ويُنسب للصادق عليه السلام هذا البيت:

عوّد لسانك قول الخير تحظ به*** إن اللسان لما عوّدت معتاد

وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «رحم اللّه عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلم»(1).

ونستجلي من تلك النصوص الموجهة ضرورة التمسك بأدب الحديث، وصون اللسان عن البذاء، وتعويده على الكلم الطيب، والقول الحسن.

فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقعه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحب، ويستديم الودّ، ويمنع نزغ الشيطان، في إفساد علائق الصداقة والمودة.

وفي الأعداء يلطّف مشاعر العداء، ويخفف من إساءتهم وكيدهم.

لذلك نجد العظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها من العثرات والفلتات.

فقد قيل أنه اجتمع أربعة ملوك فتكلموا:

فقال ملك الفرس: ما ندمت على ما لم أقل مرة، وندمت على ما قلت مراراً.

وقال قيصر: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.

وقال ملك الصين: ما لم أتكلم بكلمة ملكتها، فاذا تكلمت بها ملكتني.

وقال ملك الهند: العجب ممن يتكلم بكلمة إن رُفعت ضرت، وإن

_____________________

(1) البحار م 15 ج 2 ص 88 ، عن كتاب الامامة والتبصرة.

{ 244 }

لم تُرفع لم تنفع(1).

وليس شيء أدل على غباء الانسان، وحماقته، من الثرثرة، وفضول القول، وبذاءة اللسان.

فقد مرّ أمير المؤمنين برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: «يا هذا إنك تملي على حافظيك كتاباً الى ربك، فتكم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك»(2).

وقال عليه السلام: «من كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، من قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار»(3).

وعن سليمان بن مهران قال: «دخلت على الصادق عليه السلام وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»(4).

وتوقياً من بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثت النصوص على الصمت، وعفة اللسان، ليأمن المرء كبوته وعثراته المدمّرة:

قال الصادق عليه السلام: «الصمت كنز وافر، وزين الحليم،

_____________________

(1) مجاني الأدب.

(2) الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه.

(3) البحار م 15 ج 2 ص 187 عن النهج.

(4) البحار م 15 ج 2 ص 192 عن امالي الصدوق.

{ 245 }

وستر الجاهل»(1).

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أبو ذر يقول: «يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير، ومفتاح شر، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهبك ووَرَقِك»(2).

ونُقل أنه اجتمع قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصر، وقد وجدت خصلة إن استعملها الانسان سترت العيوب كلها. قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه .

(2) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي.

{ 246 }

غوائل الذنوب:

إنّ بين الأمراض الصحية التي يعانيها الانسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبهاً قوياً في نشأتهما، وسوء مغبتهما عليه.

فكما تنشأ أغلب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحية التي وضعها الأطباء، وقاية وعلاجاً للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهية، والنظم السماوية، التي شرعها اللّه تعالى لاصلاح البشر وإسعادهم.

وكما يختص كل مرض بأضرار خاصة، وآثار سيئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة، كذلك الذنوب فان لكل نوع منها مغبة سيئة، وضرراً فادحاً، وآثاراً خطيرة، تسبب للانسان ألوان المآسي والشقاء.

ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الاساءة والأذى، فان الذنوب أشدّ نكايةً، وأسوأ أثراً من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.

لذلك كانت الذنوب سموماً مهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الانسان فساداً، وتعرضه لصنوف الأخطار والمهالك.

أنظر كيف يعرض القرآن الكريم صوراً رهيبة من غوائل الذنوب،

{ 247 }

وأخطارها الماحقة في سلسلة من آياته الكريمة:

قال تعالى: «وأذا أردنا أن نُهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا» (الاسراء: 16).

وقال تعالى: «ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرنٍ مكنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين» (الأنعام: 6).

وقال تعالى: «ولو أن أهل القرى امنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» (الأعراف: 96).

وقال تعالى: «ذلك بأن اللّه لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن اللّه سميع عليم» (الأنفال: 53).

وقال تعالى: «وما أصابكم من مصيبة، فيما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير» (الشورى: 30).

وقال تعالى: «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون» (الروم: 41).

وهكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام مُحَذِّرةً غوائل الذنوب، ومآسيها العامة، وأوضحت أن ما يعانيه الفرد والمجتمع، من ضروب الأزمات، والمحن، كشيوع المظالم، وانتشار الأمراض، وشح الأرزاق، كل ذلك ناشئ من مقارفة الذنوب والآثام، واليك طرفاً منها:

عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه

{ 248 }

عليه وآله: عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار؟!!» (1).

وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: يقول اللّه تبارك وتعالى: يابن آدم ما تنصفني، أتحبب اليك بالنعم، وتتمقت اليّ بالمعاصي، خيري عليك مُنزَل، وشرّك اليّ صاعد، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح، يابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك، وأنت لا تعلم من الموصوف، لسارعت الى مقته» (2).

وقال الصادق عليه السلام: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتى تغلت على قلبه فلا يُفلح بعدها أبداً» (3).

وقال الباقر عليه السلام: «إن العبد يسأل اللّه الحاجة، فيكون من شأنه قضاؤها الى أجل قريب أو الى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول اللّه تبارك وتعالى للملك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إياها، فانه تعرّض لسخطي، واستوجب الحرمان مني» (4).

وقال الصادق عليه السلام: «كان أبي عليه السلام يقول: إن اللّه قضى قضاءاً حتماً ألا ينُعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه، حتى يحدث

_____________________

(1) البحار م 15 ج 3 ص 155 عن امالي الصدوق.

(2) البحار م 15 ج 3 ص 156 عن عيون اخبار الرضا للصدوق.

(3)، (4) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.

{ 249 }

العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة» (1).

وقال الرضا عليه السلام: «كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون»(2).

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «اذا غضب اللّه عز وجل على أمّة، ولم ينزل بها العذاب،غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم يربح تجارها، ولم تزك ثمارها، ولم تغزر أنهارها، وحُبس عنها أمطارها، وسلّط عليها شرارها»(3).

وقال الباقر عليه السلام: «وجدنا في كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفف المكيال والميزان، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار،وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يستجاب لهم»(4).

وعن المفضل قال: قال الصادق عليه السلام: «يا مفضل إياك

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.

(3) الوافي ج 3 ص 173 عن التهذيب والفقيه.

(4) الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي.

{ 250 }

والذنوب، وحذّرها شيعتنا، فواللّه ما هي الى أحد أسرع منها اليكم، إن أحدكم لتصيبه المَعَرّة من السلطان، وما ذاك إلا بذنوبه، وإنه ليصيبه السقم وما ذاك الا بذنوبه، وإنه ليحبس عنه الرزق وما هو إلا بذنوبه، وإنه ليشدد عليه عند الموت وما هو إلا بذنوبه، حتى يقول من حضر:

لقد غُمّ بالموت.

فلما رأى ما قد دخلني، قال: أتدري لم ذاك يا مفضل؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال: ذاك واللّه أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة، وعُجّلت لكم في الدنيا»(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «توقوا الذنوب، فما من بلية، ولا نقص رزق، الا بذنب، حتى الخدش، والكبوة، والمصيبة، قال اللّه عز وجل: وما أصابكم من مصيبة، فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير»(2).

وربما لبّس الشيطان على بعض الأغراء، بأن الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة، لأشقت المنهمكين عليها، السادرين في اقترافها، وهم رغم ذلك في أرغد عيش وأسعد حياة.

وخفي عليهم أن اللّه عز وجل لا يعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنما يمهل العصاة، ويؤخر عقابهم، رعاية لمصالحهم، عسى أن يثوبوا الى الطاعة والرشد، أو يمهلهم إشفاقاً على الأبرياء والضعفاء ممن تضرهم

_____________________

(1) البحار عن علل الشرائع.

(2) البحار عن الخصال.

{ 251 }

معاجلة المذنبين وهم برءاء من الذنوب.

أو يصابِر المجرمين استدراجاً لهم، ليزدادوا طغياناً وإثماً، فيأخذهم بالعقاب الصارم، والعذاب الأليم، كما صرحت بذلك الآيات والروايات.

قال اللّه تعالى: «ولا يحَسبَنَّ الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، ولهم عذاب مهين» (آل عمران: 178).

وقال سبحانه: «ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا، ما ترك على ظهرها من دابة ولكِن يؤخره الى أجل مسمى» (فاطر: 45).

وقال الصادق عليه السلام: «إذا أراد اللّه بعبد خيراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنقمة، ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمة، لينسيه الإستغفار، ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى: «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» (القلم: 44) بالنعم عند المعاصي» (1).

وقال الامام موسى بن جعفر عليهما السلام: «إنّ للّه عز وجل في كل يوم وليلة منادياً ينادي: مهلاً مهلاً، عباد اللّه عن معاصي اللّه، فلولا بهائم رتّع، وصبية رضّع، وشيوخ ركّع، لصبّ عليكم العذاب صبّاً، ترضّون به رضّاً»(2).

وقد يختلج في الذهن أن الأنبياء والأوصياء معصومون من اقتراف الذنوب والآثام، فكيف يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المحن والأرزاء؟

وتوجيه ذلك: أنّ الذنوب تختلف، وتتفاوت باختلاف الأشخاص،

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.

{ 252 }

ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديتهم للّه عز وجل.

فربّ متعة بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأول طيبة مباحة، ويحسبها الثاني جريرة وذنباً، حيث ألهته عمّا يتعشفه من ذكر اللّه عز وجل وعبادته.

وحيث كان الأنبياء عليهم السلام هم المثل الأعلى في الإيمان باللّه، والتفاني في طاعته والتوله بعبادته، أعتُبر ترك الأولى منهم ذنباً وتقصيراً، كما قيل: «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.

وقد تكون المحن والارزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتحن، وجَلَده على طاعة اللّه، ونافذ قَدَرِه ومشيئته، وقد تكون وسيلة لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى اللّه عز وجل.

 التوبة

لقد عرفتَ في البحث السابق غوائل الذنوب، وأضرارها المادية والروحية، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسمية في مذاحتها، وسوء آثارها على الإنسان.

فكما تجدرُ المسارعة الى علاج الجسم من جراثيم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم عن مكافحتها، كذلك تجب المبادرة الى تصفية النفس، وتطهيرها من أوضار الذنوب، ودنس الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعسر تداركها.

وكما تعالج الأمراض الصحيحة بتجرع العقاقير الكريهة، والاحتماء عن المطاعم الشهية الضّارة، كذلك تعالج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهوات العارمة، والأهواء الجامحة، ليأمن التأثب أخطارها ومآسيها الدنيوية والأخروية.

حقيقة التوبة:

لا تتحقق التوبة الصادقة النصوح إلا بعد تبلورها، واجتيازها

{ 254 }

أطواراً ثلاثة:

فالطور الأول: هو: طور يَقظَة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندم على معصية اللّه تعالى، وتعرضه لسخطه وعقابه، فاذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل الى:

الطور الثاني، وهو: طور الانابة الى اللّه عز وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحول الى:

الطور الثالث، وهو: طور تصفية النفس من رواسب الذنوب، وتلافي سيئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسنات، وتلاشي الشيئات، وبذلك تتحقق التوبة الصادقة النصوح.

وليست التوبة هزل عابث، ولقلقة يتشدق بها اللسان، وإنما هي: الانابة الصادقة الى اللّه تعالى، ومجافاة عصيانه بعزم وتصميم قويين، والمستغفر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهتر كذّاب، كما قال الامام الرضا عليه السلام:

«المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه».

فضائل التوبة:

للتوبة فضائل جمة، ومآثر جليلة، صورها القرآن الكريم، وأعربت عنها آثار أهل البيت عليهم السلام.

وناهيك في فضلها أنّها بلسم الذنوب، وسفينة النجاة، وصمام الأمن

{ 255 }

من سخط اللّه تعالى وعقابه.

وقد أبَت العناية الالهية أن تُهمل العصاة يتخبطون في دياجير الذنوب، ومجاهل العصيان، دون أن يسعهم بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوقهم الى الأنابة، ومهد لهم التوبة، فقال سبحانه:

«وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فانه غفور رحيم» (الأنعام: 54).

وقال تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه، إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم» (الزمر: 53).

وقال تعالى حاكياً: «فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يُرسل السماء عليكم مدراراً، ويُمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهارا» (نوح: 10 - 12).

وقال تعالى: «إن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين»

(البقرة: 222)

وقال الصادق عليه السلام: «إذا تاب العبد توبة نصوحاً، أحبه اللّه تعالى فستر عليه في الدنيا والآخرة. قال الراوي: وكيف يستر اللّه عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ثم يوحي اللّه الى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي الى بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى اللّه تعالى حين يلقاه، وليس شيء يشهد

{ 256 }

عليه بشيء من الذنوب»(1).

وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: التائب من الذنب كمن لا ذنب له».

وقال صلى اللّه عليه وآله في حديث آخر: «ليس شيء أحب الى اللّه من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة»(2).

وعن أبي عبد اللّه أو عن ابي جعفر عليهما السلام قال: «إن آدم قال: يا رب سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم مني فاجعل لي شيئاً.

فقال: يا آدم جعلتُ لك أن من همّ من ذريتك بسيئة لم يكتب عليه شيء، فان عملها كتبت عليه سيئة، ومن همّ منهم بحسنة فان لم يعملها كتبت له حسنة، فإن هو عملها كتبت له عشراً.

قال: يا رب زدني. قال: جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفرني غفرت له.

قال: يا رب زدني. قال: جعلت لهم التوبة حتى يبلغ النفس هذه. قال: يا رب حسبي»(3).

وقال الصادق عليه السلام: «العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجله اللّه سبع ساعات، فان استغفر اللّه لم يكتب عليه، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة، وإن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.

(2) البحار م 3 ص 98 عن عيون اخبار الرضا عليه السلام.

(3) الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي.

{ 257 }

يستغفر ربه فيغفر له، وإن الكافر لينساه من ساعته»(1).

وقال عليه السلام: «ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: «أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيّوم بديع السماوات والأرض ذو الجلال والاكرام وأسأله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب عليّ» إلا غفرها اللّه له، ولا خير فيمن يقارف في يومه أكثر من أربعين كبيرة»(2).

وجوب التوبة وفوريتها:

لا ريب في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:

أما العقل: فمن بديهياته ضرورة التوقي والتحرز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الانسان وهلاكه. لذلك وجب التحصن بالتوبة، والتحرز بها من غوائل الذنوب وآثارها السيئة، في عاجل الحياة وآجلها.

وأما النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنة فرضاً محتّماً، وشوقت اليها بألوان التشويق والتيسير.

فعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه تبوته، ثم قال: إن السنة

_____________________

(1) البحار م 3 ص 103 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 182 عن الكافي.

{ 258 }

لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته. ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته. ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل اللّه توبته. ثم قال: إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل اللّه توبته»(1).

وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إنّ للّه عز وجل فضولاً من رزقه يُنحله من يشاء من خلقه، واللّه باسط يديه عند كل فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له» (2).

تجديد التوبة:

من الناس من يهتدي بعد ضلال، ويستقيم بعد انحراف، فيتدارك آثامه بالتوبة والانابة، ملبياً داعي الايمان، ونداء الضمير الحُر.

بيد أنّ الانسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة، وتسترقه بأهوائها ومغرياتها، فيقارف المعاصي من جديد، منجرفاً بتيارها العَرمِ، وهكذا يعيش صراعاً عنيفاً بين العقل والشهوات، ينتصر عليها تارة، وتنتصر عليه أخرى، وهكذا دواليك.

وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة، ومواصلة الانابة خشية النكول

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.

(2) البحار م 3 ص 100 عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).

{ 259 }

عنها، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام.

فعلى هؤلاء أن يعلموا أن الانسان عرضة لاغواء الشيطان، وتسويلاته الآثمة، ولا ينجو منها إلا المعصومون من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وانّ الأجدر بهم إذا ما استزلهم بخدعه ومغرياته، أن يجددوا عهد التوبة والانابة بنيّة صادقة، وتصميم جازم، فان زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطهم ذلك عن تجديدها كذلك، مستشعرين قول اللّه عز وجل:

«قل يا عباديّ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه، أنّ اللّه يغفر الذنوب جميعاً، إنّه هو الغفور الرحيم» (الزمر: 53).

وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيت عليهم السلام على تجديد التوبة، ومواصلة الانابة، إنقاذاً لصرعى الآثام من الانغماس فيها، والانجراف بها، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة.

فعن محمد بن مسلم قال: قال الباقر عليه السلام: «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنها ليست إلا لأهل الايمان.

قلت: فان عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة. فقال: يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثم لا يقبل اللّه توبته!! قلت: فانه فعل ذلك مراراً، يذنب ثم يتوب ويستغفر. فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفور رحيم، يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات،

{ 260 }

فإيّاك أن تُقنّط المؤمنين من رحمة اللّه تعالى»(1).

وعن أبي بصير قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: «يا أيها الذين آمنوا توبوا الى اللّه توبة نصوحاً» (التحريم: 8)؟ قال: هو الذنب الذي لا يعود اليه أبداً. قلت: وأيّنا لم يعد. فقال: يا أبا محمد. إن اللّه يحب من عباده المفتن التوّاب»(2).

المراد بالمفتن التوّاب: هو من كان كثير الذنب كثير التوبة.

ولا بدع أن يحب اللّه تعالى المفتن التواب، فان الاصرار على مقارفة الذنوب، وعدم ملافاتها بالتوبة، دليل صارخ على موت الضمير وتلاشي الايمان، والاستهتار بطاعة اللّه عز وجل، وذلك من دواعي سخطه وعقابه.

منهاج التوبة:

ولا بد للتائب أن يعرف أساليب التوبة، وكيفية التخلص من تبعات الذنوب، ومسؤولياتها الخطيرة، ليكفّر عن كل جريرة بما يلائمها من الطاعة والانابة.

فللذنوب صور وجوانب مختلفة:

منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم، وهي قسمان: ترك الواجبات، وفعل المحرمات.

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.

{ 261 }

فترك الواجبات: كترك الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الواجبات. وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهد المستطاع.

وأما فعل المحرمات: كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها من المحرمات، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على تركها.

ومن الذنوب: ما تكون جرائرها بين المرء والناس، وهي أشدّها تبعة ومسؤولية، وأعسرها تلافياً، كغصب الأموال، وقتل النفوس البريئة المحرمة، وهتك المؤمنين بالسب والضرب والنمّ والاغتياب.

والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظُّلامات الى أهلها، ما استطاع الى ذلك سبيلاً، فان عجز عن ذلك فعليه بالاستغفار، وتوفير رصيد حسناته، والتضرع الى اللّه عز وجل أن يرضيهم عنه يوم الحساب.

قبول التوبة:

لا ريب أن التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالاجماع، لدلالة القرآن والسنّة عليها:

قال تعالى: «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده» (الشورى: 25 ).

وقال تعالى: «غافر الذنب، وقابل التوب» (غافر: 3).

وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً من الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى، وكريم عفوه ، وجزيل آلائه.

{ 262 }

وأصدق شاهد على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبي صلى اللّه عليه وآله حيث قال: «لولا أنكم تذنبون فتستغفرون اللّه لخلق اللّه خلقاً حتى يذنبوا ثم يستغفروا اللّه فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول اللّه «إن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين»

(البقرة: 222)(1)

أشواق التوبة:

تتلخص النصائح الباعثة على التوبة والمشوقة إليها فيما يلي:

1 - أن يتذكر المذنب ما صوَّرته الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، من غوائل الذنوب، ومآسيها المادية والروحية، في عاجل الحياة وآجلها، وما توعد اللّه عليها من صنوف التأديب وألوان العقاب.

2 - أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين، وما حباهم اللّه به من كريم العفو، وجزيل الأجر، وسمو العناية واللطف، وقد مرّ ذلك في بداية هذا البحث.

وكفى بهاتين النصيحتين تشويقاً إلى التوبة، وتحريضاً عليها، ولا يرغب عنها إلا أحمق بليد، أو ضعيف الايمان والبصيرة.

_____________________

(1) البحار م 3 ص 103 عن الكافي.

{ 263 }

محاسبة النفس ومراقبتها:

المحاسبة هي: محاسبة النفس كل يوم عمّا عملته من الطاعات والمبرات، أو اقترفته من المعاصي والآثام، فان رجحت كفة الطاعات على المعاصي، والحسنات على السيئات، فعلى المحاسب أن يشكر اللّه تعالى على ما وفقه اليه وشرّفه به من جميل طاعته وشرف رضاه.

وان رجحت المعاصي، فعليه أن يؤدّب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة اللّه تعالى.

وأما المراقبة: فهي ضبط النفس وصيانتها عن الاخلال بالواجبات ومقارفة المحرمات.

وجدير بالعاقل المستنير بالايمان واليقين، أن يروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها (أمّارة بالسوء): متى أهملت زاغت عن الحق، وانجرفت في الآثام والشهوات، وأودت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى اُخذت بالتوجيه والتهذيب، أشرقت بالفضائل، وازدهرت بالمكارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء، «ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها» (الشمس: 7 - 10).

{ 264 }

هذا إلى أن للمحاسبة، والمراقبة أهمية كبرى في تأهب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة، وأهواله الرهيبة، ومن ثم اهتمامه بالتزوّد من أعمال البر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه.

لذلك طفقت النصوص تشوّق، وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الامام الصادق عليه السلام: «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً الا أعطاه، فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء الا من عند اللّه تعالى، فاذا علم اللّه تعالى ذلك من قلبه لم يسأل شيئاً إلا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فإن للقيامة خمسين موقفاً كل موقف مقام ألف سنة، ثم تلا «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» (المعارج: 4) (1).

وقال الامام موسى بن جعفر عليه السلام: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد اللّه تعالى، وإن عمل سيئة استغفر اللّه تعالى منها وتاب اليه»(2).

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وآله فقال له: يا رسول اللّه أوصني.

فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك؟ حتى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلها يقول له الرجل: نعم

_____________________

(1) الوافي الجزء الثالث ص 62 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.

{ 265 }

يا رسول اللّه.

فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: فاني أوصيك، إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه، وإن يك غيّاً فانته عنه»(1).

وقال الصادق عليه السلام لرجل: «إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّن لك الداء، وعُرّفت آية الصحة، ودُلِلت على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك»(2).

وعن موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر.

قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. ثم قال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(3).

دستور المحاسبة:

لقد ذكر المعنيون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأسلوب مفصّل ربما يشق على البعض تنفيذه، بيد أني أعرضه مجملاً وميسراً في

_____________________

(1)، (2) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.

(3) البحار م 15 ج 2 ص 40 عن معاني الأخبار وأمالي الصدوق.

{ 266 }

أمرين هامين:

1 - أول ما يجدر محاسبة النفس عليه أداء الفرائض التي أوجبها اللّه تعالى على الناس، كالصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الفرائض، فإن أداها المرء على الوجه المطلوب، شكر اللّه تعالى على ذلك ورجّى نفسه فيما أعد اللّه للمطيعين من كرم الثواب وجزيل الأجر.

وإن أغفلها وفرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعد اللّه العصاة والمتمردين عن عباده بالعقاب الأليم، وجد في قضائها وتلافيها.

2 - محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات، وذلك: بزجرها زجراً قاسياً، وتأنيبها على ما فرط من سيئاتها، ثم الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه والتوبة الصادقة منه.

ولقد ضرب النبي صلى اللّه عليه وآله أرفع مثل لمحاسبة النفس، والتحذير من صغائر الذنوب ومحقراتها:

قال الصادق عليه السلام: «إن رسول اللّه نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: إئتونا بحطب. فقالوا: يا رسول اللّه نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: هكذا تجتمع الذنوب.

ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً، ألا وانّ طالبها يكتب:

{ 267 }  

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست