.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

3 ـ تقوية القابلية على التركيز

4 ـ تحكيم العدالة الاجتماعية

5 ـ اكتساب الوقار الشخصي والاتزان الأخلاقي!

6 ـ التحلّي بالنظم والانضباط

7 ـ استحكام الإيمان

الدرس الثالث

8 ـ أنس الإنسان الفطري بالعبادة

9 ـ عمومية النظرة

10 ـ الصلاة منعتق من الانشغال بالنفس ومحذر من ضياع العمر

11 ـ مصاحبة الكون

12 ـ الصلاة مصحة للبدن، ومطهرة للباس  

   

3 ـ تقوية القابلية على التركيز

تقدم أن الاضطرابات الفكرية، والصراعات النفسية هي من الأمراض المهلكة التي تهدد البشرية في القرن العشرين. ولذا يحاول العلماء والمتخصصون في علم النفس بكل حزم وجد ابتكار طرق تقلل وطأة العبء الفكري الذي يعاني منه الإنسان المعاصر، وتوفير الراحة لفكره ونفسه فترة من الزمن، وإنقاذه من التقلبات الروحية. فإن السيطرة على الشوارد الذهنية شرط أساسي لبلوغ النبوغ، وفهم المسائل، وإدراك الأمور. ولذا انصب السعي دوماً وأبداً على أن تكون الأماكن المعدة للمطالعة اعظمها هدوءاً، وأروعها رونقاً، وأجملها منظراً، كي يتمكن من تركيز الذهن، ورفع الاضطرابات.

يصرح أحد علماء النفس المعروفين يدعى "ويليام مولوتون مارستون" في المجلة المختصرة من "ريدرز دايجست" بقوله: "إن أكثر الناس يعجزون عن تركيز حواسهم على خصوص ما أوكل إليهم. وشرود الذهن هذا هو الذي يصيبهم بالحيرة والارتباك، ويوقعهم في الخطأ والاشتباه. والحال أن العقل البشري إذا تمكن من تركيز انتباهه على أمر تركيزاً قوياً فإنه سيؤدي دور أداة حيوية مؤثرة".

ثم يضيف مستشهداً بقول عالم من علماء النفس آخر يطلق عليه لقب "أبو علم النفس" فيقول:

"الفرق بين النابغين وعامة الناس يكمن في القدرة على تركيز الذهن والسيطرة على القوى العقلية، لا ي الاستطاعة والصفات الفكرية الأخرى"[1].

إن الصلاة خمس مرات في اليوم تضع الفكر في مدار التركيز، وتيسر عملية تنامي القدرة على تركيز الذهن. وما جاء في الصلاة كالوقوف عند الباب المفتوح، وقبالة المرآة، وأمام الصور، ولوحات الرسم، والصلاة متضائقاً وغيرها يصب جميعاً في مدار الوصول إلى الدرجة القصوى من التركيز.

إننا إذا استطعنا سوق فكرنا بقوة وحزم للسير في مسار المعنويات فما من شك أن ستظهر جميع أدوار تركيز الذهن وآثاره، وتلقيات الإنسان المعنوية، ونموه الروحي، وتحصل لأذهاننا خارج الصلاة ملكة إحكام الاستقرار في المدار المعين والمحدد، ويتحقق لنا سكون واطمئنان خاصان.

4 ـ تحكيم العدالة الاجتماعية

على المصلي إذا أراد الصلاة رعاية عدد من الشروط اللازم توفرها في لباسه، ومكسبه، ومكان صلاته، وكذا رعاية حقوق الغير مثل دفع الزكاة، واجتناب الغيبة، والاهتمام بحقوق الناس كي تقع صلاته موقع القبول عند الله سبحانه وتعالى. وهذه القيود والالزامات ذات التأثير الكبير على كل حياة الإنسان تخرج الصلاة عن هيئتها كعمل فردي وشخصي لتبدو على شكل نهج تربوي، وظاهرة اجتماعية مستمدة من صلب الحياة، مما يحيلها عاملاً في مسير تحقق العدالة الاجتماعية وتحكيمها.

إذ كما تعتبر الصلاة في الثوب المعدّ من مال الحرام مردودة، ومرفوضة، كذلك وصفت الروايات صلاة من أسخط أبويه[2]، أو اغتاب مسلماً[3]، أو المرأة التي أسخطت زوجها، أو من يمنع الفقراء حقهم، أو إمام الجماعة الذي لم يكن الناس راضين عنه[4]، أو من لامست شفتاه المسكر[5]، بأنها غير مقبولة.

5 ـ اكتساب الوقار الشخصي والاتزان الأخلاقي!

لاريب أن بعض الظواهر والحوادث تختلف تأثيراً عميقاً في سلوك الإنسان وشخصه، وتحدث تحولاً كلياً في مستقبل حياته. فكل إنسان منا يحتفظ في ذاكرته ببعض الخواطر عن حوادث كانت سبباً في تحول طبعه وترك عادته وسلوكه إلى عادة وسلوك آخرين.

والصلاة والمداومة عليها يمثلان ـ بتصريح القرآن ـ واحداً من هذه الأسباب والعوامل حيث تترك الصلاة تأثيراً كبيراً على خلق الإنسان وشخصه فهو يقول واصفاً عامة الناس:

(إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون)[6].

فالمصلي يكتسب من خلال المفاهيم والمعاني السامية التي يلقن بها نفسه باستمرار، والسكون والطمأنينة الحاصلين بذكر الله وقاراً في الشخصية، واتزاناً في الخلق، واعتدالاً في السلوك ما يستطيع معها السيطرة على انفعالاته النفسية التي تحدث بسبب تقلبات الحياة.

وقد تعرضت الزهراء (ع) في خطبتها العصماء التي ألقتها في جمع من نساء المدينة المنورة إلى فلسفة العبادات ووصفت الصلاة بقولها:

"فرض الله الصلاة تنزيهاً من الكبر"[7].

والسبب الذي يجعل للصلاة هذا التأثير في شخص المصلي وسلوكه هو أن المصلي يكون بفضل الصلاة ذا قلب مطمئن بأن الله أكبر من كل العلائق والنوازع والمغريات، وكل الأشراف والوجهاء والأعيان، وجميع القوى والوسائل والأدوات، ويرى نفسه على ارتباط بمصدر قوة العالم في قبضته، والعالمون مربوبون له، وهو مع ما عليه من القدرة والجبروت رحمان رحيم، وحكومته غير محدودة بالدنيا، ولا مقصورة عليها بل هو مالك يوم الدين والحساب أيضاً.

إن الطمأنينة القلبية المنبعثة من كيان المصلي في إطار أذكار الصلاة تمنحه وقار الشخصية، وهدوء النفس.

كما أنه يكتسب ـ من خلال تذكره مصير البشرية، ومستقبل حياة الناس واليوم الآخر منها ـ شخصية ذات نظر مستقبلي، وفكر عال غير ضيق ولا محدود[8]، ويحصل ـ من خلال ربط آماله وتعلقاته الروحية برب الكون، واستعانته به[9] ـ على نفس أبية، وقلب مطمئن، منعتق من كل خوف واضطراب، وخال من كل أمل وتوقع من الغير... المصلي يلقِّن نفسه في كل يوم وجوب اتباع الصالحين، ونهج سبيل الهداية[10]، واتخاذ موقف في مواجهة الضالين[11].

6 ـ التحلّي بالنظم والانضباط

إن أجمل صورة معبرة عن سيماء الفرد والمجتمع وخصائصهما وميزاتهما صورة النظم والتقيد والانضباط. فإنما يقابل المرء في أي من النشاطات ومراحل الحياة بالقبول والاستحسان إذا حلى تعامله وسلوكه، وزين كتاب حياته بالانضباط. وهذه الصفة لا يكسبها حد إلا بالدقة الفائقة، والتمرين المتواصل. لذا فمن المحتم على الإنسان أن يقيد نفسه في الحياة برعاية النظم في البرامج، ويلزمها ببعض الأمور لتتحول هذه الالزامات والتقيدات بالتدريج إلى ملكة تتجسد في جميع شؤون حياته.

والصلوات اليومية إذ تدخل في أوقات محددة برنامج الحياة اليومية بوصفها أمراً إلزامياً دينياً تضفي على صفحة الحياة والنشاطات اليومية: الوظيفية والرتابة، وتبعث في الإنسان روح التقيد والالتزام بالوقت، ورعاية المنهج والنظام. فلو تحرينا بدقة شواهد النظم والمنهجة في الصلاة لوجدناها تدخل كل أجزائها، إذ تنطوي الصلاة من ألفها إلى يائها على نظام جميل رائع. فهي في المقدمات وترتيب أدائها المنطقي وفقاً للظروف المختلفة (الغسل فالوضوء فالتيمم)، وكذا في الاستقبال وحركة اليد، وأعضاء البدن، وعدد الركعات لكل وقت، ولباس المصلي ونوعه، ومكان المصلي ومسجده كلها تتضمن منهجاً وهدفاً ونظاماً معيناً. كما أن في اللحن والقراءة... منه، وفضل وضوئه، والتراب الذي يسجد عليه، وما يؤدي من تعقيبات بعد الصلاة ترتيباً ومنهجاً. وللصلاة في صف الصفوف، وزينة المصلي ومظهره منحى وتوجيه خاص. إن في الزام المصلي بهذه الشرائط والقيود كل يوم احياء لروح الانصياع للتقيد والالتزام الأمر الذي يرسخ في نفس الإنسان الانضباط ورعاية النهج والنظام في سائر شؤون الحياة.

7 ـ استحكام الإيمان:

ما من جيش ولا منظمة إلا وتعلم أفرادها وأتباعها نشيداً يبعث فيهم روح المقاومة والصمود كل صباح ومساء، ويصنع من إرادتهم وعزمهم إرادة حديدية وعزماً لا يلين.

وجيش الوجود، وذراته التي تتراءى للعيان جامدة، هامدة تنشد كل صباح ومساء نشيد الثبات والصمود في طاعة الخالق.

(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)[12].

 

تنبئ الناس صباحاً ومساء
غير أنا نتحاشى الغرباء
قد قصدتم بعض أسرار السماء

 

كل ذرات الوجود في الخفاء
نحن سمعى، مبصرون، اذكياء
اعلموا إذا تقصدون الجامدات

ففي الصلوات اليومية يشترك الناس ـ وهم قطب رحى نظام الخالقة ـ مع سائر ذرات الكون في الانشاد ـ صباحاً ومساءً ـ لينشدوا نشيداً ملؤه الحمد والشكر والثناء، وإعلان آيات العهد والوفاء في إطاعة رب الكون... نشيداً تتجلى فيه روح الطاعة والالتزام بالمبادئ العقيدية والأخلاقية والعاطفية والسياسية البارزة... نشيداً يبعث روح رفض الكفر والضلال، ويقوي في الإنسان جانب التمسك بالنظام، ورعاية نهج أخلاقي محدد وواضح.

 

الدرس الثالث

8 ـ أنس الإنسان الفطري بالعبادة

حفل تاريخ البشرية بأنحاء مختلفة من العبادة التي أبتدعها الناس واختاروها فطالما اتخذ الناس على مر التاريخ أشياء مختلفة للعبادة، حيث اتخذت من مواد مثل الخشب والحجر والشمس والقمر والماء والنار والحيوانات المختلفة آلهة ومعبودات ومسجودات لأمم مختلفة. كما أن عبادة الملك والشهوة بكل أشكالها القبيحة، والشهرة والهوى والوطن لا تمثل إلا بعض المسالك المنحرفة للعبودية، حيث كان كل واحد من هذه المسالك موالون وتباع على مر العصور.

وعلى أية حال فإن أنحاء العبادة هذه ومسالكها وطرقها المختلفة تنبئ بأجمعها عن حاجة في نفس الإنسان إلى العبادة.

هذه الحاجة التي تؤدي في حال عدم رفعها واشباعها إلى أن تتعرض الروح إلى حالة من الشعور بالفراغ. يقول الاستاذ الشهيد المطهري:

إن أجلى تجليات روح الإنسان، وأعظمها قدماً، واعمقها غوراً وأصالة في أبعاد النفس الإنسانية حسه العبادي. إذ تشير الأبحاث الأثرية في حياة الإنسان إلى أن أصل العبادة كل موجوداً حيث كان الإنسان موجوداً. وإنما وقع الاختلاف في شكل العمل العبادي وشخص المعبود. أما الاختلاف في شكل العمل العبادي فمن أنحاء الرقص والحركات الجماعية المتناسقة، المصحوبة بسلسلة من الأذكار والأوراد، إلى أعلى درجات الخضوع والخشوع، وأعظم الأذكار والأوراد والمحامد. وأما الاختلاف في المعبود فمن الحجر والخشب وحتى ذات القيوم الأزلية الدائمة المنزهة عن حدود الزمان والمكان.

فالأنبياء ما جاءوا بالعبادة، ولا ابتدعوها من عدم، إنما جاءوا لتعليم الناس كيفية العبادة أي طبيعة الآداب والأعمال التي ينبغي أن تتخذ العبادة شكلها هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنهم حالوا دون عبادة ما سوى الذات الأحادية الواجبة (التوحيد)".

ثم يضيف (ره): يعتقد بعض العلماء (مثل ماكس مولر) أن الإنسان كان في أول أمره موحداً، يعبد ربه الحقيقي، وأن عبادة الأصنام أو القمر أو النجم أو الإنسان قسم منحرف من العبادة لم يحصل إلا متأخراً. فالإنسان لم يبدأ عبادته بالصنم أو الإنسان ليتكامل بتكامل الحضارة فيبلغ حدّ عبادة الله الواحد. وإنما غريزة العبادة المعبر عنها في بعض الأحيان بالحس الديني موجودة لدى جميع افراد الإنسان"[13].

ويمكن معرفة مدى عمق هذا الاتجاه واصالته من خلال الأبنية المخصصة للعبادة، وفخامتها وانتشارها على مر التاريخ. فبينما يحيا الناس في بيوت مبنية بالطين مثلاً نجدهم يشيدون الكنائس والمساجد وغيرهما، ويعمرونها بأحسن أنحاء العمارة، ويتحملون الحروب الضارية، والمعارك الضروس دفاعاً عن آلهتهم وأربابهم.

وللإنسان أن يسأل نفسه ماذا عليه أن يعبد؟ وكيف؟

لا ريب أن البحث عن استحقاق موجود العبادة أم عدم استحقاقه من اختصاص العقل وحده. فإبراهيم أبدى لدى مواجهته عباد القمر متابعة لهم على ذلك، فلما أفل وغاب عن الأنظار عده فاقداً للاستحقاق. ثم ولى وجهه الشمس، وابدى تعلقا ظاهراً بها حيث كانت أكبر ضياء وأعظم سطوعاً فلما أفلت وغربت عدّ زوالها وعدم ثباتها دليلاً على لزوم الاعراض عنها[14].

ثم يبطل القرآن الكريم بقاعدة عقلية عبادة ما لا إرادة له ولا اختيار فيقول:

(ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون)[15].

(قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون)[16].

فهو يعد الأمر بعبادة غير الله مع تمركز كل القدرات والقوى والامكانيات فيه سبحانه امراً شائناً عن الجهل. وإذا كانت العبادة لا تليق عقلاً إلا به فأدب العبادة يجب أن يستوحي منه أيضاً، وكل ما لا يصب في هذا المصب، ويستمد مادته من هذا المنحى والاتجاه ليس أهلاً للقبول والاستحسان. فقد أثبتت التجربة أنه كلما أراد الإنسان أن يبتكر السبيل لابراز العبودية لله كما صنع راعي بني إسرائيل في مناجاته عجز عن أن يبدي أدباً مقبولاً في هذا الصدد. ويتعرض القرآن الكريم لنموذج من الابتكارات الخاطئة هذه فيقول:

(وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا الله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون)[17].

ويعبر الشهيد الشيخ مرتضى المطهري عن ذلك فيقول: إن رسالة القرآن ودعوته: أيها الإنسان! اعبد ربك خير الرب، فهو المالك لأمرك، والمالك لكل مقدرات الكون، هو الذي لو جازت عليه الغفلة آناً واحداً لتلاشى كل شيء"[18].

(الذي خلقكم والذين من قبلكم)[19]

9 ـ عمومية النظرة

إن حياة الإنسان رهن النظرة الشاملة والفكرة الواسعة المستوعبة، وروح الانسجام مع البيئة والمحيط الاجتماعي، وموافقه الجماعة. ومع أن الصلاة لا تتسم بكونها من النشاطات والفعاليات الجماعية ظاهراً. حيث تبدو بهيئة عمل إقراري فردي بحسب الظاهر، لكنها عبئت في المواضع المختلفة منها بالحضور في الجماعة، ومواكبة الجمع، ومسالمة العموم فمن أول جملة يفتتح بها المصلي صلاته يبدأها باسم الله واصفاً إياه بالرحمانية العامة الاشملة ثم مشيراً إلى صفة الربوبية المستغرقة لعموم العالمين ثم معلناً بلسان الجماعة انحصار العبادة والاستعانة بالله وحده وإن كان يصلي منفرداً، وإلى أن يطلق في التسليم لحن السلم والصلح والسلام على جمع الحضور وعباد الله الصالحين يعزف في ذلك كله نغم الوئام والحياة السليمة المشتركة.

فالالفاظ المستعملة في الصلاة عادة ما تكون عامة ومطلقة، أو تكون عن الغير والظرف المتعلق بها عاماً فالله في (الله أكبر) مثلاً أكبر من ماذا؟ هو أكبر من كل شيء. وهو رب من؟! رب جميع العالمين. وكذا إياك نعبد وإياك نستعين فانها بصيغة الجمع أيضاً.

كما أن الأعمال الواجبة في الصلاة تؤدي جماعة أيضاً.

إذا كان المصلي مأموماً فلا يقرأ الفاتحة ولا السورة وإنما يواكب إمام الجماعة بإصغائه إلى قراءته، ويتابعه في الركوع والسجود وغيرهما...

وفي الصلاة ترعى حرمة الجماعة وحقوقها، ابتداء من اللباس ومكان الصلاة إلى سائر التوصيات الحقوقية الأخرى مما يمثل بمجموعه تطبيقاً ومثالاً للعدالة الاجتماعية.

وكما تنطوي الصلاة على روح السلم والصلح والوئام في ثناياها وطياتها نلاحظ ورود النهي في آداب الصلاة عن وضع السيف والسلاح أمام السجادة أو...

ومن الأمثلة على عمومية النظرة وشموليتها عند المصلي أنه قد يدعو الله سبحانه وتعالى في القنوت بغفران الذنوب لجميع الجيران والأقارب، وكل الآباء والأجداد، وللمؤمنين والمؤمنات، ومن يخدم المجتمع، ومن اغتابهم أو اغتابوه.

فشارع الشريعة الإسلامية المقدسة يؤكد على التقيد بهذه الأمور جميعاً في قالب صلاة الجماعة، وأدائها بنحو جماعي، وقد ذكر أجراً عظيماً لمن فعل ذلك ترغيباً وحثاً عليها. إذن فالحياة السليمة المشتركة، وتجدد روح موافقة الجماعة يمكن أن يعدا من جملة آثار الصلاة وأسرارها، فإن آدابها ومضامينها تدفع الإنسان لا إرادياً نحو هذا الأثر.

10 ـ الصلاة منعتق من الانشغال بالنفس ومحذر من ضياع العمر

يؤدي الانهماك في الدنيا، وتعاقب متاعب الحياة ومشكلاتها إلى أن ينسى الإنسان حساب الليل والنهار وتصرم العمر وانقضاءه، وهذا الأمر يوجب أن يكون هناك ما يذكر الإنسان مرور الساعات، وينبهه على تقاطع العمر مع الليل والنهار. ونعم ما قال دام ظله في الكراس الذي كتبه عن الصلاة أثر الصلاة هذا فيقول:

"نادراً ما يتمكن الإنسان من تفريغ نفسه وتخليصها من المشاغل الفكرية التي تحيط به، ليتدبر نفسه وحاله، ومصيره، وتصاريف الحياة، ومرور اللحظات، وانقضاء الأيام والساعات. فما أكثر الأيام التي تنقضي ويخيم فيها الليل، وتبدأ أيام أخرى بعدها، والاسابيع والشهور التي تمضي وتتصرم دون أن يلتفت الإنسان إلى بدايتها ونهايتها، أو يشعر بنقصان العمر، وفراغ الحياة.

والصلاة ـ كجرس الايقاظ ـ منبه في ساعات الليل والنهار المختلفة، يحدد للإنسان برامجه وخططه، ويأخذ منه العهد بأن يعطي لنهاره وليله معنى وقيمة، ويحسب لمرور اللحظة حساباً. فهي تنبه الإنسان حين يكون غافلاً منشغلاً عن مرور الزمان، وانقضاء العمر، وتفهمه أن يوماً قد انقضى، ويوماً قد بدأ"[20].

فالغفلة عن انقضاء العمر يعد شاخصاً من شواخص البعد الحيواني في ذات الإنسان. إذ يقول القرآن الكريم بعد وصفه فئة من الناس بالأنعام:

(أولئك هم الغافلون)[21].

والصلاة تقصي الإنسان عن هذا البعد الحيواني وعن الغفلة، وتضعه في مدار الانتباه والوعي، وتظهر مقاطع الليل والنهار وتبرزها، وتخرج الإنسان الذي قال عنه القرآن:

(نسي خلقه)[22]. (نسي ما قدمت يداه)[23]. (نسوا الله)[24].

من دوامة الغفلة.

11 ـ مصاحبة الكون

الكون في تسبيح دائم لله سبحانه. إذ يقول القرآن الكريم في ذلك:

(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)[25].

وحتى صوت الرعد ما هو إلا معبر عن تسبيح إلهي[26].

فإذا كان ما لا شعور له ولا وعي ولا إدراك من المسبحين لله سبحانه كيف يسوغ للإنسان ذي الفهم والشعور والاحساس أن لا يخضع لعظمة الله؟... وإذا كان الآلي الوجود المسخر لخدمة الغير في حمد وثناء دائم للخالق (عز وجل) لماذا لا يصاحب الإنسان الاستقلالي الوجود واعظم الخلق نفعاً سائر الموجودات في تسبيحها للخالق!؟ أليس هذا خلاف المروءة؟!

إن الصلاة تتضمن أفضل أنحاء الخضوع وأروعها وأسماها، والإنسان في صلاته إنما يتابع الكون ويصاحبه، فيقدس مبدع الوجود وخالقه. وإنه لجميل هذا النشيد ـ نشيد الوجود ـ ويستحق الانشاد.

12 ـ الصلة مصحة للبدن، ومطهرة للباس

إن الوضوء والغسل وإن كانا من مقدمات الصلاة، وبفضل ذي المقدمة دخلا ساحة الوجوب والالزام ـ إذ لا يقال مثلاً: الصلاة واجبة ومفيدة، لأن في مقدمتها أي الوضوء أو الغسل صحة البدن وسلامة الجسم ـ إلا أنه يمكن للمصلي جنباً إلى جنب سلامة النفس، وحيوية الروح أن يحصل على شيء من الفوائد التبعية والجسمية أيضاً. فجسمه يتعرض يومياً من خلال الوضوء والغسل إلى الغسل عدة مرات، وهو ملزم بتنظيف مواضع الوضوء من الأوساخ والأقذار والموانع، كما أن عليه تطهير ثيابه، ورعاية مظهره الخارجي، وأخذ زينته[27]، والمحافظة على نفسه حين الصلاة أنيقاً معطراً ما وسعه ذلك[28]. وتأثير هذا لابد سيسري وينتقل إلى سائر شؤون حياته مما يجعل منه شخصية أنيقة ومرتبة.

يقول أحد الاخصائيين: "إن الانقباض والانبساط الذي يظهر على العروق الجلدية بسبب جريان ماء الوضوء عليها يزيد من حركة القلب، ويضاعف نشاط عملية التبادل، ويسهل حركة الجهاز التنفسي، وجذب غاز الاوكسجين، ودفع ثاني أوكسيد الكاربون. كما يبسط الأعصاب ويمددها ويصون العين من الاصابة بالأمراض المختلفة. هذا إضافة إلى أن غسل اليدين الاجباري بسبب الوضوء خمس مرات يومياً يشكل عاملاً وسبباً في نظافة اليدين، والوقاية من سريان المكروبات المختلفة إلى الفم، والابتلاء بمرض التهاب الأمعاء، وسائر الأمراض الأخرى صعبة العلاج"[29].

وقد خصص أحد اساتذة كلية الطب في جامعة الاسكندرية في مصر رسالته في الدكتوراه لدراسة تأثير الصلاة العجيب في صيانة الجسم من الأمراض العضلية التي من جملتها مرض اتساع أوردة الرجل (دوالي الساقين)، وألف كتاباً في هذا الصدد بحث فيه مفصلاً عن الآثار الطبية للصلاة على عضلات الرجل[30].

ولابد هنا من التأكيد مرة أخرى على أن الصلاة أمر عبادي، وما كان كذلك لا يمكن توجيهه أو تبرير تشريعه بما يترتب عليه من فوائد طبية أو بدنية. لأن ما هو روحاني وعبادي غني أساساً عن مثل هذه التبريرات والتوجيهات.



[1] روح الصلاة في الإسلام ـ عفيف عبد الفتاح طبارة ص31.

[2] بحار الأنوار، ج74، ص61.

[3] بحار الأنوار ج75، ص257 ـ 258.

[4] بحار الأنوار ج77، ص50.

[5] بحار الأنوار ج84، ص317.

[6] سورة المعارج، الآية: 19.

[7] بحار الأنوار ج82، ص209.

[8] مالك يوم الدين.

[9] إياك نعبد وإياك نستعين.

[10] صراط الذين أنعمت عليهم.

[11] غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

[12] سورة الإسراء، الآية: 44.

[13] إحياء علوم الدين، ص105.

[14] سورة الأنعام، الآيات: 76 ـ 79.

[15] سورة يس، الآية: 22.

[16] سورة الزمر، الآية: 64.

[17] سورة الأنعام، الآية: 136.

[18] التعرف على القرآن ص132.

[19] سورة الجاثية، الآية: 23.

[20] في أعماق الصلاة ص10. آية الله العظمى السيد الخامنئي دام ظله.

[21] سورة الأعراف، الآية: 179.

[22] سورة يس، الآية: 78.

[23] سورة الكهف، الآية: 57.

[24] سورة الحشر، الآية: 19.

[25] سورة الإسراء، الآية: 44.

[26] و(يسبح الرعد بحمده).

[27] (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) (الأعراف / 31).

[28] جاء في المسألة 864 من توضيح المسائل استحباب لبس الثياب البيضاء النظيفة واستعمال العطور في الصلاة.

[29] روح الصلاة في الإسلام: تأليف عفيف عبد الفتاح طبارة ص82.

[30] معجزة الصلاة في الوقاية من مرض دوالي الساقين هو عنوان الكتاب المذكور أعلاه التي قامت بنشره دار النشر للجامعات المصرية ـ مكتبة الوفاء. كما ألف عالم آخر يدعى الدكتور فارس علوان من جامعة جدة كتاباً تحت عنوان: في الصلاة صحة ووقاية" وهو كتاب من سلسلة كتب "صحتك في عبادتك" تعرض فيه إلى دراسة آثار الصلاة في صحة الجسم، وأظهر تحقيقاً عميقاً نسبياً في هذا الباب. وقد تم طبع الكتاب المذكور في "دار المجتمع".

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست