.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

الصبر

   الشكر

التوكل

       الخوف من الله تعالى

الرجاء من الله تعالى

 
 

 الصبر

وهو: احتمال المكاره من غير جزع، أو بتعريف آخر هو: قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامراً ونواهياً، وهو دليل رجاحة العقل، وسعة الافق، وسمو اخلق، وعظمة البطولة والجَلَد، كما هو معراج طاعة اللّه تعالى ورضوانه، وسبب الظفر والنجاح، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد.

وناهيك في شرف الصبر، وجلالة الصابرين، أن اللّه عز وجل، أشاد بهما، وباركهما في نَيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم:

بشّر الصابرين بالرضا والحب، فقال تعالى: «واللّه يحب الصابرين»(1).

ووعدهم بالتأييد: «واصبر إن اللّه يحب الصابرين»(2).

وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف: «ولنَبَلونكم بشيء من الخوف والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشّر الصابرين،

_____________________

(1) آل عمران: 146.

(2) الأنفال: 46.

(3) الزمر: 10.

{ 151 }

الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا للّه وإنا اليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، واولئك هم المهتدون»(1).

وهكذا تواترت أخبار أهل البيت عليهم السلام في تمجيد الصبر والصابرين.

قال الصادق عليه السلام: «الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان»(2).

وقال الباقر عليه السلام «الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار»(3).

وقال عليه السلام: «لما حضرت أبي الوفاة ضمني الى صدره وقال: يا بُني، إصبر على الحق وإن كان مرّاً، توف أجرك بغير حساب»(4).

وقال الصادق عليه السلام: «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له أجر ألف شهيد»(5).

_____________________

(1) البقرة: (155 - 157).

(2) الوافي: (ج 3 ص 65 عن الكافي).

(3) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.

(4) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.

(5) الوافي ج 3 ص 66 عن الكافي.

{ 152 }

ورب قائل يقول: كيف يعطى الصابر أجر ألف شهيد، والشهداء هم أبطال الصبر على الجهاد والفداء؟.

فالمراد: أن الصابر يستحق أجر أولئك الشهداء، وإن كانت مكافأتهم وثوابهم على اللّه تعالى أضعافاً مضاعفة عنه.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «من لم يُنجه الصبر، أهلكه الجزع»(1).

أقسام الصبر

ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساماً أهمها:

(1) الصبر على المكاره والنوائب، وهو أعظم أقسامه، وأجلّ مصاديقه الدالة على سمو النفس، وتفتح الوعي، ورباطة الجأش، ومضاء العزيمة.

فالانسان عرضة للمآسي والارزاء، تنتابه قسراً واعتباطاً، وهو لا يملك إزائها حولاً ولا قوة، وخير ما يفعله المُمتَحَن هو التذرع بالصبر، فانه بلسم القلوب الجريحة، وعزاء النفوس المعذبة.

ولولاه لانهار الانسان، وغدا صريع الأحزان والآلام، من أجلّ ذلك حرضت الآيات والأخبار على التحلي بالصبر والاعتصام به:

قال تعالى: «وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا

_____________________

(1) نهج البلاغة.

{ 153 }

للّه وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون»(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القَدرُ، وأنت مأزور»(2).

ومما يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الانسان دفعها والتخلص منها، كفقد عزيز، أو اغتصاب مال، أو اضطهاد عدو.

أما الاستسلام للنوائب، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حمق يستنكره الاسلام، كالصبر على المرض وهو قادر على علاجه، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق، وعلى هضم الحقوق وهو قادر على استردادها وصيانتها.

ومن الواضح أن ما يجرد المرء من فضيلة الصبر، ويخرجه عن التجلد، هو الجزع المفرط المؤدّي الى شق الجيوب، ولطم الخدود، والاسراف في الشكوى والتذمر.

أما الآلام النفسية، والتنفيس عنها بالبكاء، أو الشكاية من متاعب المرض وعنائه فإنّها من ضرورات العواطف الحية، والمشاعر النبيلة، كما قال صلى اللّه عليه وآله عنده وفاة ابنه ابراهيم:

(تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب).

_____________________

(1) البقرة «155 - 157».

(2) نهج البلاغة.

{ 154 }

وقد حكت لنا الآثار طرفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب، مما يبعث على الاعجاب والاكبار، وحسن التأسي بأولئك الأفذاذ.

حكي أنّ كسرى سخط على بزرجمهر: فحبسه في بيت مظلم، وأمر أن يصفد بالحديد، فبقي أياماً على تلك الحال، فأرسل اليه من يسأله عن حاله، فاذا هو منشرح الصدر، مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي ابقتني على ما ترون. قالوا: صف لنا هذه لعلنا ننتفع بها عند البلوى، فقال: نعم.

أما الخلط الأول: فالثقة باللّه عز وجل.

وأما الثاني: فكل مقدرّ كائن.

وأما الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتَحن.

وأما الرابع: فاذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزع.

وأما الخامس: فقد يكون أشدّ مما أنا فيه.

وأما السادس، فمن ساعة الى ساعة فرج.

فبلغ ماقاله كسرى فأطلقه وأعزّه»(1).

وعن الرضا عن أبيه عن أبيه عليهم السلام قال: «إن سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه: انّ اللّه تبارك وتعالى قد وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي: سخّر لي الريح، والانس، والجن، والطير، والوحش، وعلمني منطق الطير، وآتاني من كل شيء، ومع جميع ما أوتيت

_____________________

(1) سفينه البحار ج 2 ص 7.

{ 155 }

من الملك ماتمّ لي سرور يوم الى الليل، وقد أحببت أن أدخل قصري في غد، فأصعد أعلاه، وأنظر الى ممالكي، فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلا يرد عليّ ما ينغض عليّ يومي. قالوا: فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده، وصعد الى أعلى موضع قصره، ووقف متكئاً على عصاه ينظر الى ممالكه مسروراً بما أوتي، فرحاً بما أعطي، اذ نظر الى شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به سليمان عليه السلام، قال له: من أدخلك الي هذا القصر، وقد أردت أن أخلو فيه اليوم، فبإذن من دخلت؟

فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربه، وباذنه دخلت.

فقال: ربّه أحق به مني، فمن أنت؟

قال: أنا ملك الموت، قال: وفيما جئت؟

قال: جئت لأقبض روحك.

قال: إمض لما أمرت به، فهذا يوم سروري، وأبى اللّه أن يكون لي سرور دون لقائه. فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه...»(1).

_____________________

(1) سفينة البحار ج 1 ص 614 عن عيون أخبار الرضا.

{ 156 }

الصبر على طاعة اللّه والتصبر عن عصيانه:

من الواضح أن النفوس مجبولة على الجموح والشرود من النظم الالزامية والضوابط المحددة لحريتها وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهوات، وإن كانت باعثة على إصلاحها وإسعادها.

فهي لا تنصاع لتلك النظم، والضوابط، إلا بالاغراء، والتشويق، أو الانذار والترهيب. وحيث كانت ممارسة طاعة اللّه عز وجل، ومجافاة عصيانه، شاقين على النفس كان الصبر على الطاعة، والتصبر عن المعصية من أعظم الواجبات، وأجل القربات.

وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيت عليهم السلام مشوّقة الى الأولى ومحذّرة من الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الصادق عليه السلام: «اصبروا على طاعة اللّه، وتصبروا عن معصيته، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سروراً ولاحزناً، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة، فكأنّك قد اغتبطت»(1).

وقال عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة، يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي .

{ 157 }

الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه، ونصبر عن معاصي اللّه، فيقول اللّه تعالى: صدقوا أدخلوهم الجنة، وهو قوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).

«الزمر: 10»(1)

وقال عليه السلام: «الصبر صبران: فالصبر عند المصيبة، حَسَن جميل، وأفضل من ذلك الصبر عما حرّم اللّه عز وجل ليكون لك حاجزاً»(2).

الصبر على النِّعَم:

وهو: ضبط النفس عن مسولات البطر والطغيان، وذلك من سمات عظمة النفس، ورجاحة العقل، وبُعد النظر.

فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأولى من الصبر على مسراتها وأشواقها، ومفاتنها، كالجاه العريض، والثراء الضخم، والسلطة النافذة، ونحو ذلك. حيث أن إغفال الصبر في الضراء يفضي الى الجزع المدمّر، كما يؤدي إهماله في السراء الى البطر والطغيان: «إنّ الانسان ليطغى، آن راه استغنى» (العلق: 6 - 7) وكلاهما ذميم مقيت.

والمراد بالصبر على النعم هو: رعاية حقوقها، واستغلالها في مجالات

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 65 عن الفقيه.

{ 158 }

العطف والاحسان المادية، أو المعنوية: كرعاية البؤساء، وإغاثة المضطهدين، والاهتمام بحوائج المؤمنين، والتوقي من مزالق البطر والتجبر.

وللصبر أنواع عديدة أخرى:

فالصبر في الحرب: شجاعة، وضدّه الجبن.

والصبر عن الانتقام: حلم، وضدّه الغضب.

والصبر عن زخارف الحياة: زهد، وضده الحرص.

والصبر على كتمان الأسرار: كتمان، وضدّه الاذاعة والنشر.

والصبر على شهوتي البطن والفرج: عفة، وضدّه الشره.

فاتضح بهذا أن الصبر نظام الفضائل، وقطبها الثابت، وأساسها المكين.

محاسن الصبر:

نستنتج من العرض السالف أن الصبرَ عماد الفضائل، وقطب المكارم، ورأس المفاخر.

فهو عصمة الواجد الحزين، يخفف وَجده، ويلطف عناءه، ويمدّه بالسكينة والاطمئنان.

وهو ظمان من الجزع المدمّر، والهلع الفاضح، ولولاه لانهار المصاب، وغدا فريسة العلل والأمراض، وعرضة لشماتة الأعداء والحسّاد.

وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجّى فيما أعدّ اللّه للصابرين، من عظيم المكافآت، وجزيل الأجر والثواب.

{ 159 }

كيف تكسب الصبر:

واليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلي به:

1 - التأمل في مآثر الصبر، وما يفيء على الصابرين من جميل الخصائص، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة.

2 - التفكر في مساوئ الجزع، وسوء آثاره في حياة الانسان، وأنه لا يشفي غليلاً، ولا يرد قضاءً، ولا يبدّل واقعاً، ولاينتج الا بالشقاء والعناء. يقول (دليل كارنيجي) «لقد قرأت خلال الأعوام الثمانية الماضية كل كتاب، وكل مجلة، وكل مقالة عالجت موضوع القلق، فهل تريد أن تعرف أحكم نصيحة، وأجداها خرجت بها من قراءتي الطويلة؟ إنها: «إرض بما ليس منه بدّ».

3 - تفهم واقع الحياة، وأنها مطبوعة على المتاعب والهموم:

طبعت على كدر وأنت تريدها*** صفواً من الأقدار والأكدار

فليست الحياة دار هناء وارتياح، وإنما هي: دار اختبار وامتحان للمؤمن، فكما يرهق طلاب العلم بالامتحانات إستجلاء لرصيدهم العلمي، كذلك يمتحن المؤمن إختباراً لأبعاد إيمانه ومبلغ يقينه.

قال تعالى: « أحَسِبَ الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن اللّه الذين صدقوا، وليعلمنّ

{ 160 }

الكاذبين» (العنكبوت: 2 - 3).

4 - الاعتبار والتأسي بما عاناه العظماء، والأولياء، من صنوف المآسي والأرزاء، وتجلّدهم فيها وصبرهم عليها، في ذات اللّه، وذلك من محفزات الجلد والصمود.

5 - التسلية والترفيه بما يخفف آلام النفس، وينهنه عن الوجد: كتغير المناخ، وإرتياد المناظر الجميلة، والتسلّي بالق

الشكر

وهو عرفان النعمة من المنعم، وحمده عليها، واستعمالها في مرضاته . وهو من خلال الكمال، وسمات الطِّيبَة والنبل، وموجبات ازدياد النِّعم واستدامتها.

والشكر واجب مقدس للمنعم المخلوق، فكيف بالمنعم الخالق، الذي لا تحصى نَعماؤه ولا تُعدّ آلاؤه.

والشكر لا يجدي المولى عز وجل، لاستغنائه المطلق عن الخلق، وإنما يعود عليهم بالنفع، لاعرابه عن تقديرهم للنعم الالهية، واستعمالها في طاعته ورضاه، وفي ذلك سعادتهم وازدهار حياتهم.

لذلك دعت الشريعة الى التخلق بالشكر والتحلي به كتاباً وسنة:

قال تعالى: «واشكروا لي ولا تكفرون» (البقرة: 152).

وقال عز وجل: «كلوا من رزق ربكم واشكروا له» (سبأ: 15).

وقال تعالى: «وإذا تأذّن ربّكُم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد»(ابراهيم:7).

وقال تعالى: «وقليل من عبادي الشكور»(سبأ: 13).

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله:

{ 162 }

«الطاعم الشاكر له من الأجر، كأجر الصائم المُحتَسب، والمُعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، والمُعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع»(1).

وقال الصادق عليه السلام: «من أعطى الشكر اُعطي الزيادة، يقول اللّه عز وجل «لئن شكرتم لأزيدنكم» (ابراهيم:7)» (2).

وقال عليه السلام: «شكر كل نعمة وإن عظمت أن تحمد اللّه عز وجل عليها»(3).

وقال عليه السلام: «ما أنعم اللّه على عبد بنعمة بالغة ما بلغت فحَمد اللّه عليها، الا كان حمَدُ اللّه أفضل من تلك النعمة وأوزن» (4).

وقال الباقر عليه السلام: «تقول ثلاث مرات إذا نظرت الى المُبتَلَى من غير أن تُسمعه: الحمد للّه الذي عافاني مما ابتلاك به، ولو شاء فعل. قال: من قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء أبداً» (5).

وقال الصادق عليه السلام: «إن الرجل منكم ليشرب الشربة من الماء، فيوجب اللّه له بها الجنة، ثم قال: إنه ليأخذ الاناء، فيضعه على فيه، فيسمي ثم يشرب، فينحيه وهو يشتهيه، فيحمد اللّه، ثم يعود، ثم ينحيه فيحمد اللّه، ثم يعود فيشرب، ثم ينحيه فيحمد اللّه

_____________________

(1)، (2)، (3) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.

(4) الوافي ج 3 ص 69 عن الكافي.

(5) البحار م 15 ج 2 ص 135 عن ثواب الاعمال للصدوق.

{ 163 }

فيوجب اللّه عز وجل له بها الجنة»(1).

أقسام الشكر:

ينقسم الشكر الى ثلاثة أقسام: شكر القلب. وشكر اللسان. وشكر الجوارح. ذلك أنه متى امتلأت نفس الاسنان وعياً وإدراكاً بعِظَمِ نِعم اللّه تعالى، وجزيل آلائه عليه، فاضت على اللسان بالحمد والشكر للمنعم الوهاب.

ومتى تجاوبت النفس واللسان في مشاعر الغبطة والشكر، سرى إيحاؤها الى الجوارح، فغدت تُعرب عن شكرها للمولى عز وجل بانقيادها واستجابتها لطاعته.

من أجل ذلك اختلفت صور الشكر، وتنوعت أساليبه:

أ : فشكر القلب هو: تصورّ النعمة، وأنها من اللّه تعالى.

ب - وشكر اللسان: حمد المنعم والثناء عليه.

ج : وشكر الجوارح: إعمالها في طاعة اللّه، والتحرج بها عن معاصيه: كاستعمال العين في مجالات التبصر والإعتبار، وغضّها عن المحارم، واستعمال اللسان في حسن المقال، وتعففه عن الفحش، والبذاء، واستعمال اليد في المآرب المباحة، وكفّها عن الأذى والشرور.

وهكذا يجدر الشكر على كل نعمة من نعم اللّه تعالى، بما يلائمها

_____________________

(1) البحار م 15 ج 2 ص 131 عن الكافي.

{ 164 }

من صور الشكر ومظاهره:

فشكر المال: إنفاقه في سبل طاعة اللّه ومرضاته.

وشكر العلم: نشره وإذاعة مفاهيمه النافعة.

وشكر الجاه: مناصرة الضغفاء والمضطهدين، وانقاذهم من ظلاماتهم. ومهما بالغ المرء في الشكر، فانه لن يستطيع أن يوفي النعم شكرها الحق، إذ الشكر نفسه من مظاهر نعم اللّه وتوفيقه، لذلك يعجز الانسان عن أداء واقع شكرها: كما قال الصادق عليه السلام «أوحى اللّه عز وجل الى موسى عليه السلام: يا موسى اشكرني حق شكري. فقال: يا رب وكيف أشكرك حق شكرك، وليس من شكر أشكرك به، الا وأنت أنعمت به عليّ. قال: يا موسى الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني»(1).

فضيلة الشكر:

من خصائص النفوس الكريمة تقدير النعم والألطاف، وشكر مسديها، وكلّما تعاظمت النِعم، كانت أحق بالتقدير، وأجدر بالشكر الجزيل، حتى تتسامى الى النعم الإلهية التي يقصر الانسان عن تقييمها وشكرها.

فكل نظرة يسرحها الطرف، أو كلمة ينطق بها الفم، أو عضو تحركه الارادة، أو نَفَسٍ يردده المرء، كلها منح ربّانية عظيمة،

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 68 عن الكافي.

{ 165 }

لا يثمنّها الا العاطلون منها.

ولئن وجب الشكر للمخلوق فكيف بالمنعم الخالق، الذي لا تحصى نعماؤه ولا تقدّر آلاؤه.

والشكر بعد هذا من موجبات الزلفى والرضا من المولى عز وجل، ومضاعفة نعمه وآلائه على الشكور.

أما كفران النعم، فانه من سمات النفوس اللئيمة الوضيعة، ودلائل الجهل بقيم النعم وأقدارها، وضرورة شكرها.

أنظر كيف يخبر القران الكريم: أن كفران النعم هو سبب دمار الامم ومحق خيراتها: «وضرب اللّه مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون» (النحل: 112).

وسئل الصادق عليه السلام: عن قول اللّه عز وجل: «قالوا ربّنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم» الآية (سبأ: 19) فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة، ينظر بعضهم الى بعض، وأنهار جارية، وأموال ظاهرة، فكفروا نعم اللّه عز وجل، وغيروا ما بأنفسهم من عافية اللّه، فغير اللّه ما بهم من نعمة، وإن اللّه لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم، فأرسل اللّه عليهم سيل العَرمِ ففرق قراهم، وخرّب ديارهم، وذهب بأموالهم، وأبدلهم مكان جناتهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي الا الكفور»(1).

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.

{ 166 }

وقال الصادق عليه السلام في حديث له:

«إن قوماً أفرغت عليهم النعمة وهم (أهل الثرثار) فعمدوا الى مُخ الحنطة فجعلوه خبز هجاء فجعلوا ينجون به صبيانهم، حتى اجتمع من ذلك جبل، فمرّ رجل على امرأة وهي تفعل ذلك بصبيّ لها، فقال: ويحكم اتقوا اللّه لا تُغيّروا ما بكم من نعمة، فقالت: كأنّك تخوفنا بالجوع، أما مادام ثرثارنا يجري فانا لا نخاف الجوع.

قال: فأسف اللّه عز وجل، وضعف لهم الثرثار، وحبس عنهم قطر السماء ونبت الأرض، قال فاحتاجوا الى ما في أيديهم فأكلوه، ثم احتاجوا الى ذلك الجبل فإنّه كان ليقسم بينهم بالميزان»(1).

وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال قال النبي (ص): «أسرع الذنوب عقوبة كفران النعم»(2).

كيف نتحلى بالشكر:

إليك بعض النصائح لاكتساب فضيلة الشكر والتحلي به:

1 - التفكر فيما أغدقه اللّه على عباده من صنوف النعم، وألوان الرعاية واللطف.

2 - ترك التطلع الى المترفين والمُنعّمين في وسائل العيش، وزخارف

_____________________

(1) البحار عن محاسن البرقي.

(2) البحار عن أمالي ابن الشيخ الطوسي.

{ 167 }

الحياة، والنظر الى البؤساء والمعوزين، ومن هو دون الناظر في مستوى الحياة والمعاش، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «وأكثر أن تنظر الى من فُضّلت عليه في الرزق، فإنّ ذلك من أبواب الشكر»(1).

3 - تذكر الانسان الأمراض، والشدائد التي أنجاه اللّه منها بلطفه، فأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاءاً وأمناً.

4 - التأمل في محاسن الشكر، وجميل آثاره في استجلاب ودّ المنعم، وازدياد نعمه، وآلائه، وفي مساوئ كفران النعم واقتضائه مقت المنعِم وزوال نعمه.

_____________________

(1) نهج البلاغة.

 التوكل

هو: الاعتماد على اللّه تعالى في جميع الأمور، وتفويضها اليه، والاعراض عمّا سواه. وباعثه قوة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القلب، وتأثره بالمخاوف والأوهام.

والتوكل هو: من دلائل الايمان، وسمات المؤمنين ومزاياهم الرفيعة، الباعثة على عزة نفوسهم، وترفعهم عن استعطاف المخلوقين، والتوكل على الخالق في كسب المنافع ودَرء المضار.

وقد تواترت الآيات والآثار في مدحه والتشويق اليه:

قال تعالى: «ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه» (الطلاق: 3).

وقال: «إن اللّه يحب المتوكلين» (آل عمران: 159).

وقال: «قل لن يصيبنا الا ما كتب اللّه، هو مولانا وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون» (التوبة: 51).

وقال تعالى: «إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون» (آل عمران: 160).

وقال الصادق عليه السلام: «إنّ الغنى والعز يجولان، فاذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا»(1).

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.

{ 169 }

وقال (ع): «أوحى اللّه الى داود (ع): ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثم تكيده السماوات والأرض، ومن فيهن، الا جعلت له المخرج من بينهن.

وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، الا قطعت أسباب السماوات من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبال بأيّ واد هلك»(1).

وقال عليه السلام: «من أعطي ثلاثاً، لم يمنع ثلاثاً:

من اُعطي الدعاء اُعطي الاجابة.

ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة.

ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية.

ثم قال: أتلوت كتاب اللّه تعالى؟: ( ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه) (الطلاق: 3).

وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (ابراهيم: 7)، وقال: (أدعوني أستجب لكم) (غافر: 60). »(2).

وقال أمير المؤمنين في وصيته للحسن (ع):

«وألجئ نفسك في الأمور كلها، الى الهك، فإنك تلجئها الى كهف حريز، ومانع عزيز»(3).

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:

_____________________

(1)، (2) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.

(3) نهج البلاغة.

{ 170 }

«كان فيما وعظ به لقمان ابنه، أن قال له: يا بني ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيته في طلب الرزق، ان اللّه تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال، ضمن أمره، وآتاه رزقه، ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، ان اللّه تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة:

أما أول ذلك فإنه كان في رحم امّه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حر ولا برد.

ثم أخرجه من ذلك، وأجرى له رزقاً من لبن أمّه، يكفيه به، ويربيه وينعشه، من غير حول به ولا قوة.

ثم فُطم من ذلك، فأجرى له رزقاً من كسب أبويه، برأفة ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتى أنّهما يؤثرانه على أنفسهما، في أحوال كثيرة، حتى إذا كبر وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربه، وجحد الحقوق في ماله، وقتر على نفسه وعياله، مخافة رزقه، وسوء ظن ويقين بالخلف من اللّه تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يابني»(1).

حقيقة التوكل:

ليس معنى التوكل اغفال الأسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع، ودرء المضار، وأن يقف المرء ازاء الأحداث والأزمات مكتوف اليدين.

_____________________

(1) البحار م 15 ج 2 ص 155 عن خصال الصدوق (ره).

{ 171 }

سليب الارادة والعزم. وإنما التوكل هو: الثقة باللّه عز وجل، والركون اليه، والتوكل عليه دون غيره من سائر الخلق والأسباب، باعتبار أنّه تعالى هو مصدر الخير، ومسبب الأسباب، وأنه وحده المُصرّف لامور العباد، والقادر على انجاح غاياتهم ومآربهم.

ولا ينافي ذلك تذرع الانسان بالأسباب الطبيعية، والوسائل الظاهرية لتحقيق أهدافه ومصالحه كالتزود للسفر، والتسلح لمقاومة الأعداء، والتداوي من المرض، والتحرز من الأخطار والمضار، فهذه كلها أسباب ضرورية لحماية الانسان، وانجاز مقاصده، وقد أبى اللّه عز وجل أن تجري الأمور الا بأسبابها.

بيد أنه يجب أن تكون الثقة به تعالى، والتوكل عليه، في انجاح الغايات والمآرب، دون الأسباب، وآية ذلك أنّ أعرابياً أهمل عَقل بعيره متوكلاً على اللّه في حفظه، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله، له: «إعقل وتوكل».

درجات التوكل:

يتفاوت الناس في مدارج التوكل تفاوتاً كبيراً، كتفاوتهم في درجات إيمانهم: فمنهم السباقون والمجلّون في مجالات التوكل، المنقطعون الى اللّه تعالى، والمعرضون عمن سواه، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، ومن دار في فلكهم من الأولياء.

{ 172 }

ومن أروع صور التوكل وأسماه، ما روي عن ابراهيم عليه السلام:

«أنه لما ألقي في النار، تلقاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أمّا اليك فلا، حسبي اللّه ونعم الوكيل. فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردتَ أن أخمد النار فانّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل اللّه. فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي»(1).

ومن الناس من هو عديم التوكل، عاطل منه، لضعف احساسه الروحي، وهزال ايمانه. ومنهم بين هذا وذاك على تفاوت في مراقي التوكل.

محاسن التوكل:

الانسان في هذه الحياة، عرضة للنوائب، وهدف للمشاكل والأزمات، لا ينفك عن جلادها ومقارعتها، ينتصر عليها تارة وتصرعه أخرى، وكثيراً ما ترديه لقاً، مهيض الجناح، كسير القلب.

فهو منها في قلق مضني، وفزع رهيب، يخشى الاخفاق، ويخاف الفقر، ويرهب المرض، ويعاني ألوان المخاوف المهددة لأمنه ورخائه.

ولئن استطاعت الحضارة الحديثة أن تخفف أعباء الحياة، بتيسيراتها الحضارية، وتوفير وسائل التسلية والترفيه، فقد عجزت عن تزويد النفوس

_____________________

(1) سفينة البحار ج 2 ص 638 عن بيان التنزيل لابن شهرآشوب بتلخيص.

{ 173 }

بالطمأنينة والاستقرار، وإشعارها بالسكينة والسلام الروحيين، فلا يزال القلق والخوف مخيماً على النفوس، آخذاً بخناقها، مما ضاعف الأمراض النفسية، واحداث الجنون والانتحار في أرقى الممالك المتحضرة.

ولكن الشريعة الاسلامية استطاعت بمبادئها السامية، ودستورها الخُلُقي الرفيع - أن تخفف قلق النفوس ومخاوفها، وتمدّها بطاقات روحية ضخمة، من الجلد والثبات، والثقة والاطمئنان، بالتوكل على اللّه، والاعتماد عليه، والاعتزاز بحسن تدبيره، وجميل صنعه، وجزيل آلائه، وأنّه له الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير. وبهذا ترتاح النفوس، وتستبدل بالخوف أمناً، وبالقلق دِعَةً ورخاءً.

والتوكل بعد هذا من أهم عوامل عزة النفس، وسمو الكرامة، وراحة الضمير، وذلك بترفع المتوكلين عن الاستعانة بالمخلوق، واللجوء الى الخالق، في جلب المنافع، ودرء المضار.

ولعل أجدر الناس بالتوكل أرباب الأقدار والمسؤوليات الكبيرة، كالمصلحين ليستمدوا منه العزم والتصميم على مجابهة عَنَتِ الناس وإرهاقهم، والمضي قدماً في تحقيق أهدافهم الاصلاحية، متخطين ما يعترضهم من أشواك وعوائق.

كيف تكسب التوكل:

1 - استعراض الآيات والأخبار الناطقة بفضله وجميل أثره في كسب

{ 174 }

الطمأنينة والرخاء.

ومن طريق ما نظم في التوكل قول الحسين عليه السلام:

إذا ما عضك الدهر فلا تجنح الى خلق*** ولا تسأل سوى اللّه تعالى قاسم الرزق

فلو عشت وطوفت من الغرب الى الشرق*** لما صادفت من يقدر أن يسعد أو يشقي

ومما نسب لأمير المؤمنين عليه السلام:

رضيت بما قسم اللّه لي*** وفوضت أمري الى خالقي

كما أحسن اللّه فيما مضى*** كذلك يحسن فيما بقي

وقال بعض الأعلام:

كن عن همومك معرضاً*** وكل الأمور الى القضا

فلرب أمر مسخط*** لك في عواقبه رضا

ولربما اتسع المضيق*** وربما ضاق الفضا

اللّه عوّدك الجميل*** فقس على ما قد مضى

* * *

2 - تقوية الايمان باللّه عز وجل، والثقة بحسن صنعه، وحكمة تدبيره، وجزيل حنانه ولطفه، وأنه هو مصدر الخير، ومسبب الاسباب، وهو على كل شيء قدير.

3 - التنبه الى جميل صنع اللّه تعالى، وسمو عنايته بالانسان، في جميع أطواره وشؤونه، من لدن كان جنيناً حتى آخر الحياة، وأن من توكل عليه كفاه، ومن استنجده أنجده وأغاثه.

4 - الاعتبار بتطور ظروف الحياة، وتداول الايام بين الناس،

{ 175 }

فكم فقير صار غنياً، وغني صار فقيراً، وأمير غدا صعلوكاً، وصعلوك غدا أميراً متسلطاً.

وهكذا يجدر التنبه الى عظمة القدرة الالهية في أرزاق عبيده، ودفع الأسواء عنهم، ونحو ذلك من صور العبر والعظات الدالة على قدرة اللّه عز وجل، وأنه وحده هو الجدير بالثقة، والتوكل والاعتماد، دون سواه.

وآية حصول التوكل للمرء هي: الرضا بقضاء اللّه تعالى وقَدّره في المسرات والمكاره، دون تضجر واعتراض، وتلك منزلة سامية لا ينالها إلا الأفذاذ المقربون.

 

الخوف من اللّه تعالى

وهو: تألم النفس خشية من عقاب اللّه، من جراء عصيانه ومخالفته. وهو من خصائص الأولياء، وسمات المتقين، والباعث المحفّز على الاستقامة والصلاح، والوازع القويّ عن الشرور والآثام.

لذلك أولته الشريعة عناية فائقة، وأثنت على ذويه ثناءاً عاطراً مشرفاً:

قال تعالى: «إنما يخشى اللّه من عباده العلماء» (فاطر: 28).

وقال : «إن الذين يخشون ربهم بالغيب، لهم مغفرة وأجر كبير» (الملك: 12).

وقال: «وأما من خاف مقام ربّه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى» (النازعات: 40 - 41).

وقال الصادق عليه السلام: «خَفِ اللّه كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم إنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين إليك»(1).

وقال عليه السلام: «المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع اللّه فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك،

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.

{ 177 }

فهو لا يصبح إلا خائفاً، ولا يصلحه إلا الخوف»(1).

وقال عليه السلام: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(2).

وفي مناهي النبي صلى اللّه عليه وآله:

«من عرضت له فاحشة، أو شهوة فاجتنبها من مخافة اللّه عز وجل، حرّم اللّه عليه النار، وآمنه من الفزع الأكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه، في قوله عز وجل: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) (الرحمن:46)» (3).

وقال بعض الحكماء: مسكين ابن آدم، لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً، ولو رغب في الجنة كما رغب في الدنيا لفاز بهما جميعاً، ولو خاف اللّه في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً.

ودخل حكيم على المهدي العباسي فقال له: عظني. فقال: أليس هذا المجلس قد جلس فيه أبوك وعمك قبلك؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمال ترجو لهم النجاة بها؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمال تخاف عليهم الهلكة منها؟ قال: نعم. قال: فانظر ما رجوت لهم فيه فآته، وما خفت عليهم منه فاجتنبه.

_____________________

(1)، (2) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.

(3) البحار م 15 ج 2 ص 113 عن الفقيه .

{ 178 }

الخوف بين المدّ والجزر:

لقد صورت الآيات الكريمة، والأخبار الشريفة، أهمية الخوف، وأثره في تقويم الانسان وتوجيهه وجهة الخير والصلاح، وتأهيله لشرف رضا اللّه تعالى وانعامه.

بيد أن الخوف كسائر السجايا الكريمة، لا تستحق الاكبار والثناء، الا إذا اتسمت بالقصد والاعتدال، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

فالافراط في الخوف يجدب النفس، ويدعها يباباً من نضارة الرجاء، ورونقه البهيج، ويدع الخائف آيساً آبقاً موغلاً في الغواية والضلال، ومرهقاً نفسه في الطاعة والعبادة حتى يشقيها وينهكها.

والتفريط فيه باعث على الاهمال والتقصير، والتمرد على طاعة اللّه تعالى واتباع دستوره.

وبتعادل الخوف والرجاء تنتعش النفس، ويسمو الضمير، وتتفجر الطاقات الروحية، للعمل الهادف البنّاء.

كما قال الصادق عليه السلام: «أرج اللّه رجاءاً لا يجرئك على معاصيه، وخف اللّه خوفاً لا يؤيسك من رحمته»(1).

محاسن الخوف:

قيم السجايا الكريمة بقدر ما تحقق في ذويها من مفاهيم الانسانية الفاضلة،

_____________________

(1) البحار م 15 ج 2 ص 118 عن أمالي الصدوق.

{ 179 }

وقيم الخير والصلاح، وتؤهلهم للسعادة والرخاء. وبهذا التقييم يحتل الخوف مركز الصدارة بين السجايا الأخلاقية الكريمة، وكانت له أهمية كبرى في عالم العقيدة والإيمان، فهو الذي يلهب النفوس، ويحفّزها على طاعة اللّه عز وجل، ويفطمها من عصيانه، ومن ثم يسمو بها الى منازل المتقين الأبرار.

وكلما تجاوبت مشاعر الخشية والخوف في النفس، صقلتها وسَمَت بها الى أوج ملائكي رفيع، يحيل الانسان ملاكاً في طيبته ومثاليته، كما صوره أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقارن بين الملك والانسان والحيوان، فقال: «إن اللّه عز وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما.

فمن غلب عقلهُ شهوتهَ، فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته علقه فهو شر من البهائم»(1).

من أجل ذلك نجد الخائف من اللّه تعالى يستسهل عناء طاعته، ويستحلي مرارتها، ويستوخم حلاوة المعاصي والآثام، خشية من سطخه وخوفاً من عقابه.

وبهذا يسعد الانسان، وتزدهر حياته المادية والروحية، كما انتظم الكون، واتسقت عناصره السماوية والأرضية، بخضوعه للّه عز وجل، وسيره على وفق نظمه وقوانينه.

«من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة،

_____________________

(1) علل الشرائع

. { 180 }

ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» (النحل:97).

وما هذه المآسي والأرزاء التي تعيشها البشرية اليوم من شيوع الفوضى وانتشار الجزائم، واستبداد الحيرة والقلق، والخوف بالناس إلا لاعراضهم عن اللّه تعالى، وتنكبهم عن دستوره وشريعته.

«ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» (الأعراف: 96).

كيف نستشعر الخوف:

يجدر بمن ضعف فيه شعور الخوف إتباع النصائح التالية:

1 - تركيز العقيدة، وتقوية الايمان باللّه تعالى، ومفاهيم المعاد والثواب والعقاب، والجنة والنار، إذ الخوف من ثمرات الايمان وإنعكاساته على النفس «إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر اللّه وجلت قلوبهم، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون» (الأنفال:2).

2 - استماع المواعظ البليغة، والحِكَم الناجعة، الموجبة للخوف والرهبة.

3 - دراسة حالات الخائفين وضراعتهم وتبتلهم إلى اللّه عز وجل، خوفاً من سطوته، وخشية من عقابه.

واليك أروع صورة للضراعة والخوف مناجاة الامام زين العابدين عليه السلام في بعض أدعيته:

{ 181 }

«ومالي لا أبكي!! ولا أدري الى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، فمالي لا ابكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إيّايَ، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني، وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة) (عبس: 37 - 41)».

ظرف من قصص الخائفين:

عن الباقر عليه السلام قال: «خرجت إمرأة بغيّ على شباب من بني إسرائيل فأفتنتهم، فقال بعضهم: لو كان العابد فلان رآها أفتنته!، وسمعت مقالتهم، فقالت : واللّه لا أنصرف الى منزلي، حتى أفتنه. فمضت نحوه بالليل فدقت عليه، فقالت: آوي عندك؟ فأبى عليها فقالت: إن بعض شباب بني اسرائيل راودوني عن نفسي، فإن أدخلتني والا لحقوني، وفضحوني، فلما سمع مقالتها فتح لها، فلمّا دخلت عليه رمت بثيابها، فلما رأى جمالها وهيئتها وقعت في نفسه، فضرب يده عليها، ثم رجعت اليه نفسه، وقد كان يوقد تحت قدر له، فأقبل حتى وضع يده على النار فقالت: أي شيء تصنع؟ فقال: أحرقها لأنها عملت العمل، فخرجت

{ 182 }

حتى أتت جماعة بني إسرائيل فقالت: الحقوا فلاناً فقد وضع يده على النار، فأقبلوا فلحقوه وقد احترقت يده»(1).

وعن الصادق عليه السلام: «إن عابداً كان في بني اسرائيل، فأضافته إمرأة من بني إسرائيل، فهمَّ بها، فأقبل كلما همّ بها قرّب إصبعاً من أصابعه الى النار، فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح، قال لها: أخرجي لبئس الضيف كنت لي»(2).

_____________________

(1)، (2) عن البحار م 5 عن قصص الأنبياء للقطب الراوندي.

 الرجاء من اللّه تعالى

وهو: انتظار محبوب تمهّدت أسباب حصوله، كمن زرع بذراً في أرض طيّبه، ورعاه بالسقي والمداراة، فرجا منه النتاح والنفع.

فإن لم تتمهد الأسباب، كان الرجاء حمقاً وغروراً، كمن زرع أرضاً سبخة وأهمل رعايتها، وهو يرجو نتاجها.

والرجاء: هو الجناح الثاني من الخوف، اللذان يطير بهما المؤمن الى آفاق طاعة اللّه، والفوز بشرف رضاه، وكرم نعمائه، إذ هو باعث على الطاعة رغبةً كما يبعث الخوف عليها رهبة وفزعاً.

ولئن تساند الخوف والرجاء، على تهذيب المومن، وتوجيهه وجهة الخير والصلاح، بيد أن الرجاء أعذب مورداً، وأحلى مذاقاً من الخوف، لصدوره عن الثقة باللّه، والاطمئنان بسعة رحمته، وكرم عفوه، وجزيل ألطافه.

وبديهي ان المطيع رغبة ورجاءاً، أفضل منه رهبة وخوفاً، لذلك كانت تباشير الرجاء وافرة، وبواعثه جمّة وآياته مشرقة، واليك طرفاً منها:

1 - النهي عن اليأس والقنوط.

قال تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من

{ 184 }

رحمة اللّه، إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم» (الزمر: 53).

وقال تعالى: «ولا تيأسوا من روح اللّه إنّه لا ييأس من روح اللّه، الا القوم الكافرون» (يوسف: 87).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام لرجل أخرجه الخوف الى القنوط لكثرة ذنوبه: «أيا هذا، يأسك من رحمة اللّه أعظم من ذنوبك»(1).

وقال النبي صلى اللّه عليه وآله: «يبعث اللّه المقنّطين يوم القيامة، مغلبّةً وجوهُهُم، يعني غلبة السواد على البياض، فيقال لهم : هؤلاء المقنّطون من رحمة اللّه تعالى»(1).

2 - سعة رحمة اللّه وعظيم عفوه:

قال تعالى: «فقل ربّكم ذو رحمة واسعة» (الأنعام: 147).

وقال تعالى: «وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم» (الرعد: 6).

وقال تعالى: «إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» (النساء: 48).

وقال تعالى: «وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم» (الزمر: 53).

وجاء في حديث عن النبي صلى اللّه عليه وآله: «لولا أنكّم تذنبون فتستغفرون اللّه تعالى، لأتى اللّه تعالى بخلق يذنبون ويستغفرون، فيغفر لهم،

_____________________

(1) جامع السعادات ج 1 ص 246.

(2) سفينة البحار ج 2 ص 451 عن نوادر الراوندي.

{ 185 }

إنّ المؤمن مفتن توّاب، أما سمعت قول اللّه تعالى: (إن اللّه يحب التوابين) (البقرة: 222) الخبر» (1).

توضيح: المفتن التواب: هو من يقترف الذنوب ويسارع الى التوبة منها.

وقال الصادق عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة، نشر اللّه تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته»(2).

وعن سليمان بن خالد قال: «قرأت على أبي عبد اللّه عليه السلام هذه الآية: «إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً، فأولئك يبدّل اللّه سيئاتهم حسنات» (الفرقان: 70).

فقال: هذه فيكم، إنه يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة، حتى يوقف بين يدي اللّه عز وجل، فيكون هو الذي يلي حسابه، فيوقفه على سيئاته شيئاً فشيئاً، فيقول: عملت كذا في يوم كذا في ساعة كذا، فيقول أعرف يا ربي، حتى يوقفه على سيئاته كلّها، كل ذلك يقول: أعرف. فيقول سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسنات.

قال: فتُرفع صحيفته للناس فيقولون: سبحان اللّه! أما كانت لهذا العبد سيئة واحدة، وهو قول اللّه عز وجل «أولئك يبدّل اللّه سيئاتهم حسنات» (الفرقان: 70) (3).

3 - حسن الظن باللّه الكريم، وهو أقوى دواعي الرجاء.

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 51 عن الكافي.

(2) البحار مجلد 3 ص 274 عن أمالي الشيخ الصدوق.

(3) البحار مجلد 3 ص 274 عن محاسن البرقي.

{ 186 }

قال الرضا عليه السلام: «أحسِن الظن باللّه، فإن اللّه تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً»(1).

وقال الصادق عليه السلام: «آخر عبد يؤمر به الى النار، يلتفت، فيقول اللّه عز وجل: اعجلوه(2)، فاذا أتي به قال له: يا عبدي لِمَ التفت؟ فيقول: يا رب ما كان ظني بك هذا، فيقول اللّه عز وجل: عبدي وما كان ظنك بي؟ فيقول: يا رب كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتك. فيقول اللّه: ملائكتي وعزتي وجلالي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني ما ظن بي هذا ساعة من حياته خيراً قط، ولو ظن بي ساعة من حياته خيراً ما روعته بالنار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة.

ثم قال أبو عبد اللّه عليه السلام: ما ظن عبد باللّه خيراً، الا كان اللّه عند ظنه به، ولا ظن به سوءاً إلا كان اللّه عند ظنه به، وذلك قوله عز وجل: «وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين» (فصلت: 23)(3).

4 - شفاعة النبي والأئمة الطاهرين عليهم السلام لشيعتهم ومحبيهم:

عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «إذا كان يوم القيامة ولّيُنا حساب شيعتنا، فمن كانت مظلمته فيما بينه وبين اللّه عز وجل، حكمنا فيها فأجابنا، ومن كانت

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 59 عن الكافي.

(2) أعجلوه: أي ردّوه مستعجلاً.

(3) البحار م 3 ص 274 عن ثواب الأعمال للصدوق.

{ 187 }

مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبيننا كنّا أحق من عفى وصفح»(1).

وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير بالاسناد الى جرير بن عبد اللّه البجلي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «ألا ومن مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الايمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزفّ الى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان الى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة.

ألا ومن مات على بغض آل محمد، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة اللّه....».

وقد أرسله الزمخشري في تفسير آية المودة من كشافه إرسال المسلمات، رواه المؤلفون في المناقب والفضائل مرسلاً مرة ومسنداً تارات(2).

وأورد ابن حجر في صواعقه ص 103 حديثاً هذا لفظه:

«إن النبي صلى اللّه عليه وآله خرج على أصحابه ذات يوم،

_____________________

(1) البحار م 3 ص 301 عن عيون اخبار الرضا عليه السلام.

(2) الفصول المهمة للمرحوم آية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين.

{ 188 }

ووجهه مشرق كدائرة القمر، فسأله عبد الرحمن بن عوف عن ذلك، فقال صلى اللّه عليه وآله: بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي، بأن اللّه زوج علياً من فاطمة، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى، فحملت رقاقاً (يعني صكاكاً) بعدد محبي أهل بيتي، وأنشأ تحتها ملائكة من نور، دفع الى كل ملك صكاً، فإذا استوت القيامة بأهلها، نادت الملائكة في الخلائق، فلا يبقى محب لأهل البيت، الا دفعت اليه صكاً فيه فكاكه من النار، فصار أخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من امتي من النار»(1).

وجاء في الصواعق ص 96 لابن حجر: «أنه قال: لما أنزل اللّه تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه) (البينة: 7 - 8) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لعلي: هم أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابى مقمحين»(2).

5 - النوائب والأمراض كفارة لآثام المؤمن:

قال الصادق عليه السلام: «يا مفضل إياك والذنوب، وحذّرها شيعتنا، فواللّه ما هي إلى أحد أسرع منها اليكم، إن أحدكم لتصيبه المعرّة من السلطان، وما ذاك الا بذنوبه، وإنه ليصيبه السقم، وما ذاك الا

_____________________

(1) الفصول المهمة للامام شرف الدين ص 44.

(2) الفصول المهمة للامام شرف الدين ص 39.

{ 189 }

بذنوبه، وإنه ليحبس عنه الرزق وما هو الا بذنوبه، وإنه ليشدد عليه عند الموت، وما هو الا بذنوبه، حتى يقول من حضر: لقد غمّ بالموت. فلما رأى ما قد دخلني، قال: أتدري لِمَ ذاك يا مفضل؟ قال: قلت لا أدري جعلت فداك. قال: ذاك واللّه أنكم لا تؤاخدون بها في الآخرة وعُجلت لكم في الدنيا»(1).

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «قال اللّه تعالى: وعزتي وجلالي لا أخرج عبداً من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه، حتى أستوفي منه كل خطيئة عملها، إما بسقم في جسده، وإما بضيق في رزقه، وإما بخوف في دنياه، فإن بقيت عليه بقية، شدّدت عليه عند الموت...»(2).

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : «ما يزال الغم والهم بالمؤمن حتى ما يدع له ذنباً»(3).

وقال الصادق عليه السلام: «إن المؤمن ليهوّل عليه في نومه فيغفر له ذنوبه، وإنه ليُمتَهَنُ في بدنه فيغفر له ذنوبه»(4).

واقع الرجاء:

ومما يجدر ذكره: أن الرجاء كما أسلفنا لا يجدي ولا يثمر، الا

_____________________

(1) البحار م 3 ص 35 عن علل الشرائع للصدوق (ره).

(2)، (3)، (4) الوافي ج 3 ص 172 عن الكافي.

{ 190 }

بعد توفر الأسباب الباعثة على نجحه، وتحقيق أهدافه، والا كان هوساً وغروراً.

فمن الحمق أن يتنكّب المرء مناهج الطاعة، ويتعسف طرق الغواية والضلال، ثم يُمنّي نفسه بالرجاء، فذلك غرور باطل وخُداع مغرّر.

ألا ترى عظماء الخلق وصفوتهم من الأنبياء والأوصياء والأولياء كيف تفانوا في طاعة اللّه عز وجل، وانهمكوا في عبادته، وهم أقرب الناس الى كرم اللّه وأرجاهم لرحمته.

إذاً فلا قيمة للرجاء، الا بعد توفر وسائل الطاعة، والعمل للّه تعالى، كما قال الامام الصادق عليه السلام: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(1).

وقيل له عليه السلام: إن قوماً من مواليك يَلمّون بالمعاصي، ويقولون نرجو. فقال «كذبوا ليسوا لنا بموال، أولئك قوم ترجّحت بهم الأماني، من رجا شيئاً عمل له، ومن خاف شيئاً هرب منه»(2).

الحكمة في الترجّي والتخويف:

يختلف الناس في طباعهم وسلوكهم اختلافاً كبيراً، فمن الحكمة في إرشادهم وتوجيههم، رعاية ما هو الأجدر بإصلاحهم من الترجّي والتخويف

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 58 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.

{ 191}

فمنهم من يصلحه الرجاء، وهم:

1 - العصاة النادمون على ما فرّطوا في الآثام، فحاولوا التوبة الى اللّه، بيد أنهم قنطوا من عفو اللّه وغفرانه، لفداحة جرائمهم، وكثرة سيئاتهم، فيعالج والحالة هذه قنوطهم بالرجاء بعظيم لطف اللّه، وسعة رحمته وغفرانه.

2 - وهكذا يُداوى بالرجاء من انهك نفسه بالعبادة وأضرّ بها.

أما الذين يصلحهم الخوف:

فهم المردة العصاة، المنغمسون في الآثام، والمغترّون بالرجاء، فعلاجهم بالتخويف والزجر العنيف، بما يتهددهم من العقاب الأليم، والعذاب المُهين.

وما أحلى قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها*** إن السفينة لا تجري على اليبس

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست