المذاهب الأخلاقيّة
نشر من قبل الحكمة في 04:19 صباحا - 19 08 1444 هـ (11 03 2023 م)

يوجد في علم الأخلاق مذاهبٌ كثيرةٌ ، إنحرف أكثرها ، وآلَ بها الأمر إلى مُخالفة الأخلاق ، فمعرفتها ليس بالأمر الصّعب وخصوصاً في ظِلّ الهدي القُرآني ؛ فيقول القرآن الكريم : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)


تفاصيل الخبر

المذاهب الأخلاقيّة

يوجد في علم الأخلاق مذاهبٌ كثيرةٌ ، إنحرف أكثرها ، وآلَ بها الأمر إلى مُخالفة الأخلاق ، فمعرفتها ليس بالأمر الصّعب وخصوصاً في ظِلّ الهدي القُرآني ؛ فيقول القرآن الكريم :

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1).

فأتت هذه الآية ، بعد ذكر قسمٌ مهمٌّ من العقائد والبرامج العمليّة والأخلاقيّة في الإسلام ، وقد تضمنّت عشرة أوامر إسلاميّة ، جاءت لِتوصي المسلمين بأن يتحركوا في العقيدة في خط الإستقامة ، بعيداً عن السّبل الاخرى التي تورثهم الفُرقة والإنحراف ، عن خطّ الإيمان بالله تعالى.

المذاهب الأخلاقيّة مثلها مِثلُ سائر المناهج الفردية الإجتماعية ، فهي تستمد اصولها من النّظرة الكليّة لمفهوم العالم ، وهذان المفهومان : «الأخلاق والنظرة الكونية» ، منسجمان ومرتبطان مع بعضهما بصورة وثيقة جدّاً ، فالّذين يفصلون : «معرفة العالم» ، النظريّة عن

__________________

1 ـ سورة الأنعام ، الآية 153.

الأخلاق والأوامر والنواهي الأخلاقية للعقل العملي ، وينكرون أية علاقة بينهما ، إنطلاقاً من أنّ معرفة العالم والكائنات الطبيعيّة تعتمد على الدلائل المنطقيّة والتجربيّة ، والحال أنّ «الأوامر» و «النّواهي» الأخلاقية ، هي سلسلة من القضايا تحكم السّلوك ، فهؤلاء أغفلوا نقطةً مهمةً ، ألا وهي أنّ الأوامر الأخلاقيّة تصبح حكيمةً ، إذا ما كوّنت لها علاقةً بالعالم الخارجي ، وإلّا فستكون اموراً اعتباريةً فارغةً وغير مقبولةٍ ، ويوجد هنا أمثلةٌ واضحةٌ تبيّن المطلب بصورةٍ جيّدةٍ :

عند ما يُصدر الإسلام حكماً ب : «حرمة شرب الخمر» ، أو في القوانين الدوليّة : حول «خطر المخدرات» ، فهذه أوامر إلهيّة أو بشريّة إستمدت اصولها من سلسلة الكائنات الواقعيّة ، لأنّ الحقيقة المحضة ؛ أنّ الشّراب والمخدّرات لها أثر تخريبي خطر على روح وجسم الإنسان ، فلا يسلم من تأثير هذه المواد الضّارة والمدمّرة أيّ إنسان ، وهذه الحقيقة هي سبب لذلك (الأمر) ، و (النّهي).

وعند ما نقول أنّ الأحكام الإلهيّة ناشئة من المصالح والمفاسد ؛ فإنّنا بالضّبط نستوحي ذلك من خلال القاعدة التي تقول : «كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع» ، وهي أيضاً تُقرر وجود علاقة وثيقة بين الواقع والأحكام : (الأوامر والنّواهي).

فما يُشرّع من قوانين في المجالس التّشريعيّة البشريّة ، ودراسة عواقبها الفرديّة والإجتماعيّة ووضع القوانين على أساسها ، يصب في نفس ذلك المصب بالضّبط.

وخلاصة القول : أنّه من الُمحال على الحكيم أن يصدر حكماً بعيداً عن الواقعيات في حياة البشر ، وإلّا فلن يكون قانوناً بل هو لَغو في لَغو ، ولأنّ الواقع هو واحد لا أكثر ، فمن الطّبيعي أن يكون الطريق الصّحيح والمستقيم والقانون الأمثل واحد لا غير ، ممّا يدعونا للسّعي الحثيث لإصابة الحق والواقع والأحكام والقوانين التي نشأت عنها.

إن ما ذُكر آنفاً يبيّن علاقة النّظريات الكليّة ، في مجموعة الوجود وخلق الإنسان بالمسائل الأخلاقيّة ، ومن هنا فإنّ نشوء المذاهب الأخلاقيّة وتنوعها ، يكمن في هذا السبب بالذات.

وبالنّظر إلى ما ذُكر أعلاه ، نستعرض الآن المذاهب الأخلاقية :

1 ـ الأخلاق في مدرسة الموحّدين :

هؤلاء يذهبون إلى أنّ الله تعالى خالق الكائنات كلّها ، فنحن منه ونعود إليه. والهدف من خلق الإنسان ، هو التّكامل في الجوانب المعنويّة والروحيّة ، وما دام التقدم المادي والتّطور الحضاري للبشرية ، يتحرك في خطّ التكامل المعنوي ، فهو يُعتبر هدفاً معنويّاً أيضاً.

ويمكن تعريف التّكامل المعنوي بأنّه : «القرب من الله تعالى ، والسّير على الطّريق الذي يقرّب الإنسان لصفات الكمال الإلهيّة».

وإعتماداً على هذا المعيار ، فإنّ الأخلاق من وجهه نظر هذا المذهب ، هي كلّ صفات الأفعال التي تساعد الإنسان في سيره على هذا الطريق ، والتّقييم الأخلاقي في هذا المذهب ، يدور حول القِيَم والمُثل والكَمالات الرّوحية والمعنويّة والقُرب من الله تعالى.

2 ـ الأخلاق المادية :

من المعلوم أنّ المادّيين لهم مذاهب متعددّة ، والمعروف منها الشيوعيّة ، حيث يرون كلّ شيء من خلال منظار المادّة ، ولا يؤمنون بالله والمسائل الروحيّة والمعنويّة ، ويقولون بأصالة الإقتصاد ، ويعطون للتأريخ ماهيّةً ماديّةً وإقتصاديةً ، فكلّ شيء يؤدي إلى تقوية الإقتصاد الشّيوعي في المجتمع ، فانّه يعتبر من الأخلاق أو على حد تعبيرهم : «كلّ شيء يعجّل في الثورة الشيوعيّة ، فهو الأخلاق» ، فمثلاً المعيار الأخلاقي للكَذب والصّدق ، يقاس بمدى تأثير ذلك السّلوك الأخلاقي على الثّورة ، فإذا أدّى الكذب إلى التسّريع بالثورة فهو أمر أخلاقي ، وإذا أضرّ الصّدق بالثّورة ، فهو أمر غير أخلاقي!

والمذاهب الماديّة الاخرى كذلك ، فكلّ مذهب يُفسّر الأخلاق حسب ما يرتئيه مسلكه ، فالّذين يقولون بأصالة اللّذة ، والإستفادة من اللذائذ الماديّة ، لا يوجد شيء عندهم بإسم الأخلاق ، أو بالأحرى أنّ الأخلاق عندهم ، هي الصّفات والأفعال الّتي تمهد الطّريق للوصول إلى اللذّة.

وأمّا الّذين أعطوا الأصالة للفرد والمصالح الشخصيّة ، والمجتمع محترم عندهم ما دام

منسجماً مع منافع الفرد الشّخصية ، (كما هو الحال في المذاهب الغربية الرأسمالية) ، فهم يفسّرون الأخلاق بالامور التي توصلهم إلى مصالحهم الماديّة والشخصيّة ، ويضحّون بكلّ شيء لأجل هذه الغاية.

3 ـ الأخلاق من وجهة نظر الفلاسفة العقليّين :

أمّا الفلاسفة الذين يقولون بأصالة العقل ، ويذهبون إلى أنّ غاية الفلسفة هي : (صَيرورة الإنسان عالماً عقليّاً مضاهياً للعالم العيني) ، ففي مجال الأخلاق ، يفسّرون الأخلاق بالصّفات والأعمال التي تساعد الإنسان على تحكيم العقل ، وسيطرته على القوى والنّوازع البدنية ، بعيداً عن الخضوع للشّهوات والطّبائع الحيوانيّة ، والأهواء النّفسية في حركة الحياة.

4 ـ الأخلاق في مذهب محوريّة الغير :

جماعة اخرى من الفلاسفة أعطت الأصاله للمجتمع ، وقالوا أنّ الأصالة للجماعة لا للفرد ، فهم يفسّرون الأخلاق بالأفعال التي يكون الغير فيها هو الهدف ، وكلّ فعل يعود بالنّفع للإنسان نفسه ، فهو فعل غير أخلاقي ، والأفعال التي يكون محورها نفع الغير تكون أخلاقيّة.

5 ـ الأخلاق في المذهب الوجداني :

قسم من الفلاسفة قالوا بأصالة الوجدان لا العقل ، ويمكن تسميتهم ب : «الوجدانيّين» ، أو بمؤيّدي : «الحسن والقبح العقلي» ، وقصدهم من ذلك العقل العملي لا النّظري ، فالأخلاق عندهم عبارةٌ عن سلسلة من الامور الوجدانيّة غير البرهانيّة ، أي أنّها تُدرك بدون حاجةٍ إلى منطقٍ واستدلالٍ ، فمثلاً الإنسان يدرك أنّ العدل حسنٌ ، والظّلم قبيحٌ ، ويُشخّص أنّ الإيثار والشّجاعة أمران جيّدان ، الأنانيّة والظّلم والبخل امورٌ قبيحةٌ ، ولا يحتاج في إدراك هذا المعنى ، إلى إستدلال عقلي من خلال دراسة تأثير هذه الأفعال والسّلوكيات في واقع الفرد والمجتمع.

وعليه يجب أن نتحرك من موقع تقوية الوجدان الأخلاقي في الإنسان ، ونُزيل من الطّريق كلّ ما يُضعف الوجدان ، وبعدها سنرى أنّ الوجدان قاضٍ وحاكمُ جيّدٌ لتشخيص الأخلاق

الحسنة من القبيحة.

المؤيدون : «للحُسن والقُبحِ العقليين» ، رغم أنّهم يتكلّمون دائماً عن العقل ، ولكن ومن الواضح أنّهم يقصَدون العقل الوجداني ، لا العقل الإستدلالي ، فهم يقولون إنّ حُسن الإحسان ، وقبح الظّلم في الدائرة الأخلاقيّة لا يحتاج فيهما إلى دليل وبرهان ، فالإنسان السّليم النّفس يعيش هذه المفاهيم الأخلاقية ، من موقع الوضوح في الرؤيّة والبداهة ، وعلى هذا فإنّهم يقولون بالأصالة للوجدان في دائرة الأخلاق.

ولكن الكثير منهم لا ينكرون سكوت الوجدان عن بعض الامور ، وعدم إدراكه لها ، وهنا يجب الإستعانة بالشّريعة والوحي لفصل الامور الأخلاقية عن غيرها ، وبالإضافة إلى ذلك ، إذا ورد تأييد من الشّرع لما حكم به العقل ، فإنّ ذلك سيكون عاملاً مهماً في ترسيخ هذه المفاهيم في عالم الوجدان ، وترجمتها على مستوى الممارسة والعمل.

النّتيجة :

بعد الإشارة إلى أهمّ المذاهب الأخلاقية في هذا الفصل ، تتبيّن خصوصيات المذهب الأخلاقي للإسلام بصورةٍ كاملةٍ ، حيث يرى أنّ :

(أساس هذا المذهب الأخلاقي ، هو الإيمان بربوبيّة الله تعالى ، الذي هو الكمال المطلق ومُطلق الكمال وأوامره ساريةٌ وجاريةٌ على جميع العالم ، وكمال الإنسان في تطبيق صفاته الجلالية والجماليّة ، والقرب من الله تعالى أكثر فأكثر).

وهذا لا يعني أنّه لا أثر للصفات الأخلاقية في إنقاذ الإنسان والمجتمع البشري ، من عناصر الشّر وقوى الإنحراف ، ولكن وفي نظرةٍ إسلاميّةٍ عالميّةٍ صحيحةٍ ، أنّ العالم عبارةٌ عن وحدةٍ متماسكةٍ ، وأنّ واجب الوجود هو قُطب هذه الدائرة ، وما عداه مُتّصل به ومُعتمد عليه ، وفي الوقت نفسه هناك علاقة وإنسجام تام بين المخلوقات ، فكلّ شيء يساعد على إصلاح المجتمع البشري وتطهيره من البؤر وأشكال الخلل الأخلاقي ، فسيكون عاملاً مؤثراً في

إصلاح الفرد في دائرة السّلوك الأخلاقي ، وبالعكس.

وبعبارة اخرى : إنّ القيم الأخلاقيّة لها إزدواجيّة في التأثير ، فتصنع الفرد والمجتمع على السّواء ،

والذين يتصورون أنّ المسائل الأخلاقيّة هدفها الغير وليس النّفس على أشتباه كبير ، لأنّ مصلحة الإثنين في الواقع واحدةٌ ، لا تتجزّأ إلّا في مراحل مقطعيّة محدودة وقصيرة ، وقد تقدّم الحديث عن هذا المفهوم ، وسيأتي في المستقبل إن شاء الله تعالى.

المصدر الأخلاق في القرآن الجزء الأوّل آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي