.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 
 

الظلم

الاخلاص

الرياء

العُجب

اليقين

إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك، تدري من تكلم؟!! قال: إني أطلب حقّي. فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: هلا مع صاحب الحق كنتم، ثم أرسل الى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا، حتى يأتي تمرنا فنقضيك. فقالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه. قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى اللّه لك؟ فقال: اولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.

وقيل: إن الاعرابي كان كافراً، فأسلم بمشاهدة هذا الخلق الرفيع، وقال: يا رسول اللّه ما رأيت أصبر منك(1).

وهكذا كان أمير المؤمنين علي عليه السلام:

قال الصادق عليه السلام لما ولي علي صعد المنبر فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثم قال: إني لا أرزؤكم من فيئكم درهماً، ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم؟!! قال: فقام اليه عقيل كرّم اللّه وجهه فقال له: اللّه، لتجعلني وأسود بالمدينة سواء، فقال: اجلس، أما كان هنا أحد يتكلم غيرك، وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى(2).

وجاء في صواعق ابن حجر ص 79 قال: وأخرج ابن عساكر أن

_____________________

(1) فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 122 عن صحيح ابن ماجة.

(2) البحار م 9 ص 539 عن الكافي.

{ 114 }

عقيلاً سأل علياً عليه السلام فقال: إني محتاج، وإني فقير فاعطني. قال: إصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين، فأعطيك معهم، فألح عليه، فقال لرجل: خذ بيده وانطلق به الى حوانيت أهل السوق فقل له دقّ هذه الأقفال، وخذ ما في هذه الحوانيت. قال: تريد أن تتخذني سارقاً؟ قال: وأنت تريد أن تتخذني سارقاً، ان آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم؟ قال: لآتين معاوية. قال: أنت وذاك. فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف، ثم قال: اصعد على المنبر، فاذكر ما أولاك به عليّ وما أوليتك، فصعد فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثم قال: ايها الناس اني أخبركم أني أردت علياً عليه السلام على دينه فاختار دينه، وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه(1).

ومشى اليه عليه السلام ثلة من أصحابه عند تفرق الناس عنه، وفرار كثير منهم الى معاوية، طلباً لما في يديه من الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين إعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف عليه من الناس فراره الى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، لا واللّه ما أفعل، ما طلعت شمس، ولاح في السماء نجم، واللّه، لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هي أموالهم»(2).

وقال ابن عباس: اتيته (يعني امير المؤمنين علياً) فوجدته يخصف

_____________________

(1) فضائل الخمسة عن الصحاح الستة ج 3 ص 15.

(2) البحار م 9 ص 533 بتصرف.

{ 115 }

نعلا، ثم ضمها الى صاحبتها، وقال لي: قوّمها. فقلت: ليس لهما قيمة. قال: على ذلك. قلت: كسر درهم. قال: واللّه، لهما أحب اليّ من أمركم هذا إلا أن أقيم حداً (حقاً) أو ادفع باطلاً(1).

وهو القائل: «واللّه لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً، واجرُّ في الأغلال مصفداً، أحب اليّ من أن القى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع الى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها»(2).

_____________________

(1) سفينة البحار ج 1 ص 570 بتصرف.

(2) سفينة البحار ج 2 ص 606 عن النهج.

 

الظلم

الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.

وعرفاً هو: بخس الحق، والاعتداء على الغير، قولاً أو عملاً، كالسباب، والاغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صور الظلامات المادية أو المعنوية.

والظلم من السجايا الراسخة في اغلب النفوس، وقد عانت منه البشرية في تاريخها المديد ألوان المآسي والأهوال، مما جهّم الحياة، ووسمها بطابع كئيب رهيب.

والظلم من شيم النفوس فإن تجد*** ذا عفة فلعلة لا يظلم

من أجل ذلك كان الظلم جماع الآثام ومنبع الشرور، وداعية الفساد والدمار.

وقد تكاثرت الآيات والأخبار بذمه والتحذير منه:

قال تعالى: «إنه لا يفلح الظالمون»(1).

«إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين»(2).

_____________________

(1) الأنعام: 21 .

(2) الأنعام: 144.

{ 117 }

«واللّه لا يحب الظالمين»(1).

«إن الظالمين لهم عذاب أليم»(2).

«ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا»(3).

وقال تعالى: «ولا تحسبن اللّه غافلاً عمّا يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار»(4).

وقال سبحانه: «ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون»(5).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على ان أعصي اللّه في نملة أسلبها جُلب شعيرةٍ ما فعلت، وإن دنياكم لأهون عليّ من ورقة في فم جرادة، ما لعليّ ونعيم يفنى ولذة لا تبقى»(6). وعن أبي بصير قال: «دخل رجلان على أبي عبد اللّه عليه السلام في مداراة بينهما ومعاملة، فلما أن سمع كلامها قال: أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم. ثم قال: من يفعل الشرّ بالناس فلا

_____________________

(1) آل عمران: 57.

(2) ابراهيم: 22.

(3) يونس: 13.

(4) ابراهيم: 42.

(5) يونس: 54.

(6) نهج البلاغة.

{ 118 }

ينكر الشر إذا فُعل به، أما إنه انما يحصد ابن آدم ما يزرع، وليس يحصد أحد من المرّ حلواً، ولا من الحلو مراً، فاصطلح الرجلان قبل أن يقوما»(1).

وقال عليه السلام: «من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده اليه، أكل جذوة من النار يوم القيامة»(2).

وقال الصادق عليه السلام: «من ظلم سلّط اللّه عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على عقب عقبه».

قال (الراوي) يظلم هو فيسلط على عقبه؟ فقال: إن اللّه تعالى يقول: «وليخش الذين لو تركوا مِن خَلفِهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا اللّه،، وليقولوا قولاً سديداً» (النساء: 9)(3).

وتعليلاً للخبر الشريف: أن مؤاخذة الأبناء بجرائم الآباء انما هو في الابناء الذين ارتضوا مظالم آبائهم أو اغتنموا تراثهم المغصوب، ففي مؤاخذتهم زجر عاطفي رهيب، يردع الظالم عن العدوان خشية على أبنائه الأعزاء، وبشارة للمظلوم على معالجة ظالمه بالانتقام، مشفوعة بثواب ظلامته في الآخرة.

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «من أصبح لايهم بظلم غفر اللّه له ما اجترم»(4).

أي ما اجترم من الذنوب التي بينه وبين اللّه عز وجل في ذلك اليوم.

الى كثير من الروايات الشريفة التي ستراها في مطاوي هذا البحث.

_____________________

(1)، (2)، (3)، (4) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.

{ 119 }

أنواع الظلم:

يتنوع الظلم صوراً نشير اليها إشارة لامحة:

1 - ظلم الانسان نفسه:

وذلك باهمال توجيهها الى طاعة اللّه عز وجل، وتقويمها بالخلق الكريم، والسلوك الرضي، مما يزجها في متاهات الغواية والضلال، فتبوء آنذاك بالخيبة والهوان.

«ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها»(1).

2 - ظلم الانسان عائلته:

وذلك باهمال تربيتهم تربية إسلامية صادقة، وإغفال توجيههم وجهة الخير والصلاح، وسياستهم بالقسوة والعنف، والتقتير عليهم بضرورات الحياة ولوازم العيش الكريم، مما يوجب تسيبهم وبلبلة حياتهم، مادياً وأدبياً.

3 - ظلم الانسان ذوي قرباه:

وذلك بجفائهم وخذلانهم في الشدائد والأزمات، وحرمانهم من مشاعر العطف والبر، مما يبعث على تناكرهم وتقاطعهم.

4 - ظلم الانسان للمجتمع:

وذلك بالاستعلاء على أفراده وبخس حقوقهم، والاستخفاف بكراماتهم،

_____________________

(1) الشمس: (7 - 10).

{ 120 }

وعدم الاهتمام بشؤونهم ومصالحهم. ونحو ذلك من دواعي تسيب المجتمع وضعف طاقاته.

وأبشع المظالم الاجتماعية، ظلم الضعفاء، الذين لا يستطعيون صد العدوان عنهم، ولا يملكون الا الشكاة والضراعة الى العدل الرحيم في أساهم، وظلاماتهم.

فعن الباقر عليه السلام قال: لما حضر علي بن الحسين عليه السلام الوفاة، ضمني الى صدره، ثم قال: «يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه، قال: يابني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً الاّ اللّه تعالى»(1).

5 - ظلم الحكام والمتسلطين:

وذلك باستبدادهم، وخنقهم حرية الشعوب، وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، وتسخيرها لمصالحهم الخاصة.

من أجل ذلك كان ظلم الحكام أسوأ أنواع الظلم وأشدّها نُكراً، وأبلغها ضرراً في كيان الأمة ومقدراتها.

قال الصادق عليه السلام: «إن اللّه تعالى أوحى الى نبي من الأنبياء، في مملكة جبار من الجبابرة: أن إئتِ هذا الجبار فقل له: إني لم استعملك على سفك الدماء، واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فاني لن أدع ظلامتهم وان كانوا كفاراً»(2).

_____________________

(1)، (2) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.

{ 121 }

وعن الصادق عن آبائه عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: «تكلم النارُ يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارئاً، وذا ثروة من المال.

فتقول للأمير: يا من وهب اللّه له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم.

وتقول للقارئ: يا من تزَين للناس وبارز اللّه بالمعاصي فتزدرده.

وتقول للغني: يا من وهب اللّه له دنيا كثيرةً واسعةً فيضاً، وسأله الحقير اليسير قرضاً فأبى الا بخلاً فتزدرده»(1).

وليس هذا الوعيد الرهيب مقصوراً على الجائرين فحسب، وإنما يشمل من ضلع في ركابهم، وارتضى أعمالهم، وأسهم في جورهم، فإنه وإياهم سواسية في الاثم والعقاب، كما صرحت بذلك الآثار:

قال الصادق عليه السلام: «العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثتهم»(2).

لذلك كانت نُصرة المظلوم، وحمايته من عسف الجائرين، من أفضل الطاعات، وأعظم القربات الى اللّه عز وجل، وكان لها وقعها الجميل، وآثارها الطيبة في حياة الانسان المادية والروحية.

قال الامام الكاظم عليه السلام لابن يقطين: «إضمن لي واحدةً أضمن لك ثلاثاً، إضمن لي أن لا تلقى أحداً من موالينا في دار الخلافة الا بقضاء حاجته، أضمن لك أن لا يصيبك حدّ السيف أبداً، ولا يظلك

_____________________

(1) البحار م 16 ص 209 عن الخصال للصدوق (ره).

(2) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.

{ 122 }

سقف سجن أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً»(1).

وقال أبو الحسن عليه السلام: «إن لله جل وعزّ مع السلطان أولياء، يدفع بهم عن أوليائه».

وفي خبر آخر: «أولئك عتقاء اللّه من النار»(2).

وقال الصادق عليه السلام: «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان»(3).

وعن محمد بن جمهور وغيره من أصحابنا قال: كان النجاشي - وهو رجل من الدهاقين - عاملاً على الأهواز وفارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّه عليه السلام: إن في ديوان النجاشي عليّ خراجاً، وهو ممن يدين بطاعتك، فان رأيت أن تكتب لي اليه كتاباً. قال: فكتب اليه أبو عبد اللّه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم سُر أخاك يسرك اللّه».

فلما ورد عليه الكتاب وهو في مجلسه، فلما خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد اللّه عليه السلام، فقبله ووضعه على عينيه ثم قال: ما حاجتك؟ فقال: عليّ خراج في ديوانك. قال له: كم هو؟ قال: هو عشرة آلاف درهم.

قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثم أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل، ثم قال له: هل سررتك؟ قال نعم. قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى فقال له: هل سررتك؟ قال: نعم جعلت فداك.

_____________________

(1) كشكول البهائي طبع ايران ص 124.

(2)، (3) الوافي ج 10 ص 28 عن الفقيه.

{ 123 }

فأمر له بمركب، ثم أمر به بجارية وغلام، وتخت ثياب، في كل ذلك يقول: هل سررتك؟ فكلما قال: نعم، زاده حتى فرغ، فقال له: إحمل فرش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعتَ إليَّ كتاب مولاي فيه، وارفع إليّ جميع حوائجك. قال: ففعل، وخرج الرجل فصار الى أبي عبد اللّه عليه السلام، فحدثه بالحديث على جهته، فجعل يستبشر بما فعله.

قال له الرجل: يابن رسول اللّه قد سرّك ما فعل بي؟ قال: اي واللّه، لقد سرّ اللّه ورسوله(1).

وخامة الظلم:

بديهي أنّ استبشاع الظلم واستنكاره، فطري في البشر، تأباه النفوس الحرّة، وتستميت في كفاحه وقمعه، وليس شيء أضرّ بالمجتمع، وأدعى الى تسيبه ودماره من شيوع الظلم وانتشار بوائقه فيه.

فالاغضاء عن الظلم يشجع الطغاة على التمادي في الغيّ والاجرام، ويحفّز الموتورين على الثأر والانتقام، فيشيع بذلك الفوضى، وينتشر الفساد، وتغدو الحياة مسرحاً للجرائم والآثام، وفي ذلك انحلال الامم، وفقد أمنها ورخائها، وانهيار مجدها وسلطانها.

_____________________

(1) الوافي ج 10 ص 28 عن الكافي.

{ 124 }

علاج الظلم:

من العسير جداً علاج الظلم، واجتثاث جذوره المتغلغلة في أعماق النفس، بيد أن من الممكن تخفيف جماحه، وتلطيف حدته، وذلك بالتوجيهات الآتية:

1 - التذكر لما أسلفناه من مزايا العدل، وجميل آثاره في حياة الأمم والأفراد، من اشاعة السلام، ونشر الوثام والرخاء.

2 - الاعتبار بما عرضناه من مساوئ الظلم وجرائره المادية والمعنوية.

3 - تقوية الوازع الديني، وذلك بتربية الضمير والوجدان، وتنويرهما بقيم الايمان ومفاهيمه الهادفة الموجهة.

4 - استقراء سيَر الطغاة وما عانوه من غوائل الجور وعواقبه الوخيمة.

جاء في كتاب حياة الحيوان عند ذكر الحجلان: أن بعض مقدّميُّ الأكراد حضر على سماط بعض الأمراء، وكان على السماط حجلتان مشويتان، فنظر الكرديُ اليهما وضحك، فسأله الأمير عن ذلك، فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر فلما أردت قتله، تضرّع فما أفاد تضرعه، فلما رآني أقتله لا محالة، التفت إلى حجلتين كانتا في الجبل، فقال: إشهدا عليه إنه قاتلي، فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه» فقال الأمير: قد شهدتا، ثم أمر بضرب عنقه(1).

_____________________

(1) كشكول البهائي طبع ايران ص 21.

{ 125 }

وفي سراج الملوك لأبي بكر الطرطوسي: أنّ عبد الملك بن مروان أرق ليلةً، فاستدعى سميراً له يحدثه، فكان فيما حدّثه أن قال: يا أمير المؤمنين، كان بالموصل بومة، وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل الى بومة البصرة بنتها لابنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل الا أن تجعلي صداقها مائة ضيعة خراب! فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن، ولكن إن دام والينا علينا، سلمه اللّه تعالى سنة واحدة فعلت ذلك، فاستيقظ عبد الملك، وجلس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض، وتفقد أمر الولاة(1).

_____________________

(1) سفينة البحار ج 1 ص 110.

 

 

الاخلاص

الاخلاص: ضد الرياء، وهو صفاء الأعمال من شوائب الرياء، وجعلها خالصة للّه تعالى.

وهو قوام الفضائل، وملاك الطاعة، وجوهر العبادة، ومناط صحة الأعمال، وقبولها لدى المولى عز وجل.

وقد مجّدته الشريعة الاسلامية، ونوّهت عن فضله، وشوقت اليه، وباركت جهود المتحلين به في طائفة من الآيات والأخبار:

قال تعالى: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً»(1).

وقال سبحانه: «فاعبد اللّه مخلصاً له الدين، ألا للّه الدين الخالص»(2).

وقال عز وجل: «وما أمروا الا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين» (3).

وقال النبي صلى اللّه عليه وآله: «من أخلص للّه أربعين يوماً،

_____________________

(1) الكهف: 110.

(2) الزمر (2 - 3).

(3) البينة: 5.

{ 127 }

فجر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(1).

وقال الامام الجواد عليه السلام: «أفضل العبادة الإخلاص»(2).

وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال امير المؤمنين عليه السلام: «الدنيا كلها جهل الا مواضع العلم، والعلم كله جهل الا ما عمل به، والعمل كله رياء الا ما كان مخلصاً، والاخلاص على خطر، حتى ينظر العبد بما يُختم له»(3).

وقال النبي صلى اللّه عليه وآله: «يا أبا ذر لايفقه الرجل كل الفقه، حتى يرى الناس في جنب اللّه أمثال الأباعر، ثم يرجع الى نفسه فيكون هو أحقر حاقرٍ لها»(4).

فضيلة الاخلاص:

تتفاوت قيم الأعمال، بتفاوت غاياتها والبواعث المحفزة عليها، وكلما سمت الغاية، وطهرت البواعث من شوائب الغش والتدليس والنفاق، كان ذلك أزكى لها، وأدعى الى قبولها لدى المولى عز وجل.

وليس الباعث في عرف الشريعة الاسلامية الا (النيّة) المحفّزة على الأعمال، فمتى استهدفت الاخلاص للّه تعالى، وصفت من كدر

_____________________

(1) ، (2) البحار م 15 ص 87 عن عدة الداعي لابن فهد.

(3) البحار م 15 ص 85 عن الأمالي والتوحيد للصدوق.

(4) الوافي ج 14 ص 54 في وصية النبي (ص) لأبي ذر.

{ 128 }

الرياء نبلت وسعدت بشرف رضوان اللّه وقبوله، ومتى شابها الخداع والرياء، باءت بسخطه ورفضه.

لذلك كان الاخلاص حجراً اساسياً في كيان العقائد والشرائع، وشرطاً واقعياً لصحة الأعمال، إذ هو نظام عقدها، ورائدها نحو طاعة اللّه تعالى ورضاه.

وناهيك في فضل الاخلاص أنه يحرر المرء من اغواء الشيطان وأضاليله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين).

عوائق الاخلاص:

وحيث كان الاخلاص هو المنار الساطع، الذي ينير للناس مناهج الطاعة الحقة، والعبودية الصادقة، كان الشيطان ولوعاً دؤوباً على إغوائهم وتضليلهم بصنوف الأماني والآمال الخادعة: كحب السمعة والجاه، وكسب المحامد والأمجاد، وتحري الأطماع المادية التي تمسخ الضمائر وتمحق الأعمال، وتذرها قفراً يباباً من مفاهيم الجمال والكمال وحلاوة العطاء.

وقد يكون إيحاء الشيطان بالرياء هامساً خفيفاً ماكراً، فيمارس الانسان الطاعة والعبادة بدافع الاخلاص، ولو محصها وأمعن فيها وجدها مشوبةً بالرياء. وهذا من أخطر المزالق، وأشدها خفاءاً وخداعاً. ولا يتجنبها الا الأولياء الأفذاذ.

كما حُكي عن بعضهم أنه قال: «قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت

{ 129 }

صليتها في المسجد جماعة في الصف الأول، لأني تأخرت يوماً لعذر، وصليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس، حيث رأوني في الصف الثاني، فعرفت أنّ نظر الناس اليّ في الصف الأول كان يسرني، وكان سبب استراحة قلبي.

نعوذ باللّه من سبات الغفلة، وُخدع الرياء والغرور. من أجل ذلك يحرص العارفون على كتمان طاعاتهم وعباداتهم، خشية من تلك الشوائب الخفية.

فقد نُقل: ان بعض العباد صام أربعين سنة لم يعلم به أحد من الأباعد والأقارب، كان يأخذ غذاءه فيتصدق به في الطريق، فيظن أهله أنه أكل في السوق، ويظن أهل السوق، أنه أكل في البيت.

كيف نكسب الاخلاص:

بواعث الاخلاص ومحفزاته عديدة تلخصها النقاط التالية:

1 - استجلاء فضائل الاخلاص السالفة، وعظيم آثاره في دنيا العقيدة والايمان.

2 - ان أهم بواعث الرياء وأهدافه استثارة إعجاب الناس، وكسب رضاهم، وبديهي أن رضا الناس غاية لا تدرك، وأنهم عاجزون عن إسعاد أنفسهم، فضلاً عن غيرهم، وأن المسعد الحق هو اللّه تعالى الذي بيده أزمة الأمور، وهو على كل شيء قدير، فحري بالعاقل أن يتجه

{ 130 }

اليه ويخلص الطاعة والعبادة له.

3 - إن الرياء والخداع سرعان ما ينكشفان للناس، ويسفران عن واقع الانسان، مما يفضح المرائي ويعرضه للمقت والازدراء.

ثوب الرياء يشف عما تحته*** فإذا التحفتَ به فإنك عاري

فعلى المرء أن يتسم بصدق الاخلاص، وجمال الطوية، ليكون مثلاً رفيعاً للاستقامة والصلاح.

فقد جاء في الآثار السالفة: «إن رجلاً من بني اسرائيل قال: لأعبدن اللّه عبارة أذكر بها، فمكث مدةً مبالغاً في الطاعات، وجعل لا يمر بملأ من الناس الا قالوا: متصنع مراء، فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك، وضيعت عمرك في لا شيء، فينبغي أن تعمل للّه سبحانه، وأخلص عمله للّه، فجعل لا يمر بملأ من الناس الا قالوا ورع تقي».

 

الرياء

وهو: طلب الجاه والرفعة في نفوس الناس، بمراءاة أعمال الخير.

وهو من أسوأ الخصال، وأفظع الجرائم، الموجبة لعناء المرائي وخسرانه ومقته، وقد تعاضدت الآيات والأخبار على ذمّه والتحذير منه.

قال تعالى في وصف المنافقين: «يراؤن الناس ولا يذكرون اللّه الا قليلاً»(1).

وقال تعالى: «فمن كان يرجو لقاء ربه، فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً»(2).

وقال سبحانه: «كالذي ينفق ماله رئاء الناس»(3).

وقال الصادق عليه السلام: «كل رياء شرك، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس، ومن عمل للّه كان ثوابه على اللّه»(4).

وقال عليه السلام: «ما من عبدٍ يسرُّ خيراً، الا لم تذهب الأيام

_____________________

(1) النساء: 142.

(2) الكهف: 110.

(3) البقرة: 264.

(4) الوافي ج 3 ص 137 عن الكافي.

{ 132 }

حتى يظهر اللّه له خيراً، وما من عبد يُسر شراً الا لم تذهب الأيام حتى يظهر له شراً»(1).

وعنه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم، طمعاً في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربهم، يكون دينهم رياءاً، لايخالطهم خوف، يعمّهم اللّه بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم»(2).

وعن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله «يؤمر برجال الى النار، فيقول اللّه جل جلاله لمالك: قل للنار لا تحرق لهم أقداماً، فقد كانوا يمشون الى المساجد، ولا تحرق لهم وجهاً، فقد كانوا يسبغون الوضوء، ولا تحرق لهم أيدياً، فقد كانوا يرفعونها بالدعاء، ولا تحرق لهم ألسناً، فقد كانوا يكثرون تلاوة القرآن. قال: فيقول لهم خازن النار: يا أشقياء ما كان حالكم؟ قالوا: كنّا نعمل لغير اللّه عز وجل فقيل لنا خذوا ثوابكم ممن عملتم له»(3).

_____________________

(1) الوافي الجزء الثالث ص 147 عن الكافي.

(2) الوافي الجزء الثالث ص 147 عن الكافي، ودعاء الغريق: أي كدعاء المشرف على الغرق، فان الاخلاص والانقطاع فيه الى اللّه عز وجل أكثر من سائر الأدعية.

(3) البحار م 15 بحث الرياء ص 53 عن علل الشرائع وثواب الاعمال.

{ 133 }

أقسام الرياء

ينقسم الرياء أقساماً تلخصها النقاط التالية:

1 - الرياء بالعقيدة: باظهار الايمان وإسرار الكفر، وهذا هو النفاق وهو أشدها نكراً وخطراً على المسلمين، لخفاء كيده، وتستره بظلام النفاق،

2 - الرياء بالعبادة مع صحة العقيدة. وذلك بممارسة العبادات أمام ملأ الناس، مراءاة لهم، ونبذها في الخلوة والسر، كالتظاهر بالصلاة، والصيام، وإطالة الركوع والسجود والتأنّي بالقراءة والأذكار وارتياد المساجد، وشهود الجماعة، ونحوه من صور الرياء، في صميم العبادة أو مكملاتها، وهنا يغدو المرائي أشد إثماً من تارك العبادة، لاستخفافه باللّه عز وجل، وتلبيسه على الناس.

3 - الرياء بالأفعال: كالتظاهر بالخشوع، وتطويل اللحية، ووسم الجبهة بأثر السجود، وارتداء الملابس الخشنة ونحوه من مظاهر الزهد والتقشف الزائفة.

4 - الرياء بالأقوال، كالتشدق بالحكمة، والمراءاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتذكير بالثواب والعقاب مداجاة وخداعاً.

دواعي الرياء:

للرياء أسباب ودواع نجملها فيما يلي:

1 - حب الجاه، وهو من أهم أسباب المراءاة ودواعيه.

{ 134 }

2 - خوف النقد، وهو دافع على المراءاة بالعبادة، وأعمال الخير، خشية من قوارص الذم والنقد.

3 - الطمع، وهو من محفزات الرياء وأهدافه التي يستهدفها الطامعون، إشباعاً لأطماعهم.

4 - التستر: وهو باعث على تظاهر المجرمين بمظاهر الصلاح المزيفة، إخفاءاً لجرائمهم، وتستراً عن الأعين.

ولا ريب أن تلك الدواعي هي من مكائد الشيطان، وأشراكه الخطيرة التي يأسر بها الناس، أعاذنا اللّه منها جميعاً.

حقائق:

ولا بد من استعراض بعض الحقائق والكشف عنها إتماماً للبحث:

1 - إختلفت أقوال المحققين، في أفضلية اخفاء الطاعة أو اعلانها.

ومجمل القول في ذلك، إن الأعمال بالنيات، وأن لكل امرئ ما نوى، فما صفا من الرياء فسواء إعلانه أو إخفاؤه، وما شابه الرياء فسيان إظهاره أو إسراره.

وقد يرجح الإسرار أحياناً للذين لا يطيقون مدافعة الرياء لشدة بواعثه في الإعلان. كما يرجح إعلان الطاعة، إن خلصت من شوائب الرياء، وقصد به غرض صحيح كالترغيب في الخير والحث على الاقتداء.

2 - ومن استهدف الاخلاص في طاعته وعبادته، ثم اطلع الناس

{ 135 }

عليها، وُسرّ باطلاعهم واغتبط، فلا يقدح ذلك في اخلاصه، إن كان سروره نابعاً عن استشعاره بلطف اللّه تعالى، واظهار محاسنه والستر على مساوئه تكرماً منه عز وجل.

وقد سئل الامام الباقر عليه السلام عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه انسان فيسره ذلك، فقال «لا بأس، ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر اللّه له في الناس الخير، اذا لم يكن صنع ذلك لذلك»(1).

3 - وحيث كان الشيطان مجداً في إغواء الناس، وصدّهم عن مشاريع الخير والطاعة، بصنوف الكيد والاغواء، لزم الحذر والتوقي منه، فهو يُسوّل للناس ترك الطاعة ونبذ العبادة، فإن عجز عن ذلك أغراهم بالرياء، وحببه اليهم، فان أخفق في هذا وذاك، ألقى في خلدهم أنهم مراؤون وأعمالهم مشوبة بالرياء، ليسوّل لهم نبذها وإهمالها.

فيجب والحالة هذه طرده، وعدم الاكتراث بخدعه ووساوسه، إذ المخلص لا تضره هذه الخواطر والأوهام.

فعن الصادق عن أبيه عليهما السلام: إن النبي قال: «اذا أتى الشيطان أحدكم وهو في صلاته فقال: انك مرائي، فليطل صلاته ما بدا له، ما لم يفته وقت فريضة، واذا كان على شيء من أمر الآخرة فليتمكث ما بدا له، واذا كان علي شيء من أمر الدنيا فليسترح...»(2).

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 148 عن الكافي.

(2) البحار م 15 ص 53 عن قرب الاسناد.

{ 136 }

مساوئ الرياء:

الرياء من السجايا الذميمة، والخلال المقيتة، الدالّة على ضعة النفس، وسقم الضمير، وغباء الوعي، إذ هو الوسيلة الخادعة المدجلة التي يتخذها المتلونون والمنحرفون ذريعة لأهدافهم ومآربهم دونما خجل واستحياء من هوانها ومناقضتها لصميم الدين والكرامة والاباء.

وحسب المرائي ذمّاً أنه اقترف جرمين عظيمين:

تحدّى اللّه عز وجل، واستخف بجلاله، بايثار عباده عليه في الزلفى والتقرب، ومخادعة الناس والتلبس عليهم بالنفاق والرياء.

ومثل المرائي في صفاقته وغبائه، كمن وقف أزاء ملك عظيم مظهراً له الولاء والاخلاص، وهو رغم موقفه ذلك يخاتل الملك بمغازلة جواريه أو استهواء غلمانه.

أليس هذا حرياً بعقاب الملك ونكاله الفادحين على تلصصه واستهتاره.

ولا ريب أنّ المرائي أشدّ جرماً وجناية من ذلك، لاستخفافه باللّه عز وجل، ومخادعة عبيده. والمرائي بعد هذا حليف الهم والعناء، يستهوي قلوب الناس، ويتملق رضاهم، ورضاهم غاية لا تنال، فيعود بعد طول المعاناة خائباً، شقياً، سليب الكرامة والدين.

ومن الثابت أنّ سوء السريرة سرعان ما ينعكس على المرء، ويكشف واقعه، ويبوء بالفضيحة والخسران.

{ 137 }

ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تُعلم

وقد أعرب النبي صلى اللّه عليه وآله عن ذلك قائلاً: «من أسرّ سريرة ردّأه اللّه رداءها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر»(1).

علاج الرياء:

وبعد أن عرفنا طرفاً من مساوئ الرياء، يجدر بنا أن نعرض أهم النصائح الأخلاقية في علاجه وملافاته، وقد شرحت في بحث الاخلاص طرفاً من مساوئ الرياء ومحاسن الاخلاص فراجعه هناك.

علاج الرياء العملي:

وذلك برعاية النصائح المجملة التالية:

1 - محاكمة الشيطان، وإحباط مكائده ونزعاته المرائية، بأسلوب منطقي يقنع النفس، ويرضي الوجدان.

2 - زجر الشيطان وطرد هواجسه في المراءاة، طرداً حاسماً، والاعتماد على ما انطوى عليه المؤمن من حبّ الاخلاص، ومقت الرياء.

3 - تجنب مجالات الرياء ومظاهره، وذلك باخفاء الطاعات والعبادات وسترها عن ملأ الناس، ريثما يثق الانسان بنفسه، ويحرز فيها الاخلاص.

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 147 من خبر عن الكافي.

{ 137 }

ومن طرائف الرياء والمرائين ماقيل:

إن أعرابياً دخل المسجد، فرأى رجلاً يصلي بخشوع وخضوع، فأعجبه ذلك، فقال له: نعم ما تصلي.

قال: وأنا صائم، فإن صلاة الصائم، تضعف صلاة المفطر.

فقال له الأعرابي: تفضل واحفظ ناقتي هذه، فإن لي حاجة حتى أقضيها. فخرج لحاجته، فركب المصلي ناقته وخرج، فلما قضى الأعرابي حاجته، رجع ولم يجد الرجل ولا الناقة، وطلبه فلم يقدر عليه، فخرج وهو يقول:

صلى فأعجبني وصام فرامني*** منح القلوص عن المصلي الصائم

وصلى أعرابيّ فخفف صلاته، فقام اليه علي عليه السلام بالدرة وقال: أعدها، فلما فرغ قال: أهذه خير أم الأولى؟ قال: بل الأولى قال: ولِمَ قال: لأن الأولى للّه وهذه للّدرة.

 

العُجب

وهو استعظام الاسنان نفسه، لاتصافه بخلة كريمة، ومزية مشرّفة، كالعلم والمال والجاه والعمل الصالح.

ويتميز العجب عن التكبر، بأنه استعظام النفس مجرداً عن التعالي على الغير، والتكبر هما معاً.

والعُجب من الصفات المقيتة، والخلال المنفّرة، الدّالة على ضعة النفس، وضيق الأفق، وصفاقة الأخلاق، وقد نهت الشريعة عنه، وحذّرت منه.

قال تعالى: «فلا تزّكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى»(1).

وقال الصادق عليه السلام: «من دخله العُجب هلك»(2)

وعنه عليه السلام قال: «قال ابليس لعنه اللّه لجنوده: اذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل، فإنه غير مقبول منه، إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه، ودخله العُجب»(3).

_____________________

(1) النجم: 32.

(2) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.

(3) البحار م 15 ج 3 موضوع العجب بالأعمال عن الخصال للصدوق.

{ 140 }

وقال الباقر عليه السلام: «ثلاث هن قاصمات الظهر: رجل استكثر عمله، ونسي ذنوبه، وأعجب برأيه»(1).

وقال الصادق عليه السلام: «أتى عالم عابداً فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يُسأل عن صلاته؟ وأنا أعبد اللّه تعالى منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي. فقال له العالم: فإن ضحكك وأنت خائف خير (أفضل خ ل) من بكائك وأنت مُدِل، إنّ المدل لا يصعد من عمله شيء»(2).

وعن أحدهما عليهما السلام، قال: «دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق، فخرجا من المسجد، والفاسق صدّيق، والعابد فاسق، وذلك: أنه يدخل العابد المسجد مدلاً بعبادته، يُدلّ بها، فيكون فكرته في ذلك، ويكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه، ويستغفر اللّه تعالى لما ذَكَرَ من الذنوب»(3).

وعن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: لولا أنّ الذنب خير للمؤمن من العجب، ما خلّى اللّه بين عبده المؤمن وبين ذنب أبداً»(4).

والجدير بالذكر: أنّ العُجب الذميم هو استكثار العمل الصالح،

_____________________

(1) البحار م 15 ج 3 موضوع العجب بالأعمال عن الخصال للصدوق.

(2) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.

(3) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.

(4) البحار م 15 ج 3 بحث العجب عن أمالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.

{ 141 }

والإدلال به، أما السرور به مع التواضع للّه تعالى، والشكر له على توفيقه لطاعتِه، فذلك ممدوح ولا ضير فيه.

مساوئ العجب:

للعجب أضرار ومساوئ:

1 - إنه سبب الأنانية والتكبر، فمن أعجب بنفسه إزدهاه العُجب، وتعالى على الناس، وتجبّر عليهم، وذلك يسبب مقت الناس وهوانهم له.

2 - إنه يعمي صاحبه عن نقائصه ومساوئه، فلا يهتم بتجميل نفسه، وملافاة نقائصه، مما يجعله في غمرة الجهل والتخلف.

3 - إنه باعث على استكثار الطاعة، والإدلال بها، وتناسي الذنوب والآثام، وفي ذلك أضرار بليغة، فتناسي الذنوب يعيق عن التوبة والانابة الى اللّه عز وجل منها، ويعرّض ذويها لسخطه وعقابه، واستكثار الطاعة والعبادة يكدّرها بالعُجب والتعامي عن آفاتها، فلا تنال شرف الرضا والقبول من المولى عز وجل.

علاج العُجب:

وحيث كان العُجب والتكبر صنوين من أصل واحد، وإن اختلفا في الاتجاه، فالعجب كما أسلفنا استعظام النفس مجرداً عن التعالي، والتكبر

{ 142 }

هما معاً، فعلاجهما واحد، وقد أوضحناه في بحث التكبر.

وجدير بالمعجب بنفسه، أن يدرك أن جميع ما يبعثه على الزهو والاعجاب من صنوف الفضائل والمزايا، إنما هي نعم إلهية يسديها المولى الى من شاء من عباده، فهي أحرى بالحمد، وأجدر بالشكر من العجب والخيلاء.

وهي الى ذلك عرضة لصروف الأقدار، وعوادي الدهر، فما للانسان والعجب!!

ومن طريف ما نقل عن بعض الصلحاء في ملافاة خواطر العجب:

قيل: إن بعضهم خرج في جنح الظلام متجهاً الى بعض المشاهد المشرفة، لأداء مراسم العبادة والزيارة، فبينا هو في طريقه إذ فاجأه العجب بخروجه سحراً، ومجافاته لذة الدفء وحلاوة الكرى من أجل العبادة.

فلاح له آنذاك، بائع شلغم فانبرى نحوه، فسأله كم تربح في كسبك وعناء خروجك في هذا الوقت؟ فأجابه: درهمين أو ثلاث، فرجع الى نفسه مخاطباً لها علام العجب؟ وقيمة إسحاري لا تزيد عن درهمين أو ثلاث.

ونقل عن اخر: أنه عمل في ليلة القدر أعمالاً جمةً من الصلوات والدعوات والأوراد، استثارت عُجبه، فراح يعالجه بحكمة وسداد: فقال لبعض المتعبدين: كم تتقاضى على القيام بأعمال هذه الليلة، وهي كيت وكيت. فقال: نصف دينار، فرجع الى نفسه مؤنباً لها وموحياً اليها، علام العُجب وقيمة أعمالي كلها نصف دينار؟

{ 143 }

اليقين:

وهو: الاعتقاد باُصول الدين وضروراته، اعتقاداً ثابتاً، مطابقاً للواقع، لا تزعزعه الشبه، فإن لم يطابق الواقع فهو جهل مركب.

واليقين هو غرّة الفضائل النفسية، وأعزّ المواهب الإلهيّة، ورمز الوعي والكمال، وسبيل السعادة في الدارين. وقد أولته الشريعة اهتماماً بالغاً ومجّدت ذويه تمجيداً عاطراً، واليك طرفاً منه:

قال الصادق عليه السلام: «إنّ الإيمان أفضل من الاسلام، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان، وما من شيء أعزّ من اليقين»(1).

وقال عليه السلام: «إنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند اللّه من العمل الكثير على غير يقين»(2).

وقال الصادق عليه السلام: «من صحة يقين المرء المسلم، أن لا يُرضي الناس بسخط اللّه، ولا يلومهم على ما لم يأته اللّه، فإنّ الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يردّه كراهية كاره، ولو أن أحدكم فرّ من رزقه كما يفر من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت».

_____________________

(1) البحار م 15 ج 2 ص 57 عن الكافي.

(2) البحار م 15 ج 2 ص 60 عن الكافي.

{ 144 }

ثم قال: «إنّ اللّه بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط»(1).

وعنه عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «لا يَجدُ عبد طعم الايمان، حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وانّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وان الضار النافع هو اللّه تعالى»(2).

وسُئل الامام الرضا عليه السلام عن رجل يقول بالحق ويسرف على نفسه، بشرب الخمر ويأتي الكبائر، وعن رجل دونه في اليقين وهو لا يأتي ما يأتيه، فقال عليه السلام: أحسنهما يقيناً كالنائم على المحجة، اذا انتبه ركبها، والأدون الذي يدخله الشك كالنائم على غير طريق، لا يدري اذا انتبه أيّهما المحجّة»(3).

وقال الصادق عليه السلام: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله صلى بالناس الصبح، فنظر الى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفراً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقناً، فعجب رسول اللّه من قوله، وقال له: إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟

فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر الى

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 54 عن الكافي.

(2) الوافي ج 3 ص 54 عن الكافي.

(3) سفينة البحار ج 2 ص 734 عن فقه الرضا.

{ 145 }

عرش ربي، وقد نصب للحساب، وحُشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأني أنظر الى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون، على الأرائك متكئون، وكأني أنظر الى أهل النار وهم فيها معذَّبون، مصطفون، وكأن الآن استمع زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لأصحابه: هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالايمان، ثم قال له: إلزَم ما أنت عليه، فقال الشاب: أدع اللّه لي يا رسول اللّه أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي فاستُشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر»(1).

خصائص الموقنين:

متى ازدهرت النفس باليقين، واستنارت بشعاعه الوهّاج، عكست على ذويها ألواناً من الجمال والكمال النفسيين، وتسامت بهم الى أوج روحي رفيع، يتألقون في آفاقه تألق الكواكب النيرة، ويتميزون عن الناس تميز الجواهر الفريدة من الحصا.

فمن أبرز خصائصهم ومزاياهم، أنك تجدهم دائبين في التحلي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وتجنب رذائلها ومساوئها، لا تخدعهم زخاف الحياة، ولا تلهيهم عن تصعيد كفاءاتهم ومؤهلاتهم الروحية لنيل الدرجات الرفيعة، والسعادة المأمولة في الحياة الاخروية، فهم متفانون في طاعة اللّه

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 33 عن الكافي.

{ 146 }

عز وجل، ابتغاء رضوانه، وحسن مثوبته، متوكلون عليه، في سراء الحياة وضرائها، لا يرجون ولا يخشون أحداً سواه، ليقينهم بحسن تدبيره وحكمة أفعاله.

لذلك تستجاب دعواتهم، وتظهر الكرامات على أيديهم، وينالون شرف الحظوة والرعاية من اللّه عز وجل.

درجات الايمان:

ويحسن بي وأنا أتحدث عن اليقين أن أعرض طرفاً من مفاهيم الايمان ودرجاته، وأنواعه إتماماً للبحث وتنويراً للمؤمنين.

يتفاضل الناس في درجات الإيمان تفاضلاً كبيراً، فمنهم المجلّي السباق في حلبة الايمان، ومنهم الواهن المتخلف، ومنهم بين هذا وذاك كما صوّرته الرواية الكريمة:

قال الصادق عليه السلام: «إن الايمان عشر درجات، بمنزلة السُلّم، يُصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لَستَ على شيء، حتى ينتهي الى العاشرة، فلا تُسقط من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه اليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره»(1).

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 30 عن الكافي.

{ 147 }

أنواع الايمان:

ينقسم الايمان الى ثلاثة أنواع: فطري، ومستودع، وكسبي.

1 - فالفطري: هو ما كان هبة إلهية، قد فطر عليه الانسان، كما في الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، فانهم المثلُ الأعلى في قوة الايمان، وسمو اليقين، لا تخالجهم الشكوك، ولا تعروهم الوساس.

2 - المستودع وهو: ما كان صوريّاً طافياً على اللسان، سرعان ما تزعزعه الشبه والوساوس، كما قال الصادق عليه السلام: «إن العبد يصبح مومناً، ويمسي كافراً، ويصبح كافراً، ويمسي مؤمناً، وقوم يعارون الايمان ثم يلبسونه، وُيسمون المُعارين»(1).

وقال عليه السلام: «إن اللّه تعالى جبَل النبييّن على نبوتهم، فلا يرتدّون أبداً، وجَبَل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبداً، وجبل بعض المؤمنين على الايمان فلا يرتدون أبداً، ومنهم من أعير الايمان عارية، فاذا هو دعا وألح في الدعاء مات على الايمان»(2).

وهكذا تعقب الامام الصادق عليه السلام على حديثيه السالفين بحديث ثالث بجعله مقياساً للتمييز بين الايمان الثابت من المستودع، فيقول: إنّ الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفع له أم ضرّ، قلت (الراوي) فَبِم يُعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك؟

_____________________

(1) ، (2) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي.

{ 148 }

قال: «من كان فعله لقوله موافقاً، فأثبت له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنما ذلك مستودع»(1).

3 - الكسبي: وهو الايمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتى تكامل وسمى الى مستوى رفيع، وله درجات ومراتب.

واليك بعض الوصايا والنصائح الباعثة على صيانة الجزء الفطري من الايمان، وتوفير الكسبي منه:

1 - مصاحبة المؤمنين الأخيار، ومجانبة الشقاة والعصاة، فإن الصاحب متأثر بصاحبه ومكتسب من سلوكه وأخلاقه، كما قال الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».

2 - ترك النظر والاستماع الى كتب الضلال، وأقوال المضلين، المولعين بتسميم أفكار الناس وحرفهم عن العقيدة والشريعة الاسلاميتين، وإفساد قيم الايمان ومفاهيمه في نفوسهم.

3 - ممارسة النظر والتفكر في مخلوقات اللّه عز وجل، وما اتصفت به من جميل الصنع، ودقة النظام، وحكمة التدبير، الباهرة المدهشة «وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون«(2).

4 - ومن موجبات الايمان وتوفير رصيده، جهاد النفس، وترويضها على طاعة اللّه تعالي، وتجنب معاصيه، لتعمر النفس بمفاهيم الايمان، وتشرق بنوره الوضّاء، فهي كالماء الزلال، لا يزال شفافاً رقراقاً، ما لم تكدره

_____________________

(1) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي.

(2) الذاريات (20 - 21).

{ 149 }

الشوائب فيغدو آنذاك آسناً قاتماً لا صفاء فيه ولا جمال. ولولا صدأ الذنوب، وأوضار الآثام التي تنتاب القلوب والنفوس، فتجهم جمالها وتخبئ أنوارها، لاستنار الأكثرون بالايمان، وتألقت نفوسهم بشعاعه الوهّاج. «ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها»(1).

وقال الصادق عليه السلام: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نُكته سوداء، فان تاب إنمحت، وإن زاد زادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(2).

_____________________

(1) الشمس (7 - 10).

(2) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.

{ 150 }

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست