.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

 

الفهرست
 

العمل الصالح

الثبات على المبدأ

القسم الثاني ـ في الحقوق والواجبات

تمهيد

 
 

«ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين» (ياسين: 12)(1).

وكان بعض الأولياء يحاسب نفسه بأسلوب يستثير الدهشة والاكبار:

من ذلك ما نقل عن توبة بن الصمة، وكان محاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يوماً ما مضى من عمره، فاذا هو ستون سنة، فحسب أيامها فكانت احدى وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم، فقال: ياويلتاه!!، ألقى مالكاً باحدى وعشرين ألف ذنب، ثم صعق صعقة كانت فيها نفسه(2).

وما أحلى هذا البيت:

إذا المرء أعطى نفسه كل شهوة*** ولم ينهها تاقت الى كل باطل

اغتنام فرصة العمر:

لو وازن الانسان بين جميع مُتع الحياة ومباهجها، وبين عمره وحياته لوجد أنّ العمر أغلى وأنفس منها جميعاً، وأنه لا يعدله شيء من نفائس الحياة وأشواقها الكثر، إذ من الممكن اكتسابها او استرجاع ما نفر منها.

أما العمر فإنه الوقت المحدد الذي لا يستطيع الانسان إطالة أمده، وتمديد أجله المقدر المحتوم «ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» (الأعراف: 34).

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.

(2) سفينة البحار ج 1 ص 488.

{ 268 }

كما يستحيل استرداد ما تصرم من العمر، ولو بذل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات الحياة.

وحيث كان الانسان غفولاً عن قيم العمر وجلالة قدره، فهو يسرف عابثاً في تضييعه وإبادته، غير آبه لما تصرم منه، ولا مغتنم فرصته السانحة.

من أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيت عليهم السلام موضحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجب سعادة الانسان ورخائه في حياته العاجلة والآجلة.

قال سيد المرسلين صلى اللّه عليه وآله في وصيته لأبي ذر: «يا أبا ذر، كُن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك»(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنما الدنيا ثلاثة أيام: يوم مضى بما فيه فليس بعائد، ويوم أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه، ويوم لا تدري أنت من أهله، ولعلك راحل فيه.

أما اليوم الماضي فحكيم مُؤدب، وأما اليوم الذي أنت فيه فصديق مودّع، وأمّا غد فإنما في يديك منه الأمل».

وقال عليه السلام: «ما من يوم يمر على ابن آدم، إلا قال له ذلك اليوم: أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً، واعمل

_____________________

(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لأبي ذر.

{ 269 }

فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنك لن تراني بعد هذا أبداً»(1).

وروي أنه جاء رجل الى علي بن الحسين عليهما السلام يشكو اليه حاله، فقال: «مسكين ابن آدم، له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا:

فأما المصيبة الأولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإن ناله نقصان في ماله اغتم به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يردّه شيء.

والثانية: انه يستوفي رزقه، فان كان حلالاً حُوسِبَ عليه، وان كان حراماً عوقب.

قال: والثالثة أعظم من ذلك. قيل: وما هي؟ قال: ما من يوم يمسي إلا وقد دنا من الآخرة مرحلة، لا يدري على جنة أم على نار.

وقال: أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد من أمّه.

«قالت الحكماء ما سبقه الى هذا أحد»(2).

وقال الصادق عليه السلام: «إصبروا على طاعة اللّه، وتصبروا عن معصية اللّه، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت »(3).

وقال الباقر عليه السلام: «لا يغرّنك الناس من نفسك،

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الفقيه.

(2) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد.

(3) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.

{ 270 }

فإن الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا، فإنّ معك من يحفظ عليك عملك، فأحسن فانّي لم أر شيئاً أحسن دركاً، ولا أسرع طلباً، من حسنة محدثة لذنب قديم»(1).

وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله: «بادر بأربع قبل أربع، بشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك»(2).

وعن الباقر عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: «لا يزولُ قدم (قدما) عبد يوم القيامة من بين يدي اللّه، حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين اكتسبته واين وضعته، وعن حبنا أهل البيت؟»(3).

وقال بعض الحكماء: إنّ الانسان مسافر، ومنازله ستة، وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة:

فالتي قطعها: -

1 - من كتم العدم الى صلب الأب وترائب الأم.

2 - رحم الأم.

3 - من الرحم الى فضاء الدنيا.

وأما التي لم يقطعها : -

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.

(2) البحار م 15 ص 165 عن كتاب كمال الدين للصدوق.

(3) البحار م 7 ص 389 عن مجالس الشيخ المفيد.

{ 271 }

فأولها القبر. وثانيها فضاء المحشر. وثالثها الجنة أو النار.

ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث، ومدة قطعها مدة عمرنا، فأيامنا فراسخ، وساعاتنا أميال، وأنفاسنا خطوات.

فكم من شخص بقي له فراسخ، وآخر بقي له أميال، وآخر بقي له خطوات.

وما أروع قول الشاعر:

دقات قلب المرء قائلة له*** إن الحياة دقائق وثواني

 العمل الصالح

لقد عرفت في البحث السالف نفاسة الوقت، وجلالة العمر، وأنه أعز ذخائر الحياة وأنفسها.

وحيث كان الوقت كذلك، وجب على العاقل أن يستغله فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة من الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجبة لسعادته ورخائه المادي والروحي، الدنيوي والأخروي، كما قال سيد المرسلين صلى اللّه عليه وآله: «ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو لذّة في غير محرم»(1).

فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صرف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها.

_____________________

(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لعلي (ع).

{ 273 }

وحيث كان الانسان مدفوعاً بغرائزه وأهدافه وأهوائه الى كسب المعاش، ونيل المتع واللذائذ المادية، والتهالك عليها، مما يصرفه ويلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهب للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار مشوقة الى الاهتمام بالآخرة، والتزود لها من العمل الصالح.

قال تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» (الزلزلة: 7 - 8).

وقال تعالى: «من عمل صالحاً من ذكر أو انثى، وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل: 97).

وقال تعالي: «ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة، يُرزقون فيها بغير حساب» (غافر: 40).

وقال تعالى: «من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم الى ربّكم ترجعون» (الجاثية: 15).

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يا أبا ذر، إنّك في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع»(1).

وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة من بني تميم الى النبي صلى اللّه عليه وآله، فقلت: يا نبي اللّه عظنا موعظة ننتفع بها، فإنا قوم

_____________________

(1) الوافي في موعظة رسول اللّه (ص) لأبي ذر.

{ 273 }

نعمّر في البرّية.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يا قيس إنّ مع العز ذُلاً، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكل شيء حسيباً، وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، ولكل أجل كتاباً. وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إن صلح أنست به، وإن فسد لم تستوحش الا منه، وهو فعلك»(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن العبد اذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت الى ماله، فيقول: واللّه إني كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك.

قال: فيلتفت الى ولده فيقول: واللّه إني كنت لكم محباً، وإني كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم؟ فيقولون: نؤديك الى حفرتك فنواريك فيها

قال: فيلتفت الى عمله فيقول: واللّه إني كنت فيك لزاهداً، وإنك كنت عليّ لثقيلاً، فمالي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم

_____________________

(1) البحار م 15 ج 2 ص 163 عن معاني الأخبار والخصال وامالي الصدوق.

{ 274 }

نشرك، حتى أعرض أنا وأنت على ربك»(1).

قال: «فان كان للّه ولياً، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا الى الجنة...»(2).

وقال الصادق عليه السلام: «إذا وضع الميت في قبره، مُثّل له شخص، فقال له: يا هذا، كنّا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك»(3).

وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من أحسن فيما بقي من عمره، لم يُؤخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر».

وقد أحسن الشاعر بقوله:

والناس همهم الحياة ولا أرى*** طول الحياة يزيد غير خيال

وإذا افتقرت الى الذخائر لم تجد*** ذخراً يدوم كصالح الأعمال

_____________________

(1) الوافي ج 13 ص 92 عن الفقيه.

(2) الوافي ج 13 ص 92 عن الكافي.

(3) الوافي ج 13 ص 94 عن الكافي.

{ 275 }

طاعة اللّه وتقواه:

الانسان عنصر أصيل من عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثر، بل هو أجلّها قدراً، وأرفعها شأناً، وذلك بما حباه اللّه عز وجل، وشرّفه بصنوف الخصائص والهبات التي ميزته على سائر الخلق «ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً» (الاسراء: 70).

وكان من أبرز مظاهر العناية الالهية بالانسان، ودلائل تكريمه له: أن استخلفه في الأرض، واصطفى من عيون نوعه وخاصتهم رسلاً وأنبياء بعثهم الى العباد بالشرائع والمبادئ الموجبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.

ولكنّ أغلب البشر، وا أسفاه! تستعبدهم الأهواء والشهوات، وتطفي عليهم نوازع التنكر والتمرد على النظم الالهية، وتشريعها الهادف البناء، فيتيهون في مجاهل العصيان، ويتعسفون طرق الغواية والضلال، ومن ثم يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنهم استجابوا لطاعة اللّه تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً، «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من

{ 276 }

السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون».

أرأيت كيف انتظم الكون، واتّسقت عناصره، واستتب نظامه ملايين الأجيال والأحقاب؟! بخضوعه للّه عز وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه؟!

أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة اللّه تعالى، وحكمة نظامه وتدبيره؟!!.

أرأيت كيف يطبق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكية ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه؟!

أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقة العلاج ومرارة الحمية، توخياً للبرء والشفاء؟!.

فلِمَ لا يطيع الانسان خالقه العظيم، ومدبّره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره، ومنافعه ومضاره؟!.

إنه يستحيل على الانسان أن ينال ما يصبو اليه من سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلا بطاعة اللّه تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.

أنظر كيف يشوّق اللّه عز وجل، عباده الى طاعته وتقواه، ويحذّرهم مغبة التمرد والعصيان، وهو الغنيّ المطلق عنهم.

قال تعالى: «ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً»

(الأحزاب: 61)

وقال سبحانه: «ومن يطع اللّه ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار، ومن يتولّ يعذّبه عذاباً اليماً» (الفتح: 17).

{ 272 }

وأما التقوى، فقد علق اللّه خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعز الأماني والآمال، وإليك بعضها:

1 - المحبة من اللّه تعالى، فقال سبحانه: «إن اللّه يحب المتقين» (التوبة: 4).

2 - النجاة من الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال: «ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب» (الطلاق: 2 - 3).

3 - النصر والتأييد، قال تعالى: «إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» (النحل: 128).

4 - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه، وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم»

(الأحزاب: 70 - 71 )

وقال: «إنما يتقبل اللّه من المتقين».

5 - البشارة عند الموت، قال تعالى: «الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (يونس:63 - 64).

6 - النجاة من النار، قال تعالى: «ثم ننجّي الذين اتقوا»

(مريم: 72)

7 - الخلود في الجنة، قال تعالى: «أعدت للمتقين»

(آل عمران: 133)

فتجلى من هذا العرض، أن التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال المادية والروحية، الدينية والدنيوية.

{ 278 }

حقيقة الطاعة والتقوى:

والطاعة: هي الخضوع للّه عز وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.

والتقوى: من الوقاية، وهي صيانة النفس عما يضرها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها فيها.

وهكذا تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السلام حاثة ومرغبةً على طاعة اللّه تعالى وتقواه، ومحذّرة من عصيانه ومخالفته.

قال الامام الحسن الزكي عليه السلام في موعظته الشهيرة لجنادة: «إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وإذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية اللّه إلى عز طاعة اللّه عز وجل».

وقال الصادق عليه السلام: «إصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت»(1).

وقال عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.

{ 279 }

ونصبر عن معاصي اللّه. فيقول اللّه عز وجل: صدقوا، ادخلوهم الجنة، وهو قول اللّه عز وجل: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» (الزمر: 10) (1).

وقال الباقر عليه السلام: «اذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً، فانظر الى قلبك، فان كان يحب أهل طاعة اللّه عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير، واللّه يحبك.

وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه، ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع من أحب»(2).

وقال عليه السلام: ما عرف اللّه من عصاه، وأنشد:

تعصي الاله وأنت تظهر حبّه*** هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته*** إنّ المحب لمن أحبّ مطيع

وعن الحسن بن موسى الوّشا البغدادي قال: كنت بخراسان مع علي بن موسى الرضا عليه السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول نحن ونحن، وأبو الحسن مقبل على قوم يحدّثهم، فسمع مقالة زيد، فالتفت اليه. فقال: يا زيد، أغرّك قول بقالي الكوفة إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذريتها على النار، واللّه ما ذلك إلا للحسن والحسين، وولد بطنها خاصة، فأمّا أن يكون موسى بن جعفر يطيع اللّه، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،

_____________________

(1) البحار م 5 ص 2 ص 49 عن الكافي.

(2) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.

{ 280 }

وتعصيه أنت، ثم تجيئان يوم القيامة سواء، لأنت أعزّ على اللّه منه! إنّ علي بن الحسين كان يقول: «لمحسننا كفلان من الأجر، ولمسيئنا ضعفان من العذاب».

قال الحسن بن الوشا: ثم التفت اليّ وقال: يا حسن، كيف تقرأون هذه الآية؟ «وقال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح» (هود: 46).

فقلت: من الناس من يقرأ «عَمِل غير صالح» ومنهم من يقرأ «عَمَل غير صالح» نفاه عن أبيه.

فقال عليه السلام: كلا لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى اللّه عز وجل، نفاه اللّه عن أبيه، كذا من كان منّا ولم يطع اللّه فليس منا، وأنت إذا أطعت اللّه فأنت منّا أهل البيت» (1).

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على الصفا، فقال: «يابني هاشم، يابني عبد المطلب، إني رسول اللّه اليكم، وإنّي شفيق عليكم، وإن لي عملي، ولكل رجل منكم عمله، لا تقولوا إن محمداً منا وسندخل مدخله، فلا واللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم، يا بني عبد المطلب إلا المتّقون، ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتى الناس يحملون الآخرة، ألا إنّي قد أعذرت اليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين اللّه تعالى فيكم» (2).

وعن جابر قال: قال الباقر عليه السلام: «يا جابر أيكتفي من إنتحل

_____________________

(1) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضا عليه السلام.

(2) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي.

{ 281 }

التشيع، أن يقول بحبنا أهل البيت؟! فواللّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه وأطاعه - الى أن قال: فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحبّ العباد الى اللّه تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم، وأعملهم بطاعته.

يا جابر، واللّه ما يتقرب الى اللّه إلا بالطاعة، ما معنى براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من حجة، من كان للّه مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان للّه عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع»(1).

وعن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي. فقال: «مه؟! إستغفر اللّه. ثم قال: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى. قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم، مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فاذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى. ويكون الآخر ليس عنده شيء، فاذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه»(2).

قال الشاعر:

ليس من يقطع طريقاً بطلا*** إنما من يتق اللّه البطل

فاتق اللّه فتقوى اللّه ما*** جاورت قلب امرئ إلا وصل

_____________________

(1) الوفي ج 3 ص 60 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 61 عن الكافي.

 

 

الثبات على المبدأ

للنظم والمبادئ أهمية كبرى، وأثر بالغ في حياة الامم والشعوب، فهي مصدر الاشعاع والتوجيه في الأمة، ومظهر رقيها أو تخلفها، وكلما سمت مبادئ الامة، ونظمها الاصلاحية، كان ذلك برهاناً على تحضّرها وازدهارها.

وكلما هزلت وسخفت المبادئ، كان دليلاً على جهل ذويها وتخلفهم

وخير المبادئ وأشرفها هو: ما ينظم حياة الانسان فرداً ومجتمعاً، ويصون حريته وكرامته، ويحقق أمنه ورخاءه، ويوفر له وسائل السعادة والسلام في مجالي الدين والدنيا.

وبديهي أن المبادئ مهما سمت، وزخرت بجلائل المزايا والخلال، فإنها لا تحقق أماني الأمة وآماله، ولا تفيء عليها بالخير المأمور، إلا إذا اعتنقتها وحرصت على حمايتها وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة، وإلا كانت عديمة الجدوى والنفع.

لذلك كان الثبات على المبدأ الحق من أقدس واجبات الأمة وفروضها الحتمية، فهو الذي يرفع معنوياتها، ويعزز قيمتها، ويحقق أهدافها وأمانيها.

ولم تعرف البشرية في تاريخها المديد، أكمل وأفضل من المبادئ

{ 283 }

الاسلامية الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود، وبوأتها قمة الشرائع والمبادئ.

فهي المبادئ الوحيدة التي تلائم الفِطَر السليمة، وتؤلف بين القيم المادية والروحية، وتكفل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا.

ناهيك في جلالتها إنها إستطاعت أن تحقق في أقل من ربع قرن من فتوحات الايمان، ومعاجز الاصلاح، ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ.

وأنشأت من ال.مة العربية المتخلفة في جاهليتها خير أمّة أخرجت للناس، حضارة ومجداً وعلماً وأخلاقاً.

وما ساد المسلمون الأولون وانفردوا بحضارتهم وزعامتهم العلمية، الا بثباتهم على مبادئهم الخالدة، وتفانيهم في حمايتها ونصرتها.

وما فجع المسلمون اليوم، وانتابتهم النكسات المتتالية، إلا باغفال مبادئهم، وانحرافهم عنها.

أنظر كيف يمجّد القرآن الكريم المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة، المستمسكين بقيم الايمان ومثله العليا: «إن الذين قالوا: ربنا اللّه، ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أوليائكم في الحياة الدنيا والآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلاً من غفور رحيم» (فضلت: 31 - 32 )

ولقد كان الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرون، المثل الأعلى في الثبات على المبدأ وحمايته والتضحية في سبيله، بأعزّ النفوس والأرواح.

{ 284 }

كان صلى اللّه عليه وآله كلّما اكفهرت في وجهه أعاصير المحن، وتألبت عليه قوى الكفر والطغيان إزداد صموداً ومُضيّاً على نشر رسالته، ضارباً في سبيل ذلك أرفع الأمثال «لو وضعت الشمس في يميني، والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره اللّه، أو أهلك في طلبه».

وبهذا الصمود والشموخ انهارت قوى الشرك، واستسلمت صاغرة للنبي صلى اللّه عليه وآله.

وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام على سر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، ومثاليته في الثبات على المبدأ والاعتصام به، عُرضت عليه الخلافة مشروطةً بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فأبى معتداً بمبدئه السامي، ورأيه الأصيل قائلاً «بل على كتاب اللّه، وسنة رسوله، واجتهاد رأيي».

وألحّ عليه نفر من خاصته ومواليه أن يستميل من أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل الامام ومساواته، واستهواهم إغراء معاوية ونواله الرخيص «يا أمير المؤمنين، إعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف عليه من الناس فراره الى معاوية».

فقال عليه السلام لهم وهو يعرب عن ثباته، وتمسكه بدستور الاسلام، وترفعه عن الوسائل الاستغلالية الآثمة: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا واللّه ما أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، واللّه لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وانما هي أموالهم».

{ 285 }

وهكذا سرت مثالية الامام عليه السلام الى الصفوة المختارة من أصحابه وحواريه، فكانوا نماذج فذّة، وانماطاً فريدة في الثبات على المبدأ والتمسك بالحق، والذود عنه، رغم معاناتها ضروب الارهاب والتنكيل.

وقد ازدانت أسفار السير بطرائف أمجادهم، وطيب ذكراهم، مما خلّدت مآثرهم عبر القرون والأجيال، واليك طرفاً منها:

قال الحجاج بن يوسف الثقفي ذات يوم: أحب أن أصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب فأتقرب الى اللّه بدمه. فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه. فبعث في طلبه فأتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم. قال: أبو همدان. قال: نعم. قال: مولى علي بن أبي طالب. قال: الله مولاي وأمير المؤمنين علي وليّ نعمتي.

قال: إبرأ من دينه، قال: فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه. قال: إني قاتلك، فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك. قال: صيّرت ذلك اليك. قال: ولِم؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّ منيتي تكون ذبحاً، ظلماً بغير حق.

قال: فأمر به فذبح(1).

وروي أنّ معاوية أرسل الى أبي الأسود الدُئلي هدية منها حلواء. يريد بذلك استمالته وصرفه عن حب علي بن أبي طالب، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة من تلك الحلواء وجعلتها في فمها، فقال لها أبو

_____________________

(1) البحار م 9 ص 630.

{ 286 }

الأسود: يا بنتي ألقيه فإنّه سُمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين عليه السلام، ويردّنا عن محبة أهل البيت. فقالت الصبية: قبّحه اللّه، يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر! تبّاً لمرسله وآكله، فعالجت نفسها حتى قاءت ما أكلتها، ثم قالت:

أبالشهد المزعفر يابن هند*** نبيع عليك أحساباً (اسلاماً - خ ل) ودينا

معاذ اللّه كيف يكون هذا*** ومولانا أمير المؤمنينا(1)

وكان رشيد الهَجَري من خواص أصحاب أمير المؤمنين، أتي به الى زياد لعنه اللّه.

فقال زياد: ما قال لك خليلك أنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني.

فقال زياد: أما واللّه لأكذبنّ حديثه، خلّوا سبيله. فلما أراد ان يخرج، قال: ردّوه لا نجد لك شيئاً أصلح مما قال صاحبك، إنك لن تزال تبغي سوءاً إن بقيتَ، اقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم، وقال: إصلبوه خنقاً في عنقه(2).

ولنستمع الى كلمات أصحاب الامام الخالدة، والمعربة عن شدة حبهم للامام عليه السلام، وثباتهم على موالاته، وتفانيهم في سبيله:

فهذا عمرو بن الحمق يخاطب أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: «والله يا أمير المؤمنين، إنّي ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك،

_____________________

(1) سفينة البحار ج 1 ص 669.

(2) سفينة البحار ج 1 ص 522.

{ 287 }

ولا إرادة مال تؤتينه، ولا إرادة سلطان ترفع به ذكري، ولكنّي أجبتك بخصال خمس:

إنك إبن عم رسول اللّه، وأول من آمن به، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد، ووصيه، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول اللّه، وأسبق الناس الى الاسلام، وأعظم المهاجرين سهماً في الجهاد.

فلو أني كلّفت نقل الجبال الراوسي، ونزح البحور الطوامي، حتى يؤتى عليّ في أمر أقوى به وليّك، وأهين به عدوك، ما رأيت أني قد أدّيت فيه كل الذي يحق عليّ من حقك.

فقال علي عليه السلام: اللهم نوّر قلبه بالتقى، واهده الى صراطك المستقيم، ليت أن في جندي مائة مثلك، فقال حجر: إذاً واللّه يا أمير المؤمنين صحّ جندك، وقلّ فيهم من يغشك»(1).

وروي أنّ أمير المؤمنين قال لحجر بن عُدي الطائي: كيف بك اذا دُعيت الى البراءة مني، فما عساك أن تقول؟ فقال: واللّه يا أمير المؤمنين لو قطّعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرمت لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك. فقال: «وُفّقت لكل خير يا حجر، جزاك اللّه خيراً عن أهل بيت نبيك»(2).

وقال هاشم المرقال وكان على ميسرة أمير المؤمنين بصفين: واللّه ما أحبّ أنّ لي ما على الأرض مما أقلت، وما تحت السماء مما أظلّت،

_____________________

(1) البحار م 8 ص 475.

(2) سفينة البحار ج 1 ص 226.

{ 288 }

وإني واليت عدواً لك أو عاديت ولياً لك.

فقال له أمير المؤمنين: «اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك والمرافقة لنبيك»(1).

وروي أنّ أسوداً دخل على علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إني سرقت فطهّرني.

فقال: لعلّك سرقت من غير حرز ونحّى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت من حرز فطهرني. فقال عليه السلام: لعلّك سرقت غير نصاب، ونحّى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين سرقت نصاباً، فلما أقر ثلاث مرات قطعه أمير المؤمنين، فذهب وجعل يقول في الطريق: قطعني أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب الدين، وسيد الوصيين، وجعل يمدحه. فسمع ذلك منه الحسن والحسين وقد استقبلا فدخلا على أمير المؤمنين عليه السلام وقالا: رأينا أسوداً يمدحك في الطريق، فبعث أمير المؤمنين عليه السلام من أعاده الى عنده، فقال عليه السلام: قطعتك وأنت تمدحني. فقال: يا أمير المؤمنين إنك طهرتني، وإن حبّك قد خالط لحمي وعظمي، فلو قطعتني إرباً إرباً لما ذهب حبّك من قلبي. فدعا له أمير المومنين عليه السلام، ووضع المقطوع الى موضعه فصح وصلح كما كان»(2).

ولقد سما الحسين عليه السلام وأهل بيته الطاهرون وأصحابه الأكرمون

_____________________

(1) سفينة البحار ج 2 ص 716.

(2) البحار م 9 ص 557.

{ 289 }

الى أوج رفيع، تنحطّ دونه الهمم والآمال في الثبات على المبدأ والتمسك بالحق، رغم حراجة الموقف، ومعاناة أفدح الخطوب والأهوال.

وقف الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وقد أحاط به ثلاثون ألف مقاتل، يبغون إذلاله وقتله، فصرخ في وجوههم صرخته المدوّية، وأعلن عن إبائه وشموخه بكلماته الخالدة المجلجلة في مسمع الدهر، والتي لا تزال دستوراً حيّاً يقدسه الاباة والأحرار:

«ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركز بين اثنتين، بين السِّلة والذّلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

ويؤكد الحسين عليه السلام ثباته على المبدأ مؤثراً في سبيله القتل والفداء على الحياة الخانعة الذليلة «واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد».

«إني لا أرى الموتإلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً».

وهكذا اقتفى أصحاب الحسين عليهم السلام نهجه ومثاليته في الصمود والثبات على المبدأ، ومفاداته بأعزّ النفوس والأرواح. خطبهم الحسين عليه السلام خطبة ملؤها الحبّ والاعجاب والاشفاق:

«أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل ولا أفضل من أهل بيتي، فجزاكم اللّه عني خيراً، ألا وإني لأظن يوماً لنا من هؤلاء الأعداء، ألا وإني قد أذنت لكم

{ 290 }

فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم ليأخذ كل رجل منكم يد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج اللّه، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني للهوا عن طلب غيري».

فقام اليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلّي عنك!! ولمّا نعذر إلى اللّه في أداء حقك، أما واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي، ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة، واللّه لا نخليك حتى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا عيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فيك. واللّه لو علمت أني أقتل، ثم أحيى، ثم أقتل، ثم أحرق، ثم أذرى، ثم يُفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك، حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة العظمى التي لا انقضاء لها أبداً.

وقام إليه زهير بن القين فقال: واللّه لوددت أني قُتلت، ثم انتشرت، ثم قتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأنّ اللّه جلّ وعز يدفع بذلك القتل عن نفسك ونفوس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.

وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً، فقالوا: واللّه لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فاذا نحن قُتلنا كنّا وفّينا وقضينا ما علينا(1).

_____________________

(1) عن نفس المهموم للمرحوم الحجة الشيخ عباس القمي ص 121 بتصرف بسيط.

{ 291 }

وهكذا طفق أصحاب الحسين عليه السلام يعربون عن ثباتهم وتفانيهم في ولائه ونصرته والذبّ عنه، بأروع مفاهيم البطولة والفداء.

وما أحوج المسلمين اليوم أن يستلهموا جهاد أولئك العظماء الأفذاذ، ويقتفوا آثارهم، في التمسك بالدين، والثبات على المبدأ، والتفاني في نصرة الحق، ليستردوا مجدهم الضائع، وعزهم السليب، وينقذوا أنفسهم من هوان الهزائم الفاضحة والنكسات المتتالية ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

 القسم الثاني — في الحقوق والواجبات

{ 294 }

بِسِم اللّه الرحمِن الرحيمِ

قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام:

«الحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً للّه سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه. ولكن جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليها مضاعفة الثواب تفضلاً منه، وتوسعاً بما هو من المزيد أهله. ثم جعل سبحانه من حقوقه حقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض».

 

 

تمهيد

{ 296 }

بِسمِ اللّه الرحمنِ الرحيمِ

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:

فان الانسان مدني بالطبع، لا يستغني عن أبناء جنسه، ولا يستطيع اعتزالهم والتخلف عن مسايرة ركبهم، فانه متى انفرد عنهم أحسن بالوحشة والغربة، واستشعر الوهن والخذلان، ازاء طوارئ الأقدار وملمات الحياة، وعجز عن تحقيق ما يصبو اليه من أماني وآمال، لا يتسنى له تحقيقها الا بالتضامن والتآزر الاجتماعيين.

فهو فرع من دوحة أسرية وشجت على الآباء، وتفرعت عن الأبناء، فالأعمام والأخوال، وامتدت أغصانها حتى انتضمت سائر الأقرباء والأرحام.

وهو عنصر من عناصر المجتمع، ولبنة في كيانه، تتجاذبه أواصر شتى وصلات مختلفة: من العقيدة، والصداقة، والثقافة، والمهنة، وغيرها من الصلات الكثر.

{ 297 }

وهذا الترابط الاجتماعي، او المجتمع المترابط، لابد له من دستور ينظم حياته، ويوثق أواصره، ويحقق العدل الاجتماعي في ظلاله، بما يرسمه من حقوق وواجبات، فردية واجتماعية، تضمن صالح المجتمع، وتصون حقوقه وحرماته المقدسة.

وبذلك يغدو المجتمع زاهراً، سعيداً بالوئام والسلام، والخير والجمال. وباغفال ذلك يغدو المجتمع بائساً شقياً، تسوده الفوضى، ويشيع فيه التسيب، وتنخر في كيانه عوامل التخلف والانهيار.

وقد حوت الشريعة الاسلامية - فيما حوته من ضروب المعجزات الاصلاحية - انها جاءت بدستور أخلاقي هادف بناء، ينظم حياة الفرد وحياة المجتمع أفضل وأكمل تنظيم، بما يرسم له من حقوق وآداب اجتماعية في مختلف الحقول والمجالات، ما يحقق للمسلمين مفاهيم السلام والرخاء، ويكفل إسعادهم أدبياً ومادياً.

من أجل ذلك كان لزاماً على المسلم أن يستلهم ذلك الدستور، ويعرف ماله وعليه من الواجبات والحقوق، ويعنى بتطبيقه والسير على هداه، ليكون مثلاً رفيعاً في جمال السيرة وحسن السلوك، ورعاية حقوق من ينتسب اليهم، ويرتبط بهم من صنوف الروابط والصلات الاجتماعية، وليحقق بذلك ما يهفو اليه من توقير وحب وثناء.

وهذا ما حداني إلى وضع هذا الكتاب، الذي خططته ورسمت مفاهيمه على ضوء القرآن الكريم، وأخلاق أهل البيت عليهم السلام ووصاياهم الحكيمة الجليلة. وعرضت فيه طائفة من أهم الحقوق، وأبلغها أثراً في حياة الفرد

{ 298 }

والمجتمع، مبتدئاً فيه بحقوق اللّه على العباد، فحقوق رسوله الأعظم صلى اللّه عليه وآله، فحقوق الأئمة المعصومين من آله عليهم السلام. ثم استعرضت الحقوق واحداً إثر آخر، متدرجاً من حقوق العلماء الى حقوق الأساتذة والطلاب، فالوالدين والأولاد، والزوجية والرحمية، الى الحقوق الاجتماعية الأخرى التي يجدها المطالع في حقول الكتاب.

وأملي أن يجد فيه المؤمنون رائد خير، وداعية صلاح، ومنار هداية. وان يحظى بشرف قبول اللّه تعالى، وجميل رضوانه، وواسع لطفه ورحمته إنه قريب مجيب.

{ 299 }

الحقوق الالهية

تتفاوت الحقوق بتفاوت أربابها، وقيم عطفهم وفضلهم على المحسنين اليهم.

فللصديق حق معلوم، ولكنه دون حق الشقيق البار العطوف، الذي جمع بين آصرة القربى وجمال اللطف والحنان.

وحق الشقيق دون حق الوالدين، لجلالة فضلهما على الولد وتفوقه على كل فضل.

وبهذا التقييم ندرك عظمة الحقوق الالهية، وتفوقها على سائر الحقوق، فهو المنعم الأعظم الذي خلق الانسان، وحباه من صنوف النعم والمواهب ما يعجز عن وصفه وتعداده، «ألم تروا أن اللّه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة» (لقمان: 20).

«وان تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها» (ابراهيم: 34).

فكيف يستطيع الانسان حد تلك الحقوق وعرضها، والاضطلاع بواجب شكرها، إلا بعون اللّه تعالى وتوفيقه.

فلا مناص من الاشارة الى بعضها والتلويح عن واجباتها، وهي بعد احراز الايمان باللّه، والاعتقاد بوحدانيته، واتصافه بجميع صفات الكمال وتنزيهه عما لا يليق بجلال ألوهيته.

{ 300 }

1 - العبادة:

قال علي بن الحسين عليه السلام: «فأما حق اللّه الأكبر فانك تعبده، لا تشرك به شيئاً، فاذا فعلت ذلك باخلاص، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب منها»(1).

والعبادة لغة، هي: غاية التذلل والخضوع، لذلك لايستحقها الا المنعم الأعظم الذي له غاية الافضال والانعام، وهو اللّه عز وجل.

واصطلاحاً هي: المواظبة على فعل المأمور به.

وناهيك في عظمة العبادة وجليل آثارها وخصائصها في حياة البشر: ان اللّه عز وجل جعلها الغاية الكبرى من خلقهم وإيجادهم، حيث قال: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما اريد أن يطعمون، إن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتين» (الذاريات: 56 - 58 ).

وبديهي ان اللّه تعالى غني عن العالمين، لاتنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم، ولاتضره معصية العصاة وتمردهم، وإنما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها العظيمة، الموجبة لتكاملهم واسعادهم.

فمن خصائص العبادة: أنها من أقوى الأسباب والبواعث على تركيز العقيدة ورسوخ الايمان في المؤمن، لتذكيرها باللّه عز وجل ورجاء ثوابه، والخوف من عقابه، وتذكيرها بالرسول الأعظم، فلا ينساه ولا ينحرف عنه.

_____________________

(1) رسالة الحقوق للامام علي بن الحسين عليه السلام.

{ 301 }

فاذا ما أغفل المؤمن عبادة ربه نساه، وتلاشت في نفسه قيم الايمان ومفاهيمه، وغدا عرضة للإغواء والضلال. فالعقيدة هي الدوحة الباسقة التي يستظل المسلمون في ظلالها الوارفة الندية، والعبادة هي التي تصونها وتمدها بعوامل النمو والازهار.

والعبادة بعد هذا من أكبر العوامل على التعديل والموازنة، بين القوى المادية والروحية، التي تتجاذب الانسان وتصطرع في نفسه ولا تتسنى له السعادة والهناء إلا بتعادلها. ذلك، أن طغيان القوى المادية واستفحالها يسترق الانسان بزخرفها وسلطانها الخادع، وتجعله ميالاً الى الاثرة والأنانية، واقتراف الشرور والآثام، في تحقيق أطماعه المادية.

فلا مناص - والحالة هذه - من تخفيف جماح المادة والحد من ضراوتها، وذلك عن طريق تعزيز الجانب الروحي في الانسان، وإمداده بطاقات روحية، تعصمه من الشرور وتوجهه وجهة الخير والصلاح. وهذا ماتحققه العبادة باشعاعاتها الروحية، وتذكيرها المتواصل باللّه تعالى، والدأب على طاعته وطلب رضاه.

والعبادة بعد هذا وذاك: اختبار للمؤمن واستجلاء لأبعاد إيمانه. فالايمان سر قلبي مكنون، لا يتبين إلا بما يتعاطاه المؤمن من ضروب الشعائر والعبادات، الكاشف عن مبلغ إيمانه وطاعته للّه تعالى.

وحيث كانت العبادة تتطلب عناءاً وجهداً، كان أداؤها والحفاظ عليها دليلاً على قوة الايمان ورسوخه، واغفالها دليلاً على ضعفه وتسيبه.

فالصلاة .. كبيرة إلا على الخاشعين. والصيام.. كف النفس عن لذائذ الطعام والشراب والجنس. والحج.. يتطلب البذل والمعاناة

{ 302 }

في أداء مناسكه. والزكاة.. منح المال الذي تعتز به النفس وتحرص عليه. والجهاد: هو الاقدام على التضحية والفداء في سبيل الواجب، وكلها اُمور شاقة على النفس.

من أجل ذلك كان أداء العبادة والقيام بها برهاناً ساطعاً على إيمان صاحبها وطاعته للّه عز وجل.

2 - الطاعة:

وهي الخضوع للّه عز وجل وامتثال جميع أوامره ونواهيه.

ولا ريب أنها من أشرف المزايا، وأجل الخلال الباعثة على سعادة المطيع وفوزه بشرف الدنيا والآخرة، كما نوهت بها الآيات الكريمة والأخبار الشريفة:

قال تعالى: «ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً» (الاحزاب: 71).

وقال سبحانه «ومن يطع اللّه ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن يتول يعذبه عذاباً أليماً» (الفتح: 17).

وقال الامام الحسن الزكي عليه السلام: «واذا أردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية اللّه الى عز طاعة اللّه عز وجل.»

وقال الصادق عليه السلام: «اصبروا على طاعة اللّه، وتصبروا عن

{ 303 }

معصية اللّه، فانما الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت» (1).

3 - الشكر:

وهو: عرفان نعمة المنعم، وشكره عليها، واستعمالها في مرضاته.

والشكر خلة مثالية يقدسها العقل والشرع، ويحتمها الضمير والوجدان، ازاء المحسنين من الناس. فكيف بالمنعم الأعظم الذي لا تحصى نعماؤه، ولا تعد آلاؤه؟.

من أجل ذلك حثت الشريعة على التحلي به، في نصوص عديدة من الآيات والروايات.

قال تعالى: «وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد» (ابراهيم: 7).

وقال الصادق عليه السلام: «من أعطي الشكر أعطي الزيادة، يقول اللّه عز وجل (لئن شكرتم لازيدنكم)» (2).

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «الطاعم الشاكر، له من الأجر كأجر الصائم المحتسب. والمعافى الشاكر، له من الأجر كأجر

_____________________

(1) الوافي، ج 2 ص 63، عن الكافي.

(2) الوافي، ج 2 ص 67، عن الكافي.

{ 304 }

المبتلى الصابر. والمعطى الشاكر، له من الأجر كأجر المحروم القانع» (1).

4 - التوكل:

وهو: الاعتماد على اللّه عز وجل في جميع الامور، وتفويضها اليه، والإعراض عما سواه.

والتوكل، هو من أجل خصائص المؤمنين ومزاياهم المشرفة، الموجبة لعزتهم وسمو كرامتهم وارتياح ضمائرهم، بترفعهم عن الاتكال والاستعانة بالمخلوقين، ولجوئهم وتوكلهم على الخلاق العظيم القدير في كسب المنافع ودرء المضار.

لذلك تواترت الآيات والآثار في تمجيد هذا الخلق، والتشويق اليه.

قال تعالى: «إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون» (آل عمران: 16).

وقال تعالى: «ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه» (الطلاق: 3).

وقال الصادق عليه السلام: «إن الغنى والعز يجولان، فاذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا»(2).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسن عليه السلام: «والجئ نفسك في الامور كلها الى إلهك، فانك تلجئها الى كهف حريز، ومانع عزيز»(3).

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.

(3) نهج البلاغة (ومن شاء التوسع في الابحاث الثلاثة، الطاعة والشكر والتوكل، فليرجع الى القسم الأول من هذا الكتاب).

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست