:الموضوع

بين النظرية والتطبيق

 

13 ـ تنمية الإحساس بالجمال

إن الله جميل يحب الجمال.

وصور الجمال في الكون والحياة، دليل على قدرة الله وعظمته وحكمته، والقيم العليا في مبادئ السماء، ترمز إلى نواحٍ جمالية مثلى، لأنها ينبوع السعادة الحقيقية للبشر في كل زمان ومكان، فالخير والفضيلة، والحب والصدق، والعدل والرحمة، والتآخي والبر، والطهر والعفاف، وغير ذلك من الأمور الإيجابية البناءة، التي تملأ القلب بالرضى والسرور، هي في مجموعها جماع السعادة الدنيوية والأخروية، وهي تعبير عن الجمال المعنوي الذي لا حدود له...

واتساق الكائنات الحية والجامدة، وامتداد السماء بصفائها وسحبها وأمطارها، وتدفق الأنهار والبحار وما تحويه من نعم، وتنوع المزروعات والحيوانات والطيور، ثم السنن الكونية الدقيقة المنظمة التي لا تكون بدونها أية حياة، وتعاقب الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان والسمات والأفرجة والعقول.. هذا.. وذاك.. وغيرهما تنبض بما لا يمكن وصفه أو التعبير عنه من الجمال المعجز..

لكن ـ لحكمة يعلمها الله ـ هناك من لهم أعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، وقلوب لا يفقهون بها، إنهم كالأنعام بل هم أضَّل، وقد دعت الآيات القرآنية إلى تأمل هذا الكون، واكتشاف روعة التنظيم والتنسيق والجمال فيه، حتى يزداد الإنسان إيماناً ويقيناً، ويسعد بتلك الثروة الهائلة التي تغمر الإنسان والكون في كل موقع (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).

وتذوق الجمال واليقين من أعظم نعم الله، وقد رمز إليها أحد الصالحين بقوله (إن بين جنبي من اللذة، ما لو علمها الملوك لقاتلوني عليها بالسيوف).

وتمثل الخطيئة والشر والفساد والظلم والاستغلال والغفلة والبعد عن مبادئ السماء، تمثل صورة بشعة للقبح الذي يضاد الجمال...

والأدب ـ كفن جميل ـ إذا ما سار على النهج السليم، وروعيت فيه القواعد الجمالية شكلاً ومضموناً، أوحى إلى القارئ بصور للجمال متنوعة مؤثرة، فالقصة بما فيها من أحداث وشخصيات وتنسيق وقيم وتشويق، تخلب لب الطفل، في كل زمان ومكان، وتجعله يشعر بالمتعة والرضا والإئتناس، وتمده بالمعرفة والخبرة، فيستشعر تلك (اللذة) الروحية التي تفوق في روعتها ماديات الحياة ومغرياتها.

إن تنمية التذوق الجمالي لدى الطفل، له وثيق الصلة بسلوكه المستقبلي وحكمه على الأمور، واتخاذه للمواقف المؤثرة في الحياة، سوف يشغف بكل ما هو جميل.

وسوف يأنف من كل قبيح أو بشع..

عندئذ يجد في نفسه الرغبة لفعل الخير، والبعد عن الشر، وسوف تتكون في ضميره وعقله جذور راسخة للقيم الفاضلة، لأنه حريص ـ بتكوينه ـ على الإستمتاع بما فيها من جمال وخير وحسن عاقبة، وستكون وسيلة لإرضاء ربه، واستقامة أمره، وخدمة مجتمعه، ولسوف ينظر إلى الوجود من حوله نظرة تعمق وفهم وتذوق وتأمل، ويبهر بما لله من قدرة وعظمة، وتترعرع في داخله أزاهير الحب والبهجة والنقاء...

إن الطفل ينزعج أيما انزعاج وهو يستمع إلى قصص البشاعة والقسوة أو يقرؤها، وقد يملؤه الخوف والذعر، فيلجأ إلى من حوله ليحتمي بهم، وتفزعه مشاهد الدماء والقتل والظلم الفادح، وتطارده الكوابيس في نومه، وتتلون نظرته إلى الحياة بلون قاتم مخيف محزن، ولهذا فإن الذين يكتبون للأطفال، يجب ألا يغرقوا في مثل تلك المشاهد والأحداث المرعبة، بحجة أن الحياة فيها الخير والشر، وفيها القبح والجمال، والظلم والعدل، إن الإنحياز إلى الجوانب الخيرة المشرقة في الحياة أمر حيوي بالنسبة لأدب الأطفال، ولا بأس من الإشارة بطريقة عابرة غير تفصيلية لما قد يعتمل في أحداث الحياة من انحرافات وخطأ حتى لا يخدع الطفل، ويكتشف في المستقبل أننا خدعناه، هذا هو الأسلوب الأمثل في تصوير الحياة والناس للطفل، كما يمكن للكاتب أن يلمح إلى أن الشر عاقبته وخيمة، وأن الخير يفضي إلى السعادة والفلاح ورضا الله والناس.

والطفل أقرب إلى تذوق الجمال من الكبار، فقد يرى الجمال في قطعة من الحديد الصدئ، أو دمية صغيرة، أو زجاجة فارغة. فيقتني هذه أو تلك ويحرص عليها، ثم إن نضوج الكبار وخبراتهم وحاستهم النقدية، تجعلهم أقل إستمتاعاً بما يقرأون أو يسمعون من قصص، لكن الطفل يستغرق في تصوراته وأوهامه وهو يقرأ أو يسمع وينتشي أيما نشوة، ويضع لنفسه عالماً فريداً مشوقاً، وينهمك فيه، ويكاد ينسى كل ما حوله، وكاتب الأطفال ـ عندما يدرك ذلك ـ يستطيع أن يفهم أية فرصة نادرة تلك، وأية مسئولية كبرى يحملها، وهو ينقش على تلك الصفحة البيضاء ما يريد من قيم وافكار ومشاعر.

مرة أخرى نقول إن من أهم وظائف أدب الأطفال، تنمية الإحساس بالجمال، ذلك الجمال الروحي الذي لا حدود له، بل إن الجمال الحسي لدى تذوق الطفل له يتحول إلى جمال معنوي، وما البصر إلا عامل مساعد في هذه العملية التحويلية الغريبة، يثريها عوامل عدة أخرى منها مدى درجة الإستعداد، والخبرات المختزنة، والحالة النفسية، وقوة التخيل والشفافية.

14 ـ الحفاظ على حالة التوتر الصحية وتوجيهها

على الرغم من حالة (التوتر) الفطرية الكامنة في الطفل، إلا أننا في حاجة إلى رعاية تلك الحالة، مخافة الزيغ والإنحراف، أو النكوص والتضاؤل، أو الإفراط.

والتوتر الذي نعنيه هنا هو لون من التوقد أو الحماس، تحتويه النفس، ويدفعها إلى الرغبة في العمل والنمو والإبداع، أو بتعبير آخر الرغبة في الطموح، وتحقيق الذات، وأن يحلم الإنسان الطفل بالكمال الأمثل، وإذا كنا من قبل قد تحدثنا عن (التوزان النفسي) لدى الطفل، فإننا هنا نحاول ترجمة هذا التوازن إلى فعل إيجابي، وعاطفة مشدودة نحو الخير والفضيلة والنمو والإنتاج.

والإيمان فكر وعاطفة، وبالتالي فإن العبادات والجهاد، والعمل على التمكين للدعوة، والمشاركة في خدمة المجتمع، وتبني القيم العالية، والتصدي للشر والرذيلة، وغير ذلك من الأمور الأساسية في حياة الفرد، تحتاج دائماً إلى عنصري الفكر والعاطفة، والتأثير متبادل بين العنصرين، ولا يغني أحدهما عن الآخر، بل يرى الكثيرون أن الفطرة أقرب إلى العاطفة منها إلى العقل، وإن كانا متلازمين بنسبٍ متفاوتة.

والإسلام في شموله، حرَّض على تنقية العواطف من الأدران، وشفائها من الأسقام، وتوجيهها الوجهة الإيجابية البناءة، ويلعب الفن الجميل دوراً أساسياً في إنضاج العاطفة وحراستها والحفاظ على اشتعالها وتوهجها، ومن هنا كان حرصنا على أن يعي الذين يكتبون للأطفال هذه الأمور الهامة في تكوين الطفل وتربيته نفسياً وفكرياً وعاطفياً، لا بقصد إيجاد التوازن فحسب، ولكن لشحن الطاقات، وتحريك الأعضاء، وتشكيل السلوك.

ولقد تناول مفكرو الإسلام هذه الناحية بطرائق عدة، ويكادون يجمعون على أهمية القدوة والعبادة والرياضة النفسية، وعدم الإمتلاء الجسدي، أو الشبع المادي، والحرص الشديد على الإلتزام بالقيم والمبادئ الإسلامية، والتقرب بالنوافل، والإستمتاع بالقناعة والإيثار والتضحية، وجعل الغاية رضا الله، والتسابق الدؤوب في ذلك المجال (وفي ذلك فليتنافس المتنافسُون)، والإيقان التام بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وبأننا خير أمة أخرجت للناس، وذلك ليس من باب التعالي الأجوف، أو العنصرية المقيتة ـ حاشا لله ـ ولكن استناداً لما في الإسلام من مبادئ إلهية، تسمو فوق تشريعات الأرض، وتصورات الفلاسفة، ومزاعم محرفي الكتب السماوية، فالطفل المسلم يجب أن يعتز ويفخر بانتمائه لهذا الدين العظيم، وهذه الأمة الفاضلة، التي تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتتحرك تحت راية التوحيد، فهي بذاك وغيره خير أمة...

ويجب ألا نغضب أو نثور ونحن نرى أطفالنا يتفجرون نشاطاً وحماسة، فهذه حالة صحية، وإنما المهم أن توجه التوجيه السليم، فلا تكبت بالعنف والقهر والعقاب، وإنما تستغل في رواية قصص المغامرات والبطولات الهادفة، وتشجيعهم على ممارسة أنواع معينة من الألعاب الرياضية، وشغل وقتهم بأنشطة علمية وهوايات حرفية، وتشجيعهم على الوفاء بالشعائر الدينية المختلفة طبقاً لمقدرته وسنه، وتنمية حب الكشف والفضول العلمي والبحث.

وعندما يكبر الطفل، سوف يجد لديه الرغبة في ارتياد الآفاق، والشغف بالرحلات، ويحاول أن يكون طياراً أو مهندساً أو عالماً أو طبيباً، أو داعية إسلامياً إلى غير ذلك من صور التكيف الإيجابي للشخصية المتسقة..

وعندما ننظر في تراثنا والتراث العالمي، نجد المفكرين الكبار قد تعرضوا لهذه القضية، فسماها بعضهم (القوة الروحية)، أو (التوتر) أو (العشق المقدس) و (الشعلة المقدسة)، أو (تربية الذات)، إلى غير ذلك من المسميات، لكن الذي يعنينا في هذا المجال، هو انعكاس ذلك التصور على نفس الطفل ووجدانه وسلوكه، بالمقاييس الإسلامية الصحيحة، وبأبسط العبارات نقول إننا نريد من الطفل أن يكون نشطاً، وتوَّاقاً للعمل الجاد، والعلم النافع، والسلوك المستقيم، وحب التضحية والإيثار، والإعتزاز بدينه وقيمه، ولا شك أن الحفاظ على هذه المشاعر أو العواطف قوية متقدة، فعالة متحركة، مسيطرة وواضحة، هو ما نطلق عليه (حالة التوتر) Tension وهو مصطلح نفسي، تترجمه العبارات الجامعة التي ذكرناها آنفاً.

وأول الألوان الأدبية التي يمكن توظيفها في هذا المجال هي القصة التي تقدم للطفل بما فيها من حبكة وموضوع وبيئة زمانية ومكانية وتشخيص وأسلوب ووحدة فنية، وهي العناصر المتفق عليها لفن قصة الأطفال، وكل عنصر من عناصر القصة له دور هام في نجاح الهدف من قراءة القصة أو سماعها، ويمكننا أن نلاحظ ذلك على الطفل بعد أن يشهد تمثيلية في التلفاز أو مسرحية، أو يقرأ قصة، فنراه يندفع قائلاً أريد أن أكون مثل هذا البطل، أو يحاول الطفل تقليد بطله المحبوب في حركاته وأحاديثه، بل يسعى لأن يلبس ملابساً مثل ملابسه، وقد يجمع الطفل أصدقاءه، ويحاول تقديم ما سمعه أو شاهده بأسلوب التمثيلية المبسطة التي يقوم هو فيها بالإخراج وتلقين أصدقائه ما بقي في ذهنه من عبارات، وما أكثر الأطفال الذين يقلدون الإعلانات التجارية وما فيها من أغانٍ وحركات.. بل ورقصات ويؤدون ذلك بأسلوب ماهر، يبلغ درجة كبيرة من الإتقان، حتى كادت مثل هذه الإعلانات أن تضر بالطفل، أو على حد تعبير (بيير بلفيه) تصيب خياله بالمرض.

وكاتب قصص الأطفال الأمين يستطيع أن يحمي حالة التوتر تلك من التميع والإحباط والإنحراف.

15 ـ توضيح مكانة المرأة المسلمة

من الأمور البديهية أن أدب الأطفال يجب أن يراعي إحتياجات الولد والبنت، ويدرك الفرق بين الأنثى والذكر، مع التسليم بوجود الإهتمامات المشتركة التي تجمعهما معاً، هذا التصور الإجمالي تندرج تحته عناصر عدة كثيرة إذا ما حاولنا التفصيل، فالذكر له رسالته في الحياة، واختلافاته الفسيولوجية والنفسية والعملية، وكذلك الأنثى لا يمكن ان تكون صورة طبق الأصل من الذكر، وهذا الإختلاف لا يغض من شأن الأنثى أو يحقرها أو ينقص من قدرها، إذ إن لكل من الرجل والمرأة رسالة عظيمة، وكل منهما يكمل الآخر، والرباط الذي يربط بينهما هو الحب والتعاون، والرحمة والسكن، وبناء الأسرة السعيدة، وإعداد الاجيال الجديدة للمستقبل، ولهذا نرى أن العقيدة تستنكف العلاقات الثنائية الطائشة، والملذات الآثمة العابرة، والخروج الخاطئ عن دائرة التخصيص والإلتزام، كما راعى الإسلام قداسة صلة الرحم، وأهمية تقويتها وتقويمها، كأصل من أصول السعادة الأسرية، وكأساس متين من أسس البنية الإجتماعية، دونما تعصب أو إهدار لأخوة العقيدة التي تسمو فوق كل رباط من البشر أيا كانت ألوانهم أو أجناسهم.

ونحن ندرك تلك الفوارق الطبيعية عندما نراقب الأطفال وهم يلعبون ويتحدثون، فنرى البنت تناجي (عروستها) وتتشبه بالأم في تعاملها مع هذه العروسة، فتحاول مناغاتها وملاطفتها. كما تحاول إطعامها وتنويمها في رقة، بينما نرى الطفل شغوفاً باللعب بدمية الحصان، أو استخدام الفؤوس وشق القنوات الصغيرة وملئها بالماء، ويقلد ما يفعله أبوه في عمله اليومي طبقاً لما يراه في بيئته، وكلما تقدم العمر بالأطفال، بدت الفروق أوضح في مجال اختيار اللعب، وفي مجالات السلوك والقراءة والهوايات والطموحات والآمال، فالولد يحلم بأن يكون بطلاً في الحرب أو طياراً أو ضابطاً أو لاعباً للكرة، والبنت تتشوق لأن تكون زوجة وأماً، أو مدرسة مثل مدرستها، أو قادرة على الحياكة أو التمريض أو التمثيل، وغير ذلك من الأمور التي تشاهدها على الطبيعة في بيئتها أو في وسائل الإعلام، وعلى صفحات الكتب..

وفي تاريخنا الإسلامي العظيم صور نابضة بالقوة والتفوق لنساء مسلمات، يمثلن القيم الحضارية الإسلامية، وضربن أروع المثل في العمل والصبر والتضحية والقدرة العلمية والأدبية، وفي تاريخنا أيضاً أسمى المبادئ التي حررت المرأة من الخوف والإستعباد والقهر، وأعطتها كافة حقوقها المادية والمعنوية، بل جعلها الرسول أسبق من الأب في أحقيتها ببر أبنائها، وهي صورة من التكريم تتضح عظمتها عندما نقارن وضعها بوضع مثيلاتها في الحضارات السابقة أو المعاصرة مع الإسلام.. المرأة المسلمة إذن ليست مجرد (معمل للتفريخ) أو وسيلة من وسائل الإمتاع الرخيص وقضاء الشهوة، وليست مجرد مخلوق يؤمر فيطيع، ويكلف بأثقل الأعباء وأشقها، أو يعامل معاملة قاسية بذيئة.

والقصص التي تتناول الأنثى وتجعل منها غادرة أو خائنة أو متمردة أو قاسية، لا تقدم الصورة الصادقة لواقع الإسلام وحياة المجتمع المسلم، مع تسليمنا بأن المجتمع فيه الشرير والخيِّر، وفيه الصالح والطالح، من النسوة أو الرجال، لكن الذي نريد أن (نوحي) به للأطفال في هذا المجال هو:

أولاً: المرأة ـ كأي إنسان ـ لها حقوق وعليها واجبات.

ثانياً: المرأة نبع الحنان الذي لا ينضب، ومصدر الحب الذي لا يجف، فهي التي حملت إبنها جنيناً ورضيعاً، ورعته صبياً، وأغدقت عليه كل ما في وسعها من بر، إذ تجوع ليشبع، وتكدح ليستريح، وتضحي بكل ما تملك ـ حتى بحياتها ـ من أجل سعادته والحفاظ عليه.

ثالثاً: والأم الصالحة هي القدوة، كزوجة أو إبنة، أو أخت أو أم.. الأم مدرسة.

رابعاً: طاعة الأم من طاعة الله، ومراعاتها عند الكبر واجب ديني وإنساني.

خامساً: المرأة أحد الأعمدة الهامة لصرح الأسرة والمجتمع.

سادساً: المرأة ـ في إطار التشريع الإسلامي ـ ملتزمة بالزي المحتشم، والسلوك النظيف، والعلاقات الخاصة والعامة التي جاء بها الإسلام.

سابعاً: مقياس التحضير للمرأة لا يؤخذ من الحضارات الوافدة، والغزو الفكري الغربي أو الشرقي، وإنما يؤخذ ذلك المقياس من قيم الإسلام ومبادئه.

ثامناً: القصص التي تبالغ في تعظيم المرأة، وتجعل الفوز بها هو غاية الغايات، واعظم الأمنيات قصصاً مشوهة لا تخدم الحقيقة، وما أكثر القصص التي تزخر بالفرسان والأبطال، وبالملوك والأمراء، وهم يتبارزون ويتحاربون من أجل أن يفوز أحدهم بقلب امرأة، ويرتكب في سبيل ذلك الحماقات والمظالم، ويدوس القيم والمبادئ، مثل هذا اللهاث المحموم المريض، الذي ينظر إلى المرأة كهدف وكغنيمة وكلذة كبرى، ما هو إلا ضرب من الوثنيات الغربية التي أفرزتها عقول قرون الظلام والإنحراف.

تاسعاً: كذلك القصص التي تحقر من شأن المرأة، وتجعل منها حيواناً أو أقرب إلى الحيوان، إنما تقدم نموذجاً مشوهاً أيضاً للمرأة.

*   *   *

إن التراث الشعبي في القصص (كألف ليلة وليلة) يكتظ بالكثير من النماذج المشوهة للمرأة، مع وجود صور أخرى تختلف عن ذلك في هذه القصص، مما يجعله دائماً في حاجة ماسة إلى التنقية من الشوائب، وإعادة التقديم بصورة افضل، وهذا ما فعلته بريطانياً بالنسبة للكثير من القصص العالمي، إذ حاولت أبعاد الأحداث والممارسات التي تضر بنفسية الطفل ووجدانه وسلوكه، مع محافظتها على الأسماء المشهورة وهياكل البناء الفني، والأسلوب المؤثر.. كتّاب أدب الطفل مطالبون بإعطاء الصورة الفاضلة للمرأة ولعلاقاتها وإلتزاماتها المتشابكة، وهذا لا يعني بالطبع ألا نقدم بعض ألوان الشر والإنحرافات، ولكن بأسلوب هادف مخفف لا يورث الطفل التعقيد والخوف والحيرة..

بين النظرية والتطبيق

نتناول هنا عدداً قليلاً من النماذج من أدب الأطفال، ونحاول تحليلها بإيجاز على ضوء التنظير السابق.

ـ 1 ـ

صديقي الحقيقي

كاتب هذه القصة القصيرة للأطفال، هو المؤلف الإذاعي، والباحث وأحد كتاب الأطفال المعاصرين الأستاذ عبد التواب يوسف، وقبل أن نتعرض لقصته بالقراءة والتحليل، علينا أن نستمع لبعض آرائه ـ كخبير لأدب الأطفال ـ حول ما يكتب لهم.

يقول عبد التواب يوسف: (إن خيال الطفل دنيا واسعة بلا حدود، تعيش فيها صور وشخصيات وأحداث ومرئيات، وإذا نحن لم نخلق له هذه الدنيا، فإنه يبتكرها ويوجدها.. إنها دنيا يستوحيها الطفل مما يسمعه من قصص أو حكايات، ويعيد فيها تنظيم العالم حسب رؤيته، وكما يحلو له أن يصوره..

(وأطفال اليوم قد ضاقوا بسذاجة الكتب التي تسمى كتب الأطفال، وضاقوا ببساط الريح وسندريللا وغيرها، ورفضها كثيرون لأنها بالغة السذاجة، ولا تجدو خيالهم، وفي الوقت الذي يستطيع هذا الخيال أن يغير الكثير من ذوقهم، وبالتالي يغير من عالمنا ذاته، ولهذا ينادي البعض بألا نخاطب الطفّل من أعلى، خاصة في مجال الخيال، لأنه يسبقنا ويتفوق علينا في هذا الميدان بالذات.

(وهناك فارق بين الخيال من جانب، وبين الكذب وعدم الصدق من جانب..... والأطفال يحبون سماع الحكايات التي يعتقدون أنها ممكنة الحدوث، وهم أيضاً لا يرفضون الأحداث الخارقة..) ويحذر الكاتب من إغراق الطفل في الخيال، الأمر الذي يبدد طاقته الواقعية، ويجعله يحيا دائماً في أحلام اليقظة، ويهرب من مواجهة الواقع، كما أننا ندفعه عن طريق الإغراق في التصورات إلى تحويل الخيال إلى أكاذيب، وقد يكذب الطفل ويكذب، حتى يصدق نفسه حين يتجاوز سن الطفولة المبكرة..(1)

والآن نقدم قصة (صديقي الحقيقي) بنصها لنفس الكاتب، ثم نضع بعض تصوراتنا حولها.

كان لأحد الملوك ابن ذكي، وكانت أسعد لحظات الملك، تلك التي يجلس فيها مع ابنه، يحكي له عن بطولات جنده وشجاعتهم، وتمضي الساعات والإبن جالس، وقد فتح أذنيه، وعينيه، ليستوعب كلمات أبيه وقصصه التي تحكي عن البطولة.

وكان سعيد الصغير يضيق كثيراً، إذا قطع عليه أحد هذه الجلسات الممتعة، ولكن أعباء كثيرة كانت على والده، وكان لا بد أن يقابل ضباطه وجنوده ورجاله.

وكان الملك ينصح ابنه ويقول:

ـ (يجب أن يكون لك أصدقاؤك)

وسأله سعيد يوماً:

ـ (كيف اختار صديقي الحقيقي يا أبي؟)

قال أبوه:

ـ (عليك أن تختبر هذا الذي تصادقه، وهناك إختبار طريف، أدع هذا الذي تعتقد أنه يصلح صديقاً إلى طعام الإفطار، هنا في بيتنا، وأَجِّل تقديم الطعام إليه، وخلال ذلك أسلق ثلاث بيضات، ثم قدمها لضيفك لترى كيف يتصرف)

وبدأ الابن يجرب هذا الإختبار الطريف كان بعض من يدعوهم للإفطار يضيق بالإنتظار، فيهتف صارخاً مطالباً بالطعام.. والبعض الآخر لا يصبر، بل يغادر البيت في غيظ لأنهم لم يحضروا الإفطار، وآخرون تصرفوا بلا ذوق ولا أدب قبل أن يحمل إليهم صاحب البيت البيضات الثلاث..

وكان من بين أصحاب ابن الملك (سعيد) صديقه (عادل) ابن الوزير، وكان يشعر أنه ولد مخلص طيب، ورغب أنه يمتحنه، فدعاه إلى طعام الإفطار، وعندما جاء الطبق، وفيه البيضات الثلاث نظر إليها (عادل) في دهشة وقال:

ـ هل هذا هو كل إفطارنا؟؟ إنها لا تكفيني وحدي) وعندما غادر البيت، وترك الطعام، لم يأسف عليه سعيد، لأنه عاب الطعام، وأثبت أنه غير قنوع، ولا يستحق أن يكون صاحباً لإبن الملك.. وجاء الدور على ابن كبير التجار.

كان ابن كبير التجار فرحاً بدعوة ابن الملك له، لكي يتناول طعام الإفطار، لذلك لم يأكل عشاءه في الليلة السابقة، وجاع ابن كبير التجار، وأخيراً حمل إليه ابن الملك الطبق، وفيه البيضات الثلاثة، وتركه لحظة قصيرة ليأتي فيها بالخبز، وعاد ليجده قد أتى على البيضات الثلاث، إلتهمها في لمح البصر، ولم يبق منها شيء لصديقه ابن الملك الذي دهش وقال له:

ـ (هل أكلت كل البيض؟)

قال ابن التاجر:

ـ (كل البيض؟ إنه ثلاث لا أكثر)

قال سعيد:

ـ (ليس هناك غيرها طعام إفطار)

قال ابن التاجر الكبير في دهشة:

ـ (أهذا معقول؟)

ضاق ابن الملك بكل الأولاد من حوله، إنهم لا يستحقون أن يعطيهم كل حبه ووده، لذلك انصرف عنهم إلى البحث عن الصديق في مكان آخر.

وبدأ سعيد ينطلق إلى الحقول والغابات لعله يلتقي بواحد يكون هو صديقه الحقيقي: وتعرف ذات يوم إلى ولد يرتدي ملابس بسيطة، وتبدو عليه علامات الفقر وعلامات الذكاء أيضاً، عرف أنه ابن الحطاب، وعندما سأله سعيد أن يلعب معه ويصادقه رفض وقال:

ـ (لا أظن أننا نصلح أصدقاء، فما أنا إلا ولد مسكين فقير، وأنت ابن الملك)

قال له سعيد:

ـ (لماذا لا نجرب؟)

قال ابن الحطاب:

ـ (لا مانع عندي، بشرط أن تفهم أننا متساويان كأصدقاء أوفياء في كل شيء.

وافق سعيد على شرط ابن الحطاب، وبدأ يلعب معه، خرجا معاً إلى الصيد، وتعلم منه سعيد كيف يستخدم القوس، وكيف يقاتل الحيوانات المفترسة، وكيف يتسلق أشجار الغابة، وقضى معه وقتاً جميلاً رائعاً، وأحس سعيد أنه مع إنسان ذكي، طيب، وقلبه كبير، وعاد إلى بيته مسروراً.

والتقى ابن الملك مع ابن الحطاب في اليوم التالي، وسارع ابن الحطاب يدعوه إلى الإفطار معه في كوخه، قبل أن يدعوه سعيد إلى بيته ليختبره كما اختبر زملاءه. وفي الكوخ تناولا معاً طعام الإفطار البسيط، الذي يتكون من الخبز والملح، وقد اكل سعيد بشهية، وكاد يطلب المزيد، لولا أنه خشي أن يكون ابن الحطاب قد دعاه لهذا الإفطار كاختبار له، وليرى إن كان يصلح صديقاً له أم لا، لذلك اكتفى سعيد بما قدم إليه، وحمد الله، وانطلقا معاً لمغامرة جديدة، يتعلم فيها ابن الملك شيئاً مفيداً لم يعرفه من قبل، واستمتعا بوقت طيب، وافترقا على وعد من ابن الحطاب، بأن يزور صاحبه في قصره في صباح الغد، لكي يتناولا طعام الإفطار.

وعلى مائدة الإفطار في ذلك الصباح، كان هناك الطبق وفيه البيضات الثلاث، وامتدت يد ابن الحطاب لواحدة منها قشرها لنفسه، بينما كان ابن الملك يقشر بيضة ويأكلها، وأخذ ابن الحطاب البيضة الثالثة، وقشرها، وانتظر سعيد ليرى ماذا سيصنع ابن الحطاب بها، هل سيأخذها لنفسه أم يهديها إليه؟ ولكنه تصرف بطريقة أخرى بسيطة، أخذ السكين من على المائدة، وقطع بها البيضة إلى جزءين متساويين، أخذ لنفسه نصفاً، وأعطى الآخر لابن الملك، الذي قام يعانقه ويهتف قائلاً:

ـ (أنت صديقي الحقيقي).

وكبر الولدان، وكبرت الصداقة بينهما، وبعد سنوات طويلة، تولى سعيد حكم البلاد، وكان أول وزير يختاره) هو صديق طفولته الوفي ابن الحطَّاب.. فكان له خير صديق وخير ناصح أمين..

(انتهت القصة)

لو حاولنا أن نطبق مقاييس النقد الخاص بأدب الأطفال على هذه القصة ـ آخذين في الإعتبار ـ الآراء النقدية التي سجلناها لمؤلفها في بداية حديثنا عنه لأمكننا بسهولة أن نصل إلى النتائج التالية:

أولاً: وضوح الفكرة دون تشتت أو غموض.

ثانياً: حلاوة السرد السلس الشيق، وقصر الحوار المعبر، وعدم الإكثار منه.

ثالثاً: البداية ـ أو المقدمة ـ القصيرة، ثم الدخول في الموضوع الذي يتعلق باختبار الصديق الحقيقي المناسب.

رابعاً: تراكم الأحداث بصور ونماذج وتتابع شيق حتى بلوغ القمة أو العقدة.

خامساً: القصة في مجملها تشبه قصص الحكمة في التراث القديم إن لم تكن مأخوذة منه بصورة معدلة مهذبة.

سادساً: قدمت القصة في إطار يبدو واقعياً مقنعاً، دون أن تهدر الخيال المناسب، بالجرعات المقبولة.

سابعاً: تأكيد المعنى الشعبي التراثي (للخبز والملح) باعتبارهما رمزاً للصداقة والمحبة والإخلاص.. أو كما يسميها البعض (عيش وملح).

ثامناً: الألفاظ سهلة مفهومة، ولا نكاد نجد أي صعوبة في إدراك معنى الألفاظ اللهم إلا كلمة (يستوعب) التي جاءت في بداية القصة، لكن لا بأس أن يخرج الطفل بكلمة جديدة تشرح له إذا سأل عنها.

تاسعاً: إستطاع المؤلف ببراعة، أن يصور الفرق الشاسع بين ابن الوزير وابن التاجر وأضرابهم، وبين ابن الحطاب لأن حياة الأخير كانت مترعة بالخبرات الجيدة، كاستخدام القوس، والتصدي للحيوانات المفترسة، وتسلق الأشجار، وعدم التفريط في كرامته وكبريائه، والظهور بالمظهر العادي البسيط الصادق، دون أن يخجل أو يأنف من ذلك، ولهذا لم يجد ابن الحطاب بأساً من ان يقدم الخبر والملح للأمير ابن الملك، كما وجد ابن الملك في ابن الحطاب الحكمة والكياسة وحسن التصرف، دون تملق أو رياء، وخاصة عندما اشترط على الأمير في صداقته أن يكونا متساويين، وعندما اقتسم البيضة الثالثة.. نصفاً لكل منهما.

عاشراً: وتأتي النهاية السعيدة المريحة كشيء طبيعي، فيكون ابن الحطاب ـ برغم كونه من عامة الشعب ـ هو الصديق الحقيقي المناسب، ويصبح وزيراً عندما يتقلد سعيد مقاليد الحكم..

*   *   *

والكاتب كما نرى يحبذ الشكل الواقعي للقصة، لأن الطفل ـ كما يعتقد ـ يرفض مخاطبته من علوٍ، ويكره الكذب والإدعاء، كما يعرف الفرق بين الخيال والكذب، ولعل من الواقعية التي أغفلها الكاتب أن يسمي بيت الملك (قصراً) فهذا أفضل للسياق والموضوع والبيئة، كما قد يكون مناسباً أنه يسمي سعيد مثلاً (الأمير سعيد) لأنه ابن الملك، ولن يخل ذلك بفكرته أو الشكل الفني الممتاز الذي قدمه.

لكن كيف ننظر لهذه القصة من وجهة النظر الإسلامية؟؟

لقد سبق وقررننا أنه ليس من الضروري دائماً أن تكون القصة من التاريخ الإسلامي، أو تراثه القصصي الفيَّاض حتى تعتبر قصة إسلامية، لكن المهم أن تحمل القيم والإيحاءات والرموز الإسلامية من خلال الأحداث أو الحوار أو المبادئ التي تدعو لها، ولذا نرى في القصة بعض المعاني الإنسانية النبيلة، والمبادئ الإسلامية الرفيعة، فالإسلام نهى عن صحبة السوء، وأمر بإختيار الصديق الصالح النافع المفيد، واعتبر صديق السوء (كنافخ الكير). والصديق الصالح (كبائع المسك) كما جاء في الحديث المشهور للنبي(ص)، ووضع الإسلام للصديق الأمثل مواصفات عدة وردت في الكثير من الآثار الإسلامية، كأن يكون ناصحاً أميناً، ويعين على طاعة الله، ويصدق في قوله، ويبر في عمله، ولا يوقع بالفساد بين الناس، وأن يكون مثلاً يحتذى في الأمانة والوفاء والإلتزام بأوامر الله ونواهيه، وقد كان ابن الحطاب نموذجا طيباً في الصدق والفطنة (والمؤمن كيس فطن) وفي النشاط والعمل، وفي الإنصاف والروية، وفي اكتساب المهارات، دونما عنجهية أو غرور أو تكاسل أو رعونة، وهو بالمقاييس الإسلامية صديق طيب.. لكن يبقى شيء.. كان يستطيع الكاتب أن يشير من طرف خفي إلى صفة أساسية تتعلق بناحية العبادات.. نحن لا نطلب من الكاتب أن يتحول على الوعظ المباشر، لكنه كان يكفيه أن يضيف ولو عبارة واحدة تقول مثلاً: (فلنؤدِ صلاتنا أيها الأمير..)، وبذلك يمكن أن نقول بأن شخصية الصديق الحقيقي ـ أبن الحطاب ـ الذي سيصبح وزيراً فيما بعد، نقول أن هذه الشخصية قد اكتملت ملامحها إسلامياً، وأصبحت شاملة لأهم الصفات المثالية.

بقيت نقطة أن لكل (حدث) زمان ومكان، وفي هذه القصة لا نستطيع أن نعرف في أي زمان وقعت هذه الأحداث، ولا في أية دولة أو بقعة أو مدينة، قد يقول قائل: يكفي أنها حدثت في الزمن القديم، وقد يعلق آخر زاعماً أن مثل تلك القصص ذات سمات عامة، ودلالات واضحة تتصل بالحكمة أو المثل، والتركيز في هذا الإطار يكفي، وتجاهل الزمان والمكان المحددين سوف يساعد على عدم صرف ذهن القارئ إلى أشياء أخرى فرعية، وقد تكون وجهة النظرة هذه أو  تلك مقبولة لحد ما، لكن الذي لا شك فيه أن إضافة إسم مدينة أو دولة أمر بسيط، ثم إنه سوف يضيف مادة جديدة تثير خيال الطفل، وخاصة أن الكاتب نفسه في بحثه أكد على أهمية استعمال كل الوسائل الممكنة المتاحة لإثارة خيال الطفل وتحريكه.. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الصفة المكانية ـ ولو بإيجاز ـ للعمل الفني.

ومع ذلك فالقصة في عمومها ترجمان عن أدب حديث مناسب للأطفال، وروعيت فيه النواحي:

ـ الفكرية

ـ والنفسية والوجدانية

ـ والخيالية

ـ والجمالية بصفة عامة..

ـ 2 ـ

قصص الأنبياء

ما أكثر ما كتب في قصص الأنبياء للأطفال في شتى اللغات وفي الأديان السماوية بصفة عامة، لكن: (مجموعة قصص الأنبياء) التي أشرف عليها الأستاذ محمد أحمد برانق كبير مفتشي التربية الإسلامية بوزارة التربية والتعليم بمصر (سابقاً)، والتي اصدرتها دار المعارف تعتبر من الأعمال الهامة بالنسبة للطفل المسلم، وهي مجموعة ـ كما جاء في برنامجها ـ جديدة في أسلوب سهل ممتع، وإخراج جميل أنيق، للصغار والكبار، تصف حياة الأنبياء، وجليل أعمالهم، وتسرد ما صادفهم من حوادث مع أقوامهم، خالية من الشوائب والإسرائيليات، حتى تظل العقيدة سليمة نقية، تمكن الإنسان من التقرب إلى الله تعالى وحده، والإعتصام بدينه وتعاليمه، والتخلي بالفضائل الحسنة، والتمسك بالأخلاق الكريمة...)

وقد صدر من هذه القصص ـ صالح ـ إبراهيم الخليل ـ يوسف الصديق ـ يوسف العفيف ـ موسى الرضيع ـ موسى والسحرة ـ سليمان وبلقيس ـ أيوب ـ عيسى المسيح... الخ.

لكن هذه المجموعة بصفة عامة تناسب المرحلة الأخيرة من الطفولة، نظراً لموضوعاتها وما فيها من معنويات يجد الطفل الأصغر صعوبة في تمثلها واستيعابها، ولسمو اسلوبها لحد ما، مما يحتاج معه الطفل إلى كثير من النضوج والإطلاع المسبق وسوف نتناول واحدة من هذه القصص ثم نعلق عليها، إنها قصة (هود)، وهي في ثلاثين صفحة من القطع المتوسط وبها أربع لوحات غير ملونة، والكلمات مرقمة، والحروف من الحجم فوق المتوسط، وفي كل صفحة ستة عشر سطراً، ونجد أن علامات التعجب والإستفهام والفصلات والنقط وغيرها في موقعها الصحيح من الجمل والعبارات، كما إننا لا نجد فيها أخطاء مطبعية أو نحوية أو لغوية، فهي قد أعدت بعناية فائقة من هذا الجانب.

وتبدأ القصة بعد أن رست سفينة نوح على الجبل، وانحسر الماء، وعاش الناجون حول جبل (الجودى) وتكاثروا، ثم هاجر بعضهم، ومن المهاجرين قبيلة تمتاز بضخامة الأجسام زعيمها اسمه (عاد) وهو الإسم الذي تسمَّت به القبيلة، التي رحلت على جبال (الأحقاف) وهي تقع في جنوب بلاد العرب بين اليمن وخليج عمان.

وصعد عاد إلى قمة الجبل ذات يوم فسمع صوتاً هائلاً مزعجاً، حاول أن يفهم سره، وبعد أن سد ثغرة في كتلة صخرية تشبه الإنسان تقريباً صمت الصوت.

وانحرف قوم عاد عن الجادة إذ ظلموا وتجبروا وقطعوا الطريق، ونسوا المعاني الإنسانية الرفيعة، ونسوا التوحيد أيضاً، وعبدوا الأصنام، وتوجهوا بدعائهم وصلواتهم إلى الهيكل الصخري الذي يشبه الإنسان فوق قمة الجبل بإعتباره كبير آلهتهم من الأصنام.

وعاش بينهم رجل صالح اسمه (هود) دعاهم إلى الإيمان الصحيح والعمل الصالح، والبعد عن الفتك والغدر والظلم، لكنهم اتهموه بالضعف والخور والضلال، وسخروا منه عندما أبلغهم أنه رسول الله إليهم، وانغمسوا في ملذاتهم والنعيم الرائع الذي تحقق لهم، ولم يؤمن بنبي الله (هود) إلا فئة قليلة، وكان زعيم الكافرين الضالين في تلك الفترة التاريخية رجل إسمه (جهلمة) الذي اتهم (هود) بالجنون والسفاهة، وتحداه بأن يأتي بآية..

وطال الصراع بين الطرفين، وظل (هود) يدعو ويدعو، حتى بُحَّ صوته، فما ازداد الكافرون إلا عناداً وضلالاً.

وجاءت لحظة العقاب.. لقد ظهرت سحابة سوداء في الأفق، وقال الكافرون إنها المطر والخير العميم، وقال هود بل إنها ريح وأعصار مدمر.. وفيها عذاب مقيم لمَّا ابوا أن يؤمنوا بالله، وينصاعوا للحق والعدل.. وقد فهم هود ذلك من جبريل عليه السلام، وذهب هود والمؤمنون ـ طبقاً لأمر الوحي ـ إلى جانب آخر من الجبل. وبقي (جهلمة) وقومه في منطقتهم المعهودة ينتظرون المطر...

وحانت لحظة العقاب الرهيب: (كان السواد الذي رأته العمالقة، وظنته سحاباً ممطراً، ريحاً صرصراً، وإعصاراً مدمراً، هب عليهم عنيفاً، فاقتلع الأشجار، وهدم القصور، وردم الشوارع والميادين، وحملت الرياح هؤلاء العمالقة الضخام، وطيرتهم في الجو. وكانوا يسقطون على رؤوسهم، فتُدق أعناقهم، وإذا عمالقة عاد، الجبابرة الشداد، قد غرسوا في الرمال كأنهم أعجاز نخل خاوية..)

أما هود وصحابته، فقد لجأوا إلى كهف ثمانية أيام، ولما خرجوا سالمين، وجدوا المدينة (مدينة إرم ذات العماد) وقد تحولت إلى أطلال، والمزارع إلى أرض قفرة، ولم ينج إلا تلك البيوت المنحوتة في الجبل تشهد بظلمهم وسوء عاقبتهم، ثم اتجه هود بمن آمن معه إلى (حضرموت) فعاشوا فيها يعبدون الله.

*   *   *

والقصة ـ كما هو واضح ـ تعالج القضية الرئيسية في العقيدة ألا وهي قضية التوحيد، والقصة مأخوذة من القرآن الكريم وملتزمة به، ولم تفسح مكاناً للخرافات والأساطير الموضوعة، واستطاع المؤلف أن يبين فساد الفكر، وضلال الإعتقاد، وغرابة الوهم المسيطر على النفوس، وخاصة في واقعة الصوت الغامض الذي ينبعث من قمة الجبل بسبب ظاهرة طبيعية عادية، حسبها الضالون سحراً وغموضاً ورمزاً لآلهتهم ومشاعر أصنامهم، وبين الكاتب ضخامة الرجال، وسمت القوة والبطش، وعظمة الثراء والرفاهية التي تنعم فيها المبطلون، فلم يغن هذا كله، حين وقع عليهم عقاب الله..

كان التحدي واضحاً بين هود وقومه.. وتصعد التحدي أو الصراع إلى القمة أو (العقدة)، وأحسن المؤلف تصوير الشخصيات بما يتفق وطبيعتها، ورتب الأحداث بصورة محكمة، وبدلاً من ايراد الآيات القرآنية، كان يتحدث بمعناها أو تفسيرها في معظم العبارات، وكان النصر في النهاية للمؤمنين الصالحين.. أي انتصر الخير على الشر..

ولم تغفل القصة جانب الخيال، إن عبق التاريخ يفوح من بين سطورها وأحداثها وأسماء الأمكنة والأبطال، كما أن المؤلف إستطاع توظيف ظاهرة الصوت المنبعث من الجبل عند القمة تصويراً مثيراً يدعو إلى التفكير والتأمل، وإن استطاع أن يبين سبب الظاهرة بأسلوب علمي. لكن المعجزة جاءت كدليل على قدرة الله وعدالته، وتأكيداً قوياً على صدق رسالة (هود) مما زاد من يقين أتباعه المؤمنين به، وكانت عمليات قطع الطريق، والتمادي في القسوة، والإنصياع للغرور، والتشبث بالعقيدة الخاطئة، وقائع راسخة، يصعب نسيانها بالنسبة لمن يقرؤها ويعايشها، بل يشعر القارئ بالكراهية والإشمئزاز من هذه الممارسات الطائشة الجائرة في الحياة، مما يجعله يتلهف إلى سماع النهاية، وصورة العقاب العادل لهذه الفئة الباغية.

هي قصة إذن من القصص الديني التهذيبي، الثابتة بالنصوص القرآنية، والتي تكتسب قداسة واحتراماً لدى القارئ، ويجد فيها المتعة إلى جوار المنفعة، لما لها من تأثير وجداني وعقلي ونفسي.

غير أن بالقصة كلمات وعبارات تحتاج إلى قدر من المساعدة لفهمها، مما يجعلنا نقول إنها تناسب الأطفال في المرحلة الإبتدائية العلُيا، أما دون ذلك فتحتاج إلى قدر من التبسيط.

ولقد قدم الأستاذ (عبد الحميد جوده السحَّار) قصصاً مشابها في نفس الموضوعات التي طرقتها سلسلة (مجموعة قصص الأنبياء) وسماها (القصص الديني ـ الانبياء) وقسمها إلى حلقات، وسوف نتناول واحدة منها للمقارنة إن شاء الله.

ـ 3 ـ

من المقتبس والمترجم

إن المترجم والمقتبس من قصص الأطفال يشكل حيزاً ضخماً في تراثنا المعاصر في أدب الأطفال، بل إن روَّاد ذلك الأدب المخلصين قد لجأوا إليه، فنرى ذلك عند أمير الشعراء (أحمد شوقي) حين أخذ بعض قصص (كليلة ودمنة) نقلاً عن الفرنسية، ونرى ذلك أيضاً عند (كامل كيلاني) وغيره، والواقع أن (كامل كيلاني) كان موسوعة فيما قدَّم من قصص منوع للأطفال يشمل التاريخ والأسطورة والقصة العلمية والمترجمة والمقتبسة وقصص التراث الشعبي وغيره، وحتى يومنا هذا ما زال المترجم والمقتبس والمعرب يحتل حيزاً كبيراً كما قلنا، لكن المهم في الأمر ـ كما سبق وأكدنا ـ مراعاة ما يناسب عقيدتنا وقيمنا عندما ننقل عن الآداب العالمية.

وسوف أتناول قصة قصيرة، هي أقرب إلى المثل والعبرة منها إلى القصّة المستوفاة طولاً وعناصر، والقصّة كما كتبت تحت عنوان:

حكاية أعجبتني.

(إنتقام فلاح)(2)

إعتاد ثعلب أن يسطو على حظيرة الدجاج في بيت أحد الفلاحين، فوضع الفلاح مصيدة، استطاع بها أن يمسك الثعلب.

وكان الفلاح يشعر بالغضب الشديد لكثرة ما قتل الثعلب من الدجاج، فأراد أن ينتقم منه، فربط حزمة من الخرق في ذيل الثعلب. وأشعل فيها النار، ووقف يتأمل الثعلب، وهو يتلوى من ألم الثأر وأصاب الألم الثعلبْ بالجنون، فاندفع يجري ناحية الحقول وقد اشتعل جسمه.

كان القمح قد اصفرَّ لونه، وأصبح ينتظر الحصاد، وسرعان ما اشتعلت فيه النار واحترق، وفقد الفلاح مصحوله كله.

وهكذا أدرك الفلاح بعد فوات الألوان أن الإنتقام سلاح ذو حدين.

ـ انتهت القصة ـ

 

تعليق:

الواقع أن الحكاية ـ برغم قصرها ـ قدمت صورة حية نابضة بالحركة والحياة، ورمزت إلى الجو المشحون خارج شخصية الفلاح وداخلها، فلأول وهلة يدرك القارئ ـ أو السامع ـ فداحة الخسائر التي يسببها الثعلب الماكر، ويلحظ غدره بالدجاج البريء الضعيف.

ولذلك نرى القاص يقول (لكثرة ما قتل) ولم يقل لكثرة ما خطف.. لأن القتل والدم مؤلم ومثير. كما استطاع القاص أن يفصح عن نفسية الفلاح وغضبه، وخاصة عندما ابتكر وسيلة العقاب القاسية، ثم وقوفه يتشفى وينظر إلى الثعلب وهو يتألم من النار الحارقة، إن القاص يريد أن يوحي بأن:

1 ـ الإنتقام غير العقاب.

2 ـ الإنتقام مع الحقد ضار وخطير.

3 ـ الحقد يفقد الإنسان التروي والحكمة.

4 ـ الحقد أعمى، ويوقع الضرر بصاحبه عندما يوقعه على عدوه أي ذو حدين.. ضار ونافع.

والكاتب لا يترك الطفل هكذا، دون أن يضع أمام عينيه الحكمة أو العبرة، التي يمكن ان تؤثر في سلوكه، ويعلمه كيف ينظر إلى بعيد، ويحاول أن يتخيل ما يمكن أن يحدث مستقبلاً بسبب أي تصرف يأتيه في لحظة من اللحظات، والعاقل من يبتعد عن الحقد، ويفكر جيداً فيما يفعل، ويبحث في نتائج ما هو مقدم عليه حتى لا يندم.. نعم حتى لا يندم.

أترى يغيب عنا المعنى الأخلاقي والسلوكي في هذه الحكاية؟؟ ورغم ما في الحدث من ألم ومرارة وعاقبة وخيمة، إلا أن منظر الثعلب وهو يجري والنار مشتعلة فيه، قد يكون فيه جانباً من الفكاهة التي قد يطرب لها الأطفال برغم قسوتها ومرارتها، لكن أليس ذلك الثعلب هو الذي (قتل) الدجاج البرئ؟؟ والأطفال يحبون الدجاج، ويتألمون لذبحه ـ مع أنه مشروع ـ وقد يبكون عند ذبح خروف العيد والحيوانات الأليفة، لكن طبيعة الحياة بالتدريج تجعلهم أكثر قناعة بما أباحه الشرع..

والثعلب في نظرهم مجرم قاتل يستحق العقاب.. لكن أي عقاب؟؟ تلك هي القضية..

ولنفس الكاتب حكاية أخرى ـ نفس المصدر ـ تحت عنوان:

(الأفيال والحفرة)

في إحدى الغابات الأفريقية، حفر الصيادون حفرة كبيرة، غطوها بالأغصان وأوراق الشجر، وتركوها إلى أن يسقط فيها، حيوان يأخذونه حياً إلى حدائق الحيوان.

وفي الصباح، إقترب قطيع من الأفيال، كانت الأفيال تبحث عن ماء تشرب منه، وفجأة إرتفع صوت أغصان تتحطم وسقط الفيل الذي كان يسير في المقدمة في حفرة الصيادين.

وتوقفت الأفيال، وقد ملأتها الدهشة والمفاجأة، وعندما فهمت حقيقة ما حدث، رفعت خراطيمها. إلى أعلى، وأطلقت صيحات الغضب..

وفجأة اتجه إحدى الفيلة إلى شجرة كبيرة، قطع منها غصناً ألقى به في الحفرة.. ثم قطع غصناً آخر ألقاه أيضاً في الحفرة.. وبسرعة اشترك قطيع الأفيال كله، في قطع الأغصان وإلقائها في الحفرة..

بدأ قاع الحفرة يرتفع، وقد إمتلأ بالأغصان، وبعد قليل كان في استطاعة الفيل الذي يقود القطيع أن يخرج من الحفرة التي امتلأت بالأغصان، وأن ينطلق ثانية في مقدمة القطيع، وقد ارتفعت خراطيم الفيلة في الهواء، وهي تطلق هذه المرة صيحات النصر..

ـ إنتهت القصة ـ

  تعليق:

هذه لون آخر من ألوان الحكاية، يتعرف الطفل من خلاله على ضرورة البحث عن مخرج عند المآزق، إذ لا يصح أن يستسلم الإنسان لمصيره. ويسلم نفسه لقمة سائغة لأي طامع، والأمل في النجاة لا يموت.. فلنبحث ولنجد في البحث.. فقد نعثر على حل.. ذلك هو الدرس الذي تريد (الحكاية) أن تلقنه للطفل.

فضلاً عن أن الحكاية تعطي معلومات أولية مبسطة عن وجود الغابات والأفيال في أفريقية، وإن للأفيال طريقتها الخاصة في التعبير عن غضبها وفرحها، وذلك برفع خراطيمها إلى أعلى، وإصدار صيحات من نوع مميز.

والأطفال عادة يسعدون بسماع قصص الحيوان ويلقدونها..

القصص الديني عند الإستاذ المرحوم عبد الحميد جودة السحار كثير ومتنوع، فقد كتب ما يقرب من مائة قصة، الواحدة منها في حدود ثلاثين صفحة تقريباً، وتضم هذه القصص:

1 ـ قصص الأنبياء (بالإشتراك مع سيد قطب) ـ 18 قصة.

2 ـ قصص السيرة ـ 24 قصة

3 ـ قصص الخلفاء الراشدين 20 قصة

4 ـ العرب في أوربا 24 كتاباً.

وقد جاء في مقدمة قصة (موسى والعصا) ما نصه:

(أخذت مكتبة الطفل في السنوات الأخيرة تنمو وتتسع، وكان إعتمادها في جملته على القصص، وكان جل هذه القصص مترجماً أو معرباً).

وفي القرآن الكريم قصص رائع جميل، فلم لا يأخذ مكانه في مكتبة الطفل، ولم لا تنتفع هذه المكتبة بذلك التراث الجميل؟؟

فكرنا في هذا، فأخرجنا هذه السلسلة، ولقد راعينا فيها اعتبارين:

الأول: أن تكون النصوص القرآنية هي المصدر الأول لما نكتب، إذ كنا نعتقد أن للقرآن في هذه الناحية فكرة تهذيبية معينة.

والثاني: أن نحقق السرد الفني للقصص، بما يربي في الطفل الشعور الديني، ويقوي الحاسة الفنية، وينمي الذوق الأدبي..).

هذا ما يتعلق بقصص الأنبياء...

وللأستاذ السمَّار كتب أخرى عن (أهل البيت) و (بلال) و (أبي ذر) وبعض الكتب المترجمة أشهرها كتاب عن حياة الرسول(ص)، بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة والروايات المعاصرة الأخرى التي شاع ذكرها.

وسوف نختار هنا إحدى قصصه الديني للأطفال، وهي قصة (موسى والعصا) لنقدمها بإيجاز، ثم نتناولها بقليل من النقد والتعليق.

تروي القصة بأسلوب سهل، وعبارات واضحة، تكاثر بني إسرائيل في مصر بعد أن وفدوا إليها ايام نبي الله يوسف، وكيف امتلكوا الضياع والمزارع الواسعة، وأصبحوا قوة بشرية واقتصادية يخشى بأسها، وحاول فرعون أن يفكر في حل، فقرر قتل كل مولود ذكر، حتى يقل عددهم، وفي هذه الفترة العصيبة ولد موسى، فأوحى الله إلى أمه أن تصنع له صندوقاً وتلقيه في نهر النيل، ففعلت وأمرت ابنتها أن تراقب الصندوق، الذي استقر أمام قصر فرعون، وعندما فتح الصندوق وجدوا فيه طفلاً جميلاً، وكانت إمرأة فرعون عقيما لا تلد ـ وهي إمرأة طيبة مؤمنة صالحة ـ فطلبت من زوجها فرعون أن تتبناه ليعوضها عن عدم الإنجاب، ففعل..

وتمضي القصة المعروفة في سهولة ويسر لتروي عن قوة موسى وضربه لمصري يعتدي على إسرائيلي، ويموت المصري، ويحدث شجار آخر مع نفس الإسرائيلي ويهم موسى بحمايته، لكن المصري يقول: (أتقتلني كما قتلت رجلاً بالأمس)، فيعرف موسى أن الأمر شاع.. فيهرب إلى الصحراء الشرقية حيث أرض مدين، ويلتقي بإبنتي نبي الله (شعيب) ويسقي لهما الغنم، ثم يتزوج إحداهما مقابل خدمته لنبي الله عشر سنوات... وبعدها يرحل موسى مرة أخرى مع زوجه ليستقل بحياته.. وعند جبل الطور يسمع النداء الإلهي الذي يكلفه بدعوة فرعون إلى الإيمان بالله.. كما يتلقى معجزة العصا التي تتحول إلى حية.. ومعجزة اليد التي تخرج بيضاء تشع في الظلام.. ويستجيب الله لما طلبه موسى بأن يكون أخوه هارون معه في دعوة فرعون للإيمان، وإخراج بني إسرائيل، ويذهب موسى وأخوه إلى فرعون، ويظهر معجزته، فيتهمه فرعون بالسحر، ويدعو فرعون سحرته ليوم مشهود لتحدي موسى ومعجزته... ويبدأ سحرة فرعون، وتتحول عصيهم إلى حيات وثعابين، ثم يلقي موسى بعصاه فتصبح حية ضخمة تبتلع الثعابين والحيات الأخرى، فيتأكد لسحرة فرعون، أن موسى ليس بساحر، وأنه نبي (إن الله أرسله، وإن الله هو الذي يساعده)(3)  وشتان بين المعجزة والسحر.. ويؤمن السحرة ويتوعدهم فرعون بالقتل والتعذيب لكن السحرة قالوا (نحن لا نخاف عذابك، فأنت تعذبنا في الدنيا، ولكن الله سيدخلنا الجنة في الآخرة)(4).

ويستمر الصراع بين الخير والشر، بين موسى وفرعون، وتأتي المصائب تباعاً.. الفيضان.. الجراد.. القمل.. الضفادع.. الدم.. وفي كل مرة يعد فرعون بالعفو عن السحرة، والسماح لبني إسرائيل بعد هذه المعجزات التي كانت تخلص فرعون وقومه من المصائب...

وخرج موسى وقومه خفية، ولما علم فرعون تبعهم بجيشه وهم يسيرون صوب البحر الأحمر.. لكن معجزة أخرى أنقذت بني إسرائيل.. إذ ضرب موسى البحر بعصاه فانشق عن طريق يبس سار فيه وقومه، ولما تبعهم فرعون وجنوده أطبق الماء عليهم وأغرقهم، وطفت جثة فرعون على السطح لتكون عبرة.. ومضى بنو إسرائيل ومعهم موسى نحو جبل الطور...

تعليق:

القصة ـ كما هو واضح ـ لم تخرج عن الحقائق التي وردت في القرآن الكريم، وقدمت بأسلوب سلس، لا يصعب فهمه على الطفل، بالرغم من وجود بعض الآيات القرآنية القليلة بنصها، وفي القصة تجسيد واضح لعناد فرعون وجبروته وظلمه.. فهو لم يؤمن إلا وهو يغرق.. وفيها أيضاً تصوير شائق ممتع متحرك لمشاهد السحر والسحرة، وإدراك الفرق بين السحر والمعجزة، إذ إن السخر خداع وخفة يد وأوهام وإيحاءات نفسية وذكاء.. والمعجزة شيء خارق خارج عن سنن الكون من صنع الله وحده... ولذلك أبطلت السحر ومفعوله، كما تبين القصة صبر الدعاة، وتشبثهم بالإيمان، وصمودهم رغم الظلم والبطش، والإجحاف والإرهاب.. كما تؤكد قيمة أساسية بارزة وهي (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).

وليس في القصة عقبات لفظية، ولا تشتت أو تفرعات تخرج عن السياق العام، وفيها الحبكة التي تحدثنا عنها والعقدة أو قمة الحديث، ثم النهاية المريحة، التي يبدو فيها انتصار الحق المؤيد من الله، وهزيمة الباطل الذي يدعمه الشياطين والمكابرون.. أليس الله بأحكم الحاكمين، وأعدل العادلين؟؟

وللأسف فإن هناك بعض النقاد يطلق على مثل هذه القصص (الأساطير) والواقع أن هذا خطأ فادح، إن ما ورد في القرآن بنصه لا يمكن وصفه بالأسطورة، في رأينا منذ أن ظهرت كمصطلح تعني الخرافة وتعني الأحداث التفسيرية المتعلقة بآلهة الأغريق والوثنيات القديمة، وتعني البطولات التاريخية الخارقة المخترعة، أو التي صنعتها خيالات الشعوب وأوهامهم، وليس فيها قدر يذكر من الحقيقة، لكن القصص القرآني حقائق.. (إن هذا لهو القصص الحق)، ولذا يسمي الغربيون الرواية (بالرومانس) Romance، وهي تحمل معنى الخيال والإختراع، وهذا ما حدا بالشيخ محمد متولي الشعرواي بأن يؤكد أن القصص القرآني نسيج وحده، وأنه هو القصص الحق، وأن النقاد والأدباء عليهم أن يبحثوا لفنهم الروائي أو القصص عن إسم آخر.

ومن ثم يجب الحذر عندما نقرأ الدراسات الأجنبية والعربية عن الأسطورة والخرافة والجنيات والخوارق وغيرها، حتى لا يختلط الأمر، فالتسليم بالتعريفات الأجنبية للأسطورة قضية خطيرة، ومن الواضح أن للمعجزة والسحر والكرامة والأسطورة مفهوم آخر غير المفاهيم التي ترد في كتب النقد وتاريخ الآداب والفنون.

وقصة (موسى والعصا) قد اكتملت جوانبها الفنية والفكرية من مقدمة وسرد وبناء وشخصيات وعقدة ونهاية، وفيها الفكرة الواضحة، والحوار المعبر، واللغة المناسبة، ولعلها أكثر توفيقاً ووضوحاً من القصص التي أشرف عليها الأستاذ محمد أحمد برانق والتي صدرت عن دار المعارف.

وبعد..

لم يتسع المقام لتقديم الكثير من النماذج التي تعبر عن كل لون من ألوان أدب الأطفال، لقد اكتظت الساحة بالكثير من الدراسات والمؤلفات وخاصة في القرن العشرين، واختلط المترجم والمقتبس والمعرب والمؤلف، وظهرت تيارات مذهبية، وعنصرية، ودينية مخالفة في كثير من النصوص التي احتفظ بها، والتي آثرت عدم الإشارة إليها السبب أو لآخر، والذي يهمنا في هذا المجال هو ضرورة وضع خطة على مستوى الدولة للرقابة على منشورات الأطفال بصفة عامة، سواء منها ما هو في القطاع الحكومي أو القطاع الحر الخاص، وسواء منها ما هو في المذياع أو التلفاز أو المسرح أو السينما، وما هو في الصحف والمجلات.. وبغير هذه الخطة لن نستطيع تخليص التراث الأدبي للطفل مما شابه آفات نفسية وعقلية وأخلاقية وسلوكية وأيديولوجية.

هذا هو مقترحنا الأساسي.

لكن الخطة، من سيضعها ويشرف عليها؟؟

لقد سبق وأشرنا إلى ضرورة تكاتف علماء الدين والتربية وعلم النفس والمجتمع ورجال الإعلام والأدب، ورجال النشر والتوزيع، وجهاز الترجمة عن اللغات الأجنبية..

وإذا استطاعت هذه الشخصيات ـ أو الجهات ـ المعنية أن تضع هذا الخطة وتتابع تنفيذها والإشراف عليها، وتناولها بالتقييم والتقويم... إذا استطاعت فعل ذلك، فسوف يمكننا الوصول بإذن الله إلى الغاية المنشودة وهو إيجاد جيل مسلم، يعتز بعقيدته، ويتميز بسلوكه، وينصرف إلى حياة العمل الجاد، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وإعطاء العلوم المعاصرة حقها من الاستيعاب والإضافة، والمساهمة في صنع حضارة إسلامية صادقة، قادرة على مواجهة الفساد والطغيان والزيغ، في هذا العالم الكبير، الذي توطَّنت علله، وزادت أسقامه، واستشرى عذابه، واستبد به قلقه ويأسه.

والله من وراء القصد..

والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:

(1) من دراسة قدمت للدورة التدريبية لبرامج الأطفال بقطر، ونشرت في جريدة الخليج بالإمارات العدد 1817 في 2 رجب 1404هـ الموافق 3/4/1984م.

(2) الأهرام مايو 1984 ـ يعقوب الشاروني.

(3) القصة ص20.

(4) نفس المرجع.