.

 

الصبر

الصبر عند البلاء

الصبر عند الأهواء

أ ـ الصبر على العبادة

ب ـ الصبر الأخلاقي

ج ـ الصبر على الكتمان

د ـ الصبر على الاستقامة الفكرية

هـ ـ الصبر على الاستمرار والفعالية العملية

و ـ الصبر على الاستقامة في خضم العمل الاجتماعي

    الصبر:

الوجه الآخر للارادة الربانية في شخصية المسلم هو الصبر، فانت عندما تقيس الارادة الربانية من حيث نتائجها العملية إلى الشريعة.. تكون بذلك طاعة، والتزاماً، وعندما تنظر إليها باعتبار مواجهتها للاهواء النفسية، ودوافع الانحراف، والتثبيط تكون صبراً، وعندما تنظر اليهما باعتبار دافعها الرباني وهدف التقرب إلى الله تكون (اخلاصاً) حسبما مر معنا سابقاً.

وقصة الصبر معنا هي قصة المفاهيم الإسلامية الممسوخة والمشوهة في الذهنية العامة للمسلمين..تلك المفاهيم الدافعة.. والمحركة.. المفاهيم التي كانت يوماً وقود الثورة الإسلامية الذي لا يستهلك، واداة تجاوز الإنسان لصغاره.. واهوائه قليلة الشأن.. ورياضة روحية تنشط الارادة، وتبني استقلال شخصية الإنسان المسلم.

فاصبح الصبر – وهو واحد من هذه المفاهيم – أداة تخديرية.. اصبح (صبراً على الانحراف بعد ان كان صبراً على مواجهة الانحراف، والمنحرفين، وبعد أن كان صبراً على الثبات على طريق ذات الشوكة، وتحمل الامانة، والالتزام بدين الله في احرج اللحظات واقسى الظروف، اصبح صبراً على (التنصل) عن الالتزامات المبدئية في هذا الدين، وعلى مواجهة الضمير الديني الحي الذي ينبض بشييء من الحياة..
وليس التوكل.. بعيداً عنا.. التوكل الذي كان عوناً للمقاتل في الساحة، وللمجاهد في مراحل الصراع، واداة للاستهانة بقدرات العدو الكافر، والثقة بالنفس.. اصبح هذا المفهوم الرائد.. والبعد الأصيل في شخصية المسلم.. اتكالاً مريضاً، وتفويضاً، وتكاسلاً من تحمل اعباء المسيرة، والزهد الذي يمثل قمة التحرر، والانعتاق، وتجاوز الاهواء والشهوات والتحرر الداخلي الحقيقي للإنسان، اصبح كلمة ذليلة حتى في اسماع بعض المسلمين المؤمنين نتيجة لما قرنت به من الممارسات الشاذة، والوان القطيعة الاجتماعية، والهروب عن الحياة.

وهكذا دائماً يغير الإنسان المفاهيم التي جاءت لتغيير وينزل بها إلى الحضيض، بدلاً من ان يرقى معها إلى الكمال.. فليس من الهين، والسهل ان يرقى الإنسان، وانما التصاعد معاناة، وزهد، ومرارة.. ومن اجل ان يبقى في حالته المريحة هذه فعليه – حتى يريح ذاته من الشعور بالانفصام بين الفكر، والسلوك – أن يحرف مفاهيمه الثورية وان يسحبها إلى وراء، بدلاً من ان يتقدم معها إلى الامام.. هذه هي خلاصة التحريف الاجتماعي لتوضيح مفاهيمنا لا إلى عقلية الانحراف والتخلف والتحلل.

والصبر في مفهومه الإسلامي الأصيل تمرد الارادة المسلمة على اهواء النفس، وشهواتها..التي تهدف إلى اخلاد الإنسان إلى الارض.. وهو امتلاك النفس، وحبسها على الخط المستقيم، في موجهة حازمة للضغوط الخارجية والداخلية على السواء.. انه الصبر على الالتزام المر بقيم هذا الدين.. في مواجهة قوى الضغط في الداخل، والخارج، وليس هو الصبر على الخلود إلى الطين.. في مواجهة الضمير الديني، وقوى الخير النابضة للحياة في النفس البشرية.. وهو الصبر على تحمل مشاق الطريق، واعباء المسيرة، واجتناء الآلام، والغربة والعذاب في سبيل الله، تحقيقاً للارادة الربانية، وتمثلها في النفس، والسلوك.. وليس الصبر على الانحراف والمنكرات، والمحارم تحقيقاً لقيم الكسل والرخاء، والامن والراحة.. في دنيا مليئة بالمتاعب، والمكاره، واشكال الآلام والهموم.

وعلى هذا الاساس اصبح الصبر ركناً ركيناً من الإيمان.

(الصبر رأس الإيمان)، (الصبر من الإيمان، بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان)، (ولا إيمان لمن لا صبر له)، (الجنة محفوفة بالمكاره، والصبر، فمن صبر على المكاره والدنيا دخل الجنة)

 

الصبر عند البلاء:

النوازل والمكاره، وشظف العيش، وفقدان الاعزة، والاحبة، والغربة بين الناس.. هذه وامثالها يتعرض لها المؤمنون في كل مكان.. وخصوصاً المجاهدون في الله منهم كضريبة لصراعهم مع الكفر، ومواجهتهم للجاهلية في كل زمان ومكان وعلى كل المستويات..وكتدخل الهي اريد به تمييز الصادق من الكاذب، وتمحيص الفئة المجاهدة، وإعدادها وتعميقها.. لتكون حلقة ربانية ضمن حلقات مسلسل الهدى الالهي، الذي سوف ينتهي لا محاله إلى بسط الحق، والعدل وانتشار القسط، والخير بعد ان ملئت الارض ظلماً وجوراً، وعانت البشرية من آلام الصراع بين الهدى، والضلال.. وقد جعل الله سبحانه البلاء، والآلام، والمكاره في صلب تخطيطه للحياة، وفي صلب تخطيطه للدعوة والدعاة.. كما يوضح ذلك كل عرض مدرسي مبسط لنظرية الفتنة في القرآن الكريم..
هذه المصائب، والآلام المتعددة في الحياة فتنة للإنسان المسلم يسعد فيها من سعد، ويشقى فيها من يشقى، ويبتعد عن الله.. ويعكس لنا (النص الإسلامي) هاتين الاستجابتين المختلفتين للاصابة بالبلاء..
1 – (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا)[1]، (ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين)[2] (وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه)[3]، (وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون)[4] (وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فان الإنسان كفور)[5] وهكذا فان (التزلزل) و (الارتداد) و (التطير) و (القنوط) و (كفران نعمة الله) هي النتائج السلبية التي يصل إليها بعض الناس من خلال فتنة البلاء، والمصيبة..

2 – واما المؤمنون فلهم شأن اخر من البلاء.. إذ تشخذ فيهم النوازل الشعور بالحاجة إلى الله، والتوجه إليه وتزيدهم ثباتاً، وصلابة، وعناداً في الحق، ويجدون الصبر والشكر لله، ويعيدون تقييم ذواتهم، واختبارها..

(الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه ارجعون)[6]، (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم)[7]

(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فيما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا)[8]

(الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والصابرين على ما اصابهم)[9]، (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)[10]

(والصابرين في البأساء وحين البأس)[11]، (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا)[12] ، (فاخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون)[13]

وهكذا فالمؤمن عند المصيبة، والبلاء يراجع تصوراته الكونية ووعيه الكوني للحياة، ولا يحزن، ولايهن، ولا يضعف، ولا يستكين، بل على العكس يصبر، وينتصر، ويرضى بقضاء الله، وقدره، ويتضرع إلى الله ويلتجيء إلى الله.. ويزداد إيماناً وثباتاً.

(الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)[14]

بعد هذا ننتقل إلى السنة، وهي تتحدث عن حتمية البلاء، والنوازل بالنسبة إلى المؤمن، وموقفه تجاه النازلة ودرجات المبتلين..

(ان أشد الناس بلاء الانبياء ثم الذين يلونهم ثم الامثل فالامثل)، (ان لله عزوجل في الارض من خالص عباده، ما ينزل من السماء تحفة إلى الارض إلا حرفها عنهم إلى غيرهم ولا بلية إلا حرفها اليهم)، (أن المؤمن يبتلى بكل بلية، ويموت بكل ميتة إلا انه لا يقتل نفسه)، (ان المؤمن من الله عزوجل لبأفضل مكان – يكرر الامام ذلك ثلاثاً – انه ليبتليه بالبلاء، ثم ينزع نفسه عضواً عضواً من جسده، وهو يحمد الله على ذلك)، (ولو يعلم المؤمن ماله من الأجر على المصائب لتمنى انه قرض بالمقاريض)[15]، (أن الحر حر على جميع احواله: ان نابته نائبة صبر لها، وان تداكت عليه المصائب لم تكسره، وان أسر وقهر، واستبدل بالصبر عسراً)، من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة يتبين، ان المؤمن في ايام المحنة، والبلاء، ووقت المكاره، والمصائب.. يتمثل موقفه.. في (الثبات) والاستقامة على الخط الرباني عقيدة وروحاً.. وسلوكاً فلا يتنازل، ولا يستقل منه شيء.

(المؤمن أعز من الجبل، الجبل يستقل منه بالمعاول.. والمؤمن لا يستقل منه شيء)، ولا يتنازل عن جهاده، وعمله في سبيل الله لان. (المؤمن مجاهد.. يجاهد في دولة الحق بالسيف، ويجاهد في دولة الباطل بالتقية)، ولا يعاني من الضعف والتردد والتلكؤ..، (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما اصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا)[16]،  ولا تصدر منه كلمة جزع، أو سخط، ولا يتشكك، ولا يتزلزل.. هذا ما يتمثل موقفه فيه أولاً.. ويتمثل موقفه ثانياً في (الاستزادة) والنمو من خلال المحنة، والبلاء. (الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً)، وهذه زيادة في الإيمان.. وهناك زيادة في اللجوء إلى الله تعالى، والانشداد له.

(فاخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون)، وهناك استبصار للذات واكتشاف لها.. لاحظ قوله تعالى:

(فما وهنوا لما اصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم، إلا أن قالوا، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واسرافنا في أمرنا)، إلى آخر مجالات الاستزادة على المستوى الفردي والجماعي.. والملاحظ – على مستوى النصوص، وعلى المستوى التحليلي – ان كلاً من الثبات، والاستقامة، والاستزادة من الفتنة والبلاء لا يتم إلا من خلال الصبر، والتحكم في الاهواء التي تنزع بالإنسان المؤمن إلى الانحراف، وتطليق الشريعة، والحيود عن الجادة.. لكي يتوافق مع مجتمعه ويبعد عنه شبخ الغربة، ويتخلص من الآلام، والمتاعب والمكاره, واشواك الطريق..

 

الصبر عند الاهواء:

والاهواء لدى الإنسان كثيرة.. منها الأصيل في النفس ومنها المتشكل، والمتفرع عن معان أصيلة.. وهو يعاني منها في اكثر من مجال.. أو في كل مجال من مجالات العمل في سبيل الله.. مع النفس.. ومع الناس، والصبر هو التحكم في هذه الاهواء والسيطرة عليها.. وعلى الانفعالات وعن الامام (ع): (من ملك نفسه إذا رغب، واذا رهب واذا اشتهى، واذا غضب، واذا رضي، حرم الله جسده على النار)، ومن اجل تسهيل البحث، وتوضيح المطلب نصنف الصبر – من زاوية مما يصبر عليه – إلى الصبر في المجال الروحي.. أو العبادة.. والصبر في المجال الاخلاقي بالمعنى الخاص.. والصبر في ميدان العمل لله.. وهداية النفس.. (العمل الاجتماعي).

 

أ – الصبر على العبادة:

قال تعالى: (وأمر اهلك بالصلاة واصطبر عليها)[17]، التقرب إلى الله تعالى جوهر هذا الدين واساسه المتين الذي بنيت عليه انظمته في المجالات كافة.. ويتم التقرب إلى الله تعالى في اوضح صورة عن طريق العبادة الخاصة من الصلاة والذكر، والدعاء، والقرآن الكريم.. وللإنسان من المعوقات عن العبادة – اداء، واستفادة – اهواء كثيرة تضغط عليه، وتحول بينه، وبين ان يؤدي العبادة، او يستفيد.. من قبيل الميل الجنسي في الذهن البشري، والانشداد الخيالي إلى المعاني المادية، وصعوبة التعامل مع الغيب والتعب البدني، والارهاق الناتج عن السعي في سبيل الحياة المادية، والالفة، والعادة التي تمنع من عيش الصلاة عيشاً جديداً منتجاً، والاستشارة الروحية بالاذكار، والدعوات.. والمشاغل النفسية، وهموم الحياة التي تشغل بال الإنسان وهو يؤدي الصلاة لله..

وبسبب هذا كله، وغيره، احتاج المؤمن في اداء العبادة والاكثار منها، وعيشها، والاستفادة منها، ومداومتها إلى تحكم في اهوائه، ودوافعه النفسية المثبطة له عن القيام بحق الله في العبادة، والذكر، والشكر، والى مراجعة مستمرة لمفاهيمه عن الكون، والحياة وتصوراته الأصيلة عن هذا الدين حتى يعيشها احاسيس منشطة، ومحركة، ودافعة لعيش الصلاة، وعيش العبادة.. دروساً روحية، ودورات تربوية، تتم بعين الله، ورعايته، وامامه، تساعد المؤمن على تطهير الذات وتحريرها، والعروج بها في مدارج الرقي الروحي والكمال النفسي.

 

  ب – الصبر الاخلاقي:

1 – الصبر عند الغضب، والغيظ..

(والذين إذا غضبوا هم يغفرون)، (والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس)

 

وفي السنة:

(من كف غضبه ستر الله عورته)، (فيما ناجى الله عزوجل به موسى: يا موسى أمسك غضبك عمن ملكتك عليه اكف عنك غضبي)، (من لم يملك غضبه لم يملك عقله)، (من كف غضبه عن الناس كف الله تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة)، (ما احب ان لي بذل نفسي حمر النعم، وما تجرعت جرعة احب إلى من جرعة غيظ لا اكافي بها صاحبها)، (ما من عبد كظم غيظاً إلا زاده الله عزوجل عزاً في الدنيا والآخرة)
2 – الصبر امام شهوة البطن، والفرج (ما عبد الله بشيء افضل من عفة بطن، وفرج)

3 – الصبر في مواجهة هوى الثرثرة، الكلام الزائد والمحرم.. في الخبر (جاء رجل إلى النبي (ص) فقال يارسول الله اوصنى. قال: احفظ لسانك، قال: يارسول الله اوصني، قال: احفظ لسانك قال: يارسول الله اوصني، قال: احفظ لسانك، ويحك وهي يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)، وفي الخبر عن الرضا (ع):

(من علامات الفقه: الحلم، والعلم، والصمت ان الصمت باب من ابواب الحكمة، ان الصمت يكسب المحبة، أنه دليل على كل خير)

 

ج – الصبر على الكتمان:

يحب الإنسان التظاهر، والثرثرة، والتجريح بالآخرين وكشف عيوبهم، واسرارهم، ويحب ان يكشف حاله ومشاريعه للناس، وبيان كل ما في ذهنه من حقائق وافكار.. ان اللسان.. والتحدث في مالا ينبغي التحدث به محط اهواء كثيرة.. هوى الظهور، والبروز امام الناس بمظهر العارف بهذه الامور.. وهوى الحط من كرامة الآخرين، وتجريحهم.. وهوى الالفة مع الآخرين من خلال طرح كل ما في نفسه.. وضغوط الاصدقاء، والعلاقات بهم ومن هنا، فان الكتمان عنصر يحتاج إلى الصبر، والمعاناة.. ليكون بعد ذلك سجية، وسليقة ككل الموارد التي يصبر عليها الإنسان ابتداء ثم يالفها، ويعتادها، ولا يشعر معها بالكلفة والعناء.

الكتمان ضرورة..
(استعينوا على اموركم بالكتمان)، (وددت اني افتديت خصلتين في الشيعة ببعض لحم ساعدي النزق، وقلة الكتمان)

كما ورد عن علي بن الحسين (ع): الكتمان ضرورة، وواجب في كثير من الاحيان من الزاوية الشرعية لحفط كرامة الآخرين.. وضرورة للحفاظ على النفس.. وضرورة للحفاظ على الآخرين.. وضرورة لنجاح الكثير من المشاريع التي يجب ان لا تسلط عليها الاضواء، والملاحقات من قبل الآخرين، وتدخلاتهم السلبية، وفضول الكثير من الناس.. وفي جل الناس شيء من الفضول..

1 – كتمان عيوب الناس، وسترها.. مما ينبغي، ويجب الصبر عليه لان.

(الغيبة اسرع في دين الرجل المسلم من الاكلة في جوفه)[18]

ولان.

(من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه، وهدم مروءته، ليسقط من أعين الناس اخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان)[19]

ولان الله تعالى يقول:

(ولا يغتب بعضكم بعضا ايحب احدكم ان يأكل لحم اخيه ميتاً فكرهتموه)[20]

وللغيبة موارد ذكر الفقهاء جوازها فيها، ولكنها موارد مستثناة، والاصل في الغيبة الحرمة.. فينبغي التورع من ذكر عيوب الناس، وكشف ما ستره الله تعالى من امراضهم وذنوبهم.. وكثيراً ما ينتهي باحدنا الغيظ، والحقد، والتنافس إلى ذكر مساوىء اخوانه في الله.. وفضحهم بما فيهم وما ليس فيهم.. مما يقطع بين المؤمنين من ولاية.. فان.

(من قال لاخيه المؤمن اف، انقطع ما بينهما من ولاية، ومن قال له: انت عدوي كفر احدهما، ومن اتهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء)

وهكذا الحال في الظنون السيئة والاحتمالات التي لا ينبغي للمؤمن ان يتحقق فيها، ويشيعها إلا عند الضرورة الشرعية لذلك.. واين هذا من واقع التجريح والتشهير، والغيبة، والبهتان، وغير ذلك من المعاني التي يعاني منها واقعنا الاجتماعي..؟!

2 – كتمان اسرار الآخرين التي يخافون كشفها، ويتوقع الضرر الاجتماعي عليه منها، وعدم الاذاعة والثرثرة في هذا الميدان، مما يحتاج، ويجب فيه هو الآخر الصبر والصمت.. فقد وردت النصوص الكثيرة في تحريم الاذاعة، وكشف السر. فعن ابي عبد الله (ع): (ما قتلنا من اذاع حديثنا قتل خطأ، ولكن قتلنا قتل عمد)، (من اذاع علينا حديثنا سلبه الله الإيمان) وعن ابي جعفر (ع): (يحشر العبد، يوم القيامة، وما ندى دماً، فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يارب انك لتعلم انك قبضتني، وما سفكت دماً فيقول: بلى سمعت من فلان رواية كذا، وكذا فرويتها عليه، فنقلت حتى صارت إلى فلان الجبار فقتله) وعن ابي عبدالله (ع): تلا هذه الآية.
(ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)[21]

قال: (والله ما قتلوهم بايديهم ولا ضربوهم باسيافهم، ولكنهم سمعوا احاديثهم فاذاعوها فاخذوا عليها، فقتلوا فصار قتلاً، واعتداء، ومعصية)، وعنه (ع): (من استفتح نهاره باذاعة سرنا، سلط الله عليه حر الحديد وضيق المحابس)

 

د – الصبر على الاستقامة الفكرية:

وعدم المساومة في الافكار، وتقديم التنازلات، والتميعات الفكرية امام ضغوط القيم الاجتماعية، والحضارية والاشكال الاخرى من ضواغط الحياة.

قال الله تعالى: (وان كادوا ليفتنونك عن الذي اوحينا اليك لتفتري علينا غيره، واذا لاتخذوك خليلا.. ولو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيراً)[22]، تتحدث هذه الآيات.. عن محاولة جاهلية لفتن الرسول (ص) عما اوحى إليه من الله تعالى.. او بعض ما اوحى اليه.. ويتلخص هذا العرض في ان يقدم الرسول بعض التنازلات الفكرية للمشركين في مكة، لينضموا إلى صفوف الدعوة..

(لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى.. منها: مساومتهم له ان يعبدوا الهه، في مقابل ان يترك التنديد بالهتهم، وما كان عليه اباؤهم.. ومنها مساومة بعضهم له ان يجعل ارضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله، ومنها طلب بعض الكبراء، ان يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء)..

(هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله، هي محاولات اصحاب السلطان مع اصحاب الدعوات دائماً محاولة اغرائهم – لينحرفوا – ولو قليلاً – عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة.. ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لانه يرى الأمر هينا، فاصحاب السلطان لا يطلبون إليه ان يترك دعوته كلية، انما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور ان خير الدعوة في كسب اصحاب السلطان اليها، ولو بالتنازل عن جانب منها ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها، ولو يسير، وفي اغفال طرف منها، ولو ضئيل، لا يملك ان يقف عندما سلم به أول مرة، لان استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء)..

(والتسليم في جانب، ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب اصحاب السلطان إلى صفها: هو هزيمة روحية بالاعتماد على اصحاب السلطان في نصرة الدعوة، والله وحده الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في اعماق السريرة فلن تنقلب الهزيمة نصراً)..

(لذلك امتّن الله على رسوله (ص) ان ثبته على ما اوحى الله، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه الركون اليهم، ولو قليلاً، ورحمة من عاقبة هذا الركون، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين، والنصير)[23]

وتنشأ المساومة الفكرية والتنازلات الفكرية من مناشيء مختلفة اهمها اثنان:

1 – التعجيل بتقدم الدعوة، ونمو العمل في الوسط الاجتماعي.. وهنا يتم التنازل عن بعض افكار الرسالة الأصيلة لعدم تقبل الناس لهذه الافكار، ورفضهم لها، حتى تتقدم الدعوة بشكل عام، وان كان على حساب التفأصيل وبعض الاجزاء منها.. ومن هذا القبيل التنازلات الفكرية الكبيرة التي قدمتها الاحزاب الشيوعية الاوربية بعد ان وقف نموها، وتجمدت فعاليتها في المجتمعات الغربية ذات التقاليد الفكرية الخاصة.

2 – تأثر اصحاب الدعوة بالقيم الحضارية والفكرية للمجتمع الذي ينوون تغييره.. وذلك لانهم ابناء هذا المجتمع يؤثر فيهم من حيث يشعرون، أو لا يشعرون عن طريق الايحاء الاجتماعي، والبنية الفكرية، ويغلب هنا الارتباط الحضاري، والاجتماعي عند هؤلاء على الارتباط المبدئي، والرسالي فيطمسون بعض معالم رسالتهم بسبب انتمائهم الجزئي إلى حضارة مختلفة.

ومن هنا احتاج المؤمنون الرساليون إلى (ملكة صبر) عالية يواجهون بها الضغوط السياسية، والاجتماعية، وضغوط التعجل والترف في داخلهم.. التي تعمل على تمييع شخصيتهم الفكرية، واحتوائهم فكرياً، والى انشداد خاص بالله تعالى.. ينمي فيهم الاستقلال عن الجو المنحرف ويصعد من درجة تحكمهم بعواطفهم، وانفعالاتهم الانية، ومن هنا أمر الله تعالى رسول (ص) – بعد ان ذكر العرض الجاهلي – بالصلاة.

(اقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، وقرآن، الفجر ان قرآن الفجر كان مشهودا، ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى ان يبعثك ربك مقاما محمودا)[24]

 

هـ – الصبر على الاستمرار، والفعاليةالعملية:

ان (خوف) الإنسان من مخاطر الطريق، و (شعوره بالغربة) في مجتمع يتناقض مع افكاره، ومبادئه، و (ملله) من العمل و (الفتنه) له، وكذلك (انشغاله) النفسي بالدنيا من جاه، ومال، وملذات، و (تزلزل) ثقته بالصف، و (وساوسه) الشيطانية في الداخل و (ازدراء) اعين الناس له، ولمن يقوم معه، و (روح الفردية) وحبه الاستقلال، هذه كلها وغيرها عوامل تحول.. او تثبط او تضعف من الروح العملية من الاستمرار على خط العمل لله تعالى، والفعالية والنشاط عن المواصلة.. ومن هنا احتاج المؤمن كذلك ليحفظ استقامته على خط العمل، وفعاليته فيه إلى ملكة صبر يواجه بها اهواء الانفصال، والبرود في العطاء..

 

و – الصبر على الاستقامة في خضم العمل الاجتماعي

تعتمد الروح العملية والنشاط الاجتماعي في الاساس على سرعة المبادرة، وسرعة الحركة، والاداء.. على السرعة في تقييم الناس.. وتقديم الافكار، وتصحيحها، والسرعة في اعطاء الصلاحيات.. الخ والإنسان عندئذ في هذه الحركة السريعة قد لا يحفظ انضباطه الشرعي، ويتقيد بحدود الإسلام فيكون امره عليه غمة.. ويدخل في الانحراف من حيث هو يعمل للقضاء عليه..

الإنسان العامل في الحقل الاجتماعي معرض اكثر من غيره.. إلى الوقوع في خطيئة (التضليل) وتربية الناس على الافكار المنحرفة التي دخلت حوزته نتيجة للتعجل في تقديم الافكار، وتربية الآخرين.. وهو معرض اكثر من غيره للوقوع في خطيئة (ظلم) الناس، واتهامهم، وتجريحهم وذكر ما ليس فيهم من العيوب، وهدر كرامتهم.. وهو معرض اكثر من غيره إلى اعطاء الصلاحيات لغير اهلها، ووضع الشيء في غير موضعه..

ولعل من اصعب الاشياء في ميدان العمل الاجتماعي هو الموازنة بين الانضباط الشرعي من جهة، وبين الروح العملية، والفعالية الاجتماعية من جهة اخرى.. ولهذا ينبغي للإنسان المؤمن ان يعاني في هذا الميدان، ويكتوي بنار هذه المعاناة.. ويجاهد في الله.. نفسه حتى يهديه الله تعالى سبله، ويجعل الاستقامة، والفعالية سليقة، وطبعاً له لا يجد حرجاً، ولا صعوبة فيه.. والله تعالى مع المحسنين.


[1]  سورة آل عمران/165.

[2]  سورة الحج/11.

[3]  سورة الاعراف/131.

[4]  سورة الروم/36.

[5]  سورة الشورى/48.

[6]  سورة البقرة/156.

[7]  سورة آل عمران/153.

[8]  سورة آل عمران/146.

[9]  سورة الحج/35.

[10]  سورة الشورى/26.

[11]  سورة البقرة/177.

[12]  سورة التوبة/51.

[13]  سورة الانعام/42.

[14]  سورة آل عمران/173.

[15]  اصول الكافي ج2 باب ابتلاء المؤمنين.

[16]  سورة آل عمران/146

[17]  سورة طه/132

[18]  اصول الكافي ج2 ص 357 – 358.

[19]  اصول الكافي ج2 ص 357 – 358.

[20]  سورة الحجرات/12.

[21]  سورة البقرة/61.

[22]  سورة الاسراء 73، 74، 75

[23]  في ظلال القرآن الشهيد سيد قطب م 5 ص 351 وما بعدها

[24]  سورة الاسراء/79