النهاية

:الموضوع

ـ الدعاء حوار مع الله

ـ الدعاء سبب لتعرف الإنسان على واقع نفسه

ـ الدعاء هدوء الروح

ـ الدعاء سبب الابتعاد عن الذنوب

الدرس السادس عشر

 فضيلة الدعاء (2)

الدعاء حوار مع الله:

يقع البحث حول الدعاء والمناجاة مع الله. الدعاء والمناجاة مع الله هي حالة قبل أن تكون مجرد قول. وبما أنها تنبع من عمق روح الإنسان فإنها تعد من الفضائل، كما أن التوبة هي فضيلة أيضاً قبل أن تكون مجرد قول.

وبحث اليوم هو في الفوائد العظيمة للدعاء بحيث يعتبر استجابة الدعاء عند أصحاب القلوب الحية في مقابل هذه الفوائد لا شيء. ومن جملتها الحوار مع الله. والإنسان مهما كان مقدار حبه لله وارتباطه به تعالى ـ لا يشترط أن يكون عاشقاً لله ـ يجب أن تكون أحسن لذة لديه هي الدعاء. ومن هنا فان من لا يجد لذة في قراءة القرآن والدعاء والصلاة فيجب أن يعلم أنه في مصيبة كبيرة.

نقرأ في الروايات أن موسى (ع) ذهب للمناجاة فقال له رجل: قل لربك اني صاحب ذنوب كبيرة فلماذا لا يعذبني؟ وذهب موسى للمناجاة وعندما عزم على الرجوع خوطب: يا موسى لماذا لم توصل رسالة عبدي لي؟ فقال موسى: إلهي استحييت منك وأنت تعلم ماذا قال عبدك. فخوطب: يا موسى قل لعبدي لقد ابتليته بأعظم شيء ولكنه لم يلتفت إلى ذلك، قل له: لقد سلبت منه لذة دعائي ومناجاتي.

وتعتبر هذه الرواية عند علماء الأخلاق والعرفان وأهل القلوب الحية رواية أساسية. فالإنسان الذي ليس له مع الله مناجاة ليس شيئاً أصلاً. والإنسان الذي لا يجد لذة في قراءة القرآن والصلاة فهو مريض وصاحب قلب أسود، يقول القرآن:

(فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)(1).

ويل لذلك القلب الذي صار من أثر الذنوب والانشغال بهذه الدنيا قاسياً وللقلب الأسود علامات، وإحدى علاماته هي عدم الشعور باللذة حين الصلاة وقراءة القرآن.

ولذا فالفائدة الأولى للدعاء هي الحوار مع الله، التحدث إلى الله. ونضرب لذلك مثلاً: إذا أعطيت فرصة عشرة دقائق للقاء خاص مع الإمام قدس سره لكي تتحدث معه، فان قلبك سيحمل هم ذلك، وسوف لن تنام في تلك الليلة، وستكون تلك الدقائق ذات قيمة كبيرة لك.

إذ ستكرر الحديث حول ذلك أينما ذهبت. مع أن الإمام عبد من عبيد الله.

  لدعاء سبب معرفة الإنسان لواقع نفسه:

والنتيجة الثانية للدعاء هي أن الإنسان يعرف ربه ونفسه في الدعاء وفي رواية: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"(2) إذا استطاع الإنسان أن يعرف نفسه فقد عرف ربه.

وفي دعاء النبي الأكرم (ص): "اللهم أرنا الأشياء كما هي" يعني اللهم أرنا عالم الوجود كما هو، اللهم أرنا أنفسنا كما هي كيف أنا حقيقة؟ فقر محض.

(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)(3).

الغنى المحض له سبحانه. والفقر المحض لنا. إذا كانت واحدة من نعم الله التي أنعمها علينا غير موجودة فما هو مقدار المصيبة التي ستحل بنا. هل قلت في وقت ما عندما تتنفس: "الحمد لله رب العالمين"؟.

كل نفس يستنشق يمد الحياة وعندما يرجع يفرح الذات. إذن في كل نفس نعمتان. والشكر واجب على كل نعمة.

(اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور)(4).

نحن فقر محض، لو حبس الله سبحانه عنا الهواء لحظة واحدة على حد تعبير القرآن الشريف لو غار ماؤكم فمن يأتيكم بماء معين، وأخيراً لو حبس الله عنا نعمه التي لا تعد ولا تحصى فماذا عسانا أن نفعل؟ من غير الله سبحانه يستطيع إعادة هذه النعم لنا؟ إن ارتباط الإنسان بنعم الله سبحانه كارتباطه بظله لا يمكن أن ينفك عنه.

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم)(5).

الله قيوم على هذا العالم. يعني أن عالم الوجود مرتبط به سبحانه.

وإدراك هذا الغنى واجب، كما أن إدراك فقر الإنسان واجب أيضاً. إذا أدرك الإنسان "الفقر" فلن تأتي "الأنانية" إلى الوجود. الروح الفرعونية موجودة في الجميع. وإذا تهيأت الأرضية المناسبة فان أكثر الناس تقول: "أنا ربكم الأعلى" إلا من استطاع كسر أنانيته. ولم تتهيأ الفرصة لأمريكا المجرمة وصدام المجنون أن يقولوا "أنا ربكم الأعلى" وإلا لقالوها. وقد تهيأت الأرضية لفرعون فقال ذلك. وبالنسبة لنا أيضاً فانه إذا توفرت الأرضية المناسبة فاننا نقول لأطفالنا ونسائنا "أنا ربكم الأعلى". والآن إذا لم نستطع أن نقول ذلك ولكن نبدأ بامتداح أنفسنا ونسائنا وأطفالنا. الجميع يقولون أنا! أنا! وهي نفس قول "أنا ربكم الأعلى".

أرجو منكم، من النساء ومن الرجال أن لا تتحدثوا عن أنفسكم فهذه صفة سيئة وكل من يتحدث عن نفسه فانه سيخسر بنفس ذلك المقدار، وسيهبط بمقدار ما يتحدث عن نفسه. وإذا أردنا أن نرتفع إلى الأعلى فعلينا بالتواضع. نقرأ في الروايات: "من تكبر وضعه الله ومن تواضع رفعه الله".

وأكثر الصفات الرذيلة تنبع من هذه "الأنانية". ومع الأسف فان كثيراً من الناس لا يستطيعون كسر هذه الأنانية، ولذلك فهم يرتكبون ذنوباً كبيرة. وعندما يستطيع الإنسان كسر هذه الأنانية فانه يستطيع أن يدرك نفسه يقول علي (ع):

"عجبت لابن آدم أوله نطفة وآخره جيفة وهو قائم بينهما وعاء للغائط ثم يتكبر"(6).

يعني أيها الإنسان أولك نطفة وآخرك جيفة، ورائحة الجيفة قد انتشرت في كل مكان، وأنت بين النطفة والجيفة تحمل العذرة، إنك كاناس في هذه الدنيا فلماذا تتكبر؟

إن الدعاء والمناجاة مع الله يقلع جذور هذه الأنانية من الإنسان، في ذلك الوقت الذي يبكي فيه وينتحب. في البداية يرى نفسه ضئيلاً أمام الله، وفي نفس الوقت الذي يطلب فيه شيئاً من الله فانه يثبت الغنى المطلق لله تعالى والفقر المطلق لنفسه عملياً.

الدعاء يعني إدراك الفقر المطلق له والغنى المطلق لله سبحانه. وبمرور الزمن يصل الإنسان إلى هذه النتيجة بأن الدعاء فضيلة كبيرة جداً. ولا يكون هذا الشخص حينئذٍ ممن يجلس ويتحدث عن نفسه ولم يكن الإمام قدس سره يتحدث في المجالس الخصوصية والعمومية شيئاً. وحينما يقال له لماذا لم تتحدث في المجلس الفلاني الذي كان فيه الحديث عن البحث العلمي، كان يقول: لم يكن شيئاً ضرورياً لماذا يتحدث الإنسان؟ لماذا يقول الإنسان الشيء الذي يوجب التفاخر وتركيز الأنانية؟ ومن هذا المنحى كانت إحدى الصفات الرفيعة التي يتصف بها الإمام قدس سره هي أنه كان بطلاً في مجالس الدرس والمباحثة ولكنه كان ساكتاً تماماً في المجالس الأخرى ويحتاج هذا إلى تهذيب متواصل ليستطيع الإنسان الوصول إلى هذه الدرجة والدعاء والمناجاة مع الله يمنح الإنسان هذه القدرة على بناء نفسه.

وإذا كنت قد قلت لكم بأن "مفاتيح الجنان" للمحدث القمي معمل صناعة الإنسان فاني لم أخطئ في ذلك فاقتفوا أثر هذه النصائح. الدعاء يجعل الإنسان متواضعاً، ويفهم بأن العظمة فقط لله سبحانه.

طلب أحد الملوك نصيحة من أحد العرفاء، فقال العارف: إذا كنت عطشاناً وقد أشرفت على الموت لشدة العطش فماذا كنت تعطي لتشرب الماء؟ فقال: نصف ملكي وسلطاني. فقال العارف: إذا أنحبس الماء الذي شربته في بدنك فماذا كنت تعطي ليخرج بولك؟ قال: نصف سلطاني.

فقال العارف: إذن لا فخر لك في سلطانك الذي ساوى قدح من الماء شربته ثم أرقته. فليس محلاً للتفاخر ولا للشعور بالعظمة.

وهذه "الأنا" كثيرة في أوساط الجميع. موجودة في أوساط النساء، وموجودة في أوساط الرجال. ويستطيع الدعاء والمناجاة مع الله أن يزيل ذلك.

  ـ الدعاء هدوء الروح:

وللدعاء فائدة أخرى أيضاً وهي لدنيانا أيضاً جيدة. فإذا ترك الإنسان الهموم والغموم في قلبه تتحول إلى عقدة. فان الكثير من المجرمين أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي وجنكيز كانوا من وجهة نظر علم النفس معقدين. وأغلب النساء اللجوجات أو النساء اللاتي لا تستطيع التوفيق في حياتها الزوجية هنّ نساء معقدات. وتبدأ العقدة من هنا إذ تنتقل الآلام والغموم من الشعور إلى اللاشعور. ومن هنا يقول علماء النفس: إذا كان عندك هم وغم فتحدث به إلى من تراه أميناً، الزوجة تحكي لزوجها والزوج يحكي لزوجته.

وكثير من الاختلافات العائلية تنشأ من هذا الأمر إذ يكون هناك مشكلة تشغل القلب ولكن لا يحدث أحدهما الآخر بها. بدل أن تحتفظ بها في قلبك اذهب وقل له ما يؤلم قلبك، قل له ان هذا الحزن هو منك. وأما إذا خزنته في قلبك فستسبب به عقدة، والعقدة تجر إلى ضعف الأعصاب، وضعف الأعصاب يتبعها التعاسة وسوء الحظ.

ولذا يقوم الأطباء النفسانيون المخلصون بالدخول في حوار طويل لمدة طويلة مع هؤلاء المرضى المصابين بضعف الأعصاب. وأخيراً يتماثل المريض للشفاء بالكلام والتحادث معه.

المناجاة مع الله يعني إخراج هموم القلب وأحزانه مع أمين وذلك الأمين مثل الله، مع قادر مثل الله، مع رؤوف ورحيم مثل الله. ومن هو أكثر عطفاً من الله؟ ومن اكثر من الله أمانةً وكتماناً للسر؟ فالدعاء والمناجاة هي في الواقع بث الهم والحزن إلى الله. وحتى لو لم يكن هناك صلاح في استجابة دعائك ولكن قلبك سيفرغ من الهموم. وعلى حد تعبير العوام: يصير خفيفاً. ومن هنا فان من يحيي هذه الليالي يجد نفسه مرتاحاً، وعندما يخرج من مجالس الإحياء يحس بالهدوء والنشوة، ويحس بالفرح. فذلك البكاء وقول يا الله يا الله قد جلب إليه الهدوء والطمأنينة.

  ـ الدعاء سبب الابتعاد عن الذنوب:

والنتيجة المهمة الأخرى للدعاء هي أنه صمام أمان:

(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر)(7).

يقول القرآن: الصلاة صمام أمان ووسيلة سيطرة، ولكن ذكر الله في القلب يبعد الإنسان عن الذنوب أكثر من الصلاة.

ونستفيد من هذه الآية بأن فضيلة الدعاء والمناجاة مع الله في مرتبة أعلى من الصلاة. وقد جاء في الروايات: "الدعاء مخ العبادة"(8).

وأصل الصلاة هو الدعاء أيضاً. والدعاء هو خلاصة جميع العبادات. تقول هذه الآية الشريفة بأن الصلاة قوة سيطرة، ولكن أيّ صلاة؟ فإذا كانت الصلاة حقيقية وواقعية فلا تدع الإنسان يرتكب ذنباً أبداً.

وإذا صلى شخص صلاة الصبح الواقعية، الصلاة وليس في القلب تكبر، ولا حسد، ولا حقد وأنانية، الصلاة والإنسان غير ملوث بالذنوب، فهاتان الركعتان بالإضافة إلى أنها توجب للإنسان الجنة فانها ستحافظ عليه من ارتكاب الذنوب إلى الليل. وقد ضمن القرآن هذا الموضوع. فلا تأخذ الصلاة الإنسان إلى طريق مسدود.

(واستعينوا بالصبر والصلاة)(9).

يعني والعياذ بالله إذا تهيأ المجال للسرقة وعدم العفة والغيبة... الخ فان الصلاة تمنع منها. صلاة الصبح لا تدع صاحبها يفتضح بهذه الذنوب.

وبناء على هذا فانا ندق جرس الخطر إلى غير المصلين، وإلى الذين يصلون وهم كسالى: احذروا فان الصلاة إذا لم تقيد أيديكم فانكم ستحولون إلى قتلة وزناة وكل عمل يمكن أن يصدر عنكم. وأوصي الشباب خاصة أيها الشباب إذا أردتم أن يأخذ الله بأيديكم في المآزق، ان تأخذوا الصلاة بأيديكم، فاهتموا بالصلاة، وخصوصاً بالصلاة في أول الوقت. وإذا لم تولوا أهمية للصلاة فاعلموا أن الله لا يستجيب لصرخاتكم في المآزق، وعندما لا يستجيب الله لصرخاتكم فانكم ستنكفئون على وجوهكم.

وقد وعد الله الرحيم في القرآن أن يأخذ بأيدي المصلين في المآزق، ووعد الله القرآن آن يأخذ بأيدي أهل الدعاء والمناجاة في المآزق. ولهذا لا تقول دعوت فلم يستجب لي. اذهبوا إلى مجالس الدعاء والإحياء.

في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك هيئوا لأنفسكم قوة السيطرة لمدة سنة، اضمنوا أنفسكم عند الله سنة، ادعوا فإن كانت هناك مصلحة فان الله يستجيب لكم، وان لم تكن هناك مصلحة فانكم ستعطون شيئاً أفضل من الإجابة.

وخلاصة البحث ان الدعاء بالإضافة إلى انه مستجاب، وبالإضافة إلى أن فيه ثواباً كثيراً، فان فيه فوائد أخرى جليلة بحيث ان إجابة الدعاء لا تساوي في مقابلها شيئاً.

وبناءً على هذا فان عليكم إيجاد حالة المناجاة مع الله التوبة والإنابة لا في ليالي القدر فقط بل في جميع أحوالكم. أحيوا الفطرة التي وهبها الله لكم. وليكن دعاؤكم وتوبتكم دائماً نابعين من أعماق الروح، اجعلوا ماء تلك العين زلالاً. عين الإيمان واليقين. دعوا هذا الماء يخرج ويسيل حتى تكون ان شاء الله ألسنتكم وقلوبكم تقول بشكل لا إرادي العفو العفو ويا الله يا الله.

 

الهوامش:

(1) الزمر، الآية: 22.

(2) الحكم.

(3) فاطر، الآية: 15.

(4) سبأ، الآية: 13.

(5) البقرة، الآية: 255، سورة آل عمران، الآية: 2.

(6) الأنوار: ج73 ص234.

(7) العنكبوت، الآية: 45.

(8) الأنوار: ج90 ص300.

(9) البقرة، الآية: 45.