.

 

المكانة الشعورية للحياة في نفس المؤمن

ذكر الموت والاحساس بالآخرة

الوعي الكوني

(المكانة الشعورية للحياة في نفس المؤمن)

ان اشياء الحياة، وظواهرها، تدرك في شعور المؤمن في سياق مركب شامل يضم اطراف الوجود كله من حيث المبدأ والغاية، والسنن الجارية فيه وفي هذا المركب الشامل الذي يضع المؤمن فيه اشياء الحياة، وظواهرها سوف يعطي كل شيء منها، قيمته الحقيقية فلا (يحقر) ولا (يصم).

وفد نشأ في اطوار الحضارة المادية، وحتى في الحضارة المادية المعاصرة اتجاهان مختلفان، يمثلان الانعكاس الطبيعي للنظرة المادية إلى العالم.

(الأول): الاتجاه القائم على تصنيم ظواهر الحياة وبالخصوص ما يتعلق منها بالهوى، والشهوة ومن هنا اصبحت عبادة الدنيا البديل الطبيعي عن عبادة الله، والتواجد الشعوري للدنيا في نفس الإنسان بديلاً عن التواجد الشعوري لله، وحقائق الوجود الكبرى.

(الثاني): الاتجاه القائم على تحقير الحياة، وتفريغها من أي معنى وهنا يشعر الإنسان بالغربة في هذا الوجود والعبث، والغثيان، والقلق، الخ.

نتيجة لعدم الإيمان بارتباط هذا الكون بمبدأ وغاية وجودية والإنسان المؤمن في ارتباطه بالله عزوجل وتعامله مع العالم من خلال التصور الإسلامي له يضع الاشياء، والحياة في مواضعها الطبيعية ويمنحها القيم التي تستحقها.

فلأنه يدرك ان كل هذه الظواهر الكونية اعراض وجودية – لو صح التعبير – وان الحقيقة الوجودية الكاملة التامة هي الله، والله وحده وان كل ما في الكون يأتي ويروح وكل شيء فان، وان اشياء هذه الحياة من اموال وبنين، ونساء ليس لها قيمة إلا من خلال كونها (نعما) الهية، ووسيلة تحتل في شعوره وتفكيره ما يحتله الله تعالى.

ولأنه يدرك ان هذا الكون هو فعل الله تعالى وان الحياة نعمة من نعمه، هي وما فيها من اشياء، وانها يمكن ان تكون طريقاً، ووسيلة تنتهي به إلى خير دائم.. وسعادة ابدية يغطيها رضوان الله تعالى. فهو لا يمكن بحال أن (يحقر) الحياة أو يتعامل معها – والعياذ بالله – كعبث لا معنى له.

ولأنه يدرك، ويعلم بان هذه الحياة مرحلة من الحياة كلفه الله تعالى فيها، واختبره واستخلفه للقيام بدور معين ونمط معين من السلوك، والاعتقاد فهي ليست لديه تحللا من القيم، وانهماكاً في اللذات وركضاً وراء الشهوة، والاهواء.

وهكذا فان لدى المؤمن ثلاثة احساسات تجاه الحياة:

1 – الاحساس بهذه الحياة كـ (نعمة الهية) فقط، وانما إلى الانفتاح النفسي على الحياة، والتجاوب الشعوري معها ايضاً وبعض الناس ينظرون إلى النعم الالهية من مال وبنين ونساء.. بنظرة شؤم، وتطير.. لانها في اعتقاده هي مصائد الشيطان، وحبائل مكره، وخدعه، وهذا خطأ.. فان اشياء هذه الحياة نعم الله.. وخيره، وبركاته، وتفضلاته على الناس.. وحبائل الشيطان، وخدعه ليست هذه الاشياء بذاتها.. وانما هي اهواء النفس المرتبطة والمتعلقة بها.

2 – الاحساس بهذه الحياة كمرحلة عابرة في مسيرة الحياة تمهد إلى حياة دائمة خالدة، والاحساس بقصر مدتها وحركة احداثها، وعدم استقرارها لاحد.. وهي بهذا تسمى (دنيا) لانها أدنى من ان تمتلك قلب المؤمن أو تكون محطاً لعبادته، وهواه.

وتربية هذا الاحساس من أهم ما حاوله القرآن الكريم والهداة المعصومون (ع) باعتباره من قمم الاحساسات والمشاعر الإيمانية التي بتميز بها الإنسان المؤمن..

(ارضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل)[1]

(انما مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس، والانعام، حتى إذا اخذت الارض زخرفها، وازينت، وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلاً، أو نهار، فجعلناها حصيداً كألم لم تغن بالامس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون)[2]

(وفرحوا بالحياة الدنيا، واما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع)[3]

(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض، فاصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا، المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيراً املا)[4]

(وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)[5]

وهناك آيات كثيرة تؤكد هذا المعنى، وهناك عدد هائل من النصوص الواردة في تصوير عرضية الحياة الدنيا وزوالها.. وكونها منطقة عبور، وممرللآخرة، ومرحلة تمهيدية لها.. والغرض من هذا ليس (تفهيم) المسلمين هذه القضية الواضحة لديهم، وانما (تحسيسهم) بذلك وتوعيتهم عليه حتى تكون لديهم (بصيرة) من بصائرهم ورؤية فكرية واضحة لديهم تهديهم الطريق، وتدفعهم إلى العمل.

ان وعي الحياة الدنيا على حقيقتها، والاحساس بنهايتها ومرحليتها هو الطريق الطبيعي لانها حالة الركون إلى الدنيا، والركض وراءها والهم لها.. يضيع الإنسان المؤمن أحياناً في هذه الدنيا.. فتراه يبني له أحلاماً واسعة، يستهدف بها الجاه، والمركز.. والمجد والذكر الحسن عند الناس، وينهمك في هذه الحياة.. فيتصارع مع اخوته على معان زائفة فيها..لماذا؟ لانه يفتقد في هذه اللحظات احاسيس المؤمنين، ومشاعرهم ولا يملك فعلاً وعياً كونياً عاماً يهديه الطريق ويحدد له القيم الكبيرة لمعاني الإيمان، والقيم الصغيرة لتوافه الحياة الدنيا، ومعانيها المبتذلة.

ان مشكلة الإنسان المسلم، وكل إنسان أن يفهم اكثر بكثير مما يعي، ويعيش في مداركه، ومشاعره، ويعي اكثر مما يطبق، وينسجم نفسياً مع ما يعيه، ويشعر به.

ان هذا الوعي بعرضية الحياة الدنيا، ومرحليتها لا يعطي قيمته في مقام العمل الاعتيادي.. وانما ايضاً في مجال المواجهة، والتصدي لاضطهاد الجاهلية وسخرية الناس واستهزائهم، ومن هذا أكد عليه القرآن الكريم في عملية إعداد الرسول (ص) في موارد متعددة.

(واصبر على ما يقولون، واهجرهم هجرا جميلا. وذرني والمكذبين أولي النعمة، ومهلهم قليلا. ان لدينا انكالا، وجحيما، وطعاما ذا غصة، وعذابا اليما)[6]

(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم ماواهم جهنم، وبئس المهاد)[7]

(فاصبر صبراً جميلاً.. انهم يرونه بعيداً. ونراه قريباً. يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن. ولا يسأل حميم حميماً)[8]

ان تنمية الوعي الكوني، وتوسيع افق المؤمن، واطار تفكيره من أهم ما يعتني به القرآن الكريم.. وذلك ان شخصية الإنسان تنمو بمقدار توسع افاقه، ونمو وعيه الكوني الكلي الشامل، فانت إذا تتحسس الحياة بشمولها وتعي هذه الحياة مرحلة عابرة. وتعيش هذا الوعي فسوف ترى كم يكون الطغيان تافهاً. وكم يكون الطغاة.. صغاراً في الحساب التأريخي، وحساب الحياة في شمولها وسعتها.. وحساب الكون، وخالق الكون.. وسوف تبصر بعينيك القيمة الصغيرة لكل جاهلية، وللجاهلية كلها في حساب الحياة.

3 – الاحساس بالحياة الدنيا على انها دار فتنة، واختبار على انها مرحلة لاختبار الفعالية البشرية، واخلاقية هذا الإنسان في مقام عبوديته، وتعاملة مع الله، ودوره في هذه الحياة.

(الذي خلق الموت، والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا، وهو العزيز الغفور)[9]

(وان اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب، ولا عمل)

 

(ذكر الموت والاحساس بالآخرة)

ولا تنفصل عملية الاحساس بمرحلية الحياة الدنيا وعرضيتها عن الاحساس بالموت، واليوم الآخر.. ويمكن ان نعد كل هذه الاحساسيس احساساً واحداً.. بنظرة إلى الحياة نظرة شاملة ويعيشها بشمولها هذا الذي يستوعب الحياة الدنيا، ومرحلة الانتقال، والمرحلة الاخيرة الابدية.

وقد حفل نهج البلاغة بالوعظ، والتذكير بحقيقة الدنيا والموت، والآخرة، لان عصر الامام (ع) كان يعيش طغيان الروح الدنيوية والركون إلى الحياة الدنيا، وكانت المهمات التي اناطها (ع) بالامة آنذاك مع ظروفها النفسية، وحديته في تطبيق الإسلام بصورته الأصيلة تستدعي الكثير من الوعظ والتذكير.. هذا كله مضافاً إلى انه (ع) كان بصدد بناء الشخصية الإسلامية الذاكرة والمذكرة في الخضم المتلاطم من المسلمين الذين لم يحسن تربيتهم احد:

كان (ع) يقول:-

(واوصيكم بذكر الموت، واقلال الغفلة عنه، وكيف غفلتكم عما ليس يغفلكم؟ وطمعكم فيمن ليس يمهلكم، فكفى واعضاً بموتى عاينتموهم حملوا إلى قبورهم غير راكبين وانزلوا فيها غير نازلين، فسابقوا – رحمكم الله – إلى منازلكم التي امرتم ان تعمروها، والتي رغبتم فيها ودعيتم اليها، واستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته والمجانبة لمعصيته فأن غدا من اليوم قريب ما اسرع الساعات في اليوم، وما أسرع الأيام في الشهر، وما أسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر)[10]

(واحذركم الدنيا فانها منزل قلعة، وليست بدار نجعة قد تزينت بغرورها وغرت بزينتها دار هانت على ربها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرها، لم يصفها الله تعالى لأوليائه، ولم يضن بها على اعدائه، خيرها زهيد، وشرعا عتيد.. واسمعوا دعوة الموت وآذانكم قبل ان يدعى بكم أن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم، وان ضحكوا، ويشتد حزنهم، وان فرحوا ويكثر مقتهم انفسهم وان اغتبطوا بما رزقوا قد غاب قلوبهم ذكر الاجال، وحضرتكم كواذب الامال، فصارت الدنيا املك بكم من الآخرة، والعاجلة اذهب بكم من الآجلة)[11]

وفي كلام طويل عن وصف المتقين، يقول (ع):

(اما الليل فصافون اقدامهم، تالين لاجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا.. فإذا مروا باية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا انها نصب اعينهم، واذا مروا بآية فيها تخويف اصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا ان زفير جهنم، وشهيقها في اصول اذانهم)[12]

 

(الوعي الكوني):

الى الآن تحدثنا عن الوعي الكوني في شخصية الإنسان المسلم، ويتمثل في الاحساس بوجود الله تعالى، وارتباط الاحداث، والاشياء به وتذكره، ومعايشته الشعورية، وفي الادراك – بوعي – لمرحلية هذه الحياة، والاحساس بالموت.

(انك ميت وانهم ميتون) وبالحياة الأخرى.

ونستدرك هنا ونضيف الاحساس بحكمة الحياة والتقدير الشامل في الوجود، والاحساس بهذين الامرين (التقدير، الحكمة) دور حياتي مهم قد تأتي الاشارة إليه فيما بعد  عند الحديث عن الرضا بالقضاء، والقدر.

وقد قلنا سابقاً، ان كل إنسان مسلم يؤمن بهذه الامور، ويفهمها، ومهمة الإعداد الروحي الذي يهدف إلى بناء الشخصية الإسلامية التي لا يكفي فيها ان تفهم وتؤمن بهذه الاشياء وانما هو (تحسيس) المسلم بهذه الاشياء وتوعيته الوجودية.. التي يوسع من خلالها افقه، ويرتبط بالله تعالى، وينمي من شخصيته باتجاه النصح، وامتلاك النفس امام صغائر الامور، وتفاهات الحياة الدنيا، وخلق حالة الطمأنينة النفسية، والاستقرار الانفعالي، وغير ذلك من الامور، والمعاني النفسية: التي لا يمكن بناؤها، وتربيتها إلا من خلال التوعية الوجودية، والتحسيس بالحقائق الوجودية الكبرى التي تدرك الشخصية الإسلامية من خلال ادراكها والتحسس بهذه الاشياء في اطار شامل، ونظرة كليه وتعيها في سياقها الوجودي، وارتباطاته الكونية الثابتة.

و(التوعية) الوجودية في المنطق التربوي الإسلامي هي منطلق التغيير ومبتدأه الاساسي، الذي يقوم عليه التغير الإسلامي، والتربية الإسلامية. والتربية التي تنطلق من التوعية على الله. وتقديره، وحكمته والتحسيس بالحياة نعمها، وفتنها، والمسؤولية فيها، وبالآخرة نعيمها، وعذابها وغير ذلك من عناصر الوعي الكوني الإسلامي، هي التربية السليمة الامنية التي لا يخشى من نتائجها ولآثارها لا من الناحية الدينية، ولا من الناحية النفسية، ولا من الناحية الجهادية.

ونشير اخيراً إلى ان التيارات المعاصرة الممثلة للحضارة الغربية، وقيمها يتوزعهما اتجاهان كل منهما يتناقض مع التربية الإسلامية ذلك ان احدهما يقوم على أساس اهمال التوعية الوجودية، أو التحسيس الكوني الشامل مدعوماً باتجاه فلسفي، وضعي، يميل إلى التعرف على المعاني الكلية الشاملة، ويقصر دور الإنسان المعرفي والادراك البشري في حدود الجزئي والواقع ان هذا الاتجاه الفلسفي (اتجاه الوضعية والوضعية المنطقية) اتجاه مرفوض من الزاوية المنطقية وفهما اجتماعياً باعتباره اتجاهاً فكرياً،يقصد من ورائه تثبيت الواقع الغربي الراهن، وتجميد قوة الرفض، والثورة التي لا يمكن ان تقوم إلا على أساس فكرة شاملة تخرج من الاطار الضيق للجزئيات، والوقائع الحياتيه الحاضرة بحيث تحدد الممكن والضروري.. والسليم من وجهة نظر السياق العام للتاريخ، والطبيعة، والمنطق الاخلاقي، وهي معاني مستحيلة من وجهة النظر الوضعية.

والاتجاه الآخر يقوم على أساس التوعية الالحادية.. في:

1 – انكار وجود الاله الحكيم.

2 – وقصر الحياة الكائن الإنساني في حدود هذه التجربة الضيقة من الحياة.. وهي توعية لا تفرق – من حيث الاثار السلبية – عن التوعية الأولى القائمة على أساس تحديد الافق البشري داخل الاطار الحسي، والجزئي، أن لم تزد عليها في السلبيات.

ونحن هنا لانريد ان ندرس الاتجاهات التربوية المعاصرة، بل ولا حتى الاتجاه التربوي الإسلامي من الزاوية العلمية.. لان اسلوب هذا البحث وهدفه ينحصران داخل الاطار العملي ولا يتصلان بحال بالابحاث العلمية والجوانب النظرية.. وانما يهم هنا ان نشير إلى طابع (التجاوز) تجاوز الاطر الحسية، والجزئية، الذي يتمثل بالتوعية الإسلامية الوجودية حيث يستعلي الإنسان المسلم على هذه الاطر، ويتعامل مع الكائن الوجودي المحض الذي يميزه عن عرض المادة، وهيمنة الحس البشري. وهو يحقق بذلك مرحلة جديدة للإنسان ترك وراءه كل المراحل ضيقة الافق، محدودة الشعور. وفي طابع (التجاوز) على الاطر الحسية، و (الشمول)، وادراك الاشياء في سياق كلي، ونظرة شاملة و (المعنى) الذي يضيفه الإسلام على الحياة. والترابطات التي تحكم الاحياء، والاشياء. تلخص سمات الوعي الإسلامي للكون، والحياة وهي سمات ذات اثر خطير على الحياة النفسية للإنسان المسلم. وقد يمكن تلخيصه في الانفتاح على الحياة، وفي عدم تصنيمها وعبادة ما فيها من اشياء، وفي الاستقرار النفسي، وروح الالتزام الاخلاقي التي يبعثها التعامل الشعوري مع الله ذي الاسماء الحسنى وكل سمات الخير، والجمال.


[1]  التوبة/ 38.

[2]  يونس/ 24.

[3]  الرعد/ 36.

[4]  الكهف/ 4546.

[5]  العنكبوت/ 46.

[6]  المزمل 1013

[7]  آل عمران 196 – 197

[8]  المعارج 510

[9]  سورة الملك 2

[10]  نهج البلاغة نص رقم /118.

[11]  نفس المصدر نفس رقم/115.

[12]  نفس المصدر السابق نص رقم/193.