الكرم
الكرم
ضد البخل، وهو: بذل المال أو الطعام أو أي
نفع مشروع، عن طيب نفس.
وهو
من أشرف السجايا، وأعزّ المواهب، وأخلد
المآثر. وناهيك في فضله أنّ كل نفيس جليل
يوصف بالكرم، ويُعزى إليه، قال تعالى:
«إنّه
لقرآن كريم» (الواقعة: 77) «وجاء
رسول كريم» (الدخان: 17). «وزروع
ومقام كريم» (الدخان: 26).
لذلك
أشاد أهل البيت عليهم السلام بالكرم
والكرماء، ونوّهوا عنهما أبلغ تنويه:
قال
الباقر عليه السلام: «شاب سخيّ مرهق في
الذنوب، أحبّ الى اللّه من شيخ عابد بخيل»(1).
وقال
الصادق عليه السلام: «أتى رجل النبي صلى
اللّه عليه وآله فقال: يا رسول اللّه أيّ
الناس أفضلهم إيماناً؟ فقال: أبسطهم كفاً»(2).
وعن
جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال:
قال رسول اللّه
_____________________
(1)
الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي والفقيه.
(2)
الوافي ج 6 ص 67 عن الكافي.
{
72 }
صلى
اللّه عليه وآله: «السخيّ قريب من اللّه،
قريب من الناس، قريب من الجنة. والبخيل
بعيد من اللّه، بعيد من الناس، قريب من
النار»(1).
وقال
الباقر عليه السلام: «أنفق وأيقن بالخلف
من اللّه، فانه لم يبخل عبد ولا أمة بنفقة
فيما يرضي اللّه، الا أنفق أضعافها فيما
يُسخط اللّه»(2).
محاسن
الكرم:
لا
يسعد المجتمع، ولا يتذوق حلاوة
الطمأنينة والسلام، ومفاهيم الدعة
والرخاء، الا باستشعار أفراده روح
التعاطف والتراحم، وتجاوبهم في المشاعر
والأحاسيس، في سراء الحياة وضرائها،
وبذلك يغدو المجتع كالبنيان المرصوص،
يشد بعضه بعضاً.
وللتعاطف
صور زاهرة، تشع بالجمال والروعة
والبهاء، ولا ريب أن أسماها شأناً،
وأكثرها جمالاً وجلالاً، وأخلدها ذكراً
هي: عطف الموسرين، وجودهم على البؤساء
والمعوزين، بما يخفف عنهم آلام الفاقة
ولوعة الحرمان.
وبتحقيق
هذا المبدأ الانساني النبيل (مبدأ
التعاطف والتراحم) يستشعر المعوزون أزاء
ذوي العطف عليهم، والمحسنين اليهم،
مشاعر
_____________________
(1)
البحار م 15 ج 3 عن كتاب الامامة والتبصرة.
(2)
الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي.
{
73 }
الصفاء
والوئام والودّ، مما يسعد المجتمع،
ويشيع فيه التجاوب، والتلاحم والرخاء.
وبإغفاله
يشقى المجتمع، وتسوده نوازع الحسد،
والحقد، والبغضاء، والكيد. فينفجر عن
ثورة عارمة ماحقة، تزهق النفوس، وتمحق
الأموال، وتهدد الكرامات.
من
أجل ذلك دعت الشريعة الاسلامية الى
السخاء والبذل والعطف على البؤساء
والمحرومين، واستنكرت على المجتمع أن
يراههم يتضورون سُغَباً وحرماناً، دون
أن يتحسس بمشاعرهم، وينبري لنجدتهم
وإغاثتهم. واعتبرت الموسرين القادرين
والمتقاعسين عن إسعافهم أبعد الناس عن
الاسلام، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله: «من أصبح لا يهتم بأمور
المسلمين فليس بمسلم»(1).
وقال
صلى اللّه عليه وآله: «ما آمن بي من بات
شبعاناً وجاره جائع، وما من أهل قرية
يبيت فيهم جائع ينظر اللّه اليهم يوم
القيامة»(2).
وإنما
حرّض الاسلام أتباعه على الأريحية
والسخاء، ليكونوا مثلاً عالياً في
تعاطفهم ومواساتهم، ولينعموا بحياة
كريمة، وتعايش سلمي، ولأن الكرم حمام أمن
المجتمع، وضمان صفائه وازدهاره.
مجالات
الكرم:
تتفاوت
فضيلة الكرم، بتفاوت مواطنه ومجالاته.
فأسمى فضائل
_____________________
(1)
و (2) عن الكافي.
{
74 }
الكرم،
وأشرف بواعثه ومجالاته، ما كان استجابة
لأمر اللّه تعالى، وتنفيذاً لشرعه
المُطاع، وفرائضه المقدسة، كالزكاة،
والخمس، ونحوهما.
وهذا
هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة
الاسلامية، كما قال النبي صلى اللّه عليه
وآله: «من أدى ما افترض اللّه عليه، فهو
أسخى الناس»(1).
وأفضل
مصاديق البر والسخاء بعد ذلك، وأجدرها -
عيال الرجل وأهل بيته، فانهم فضلاً عن
وجوب الانفاق عليهم، وضرورته شرعاً
وعرفاً، أولى بالمعروف والاحسان، وأحق
بالرعاية واللطف.
وقد
يشذّ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعي
الأصيل، فيغدقون نوالهم وسخاءهم على
الأباعد والغرباء، طلباً للسمعة
والمباهاة، ويتصفون بالشح والتقتير على
أهلهم وعوائلهم، مما يجعلهم في ضنك
واحتياج مريرين، وهم ألصق الناس بهم
وأحناهم عليهم، وذلك من لؤم النفس، وغباء
الوعي.
لذلك
أوصى أهل البيت عليه السلام بالعطف على
العيال، والترفيه عنهم بمقتضيات العيش
ولوازم الحياة:
قال
الامام الرضا عليه السلام: «ينبغي للرجل
أن يوسع على عياله، لئلا يتمنوا موته»(2).
وقال
الامام موسى بن جعفر عليه السلام: «إنّ
عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم اللّه عليه
نعمةً فليوسع على أسرائه، فان لم يفعل
_____________________
(1)
الوافي ج 6 ص 67 عن الفقيه.
(2)
الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه.
{
75 }
أوشك
أن تزول تلك النعمة»(1).
والأرحام
بعد هذا وذاك، أحق الناس بالبر، وأحراهم
بالصلة والنوال، لأواصرهم الرحمية،
وتساندهم في الشدائد والأزمات.
ومن
الخطأ الفاضح، حرمانهم من تلك العواطف،
وإسباغها على الأباعد والغرباء، ويعتبر
ذلك إزدراءاً صارخاً، يستثير سخطهم
ونفارهم، ويحرم جافيهم من عطفهم
ومساندتهم.
وهكذا
يجدر بالكريم، تقديم الأقرب الأفضل، من
مستحقي الصلة والنوال: كالأصدقاء
والجيران، وذوي الفضل والصلاح، فانهم
أولى بالعطف من غيرهم.
بواعث
الكرم:
وتختلف
بواعث الكرم، باختلاف الكرماء، ودواعي
أريحيتهم، فأسمى البواعث غاية، وأحمدها
عاقبة، ما كان في سبيل اللّه، وابتغاء
رضوانه، وكسب مثوبته.
وقد
يكون الباعث رغبة في الثناء، وكسب
المحامد والأمجاد، وهنا يغدو الكريم
تاجراً مساوماً بأريحيته وسخائه.
وقد
يكون الباعث رغبة في نفع مأمول، أو رهبة
من ضرر مخوف، يحفزان على التكرم والاحسان.
_____________________
(1)
الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه.
{
76 }
ويلعب
الحب دوراً كبيراً في بعث المحب وتشجيعه
على الأريحية والسخاء، استمالةً
لمحبوبه، واستداراً واستدراراً لعطفه.
والجدير
بالذكر أن الكرم لا يجمل وقعه، ولا تحلو
ثماره، الا إذا تنزه عن المنّ، وصفي من
شوائب التسويف والمطل، وخلا من مظاهر
التضخيم والتنويه، كما قال الصادق عليه
السلام: «رأيت المعروف لا يصلح الا بثلاث
خصال: تصغيره، وستره، وتعجيله. فانك إذا
صغّرته عظّمته عند من تصنعه اليه. وإذا
سترته تمّمته، وإذا عجّلته هنيته، وإن
كان غير ذلك محقته ونكدته»(1).
_____________________
(1)
البحار م 16 من كتاب العشرة ص 116 عن علل
الشرائع للصدوق (ره).
{
77 }
الإيثار:
وهو:
أسمى درجات الكرم، وأرفع مفاهيمه، ولا
يتحلى بهذه الصفة المثالية النادرة، إلا
الذين جلوا بالأريحية، وبلغوا قمة
السخاء، فجادوا بالعطاء، وهم بأمسّ
الحاجة اليه، وآثروا بالنوال، وهم في ضنك
من الحياة. وقد أشاد القرآن بفضلهم
قائلاً: «ويؤثرون على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة» (الحشر: 9)
وسئُل
الصادق عليه السلام: أي الصدقة أفضل، قال:
جُهد المُقِل، أما سمعت اللّه تعالى يقول:
«ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة»(1).
ولقد
كان النبي صلى اللّه عليه وآله المثل
الأعلى في عظمة الايثار، وسمو الاريحية.
قال
جار بن عبد اللّه: ما سُئل رسول اللّه صلى
اللّه عليه وآله شيئاً فقال لا.
وقال
الصادق عليه السلام: «إن رسول اللّه أقبل
الى الجِعِرانة، فقسم فيها الأموال،
وجعل الناس يسألونه فيعطيهم، حتى ألجأوا
الى
_____________________
(1)
الوافي ج 6 ص 58 عن الفقيه.
{
78 }
شجرة
فأخذت برده، وخدشت ظهره، حتى جلوه عنها،
وهم يسألونه. فقال: أيها الناس ردوا علي
بردي، واللّه لو كان عندي عدد شَجَرِ
تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم ما
ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً...»(1).
وقد
كان صلى اللّه عليه وآله يؤثر على نفسه
البؤساء والمعوزين، فيجود عليهم بماله
وقوته، ويظل طاوياً، وربما شد حجر
المجاعة على بطنه مواساة لهم.
قال
الباقر عليه السلام: «ما شبع النبي من خبز
بُر ثلاثة أيام متوالية، منذ بعثه اللّه
إلى أن قبضه»(2).
وهكذا
كان أهل بيته عليهم السلام في كرمهم
وإيثارهم:
قال
الصادق عليه السلام: «كان عليّ أشبه
الناس برسول اللّه، كان يأكل الخبز
والزيت، ويطعم الناس الخبز واللحم»(3).
وفي
علي وأهل بيته الطاهرين، نزلت الآية
الكريمة:
«ويطعمون
الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
إنما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم
جزاءاً ولا شكوراً» (الدهر: 8 - 9)
فقد
أجمع أولياء أهل البيت على نزولها في علي
وفاطمة والحسن والحسين... وقد أخرجه جماعة
من أعلام غيرهم، وإليك ما ذكره الزمخشري
في تفسير
_____________________
(1)
سفينة البحار ج 1 ص 607 عن علل الشرائع.
والجعرانة موضع بين مكة والطائف.
(2)
سفينة البحار ج 1 ص 194 عن الكافي.
(3)
البحار م 9 ص 538 عن الكافي.
{
79 }
السورة
من الكشاف.
قال:
«وعن ابن عباس أنّ الحسن والحسين مرضا،
فعادهما رسول اللّه في ناس معه، فقالوا:
يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي
وفاطمة وفضة جارية لهما، إن برئا مما
بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا، وما
معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري
اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة
صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم،
فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم
سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد،
مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني
أطعمكم اللّه من موائد الجنة، فآثروه،
وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا
صياماً، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين
أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف
عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.
فلما
أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسين
وأقبلوا الى رسول اللّه، فلما أبصرهم وهم
يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما
أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق
معهم فرأى فاطمة في محرابها، قد التصق
بطنها بظهرها، وغارت عيناها، فساءه ذلك،
فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هنّاك
اللّه ي أهل بيتك، فأقرأه السورة»(1).
وقد
زخرت أسفار السير بإيثارهم، وأريحيتهم،
بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل.
_____________________
(1)
عن الكلمة الغراء - لمرحوم آية اللّه
السيد عبد الحسين شرف الدين ص 29 نقل بتصرف
وتلخيص.
البخل
وهو:
الامساك عما يحسن السخاء فيه، وهو ضد
الكرم.
والبخل
من السجايا الذميمة، والخلال الخسيسة،
الموجبة لهوان صاحبها ومقته وازدرائه،
وقد عابها الاسلام، وحذّر المسلمين منها
تحذيراً رهيباً.
قال
تعالى: «ها أنتم هؤلاء
تُدعون لتنفقوا في سبيل اللّه فمنكم من
يبخل، ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه
واللّه الغنيّ وأنتم الفقراء»
(محمد:
38)
وقال
تعالى: «الذين يبخلون
ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم
اللّه من فضله، وأعتدنا للكافرين عذاباً
مهيناً»
(النساء:
37)
وقال
تعالى: «ولا يحسبنَّ الذين
يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً
لهم بل هو شر لهم سيُطوّقون ما بخلوا به
يوم القيامة».
(آل
عمران: 180)
وعن
الصادق عن آبائه عليهم السلام: «أن أمير
المؤمنين سمع رجلاً يقول: إنّ الشحيح
أغدرُ من الظالم. فقال: كذبت إن الظالم قد
يتوب ويستغفر، ويردّ الظلامة عن أهلها،
والشحيح إذا شحَّ منع الزكاة، والصدقة،
وصلة الرحم، وقرى الضيف، والنفقة في سبيل
اللّه تعالى،
{
81 }
وأبواب
البر، وحرام على الجنة أن يدخلها شحيح»(1).
وعن
جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال:
«قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله:
السخي قريب من اللّه، قريب من الناس،
قريب من الجنة، والبخيل بعيد من اللّه،
بعيد من الناس، قريب من النار»(2)
وقال
أمير المؤمنين عليه السلام: «عجبت للبخيل
يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى
الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش
الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء»(3).
وسنعرض
أخباراً أخرى في مطاوي هذا البحث.
مساوئ
البخل:
البخل
سجية خسيسة، وخُلق لئيم باعث على المساوئ
الجمة، والأخطار الجسيمة في دنيا
الانسان وأخراه.
أما
خطره الاُخروي: فقد أعربت عنه أقوال أهل
البيت عليهم السلام ولخّصه أمير
المؤمنين عليه السلام في كلمته السالفة
حيث قال: «والشحيح إذ شحَّ منع الزكاة،
والصدقة، وصلة الرحم، وقِرى الضيف،
والنفقة في سبيل اللّه، وأبواب البر،
وحرام على الجنة أن يدخلها شحيح».
_____________________
(1)
الوافي ج 6 ص 69 عن الكافي.
(2)
البحار م 15 ج 3 عن كتاب الامامة والتبصرة.
(3)
نهج البلاغة.
{
82 }
وأما
خطره الدنيوي فإنه داعية المقت
والازدراء، لدى القريب والبعيد وربما
تمنى موتَ البخيل أقربُهم اليه، وأحبهم
له، لحرمانه من نواله وطمعاً في تراثه.
والبخيل
بعد هذا أشدّ الناس عناءاً وشقاءاً، يكدح
في جمع المال والثراء، ولا يستمتع به،
وسرعان ما يخلفّه للوارث، فيعيش في
الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة
حساب الأغنياء.
صور
البخل:
والبخل
- وإن كان ذميماً مقيتاً - بيد أنّه يتفاوت
ذمّه، وتتفاقم مساوئه، باختلاف صوره
وأبعاده:
فأقبح
صوره وأشدُّها إثماً، هو البخل بالفرائض
المالية، التي أوجبها اللّه تعالى على
المسلمين، تنظيماً لحياتهم الاقتصادية،
وإنعاشاً لمعوزيهم.
وهكذا
تختلف معائب البخل، باختلاف الأشخاص
والحالات:
فبخل
الأغنياء أقبح من بخل الفقراء، والشحّ
على العيال أو الأقرباء أو الأصدقاء أو
الأضياف أبشع وأذمّ منه على غيرهم،
والتقتير والتضييق في ضرورات الحياة من
طعام وملابس، أسوأ منه في مجالات الترف
والبذح أعاذنا اللّه من جميع صوره
ومثاليه.
علاج
البخل:
وحيث
كان البخل من النزعات الخسيسة، والخلال
الماحقة، فجدير
{
83 }
بالعاقل
علاجه ومكافحته، وإليك بعض النصائح
العلاجية له:
1
- أن يستعرض ما أسلفناه من محاسن الكرم،
ومساوئ البخل، فذلك يخفف من سَورة البخل.
وان لم يُجدِ ذلك، كان على الشحيح أن
يخادع نفسه بتشويقها الى السخاء، رغبة في
الثناء والسمعة، فاذا ما أنس بالبذل،
وارتاح اليه، هذّب نفسه بالاخلاص، وحبب
اليها البذل في سبيل اللّه عز وجل.
2
- للبخل أسباب ودوافع، وعلاجه منوط
بعلاجها، وبدرء الأسباب تزول المسَّببات.
وأقوى
دوافع الشحّ خوف الفقر، وهذا الخوف من
نزعات الشيطان، وايحائه المثّبِّط عن
السخاء، وقد عالج القران الكريم ذلك
بأسلوبه البديع الحكيم، فقرّر: أن
الامساك لا يجدي البخيل نفعاً، وإنما
ينعكس عليه إفلاساً وحرماناً، فقال
تعالى: «ها أنتم هؤلاء
تُدعون لتنفقوا في سبيل اللّه فمنكم من
يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه،
واللّه الغني وأنتم الفقراء» (محمد:
38)
وقرر
كذلك أن ما يسديه المرء من عوارف السخاء،
لاتضيع هدراً، بل تعود مخلوقة على
المُسدي، من الرزاق الكريم، قال عز وجل: «وما
أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير
الرازقين» (سبأ: 39)
وهكذا
يضاعف القرآن تشويقه الى السخاء، مؤكداً
أن المنفق في سبيل اللّه هو كالمقرض للّه
عز وجل، وأنه تعالى بلطفه الواسع يُّرَدُ
عليه القرض أضعافاً مضاعفة: «مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل
{
84 }
حبة
أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة،
واللّه يضاعف لمن يشاء، واللّه واسع عليم»
(البقرة:
261)
أما
الذين استرقهم البخل، ولم يُجدهم
الاغراء والتشويق الى السخاء، يوجّه
القرآن اليهم تهديداً رهيباً، يملأ
النفس ويهزّ المشاعر:
«والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في
سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم. يوم يُحمى
عليها في نار جهنم، فتُكوى بها جباههم
وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم
فذوقوا ما كنتم تكنزون»
(التوبة:
34 - 35)
ومن
دواعي البخل: إهتمام الآباء بمستقبل
أبنائهم من بعدهم، فيضنون بالمال
توفيراً لأولادهم، وليكون ذخيرة لهم،
تقيهم العوز والفاقة.
وهذه
غريزة عاطفية راسخة في الانسان، لا تضرّه
ولاتجحف به، ما دامت سويّة معتدلة. بعيدة
عن الافراط والمغالاة.
بيد
أنه لا يليق بالعاقل، أن يسرف فيها،
وينجرف بتيارها، مضحياً بمصالحه
الدنيوية والدينية في سبيل أبنائه.
وقد
حذّر القرآن الكريم الآباء من سطوة تلك
العاطفة، وسيطرتها عليهم كيلا يفتتنوا
بحب أبنائهم، ويقترفوا في سبيلهم ما
يخالف الدين والضمير: «واعلموا
أنّما أموالكم، وأولادكم فِتنة، وأن
اللّه عنده أجر عظيم» (الأنفال: 29)
وأعظم
بما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في
كتاب له: «أما بعد، فإن الذي في يديك من
الدنيا، قد كان له أهل قبلك، وهو صائر الى
{
85 }
أهل
بعدك ، وإنما أنت جامع لأحد رجلين: رجل
عمل فيما جمعته بطاعة اللّه، فسعد بما
شقيت به، أو رجل عمل فيه بمعصية اللّه،
فشقي بما جمعت له، وليس أحد هذين أهلاً أن
تؤثره على نفسك، وتحمل له على ظهرك،
فارجو لمن مضى رحمة اللّه، ولمن بقيَ رزق
اللّه»(1).
وعن
أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه
تعالى: «كذلك يريهم اللّه
أعمالهم حسرات عليهم» (البقرة:167) قال:
«هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة
اللّه بخلاً، ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه
بطاعة اللّه، أو في معصية اللّه، فإن عمل
فيه بطاعة اللّه، رآه في ميزان غيره فرآه
حسرةً، وقد كان المال له، وإن كان عمل به
في معصية اللّه، قوّاه بذلك المال حتى
عمل به في معصية اللّه»(2).
*
* *
وهناك
فئة تعشق المال لذاته، وتهيم بحبه، دون
أن تتخذه وسيلة الى سعادة دينية أو
دنيوية، وإنما تجد أنسها ومتعتها في
اكتتاز المال فحسب، ومن ثم تبخل به أشد
البخل.
وهذا
هوَس نفسي، يُشقي أربابه، ويوردهم
المهالك، ليس المال غاية، وإنما هو ذريعة
لمآرب المعاش أو المعاد، فاذا انتفت
الذريعتان غدا المال تافهاً عديم النفع.
وكيف
يكدح المرء في جمع المال واكتنازه؟! ثم
سرعان ما يغنمه
_____________________
(1)
نهج البلاغة.
(2)
الوافي ج 6 ص 69 عن الكافي والفقيه.
{
86 }
الوارث،
ويتمتع به، فيكون له المهنى وللمورث
الوزر والعناء.
وقد
استنكر القرآن الكريم هذا الهَوسَ،
وأنذر أربابه إنذاراً رهيباً: «كلا
بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على
طعام المسكين، وتأكلون التراث أكلاً
لمّا، وتحبون المال حباً جماً، كلا إذا
دكت الأرض دكاً دكاً، وجاء ربُّك والملك
صفاً صفاً، وجيء يومئذ بجهنم، يومئذ
يتذكر الانسان وأنى له الذكرى، يقول يا
ليتني قدمت لحياتي، فيومئذ لا يُعذبُ
عذابَهُ أحد، ولا يُوثق وثاقه أحد» (الفجر:
17 - 26)
وقال
تعالى: «ويل لكل هُمزَةٍ
لُمَزةٍ، الذي جمع مالاً وعدده، يحسب أن
ماله أخلده، كلا لينبذنّ في الحُطمة، وما
أدراك ما الحُطمة، نار اللّه الموقدة،
التي تطّلع على الأفئدة، إنها عليهم
مؤصدة، في عمد ممددة» (الهمزة)
وأبلغُ
ما أثر في هذا المجال، كلمة أمير
المؤمنين عليه السلام، وهي في القمة من
الحكمة وسمو المعنى، قال عليه السلام: «إنما
الدنيا فناء، وعناء، وغِيَر، وعِبَرِ،
فمن
فنائها: أنك ترى الدهر مُوتِراً قوسه،
مفوقاً نبله، لا تخطئ سهامه، ولا تشفى
جراحه. يرمي الصحيحَ بالسقم، والحيَّ
بالموت.
ومن
عنائها: أنَّ المرء يجمع ما لا يأكل،
ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج الى اللّه لا
مالاً حمل، ولا بناءاً نقل.
ومن
غِيَرها: أنك ترى المغبوط مرحوماً،
والمرحوم مغبوطاً، ليس بينهم الا نعيم
زلّ، وبؤس نزل.
{
87 }
ومن
عِبَرها: أن المرء يشرف على أمله،
فيتخطفه أجله، فلا أمل مدروك، ولا
مؤُمَّل متروك»(1).
_____________________
(1)
سفينة البحار ج1 ص 467.
العفة
وهي:
الامتناع والترفع عمّا لا يحل أو لا
يجمل، من شهوات البطن والجنس، والتحرر من
استرقاقها المُذِل.
وهي
من أنبل السجايا، وأرفع الخصائص. الدالة
على سمو الايمان، وشرف النفس، وعزّ
الكرامة، وقد أشادت بفضلها الآثار:
قال
الباقر عليه السلام: «ما من عبادة أفضل
عند اللّه من عفة بطن وفرج»(1).
وقال
رجل للباقر عليه السلام: «إني ضعيف
العمل، قليل الصلاة قليل الصيام، ولكني
أرجو أن لا آكل إلا حلالاً، ولا أنكح إلا
حلالاً. فقال له: وأيّ جهاد أفضل من عفة
بطن وفرج»(2).
وقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «أكثر ما
تلج به أمتي النار، الأجوفان البطن
والفرج»(3).
_____________________
(1)
الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(2)
البحار م 15 ج 2 ص 184 عن محاسن البرقي وقريب
منه في الكافي.
(3)
البحار م 15 ج 2 ص 183 عن الكافي.
{
89 }
حقيقة
العفة:
ليس
المراد بالعفة، حرمان النفس من أشواقها،
ورغائبها المشروعة، في المطعم والجنس.
وإنما الغرض منها، هو القصد والاعتدال في
تعاطيها وممارستها، إذ كل إفراط أو تفريط
مضر بالانسان، وداع الى شقائه وبؤسه:
فالافراط
في شهوات البطن والجنس، يفضيان به الى
المخاطر الجسيمة، والأضرار الماحقة،
التي سنذكرها في بحث (الشره).
والتفريط
فيها كذلك، باعث على الحرمان من متع
الحياة، ولذائذها المشروعة، وموجب لهزال
الجسد، وضعف طاقاته ومعنوياته.
الاعتدال
المطلوب:
من
الصعب تحديد الاعتدال في غريزتي الطعام
والجنس، لاختلاف حاجات الأفراد
وطاقاتهم، فالاعتدال في شخص قد يعتبر
إفراطاً أو تفريطاً في آخر.
والاعتدال
النِّسبِي في المأكل هو: أن ينال كل فرد
ما يقيم اوَدَهُ ويسدّ حاجته من الطعام،
متوقياً الجشع المقيت، والامتلاء المرهق.
وخير
مقياس لذلك هو ما حدّده أمير المؤمنين،
وهو يحدث إبنه
{
90 }
الحسن
عليه السلام: «يا بني الا اُعلّمك أربع
كلمات تستغني بها عن الطب؟ فقال: بلى يا
أمير المؤمنين. قال: لاتجلس على الطعام
إلا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام الا
وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت
فأعرض نفسك على الخلاء، فاذا استعملت هذا
استغنيت عن الطب».
وقال:
إنّ في القرآن لآية تجمع الطب كله: «كلوا
واشربوا ولا تسرفوا»
(الأعراف:
31)(1)
والاعتدال
التقريبي في الجنس هو تلبية نداء
الغريزة، كلما اقتضتها الرغبة الصادقة،
والحاجة المحفزة عليه.
محاسن
العفة:
لا
ريب أنّ العفة، هي من أنبل السجايا،
وأرفع الفضائل، المعربة عن سمو الايمان،
وشرف النفس، والباعثة على سعادة المجتمع
والفرد.
وهي
الخلّة المشرفة التي تزين الانسان،
وتسمو به عن مزريات الشره والجشع، وتصونه
عن التملق للئام، استدراراً لعطفهم
ونوالهم، وتحفّزه على كسب وسائل العيش
ورغائب الحياة، بطرقها المشروعة،
وأساليبها العفيفة.
_____________________
(1)
سفينة البحار م 2 ص 79 عن دعوات الراوندي.
الشره
وهو:
الافراط في شهوات المأكل والجنس، ضدّ (العفة).
وهو
: من النزعات الخسيسة، الدالة على ضعف
النفس، وجشع الطبع، واستعباد الغرائز،
وقد نددت به الشريعة الاسلامية وحذّرت
منه أشدّ التحذير.
قال
الصادق عليه السلام: «كل داء من التخمة،
ما خلا الحُمى فانها ترد وروداً»(1).
وقال
عليه السلام: «إن البطن إذا شبع طغى»(2).
وقال
عليه السلام: «إن اللّه يبغض كثرة الأكل»(3).
وقال
أبو الحسن عليه السلام: «لو أن الناس
قصدوا في المطعم، لاستقامت أبدانهم»(4).
وعن
الصادق عن أبيه قال: قال أمير المؤمنين
عليه السلام: «من
_____________________
(1)
الوافي ج 1 1 ص 67 عن الكافي.
(2)
الوافي ج 1 1 ص 67 عن الفقيه.
(3)
الوافي ج 1 1 ص 67 عن الكافي.
(4)
البحار م 14 ص 876 عن المحاسن للبرقي (ره).
{
92 }
أراد
البقاء ولا بقاء، فليخفف الرداء،
وليباكر الغذاء، وليقل مجامعة النساء»(1).
ومن
أراد البقاء أي طول العمر، فليخفف الرداء
أي يخفف ظهره من ثقل الدين.
وأكل
أمير المؤمنين عليه السلام من تمر دَقَل،
ثم شرب عليه الماء، وضرب يده على بطنه
وقال: من أدخل بطنه النار فأبعده اللّه.
ثم تمثل:
وإنك
مهما تُعط بطنك سؤله*** وفرجك نالا منتهى
الذم أجمعا(2)
مساوئ
الشره:
الشرَهُ
مفتاح الشهوات، ومصدر المهالك. وحسب
الشرهِ ذمّاً، أن تسترقه الشهوات
العارمة، وتعرّضه لصنوف المساوئ،
المعنوية والمادية.
ولعل
أقوى العوامل في تخلف الامم، استبداد
الشره بهم، وافتتانهم بزخارف الحياة،
ومفاتن الترف والبذخ، مما يفضي بهم الى
الضعف والانحلال.
ولشره
الأكل آثار سيئة ومساوئ عديدة:
فقد
أثبت الطب «أن الكثير من الأمراض والكثير
من الخطوط والتجعدات التي تشوه القسمات
الحلوة في النساء والرجال، والكثير من
_____________________
(1)
البحار م 14 ص 545 عن طب الأئمة.
(2)
سفينة البحار م 1 ص 27 .
{
93 }
الشحم
المتراكم، والعيون الغائرة، والقُوى
المُنهكَة، والنفوس المريضة كلهّا تُعزى
الى التخمة المتواصلة، والطعام الدسم
المترف».
وأثبت
كذلك أن الشره يرهق المعدة ويسبب ألوان
المآسي الصحية كتصلب الشرايين، والذبحة
الصدرية، وارتفاع ضغط الدم، والبول
السكري.
وهكذا
يفعل الشره الجنسي في إضعاف الصحة
العامة، وتلاشي الطاقة العصبية،
واضمحلال الحيوية والنشاط، مما يعرض
المسرفين للمخاطر.
علاج
الشره:
أما
شره الأكل فعلاجه:
1
- أن يتذكر الشَّرِه ما أسلفناه من محاسن
العفّة، وفضائلها.
2
- أن يتدبر مساوئ الشره، وغوائله الماحقة.
3
- أن يروض نفسه على الاعتدال في الطعام،
ومجانبة الشره جاهداً في ذلك، حتى يزيل
الجشع. فإن دستور الصحة الوقائي والعلاجي
هو الاعتدال في الأكل وعدم الاسراف فيه،
كما لخّصته الآية الكريمة «كلوا
واشربوا ولا تسرفوا». (الأعراف: 31)
وقد
أوضحنا واقع الاعتدال في بحث (العفة).
وأمّا
الشره الجنسي فعلاجه:
1
- أن يتذكر المرء أخطار الاسراف الجنسي،
ومفاسدة الماديّة والمعنوية.
{
94 }
2
- أن يكافح مثيرات الغريزة، كالنظر الى
الجمال النسوي، واختلاط الجنسين، وسروح
الفكر في التخيل، وأحلام اليقظة، ونحوها
من المثيرات.
3
- أن يمارس ضبط الغريزة وكفها عن الافراط
الجنسي، وتحري الاعتدال فيها، وقد مرَّ
بيانه في بحث العفة.
الأمانة
والخيانة
الأمانة
هي: أداء ما ائتمن عليه الانسان من
الحقوق، وهي ضد (الخيانة).
وهي
من أنبل الخصال، وأشرف الفضائل، وأعزّ
المآثر، بها يحرز المرء الثقة والاعجاب،
وينال النجاح والفوز.
وكفاها
شرفاً ان اللّه تعالى مدح المتحلين بها،
فقال: «والذين هم لأماناتهم
وعهدهم راعون»
(المؤمنون:
8 . المعارج:32)
وضدها
الخيانة، وهي: غمط الحقوق واغتصابها، وهي
من أرذل الصفات، وأبشع المذام، وأدعاها
الى سقوط الكرامة، والفشل والاخفاق.
لذلك
جاءت الآيات والأخبار حاثة على التحلي
بالأمانة، والتحذير من الخيانة، واليك
طرفاً منها:
«إن
اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى
أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا
بالعدل، إن اللّه نعما يعظكم به»
(النساء:
58)
وقال
تعالى: «يا أيها الذين آمنوا
لا تخونوا اللّه والرسول، وتخونوا
أماناتكم وأنتم تعلمون» (الأنفال:27)
قال
الصادق عليه السلام: «لا تغتروا بصلاتهم
ولا بصيامهم،
{
96 }
فإن
الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم، حتى لو
تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق
الحديث، وأداء الأمانة»(1).
وعنه
عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله: «ليس منّا من أخلف
الأمانة».
وقال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «أداء
الأمانة يجلب الرزق، والخيانة تجلب
الفقر»(2).
وقال
الصادق عليه السلام: «اتقوا اللّه،
وعليكم بأداء الأمانة الى من ائتمنكم،
فلو أن قاتل علي بن أبي طالب إئتمنني على
أمانة لأديتها اليه«(3).
وقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «لا تزال
امتي بخير، ما لم يتخاونوا، وأدّوا
الأمانة، وآتوا الزكاة، فإذا لم يفعلوا
ذلك، ابتلوا بالقحط والسنين»(4).
محاسن
الأمانة ومساوئ الخيانة:
تلعب
الأمانة دوراً خطيراً، في حياة الأمم
والأفراد، فهي نظام
_____________________
(1)
الوافي ج 3 ص 82 عن الكافي.
(2)
الوافي ج 10 ص 112 عن الكافي.
(3)
الوافي ج 10 ص 112عن الكافي والتهذيب.
(4)
عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).
{
97 }
أعمالهم،
وقوام شؤونهم، وعنوان نبلهم واستقامتهم،
وسبيل رقيهم الماديّ والأدبي.
وبديهي
أنّ من تحلى بالأمانة، كان مثار التقدير
والاعجاب، وحاز ثقة الناس واعتزازهم
وائتمانهم، وشاركهم في أموالهم ومغانمهم.
ويصدق
ذلك على الأمم عامة، فان حياتها لا تسمو
ولا تزدهر، الا في محيط تسوده الثقة
والأمانة.
وبها
ملك الغرب أزمّة الاقتصاد، ومقاليد
الصناعة والتجارة، وجنى الأرباح
الوفيرة، ولكنّ المسلمين وا أسفاه!
تجاهلوها، وهي عنوان مبادئهم، ورمز
كرامتهم، فباؤوا بالخيبة والإخفاق.
من
أجل ذلك كانت الخيانة من أهم أسباب سقوط
الفرد واخفاقه في مجالات الحياة، كما هي
العامل الخطير في اضعاف ثقة الناس بعضهم
ببعض، وشيوع التناكر والتخاوف بينهم،
مما تسبب تسيب المجتمع، وفصم روابطه،
وإفساد مصالحه، وبعثرة طاقاته.
صور
الخيانة:
وللخيانة
صور تختلف بشاعتها وجرائمها باختلاف
آثارها، فأسوأها نكراً هي الخيانة
العلمية التي يقترفها الخائنون
المتلاعبون بحقائق العلم المقدسة،
ويشوبونها بالدس والتحريف.
ومن
صورها إفشاء أسرار المسلمين، التي
يحرصون على كتمانها،
{
98 }
فاشاعتها
والحالة هذه جريمة نكراء، تعرضهم
للأخطار والمآسي.
ومن
صورها البشعة: خيانة الودائع والأمانات،
التي أؤتمن عليها المرء، فمصادرتها
جريمة مضاعفة من الخيانة والسرقة
والاغتصاب.
وللخيانة
بعد هذا صور عديدة كريهة، تثير الفزع
والتقزز، وتضر بالناس فرداً ومجتمعاً،
مادّياً وأدبياً، كالخداع والغش
والتطفيف بالوزن أو الكيل، ونحوها من
مفاهيم التدليس والتلبيس.
التآخي
التآخي
الروحي:
كان
العصر الجاهلي مسرحاً للمآسي والأرزاء،
في مختلف مجالاته ونواحيه الفكرية
والمادية.
وكان
من أبشع مآسيه، ذلك التسيب الخُلقي،
والفوضى المدمّرة، مما صيّرهم يمارسون
طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر
والتناحر، والفتك والسلب، والتشدق
بالثأر والانتقام.
فلما
أشرق فجر الاسلام، وأطل بأنواره على
البشرية، إستطاع بمبادئه الخالدة،
ودستوره الفذّ أن يُطبّ تلك المآسي،
ويحسم تلك الأوزار، فأنشأ من ذلك القطيع
الجاهلي «خير أمة أخرجت
للناس»(1) عقيدة وشريعة، وعلماً
وأخلاقاً. فأحلّ الايمان محل الكفر،
والنظام محل الفوضى، والعلم محل الجهل،
والسلام محل الحرب، والرحمة محل
الانتقام.
فتلاشت
تلك المقاهيم الجاهلية، وخلفتها المبادئ
الاسلامية الجديدة، وراح النبي صلى
اللّه عليه وآله يبني وينشئ أمة مثالية
تبذ الأمم نظاماً، وأخلاقاً وكمالاً.
وكلما
سار المسلمون أشواطاً تحت راية القرآن،
وقيادة الرسول الأعظم
_____________________
(1)
آل عمران: 110.
{
100 }
صلى
اللّه عليه وآله، توغلوا في معارج
الكمال، وحلقوا في آفاق المكارم، حتى
حققوا مبدأ المؤاخاة بأسلوب لم تحققه
الشرائع والمبادئ، وأصبحت أواصر العقيدة
أقوى من أواصر النسب، ووشائج الايمان
تسمو على وشائج القومية والقبلية، وغدا
المسلمون .مة واحدة، مرصوصة الصف، شامخة
الصرح، خفّاقة اللواء، لاتفرقهم النعرات
والفوارق.
«يا
أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى،
وجعلناكم شعوباً وقبائل، لتعارفوا، إن
أكرمكم عند اللّه أتقاكم»(1).
وطفق
القرآن الكريم يغرس في نفوس المسلمين
مفاهيم التآخي الروحي، مركزاً على ذلك
بآياته العديدة وأساليبه الحكيمة الفذّة.
فمرة
شرّع التآخي ليكون قانوناً للمسلمين «إنما
المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم،
واتقوا اللّه لعلكم ترحمون»(2).
وأخرى
يؤكد عليه محذراً من عوامل الفرقة،
ومذكراً نعمة التآلف والتآخي الاسلامي،
بعد طول التناكر والتناحر الجاهليين، «واعتصموا
بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا
نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداءاً، فألّف
بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً»(3).
وهكذا
جهد الاسلام في تعزيز التآخي الروحي
وحماه من نوازع الفرقة والانقسام، بما
شرّعه من دستور الروابط الاجتماعية في
نظامه الخالد.
_____________________
(1)
الحجرات: 13.
(2)
الحجرات: 10.
(3)
آل عمران: 103.
{
101 }
واليك
نموذجاً من ذلك:
1
- تسامى بشعور المسلمين وعواطفهم، أن
تسترقها النعرات العصبية، ونزعاتها
المفرّقة، ووّجهها نحو الهدف الأسمى من
طاعة اللّه تعالى ورضاه: فالحبّ والبغض،
والعطاء والمنع، والنصر والخذلان: كل ذلك
يجب أن يكون للّه عز وجل، وبذلك تتوثق عرى
المؤاخاة، وتتلاشى النزعات المفرقة،
ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص، يشدّ
بعضه بعضاً.
واليك
قبساً من آثار أهل البيت عليهم السلام في
هذا المقام:
عن
الباقر عليه السلام قال: قال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وآله «ودّ المؤمن للمؤمن
في اللّه، من أعظم شعب الايمان، ألا ومن
أحبّ في اللّه، وأبغض في اللّه، وأعطى في
اللّه، ومنع في اللّه، فهو من أصفياء
اللّه»(1).
وقال
الصادق عليه السلام: «إنّ المتحابين في
اللّه يوم القيامة، على منابر من نور، قد
أضاء نور وجوههم، ونور أجسادهم، ونور
منابرهم، كل شيء حتى يعرفوا به، فيقال
هؤلاء المتحابون في اللّه»(2).
وقال
علي بن الحسين عليه السلام: «إذا جمع
اللّه عز وجل الأولين والآخرين، قام مناد
ينادي بصوت يسمع الناس، فيقول: أين
المتحابون في اللّه؟ قال: فيقوم عُنُق من
الناس، فيقال لهم: اذهبوا الى الجنة
_____________________
(1)
الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي.
(2)
نفس المصدر.
{
102 }
بغير
حساب.
قال:
فتلقاهم الملائكة فيقولون: الى أين؟
فيقولون: الى الجنة بغير حساب.
قال:
فيقولون: فأي ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون:
نحن المتحابون في اللّه.
فيقولون:
وأيّ شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنّا نحبّ
في اللّه، ونبغض في اللّه.
قال:
فيقولون: نعم أجر العاملين»(1).
وقال
الصادق عليه السلام: «كل من لم يحب على
الدين، ولم يبغض على الدين فلا دين له»(2).
وعن
جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال:
«إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً، فانظر
الى قلبك، فان كان يحب أهل طاعة اللّه،
ويبغض أهل معصيته، ففيك خير، واللّه
يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه ويحب
أهل معصيته، فليس فيك خير، واللّه يبغضك،
والمرء مع من أحب»(3).
2
- رغب المسلمين فيما يؤلفهم، ويحقق لهم
العزة والرخاء، كالتواصي بالحق،
والتعاون على البر، والتناصر على العدل،
والتكافل في مجالات الحياة الاقتصادية،
فهم في عرف الشريعة أسرة واحدة، يسعدها
ويشقيها
_____________________
(1)
البحار م 15 ج 1 ص 283 عن الكافي.
(2)،
(3) الوافي ج 3 ص 90 عن الكافي.
{
103 }
ما
يسعد أفرادها ويشقيهم.
دستورها
«محمد رسول اللّه والذين معه
أشداء على الكفار رحماء بينهم»(1).
وشعارها
قول الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله: «من
أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(2).
3
- خذّر المسلمين مما يبعث على الفرقة
والعداء، والفحش والبذاء والاغتياب،
والنميمة والخيانة والغش، ونحوها من
مثيرات الفتن والضغائن، ومبدأهم في ذلك
قول النبي صلى اللّه عليه وآله:
«المؤمن
من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم،
والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه،
والمهاجر من هجر السيئات»(3).
4
- أتاح الفرص لانماء العلاقات الودّية
بين المسلمين، كالحث على التزاور،
وارتياد المحافل الدينية، وشهود
المجتمعات الاسلامية، كصلاة الجماعة
ومناسك الحج، ونحو ذلك.
_____________________
(1)
الفتح: 29.
(2)
الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
(3)
الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
العصبية
هي:
مناصرة المرء قومه، أو اسرته، أو وطنه،
فيما يخالف الشرع، وينافي الحق والعدل.
وهي:
من أخطر النزعات وأفتكها في تسيب
المسلمين، وتفريق شملهم، وإضعاف
طاقاتهم، الروحية والمادية، وقد حاربها
الاسلام، وحذّر المسلمين من شرورها.
فعن
أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وآله: من كان في
قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه اللّه
تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية»(1).
وقال
الصادق عليه السلام: «من تعصّب عصّبه
اللّه بعصابة من نار»(2).
وقال
النبي صلى اللّه عليه وآله: «إن اللّه
تبارك وتعالى قد أذهب بالاسلام نخوة
الجاهلية، وتفاخرها بآبائها، ألا إن
الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند
اللّه أتقاهم»(3).
_____________________
(1)،
(2) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
(3)
الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
{
105 }
وقال
الباقر عليه السلام: جلس جماعة من أصحاب
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ينتسبون
ويفتخرون، وفيهم سلمان. فقال عمر: ما نسبك
أنت يا سلمان وما أصلك؟ فقال: أنا سلمان
بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه
بمحمد. وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد،
وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمدٍ،
فهذا حسبي ونسبي ياعمر.
ثم
خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله،
فذكر له سلمان ما قال عمر وما أجابه، فقال
رسول اللّه: «يا معشر قريش إن حَسب المرء
دينه، ومروءته خُلقه، وأصله عقله، قال
اللّه تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم
من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم».
ثم
أقبل على سلمان فقال له: إنّه ليس لأحد من
هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى اللّه عز وجل،
فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه»(1).
وعن
الصادق عن أبيه عن جده عليهم السلام قال:
«وقع بين سلمان الفارسي رضي اللّه عنه،
وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من
أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أمّا أولي
وأولك فنطفة قذرة. وأمّا آخري وآخرك
فجيفة منتنة، فاذا كان يوم القيامة،
ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو
الكريم، ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم»(2).
وأصدق
شاهد على واقعية الاسلام، واستنكاره
النعرات العصبية
_____________________
(1)
البحار م 15 ج 2 ص 95 عن أمالي أبي علي الشيخ
الطوسي.
(2)
سفينة البحار ج 2 ص 348 عن امالي الصدوق (ره).
{
106 }
المفرقة،
وجعله الايمان والتقى مقياساً للتفاضل،
أنّ أبا لهب - وهو من صميم العرب، وعمّ
النبي - صرح القرآن بثلبه وعذابه «تَبّت
يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما
كسب، سيصلى ناراً ذات لهب» وذلك بكفره
ومحاربته للّه ورسوله.
وكان
سلمان فارسّياً، بعيداً عن الأحساب
العربية، وقد منحه الرسول الأعظم صلى
اللّه عليه وآله وساماً خالداً في الشرف
والعزة، فقال: «سلمان منّا أهل البيت».
وما ذلك الا لسمو إيمانه، وعِظم إخلاصه،
وتفانيه في اللّه ورسوله.
حقيقة
العصبية:
لاريب
أنّ العصبية الذميمة التي نهى الاسلام
عنها هي: التناصر على الباطل، والتعاون
على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهلية.
أما
التعصب للحق، والدفاع عنه…، والتناصر
على تحقيق المصالح الاسلامية العامة،
كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن
الاسلامي الكبير، وصيانة كرامات
المسلمين وأنفسهم وأموالهم، فهو التعصّب
المحمود الباعث على توحيد الأهداف
والجهود، وتحقيق العِزة والمنعة
للمسلمين، وقد قال الامام زين العابدين
علي بن الحسين عليهما السلام: «إنّ
العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى
الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم
آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل
قومه، ولكِن من العصبية أن يعين
{
107 }
قومه
على الظلم»(1).
غوائل
العصبية:
من
استقرأ التاريخ الاسلامي، وتتبع العلل
والأسباب، في هبوط المسلمين، عَلِم أنّ
النزعات العصبية، هي المعول الهدّام،
والسبب الأول في تناكر المسلمين، وتمزيق
شملهم، وتفتيت طاقاتهم، مما أدى بهم الى
هذا المصير القاتم.
فقد
ذلّ المسلمون وهانوا، حينما تفشّت فيهم
النعرات المفرّقة، فانفصمت بينهم عرى
التحابب، ووهت فيهم أواصر الاخاء،
فأصبحوا مثالاً للتخلف والتبعثر
والهوان، بعد أن كانوا رمزاً للتفوق
والتماسك والفخار، كأنّهم لم يسمعوا
كلام اللّه تعالى حيث قال:
«واعتصموا
بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا
نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداءاً فألّف
بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً.
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها»(2).
_____________________
(1)
الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
(2)
آل عمران: 103.
العدل
العدل
ضد الظلم، وهو مناعة نفسية، تردع صاحبها
عن الظلم، وتحفّزه على العدل، وأداء
الحقوق والواجبات.
وهو
سيد الفضائل، ورمز المفاخر، وقوام
المجتمع المتحضر، وسبيل السعادة والسلام.
وقد
مجّده الاسلام، وعنى بتركيزه والتشويق
اليه في القرآن والسنة:
قال
تعالى: «إنّ اللّه يأمر
بالعدل والاحسان»(1).
وقال
سبحانه: «وإذا قلتم فاعدلوا
ولو كان ذا قربى»(2).
وقال
عز وجل: «إنّ اللّه يأمركم أن
تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم
بين الناس أن تحكموا بالعدل»(3).
وقال
الصادق عليه السلام: «العدل أحلى من
الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من
المسك»(4).
_____________________
(1)
النحل: 90.
(2)
الانعام: 152.
(3)
النساء: 58.
(4)
الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي، وهو من قبيل
تشبيه المعقول بالمحسوس.
{
109 }
وقال
الراوي لعلي بن الحسين عليه السلام
أخبرني بجميع شرائع الدين؟ قال: «قول
الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد»(1).
وقال
الرضا عليه السلام: «استعمال العدل
والاحسان مؤذن بدوام النعمة»(2).
أنواع
العدل:
للعدل
صور مشرقة تشع بالجمال والجلال، وإليك
أهمها:
1
- عدل الانسان مع اللّه عز وجل، وهو أزهى
صور العدل، وأسمى مفاهيمه، وعنوان
مصاديقه، وكيف يستطيع الانسان أن يؤدي
واجب العدل للمنعم الأعظم، الذي لا تحصى
نعماؤه، ولا تعدّ آلاؤه؟!
وإذا
كان عدل المكافأة يُقدّر بمعيار النعم،
وشرف المنعم، فمن المستحيل تحقيق العدل
نحو واجب الوجود، والغني المطلق عن سائر
الخلق، الا بما يستطيعه قصور الانسان،
وتوفيق المولى عز وجل له.
وجماع
العدل مع اللّه تعالى يتلخص في الايمان
به، وتوحيده، والاخلاص له، وتصديق
سفرائه وحججه على العباد، والاستجابة
لمقتضيات ذلك من التوله بحبّه والتشرف
بعبادته، والدأب على طاعته، ومجافاة
عصيانه.
2
- عدل الانسان مع المجتمع:
وذلك
برعاية حقوق أفراده، وكفّ الأذى
والاساءة عنهم،
_____________________
(1)
البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن خصال
الصدوق (ره).
(2)
البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن عيون اخبار
الرضا.
{
110 }
وسياستهم
بكرم الأخلاق، وحسن المداراة وحبّ الخير
لهم، والعطف على بؤسائهم ومعوزيهم، ونحو
ذلك من محققات العدل الاجتماعي.
وقد
لخّص اللّه تعالى واقع العدل العام في
آية من كتابه المجيد: «إن
اللّه يأمر بالعدل والاحسان، وإيتاء ذي
القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر
والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون»(1).
وقد
رسم أمير المومنين عليه السلام منهاج
العدل الاجتماعي بايجاز وبلاغة، فقال
لابنه:
«يا
بنُيّ إجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين
غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره
له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن
تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن اليك،
واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض
من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل
ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا
تحب أن يقال لك».
أوصى
عليه السلام ابنه الكريم أن يكون عادلاً
فيما بينه وبين الناس كالميزان، ثم أوضح
له صور العدل وطرائقه إيجاباً وسلباً.
3
- عدل البشر الأحياء مع أسلافهم الأموات،
الذين رحلوا عن الحياة، وخلّفوا لهم
المال والثراء، وحرموا من متعه ولذائذه،
ولم يكسبوا في رحلتهم الأبدية، الا
أذرعاً من أثواب البلى، وأشباراً ضيقة من
بطون الأرض.
_____________________
(1)
النمل: 90.
{
111 }
فمن
العدل أن يستشعر الأحياء نحو أسلافهم
بمشاعر الوفاء والعطف وحسن المكافاة،
وذلك بتنفيذ وصاياهم، وتسديد ديونهم،
وإسداء الخيرات والمبرات اليهم، وطلب
الغفران والرضا والرحمة من اللّه عز وجل
لهم.
قال
الصادق عليه السلام: «إنّ الميّت ليفرح
بالترحم عليه، والاستغفار له، كما يفرح
الحي بالهدية تُهدى اليه».
وقال
عليه السلام: «من عمل من المسلمين عن ميت
عملاً صالحاً، أضعف اللّه له أجره، ونفع
اللّه به الميت»(1).
4
- عدل الحكام:
وحيث
كان الحكام ساسة الرعية، وولاة أمر
الأمة، فهم أجدر الناس بالعدل، وأولاهم
بالتحلي به، وكان عدلهم أسمى مفاهيم
العدل، وأروعها مجالاً وبهاءً، وأبلغها
أثراً في حياة الناس.
بعدلهم
يستتب الأمن، ويسود السلام، ويشيع
الرخاء، وتسعد الرعية.
وبجورهم
تنتكس تلك الفضائل، والأماني الى
نقائضها، وتغدو الأمة آنذاك في قلق وحيرة
وضنك وشقاء.
محاسن
العدل:
فطرت
النفوس السليمة على حب العدل وتعشقه،
وبغض الظلم واستنكاره. وقد أجمع البشر
عبر الحياة، وإختلاف الشرائع والمبادئ،
_____________________
(1)
هذا الخبر وسابقه عن كتاب من لا يحضره
الفقيه للصدوق.
{
112 }
على
تمجيد العدل وتقديسه، والتغني بفضائله
ومآثره، والتفاني في سبيله.
فهو
سرّ حياة الامم، ورمز فضائلها، وقوام
مجدها وسعادتها، وضمان أمنها ورخائها،
وأجل أهدافها وأمانيها في الحياة.
وما
دالت الدول الكبرى، وتلاشت الحضارات
العتيدة، الا بضياع العدل والاستهانة
بمبدئه الأصيل، وقد كان أهل البيت عليهم
السلام المثل الأعلى للعدل، وكانت
أقوالهم وافعالهم دروساً خالدة تنير
للانسانية مناهج العدل والحق والرشاد.
وإليك
نماذج من عدلهم:
قال
سوادة بن قيس للنبي صلى اللّه عليه وآله
في أيام مرضه: يا رسول اللّه إنك لما
اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك
العضباء، وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت
القضيب وأنت تريد الراحلة، فأصاب بطني،
فأمره النبي أن يقتصّ منه، فقال: اكشف لي
عن بطنك يا رسول اللّه فكشف عن بطنه، فقال
سوادة: أتأذن لي أن اضع فمي على بطنك،
فأذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول
اللّه من النار يوم النار. فقال صلى اللّه
عليه وآله: يا سوادة بن قيس اتعفو أم تقتص؟
فقال: بل أعفو يا رسول اللّه. فقال: اللهم
أعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد(1).
وقال
أبو سعيد الخدري: جاء أعرابي الى النبي
صلى اللّه عليه وآله يتقاضاه ديناً كان
عليه، فاشتدّ عليه حتى قال له: أحرّج عليك
_____________________
(1)
سفينة البحار ج 1 ص 671.
{
113 }
|