.

 

الاستقامة والفكر التبريري

أ ـ تحول الولاء إلى إداة تبرير

ب ـ الفهم الاجتماعي والسياسي للدين

ج ـ الجبر والارجاء

د ـ التشكيك بالحكم الشرعي واستصغار الذنب

 

الاستقامة والفكر التبريري:

عرفنا ان الاستقامة من صلب الإيمان، وانها شرط أساسي في الشخصية الإسلامية.. وهذا أمر واضح من خلال الكتاب الكريم والسنة المطهرة.. وطبيعة الرسالات السماوية لم تتنزل لتصحيح الاعتقادات فقط، وانما لبناء الإنسان وتغيير السلوك، واختطاط نهج خاص للسلوك الفردي والاجتماعي في حياة الإنسان، والتركيز على مجموعة من القيم الاخلاقية.

ويعبر ذلك عن مشروع رباني لصياغة إنسان جديد إنسان رباني في فكره وروحه وقيمه النفسية وفي سلوكه الشخصي، وتعامله مع الناس، والصعود بالإنسان إلى مستوى بنائي متميز، وشخصية فريدة تمشي بين الناس بنور الهدى الالهي.. وعلى السبيل الذي حدده الله لهذا الإنسان.. ومن الواضح ان هذا المشروع التغييري الذي تبنته رسالات السماء لم يفرض على الإنسان فرض الحاء، والا لاهتدى الناس جميعاً.. وانما اريد له أن يتم من خلال الإنسان، وفعاليته، وارادته.. وان كان برعاية الله، وهداية الله. ومن الواضح إلى جانب ذلك ان للإنسان اهواءه، وشهواته، وميوله النفسية التي تتعارض مع الصيغة الربانية المقترحة.. وأنه ليس من السهل للإنسان ان ينسجم مع هذه الصيغة إلا من خلال الصبر، والمعاناة، والمجاهدة النفسية، وترويض النفس.

وكان الناس امام هذا المشروع التغييري الجبار القائم في الاساس على عبودية الله، وتحرير النفس من الاهواء والالتزام بالعدل، والمصالح النوعية للناس على ثلاثة اصناف: صنف رفض الإيمان، والالتزام المبدئي بالرسالات السماوية وركن إلى مجاميع متعددة من تسويلات الشيطان، وخدعه.. وصنف ثان رحب بالصيغة الربانية، وآمن بها، وتعاطف معها والتزم بها التزاماً جدياً، وتصاعد بها إلى المستوى الإنساني المطلوب، والشكل الرباني المقترح للإنسان.. واكثر الناس آمنوا بالانبياء، ورسالاتهم، وعاشوهم في جزء، واخر من شخصياتهم.. إلا انهم لم يرتفعوا بها، ولم يتصاعدوا من خلالها، ولم يلتزموا بها الالتزام الضروري ويعاني باستمرار في سبيل الطاعة، والالتزام، ويتوافق، ولو على حساب ميوله، واهوائه مع ارادة الله.

والناس هؤلاء يعيش الإيمان في ذواتهم، وينبض ضميرهم الديني بالحركة، ويدعوهم باستمرار إلى العمل، والانسجام مع الدين ومن هنا ينشأ صراع داخلي بين القوى الدينية في النفس، القوى الخيرة التي تدعو إلى التعالي الاخلاقي والالتزام الديني، وبين القوى الشهوية، والاهواء، والميول الشخصية، من جنس وعدوان، وامن الخ. وهو صراع _ ككل صراع نفسي – بغيض للنفس البشرية تحاول بشتى الاساليب ان تتخلص منه، وان تجد له (حلاً).. تتوافق به القوى النفسية، وتنسجم في عملها واتجاهاتها.

والفكر التبريري هو ابسط الاساليب، واشملها في حل الصراعات الداخلية بين القوى الاخلاقية، والقوى الغريزية الشهوية، والميول، والاهواء.. ومن هنا يحاول الإنسان دائماً ان يخدع ضميره الاخلاقي، ليمارس شهواته واهواءه براحة بال..

والمعنى السائد في الفكر التبريري، الذي يحاول التغطية على الانحراف، والتوفيق بين الاوضاع المنحرفة المائعة، وبين الدين هو (تغيير الرسالة)، وتحريفها لتنسجم مع واقع الانحراف، والانحلال.. ومن خلال الفكر التبريري هذا يغير الإنسان الرسالة السماوية، ويحرفها، بدلاً عن ان يتغير بها.. ويشوهها.. وينزل بها إلى واقعه، بدلاً عن ان يصعد بها ويتنمى.

ونستعرض هنا ألواناً من الفكر التبريري لتغطية الانحراف.. والخروج عن الاستقامة الشرعية، وطاعة الله سبحانه، مستخلصة من واقع الحياة الدينية للمسلم المعاصر.

 

أ– تحول الولاء إلى أداة تبرير:

كان التشيع.. في ايامه الأولى رسالة تغييرية، واصلاحية كبرى في جسم العالم الإسلامي تستهدف الالتزام المر بقيم هذا الدين، والقضاء على كل التميعات، والانحرافات التي تولدت في المجتمع الإسلامي نتيجة لاختلاط الحضارات، وفقدان القادة المبدئيين، وكان التشيع حركة وعي ملتزمة.. متمحورة حول قيادات إسلامية نقية تشع على اتباعها التعبد، والزهد، والقيم، والالتزام.. (وما كانوا (الشيعة)) يعرفون ياجابر إلا بالتواضع، والتخشع، والامانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء، وأهل المسكنة، والغارمين، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الالسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الاشياء[1]

(ان شيعة علي كانوا خمص البطون، ذبل الشفاه، أهل رأفة، وعلم، وحلم، يعرفون بالرهبانية)[2]

والذي يبدو انه حدث تغير اجتماعي في هذا الاتجاه زمن الامام الباقر (ع).. اوبدأ واضحاً في ذلك الوقت.. إذ تكونت في الذهنية الشيعية مفاهيم، وافكار تبريرية تغطي على الانحراف، وتستوعبه.. كمفهوم الشفاعة في صيغته المحرفة ومفهوم انه لا معصية مع حب أهل البيت (ع) وقد يكون ذلك نتيجة للانعطاف الجماهيري على التشيع بعد مقتل الحسين (ع).. ونتيجة لظهور التيارات الغالية في الصف الشيعي.. وسوء فهم كلمات أهل البيت الواردة في تأثير منزلتهم.. ولا زالت هذه الافكار تعيش في ذهن الإنسان المسلم إلى اليوم تكرس من بعده عن الشريعة وتحلله من الالتزامات الدينية.

وقد واجه الائمة (ع) هذا التيار الذي يحاول تحريف التشيع، وتحويله من نقائه، وصفائه، واصالته الإسلامية والتزاماته الحدية، إلى فكر يقدم التنازلات تلو التنازلات لواقع الانحراف، وسلوك التحلل، والتميع، ما امامي من نصوص عنهم (ع) في شجب هذه الظاهرة اكثرها عن الامام الباقر (ع) وهو أمر قد تكون له دلالته التاريخية، عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر (ع) قال: (لا تذهب بكم المذاهب فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عزوجل)

وعن جابر عن ابي جعفر (ع) قال لي: (ياجابر أيكتفي من ينتحل التشيع، ان يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله، واطاعه.. ياجابر لا تذهبن بك المذاهب حسب الرجل ان يقول: احب علياً، واتولاه ثم لا يكونن مع ذلك فعالاً، فلو قال اني احب رسول الله (ص) فرسول الله خير من علي (ع)، ثم لا يتبع سيرته، ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه اياه شيئا فاتقوا الله، واعلموا لما عن الله ليس بين الله، وبين احد قرابة، احب العباد إلى الله عزوجل (واكرمهم عليه) اتقاهم، واعملهم بطاعته.. ومن كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل، والورع)

وهكذا فان (الحب) لاهل البيت (ع) وتوليهم ليس تعويضاً، أو بديلاً عن الطاعة، والالتزام – كما تفهمه الاجيال المتخلفة – وانما هو طريق اليها، وتأكيد عليها من خلال تجسيد القدوة الحية.. والقيادة المعصومة، والإيمان بها ومتابعتها، والاقتداء بها.

(الا وان لكل مأموم امام يقتدي به ويستضيء، بنور علمه، إلا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، إلا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن اعينوني بورع، واجتهاد، وعفة، وسداد)

 

ب – الفهم الاجتماعي والسياسي للدين:

والإسلام كما نعرف رسالة شاملة.. فيها التعاليم الاجتماعية إلى جانب النظام السياسي والنظام الاقتصادي والتربوي.. الخ، ولكن في جوهره، وروحه استسلام لله تعالى، وعبودية كاملة له.

(ان الإسلام هم التسليم، والتسليم هو اليقين)

والإنسان المسلم هو الإنسان الذي يلتزمه باحكام الله، ويتورع عن محارمه.. مهما بدت، وفي أي مجال شرعت من مجالات الحياة.. غير ان الكثيرين ممن يعيشون في هذا العصر – ومن اجل التوفيق بين انتمائهم التقليدي للدين من جهة، وبين التسيب السلوكي عندهم وتأثرهم بالمضمون الحضاري الغربي – يفهمون جوهر الإسلام في مجموعة من التعاليم الاجتماعية، والاخلاقية، وفي الالتزام السياسي بقضيته، واما الجوانب الفردية فهي موضع اهمال، وتجاوز، لانها لا تتناسب مع السياق العام الذي يبدو لهم الإسلام فيه.. وهؤلاء – في واقع الأمر – ياخذون من الإسلام.. ولا يأخذون بالإسلام منهجاً كاملاً للحياة.. ان الإسلام في جوهره فتنة لهذا الإنسان، واختبار لحس العبودية لله عنده، ووسيلة لاظهار المضمون الاخلاقي الديني في شخصيته.. وهو لهذا شامل التشريع، واسع المجالات، فيه التعليم الاجتماعي إلى جانب النهج السياسي، والنهج التربوي الروحي، والنظام الاخلاقي، والاحكام التي لا نعرف لها سراً، ولا حكمة.. والاحكام التي اريد بها اختبارنا، وفتنتنا.. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينه، ونحن ملزمون في كل ذلك محاسبون عليه مسؤولون عنه.

فليس الإسلام، اذن جميعة سياسية لاتجد فيها سوى الفكر الاجتماعي السياسي، والالتزامات السياسية والتنظيمية، وانما هو أولاً (دين) وعبودية خالصة لله.. وهو بعد ذلك كل شيء.. سياسة، واقتصاد، واجتماع، وتربية..و.. والمنطلق الاساسي للتربية، والبناء هو الالتزام بكل شيء في هذا الدين عرفنا حكمته أو جهلناها، وسبحان الله.. قال الإنسان للإنسان: نفذ ثم ناقش، وقبل منه ذلك عن طواعية، واختيار.. وقال الله للإنسان لا تأكل من هذه الشجرة وقدم له حيثيات الامر، والحكم ولكنه ناقش، وتفلسف، وعصى.. فخرج من الجنة، يعيش الهموم، والآلام.. وهذه عبرة من عبر قصة آدم (ع):

 

 ج – الجبر والارجاء:

مذهب الجبر، هو المذهب القائل بان الفعل الإنساني في مجال الطاعة والمعصية وغيرهما هو – في حقيقته – فعل الله تعالى الواقع بمشيئة الازلية.. واما العبد فلا اختيار له.. أو إذا كان له اختيار، وقدرة فليس الفعل صادراً عنه.. وللجبر صورة عملية.. وانصار باحثون.. وله صورة شعبية ايضاً نجد انها تعيش في واقعنا المعاصر، كما عاشت في العصر الجاهلي.

(وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء)[3]

(وسيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم)[4]

والارجاء، هو المذهب الذي مات امام ضغوطات الفكر الحق.. ولكنه لا يزال يعيش في الوسط الشعبي.. ويؤكد على ان القيمة الحقيقية للإيمان، وتقوى القلوب، وأن الأعمال الظاهرية لا يحاسب الله عليها، وليس لها قيمة من وجهة النظر الدينية..

هذان الاتجاهان التبريريان – الجبر، والارجاء – يرجعان من الناحية التاريخية – حسب بعض التقديرات – إلى الحاكم الاموي (معاوية)، الذي حاول ان يكرس الانحراف ويبرر الفسق، والفجور، والخروج عن حدود الشرع، ودائرة الدين من خلال وضع الاحاديث من جهة.. والترويج للافكار التبريرية كالفكرتين السابقتين..

 

د – التشكيك بالحكم الشرعي، واستصغار الذنب:

وبعض الناس يرتكبون الذنوب، ويقترفون السيئات والمعاصي.. ويبررون ذلك عن طريق انكار الحكم الشرعي الذي خالفوه لانهم لا يجدونه في القرآن الكريم، ومسموعاتهم عن السنة.. ومن الواضح أن الإنسان الاعتيادي لا يتاح له أن يبت بانكار هذا الحكم، وذاك، واثبات هذا، وذاك.. لان مثل هذا الاثبات، وذاك النفي يحتاجان إلى خبرة طويلة، ومعايشة مستمرة للقرآن الكريم، والسنة المطهرة، وتاريخ الرسول (ص) والائمة (ع)، وتدبر مستغرق فيها، وتخصص وتفرغ.. وليس من حق الإنسان أن يتسرع في اثبات الحكم، ونفيه، فانه بذلك يضيف ذنباً إلى ذنبه وخطيئة إلى خطيئته.

(وان اسوأهم (اصحابي) عندي حالا وامقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب الينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأز منه، وجحده، وكفر من دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج، والينا اسند، فيكون بذلك خارجاً من ولايتنا) هكذا قال الامام الصادق (ع):

والإنسان الذي لا خبرة له في مجال البحث الاصولي والفقهي والرجالي وسائر المجالات، التي تتصل بالتفقه بالدين، والتعرف على الشريعة، يجب عليه ان يرجع إلى أهل الخبرة – والرجوع إلى أهل الخبرة مبدأ عقلاني اقره الإسلام في كثير من المجالات -.

(فأسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون)، (ومن كان من الفقهاء حافظاً لدينه صائناً لنفسه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه)

واحتقار الذنوب، واستصغارها من الترضيات النفسية للمخالفة، ولكنه هو الآخر مما يزيد الذنب ذنباً، والخطيئة خطيئة فعن سماعة عن ابي الحسن (ع) يقول: (لا تستكثروا كثير الخير، ولا تستقلوا قليل الذنوب فان قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً، وخافوا الله في السر تعطوا من انفسكم النصف)، (اشد الذنوب، ما استهان به صاحبه)[5].

 


[1]  اصول الكافي ج2 ص74.

[2]  اصول الكافي ج2 ص 232.

[3]  سورة الانعام/48.

[4]  سورة النحل/35.

[5] اصول الكافي ج2 ص 287.