إنّ مصير علم الأخلاق وكلّ الأبحاث الأخلاقية ، يتوقف على الإجابة عن هذا السؤال ، إذ لو لا قابليتها للتغيير لأصبحت كلّ برامج الأنبياء التربويّة والكتب السماويّة ، ووضع القوانين والعقوبات الرّادعة ، لا فائدةٍ ولا معنى لها.
هل أن الأخلاق قابلة للتغيير؟
إنّ مصير علم الأخلاق وكلّ الأبحاث الأخلاقية ، يتوقف على الإجابة عن هذا السؤال ، إذ لو لا قابليتها للتغيير لأصبحت كلّ برامج الأنبياء التربويّة والكتب السماويّة ، ووضع القوانين والعقوبات الرّادعة ، لا فائدةٍ ولا معنى لها.
فنفس وجود تلك البرامج التربويّة وتعاليم الكتب السماويّة ، ووضع القَوانين في المجتمعات البشريّة ، هو خير دليل على قابليّة التغيير في الملكات والسلوكيّات الأخلاقيّة لدى الإنسان ، وهذه الحقيقة لا يعتمدها الأنبياء عليهمالسلام فحسب ، بل هي مقبولةٌ لدى جميع العقلاء في العالم.
والأَعجبْ من هذا ، والغريب فيه ؛ أنَّ علماء الأخلاق والفلاسفة ألّفوا الكتب الكثيرة حول هذا السؤال : «هل أنّ الأخلاق قابلة للتغيير أم لا»؟!
فالبعض يقول : إنّ الأخلاق غير قابلة للتغيير ، فمن كانت ذاته ملوَّثة في الأصل يكون مجبولاً على الشرّ ، وعلى فرض قبوله لعمليّة التّغيير ، فإنّه تغيير سطحي ، وسرعان ما يعود إلى حالته السّابقة.
ودليلهم على ذلك ، بأنّ الأخلاق لها علاقةٌ وثيقةٌ مع الرّوح والجسد ، وأخلاق كلُّ شخصٍ تابعة لكيفية وجود روحه وجسمه ، وبما أنّ روح وجسد الإنسان لا تتبدلان ، فالأخلاق كذلك لا تتبدل ولا تتغير.
وفي ذلك يقول الشاعر أيضاً :
إذا كان الطّباع طِباعَ سوءٍ |
|
فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ |
واستدلوا على ذلك أيضاً ، بمقولة تأثر الأخلاق بالعوامل الخارجية ؛ وأنّ الأخلاق تخضع لمؤثّراتٍ خارجيَّةٍ من قبيل الوعظ والنّصيحة والتأديب ، فبزوال هذهِ العوامل ، تعود الأخلاق لحالتها الاولى ، فهي بالضّبط كالماء البارد ، الذي يتأثر بعوامل الحرارة ، فعند زوال المؤثّر ، يعود الماء لحالته السّابقة.
ومما يؤسف له وجود هذا الّنمط من التّفكير والإستدلال ، حيث أفضى لتردي المجتمعات البشريّة وسُقوطها!
أمّا المؤيدون لتغيير الأخلاق ، فقد أجابوا على الدّليلين السّابقين وقالوا :
1 ـ لا يمكن إنكار علاقة الأخلاق وارتباطها بالرّوح والجسم ، ولكنه في حدّ (المقتضي) ؛ وليس (العلّةَ التّامةَ) لها ، وبعبارةٍ اخرَى يمكن أن تهيّىء الأرضيّة لذلك ، لكن ذلك لا يعني بالضّرورة أنّها ستؤثر تأثيراً قطعيّاً فيها ، من قبيل مَن يولد من أبوين مريضين ، فإنّ فيه قابليةٌ على الابتلاء بذلك المرض ، ولكن وبالوقاية الصّحيحة ، يمكن أن يُتلافى ذلك المرض من خلال التّصدي للعوامل الوراثية المتجذرة في بدن الإنسان.
فالأفراد الضّعاف البَنية يمكن أن يصبحوا أشداء ، بالإلتزام بقواعد الصّحة وممارسة الرّياضة البدنية ، وبالعكس يمكن للأشداء ، أن يصيبهم الضّعف والهزال ، إذا لم يلتزموا بالامور المذكورة أعلاه.
وعلاوةً على ذلك يمكن القول ؛ أنّ روح وجسم الإنسان قابلانِ للتغيير ، فكيف بالأخلاق التي تعتبر من معطياتهما؟
نحن نعلم ، أنّ كلّ الحيوانات الأهليّة اليوم ، كانت في يومٍ ما بَرّيّةً ووحشيّةً ، فأخذها الإنسان وروّضها وجعل منها أهليةً مطيعةً له ، وكذلك كثير من النّباتات والأشجار المثمرة ، فالذي يستطيع أن يُغيِّر صفات وخُصوصيّات النبّات والحيوان ، ألا يستطيع أن يغيّر نفسه وأخلاقه؟
بل توجد حيوانات روّضِت ، لِلقيام بأعمالٍ مخالفةٍ لطبيعتها ، وهي تُؤدّيها بأحسن وجهٍ!.
2 ـ وممّا ذُكر أعلاه ، يتبيّن جواب دليلهمِ الثّاني ، لأنّ العوامل الخارجيّة قد يكون لها تأثيرها القوي جداً ، ممّا يؤدّي إلى تغير خصوصيّاتها الذاتيّة بالكامل ، وستؤثر على الأجيال القادمة أيضاً ، من خلال العوامل الوراثيّة ، كما رأينا في مثال : الحيوانات الأهليّة.
ويقصّ علينا التأريخَ قصصاً ، لُاناسٍ كانوا لا يراعون إلّاً ولا ذِمّةً ، ولكن بالتّربية والتّعليم تغيّروا تَغيُّراً جَذريّاً ، فمنهم من كان سارقاً محترفاً ؛ فأصبح عابداً متنسّكاً مشهوراً بين الناس.
إنّ التعرّف على كيفية نشوء الملكات الأخلاقيةٍ السّيئة يعطينا القُدرة والفرصة لإزالتها ، والمسألة هي كالتّالي : إنّ كلّ فعلٍ سيّءٍ أو حسنٍ يخلّف تأثيره الإيجابي أو السّلبي في الروح
الإنسانية ، بحيث يجذب الروح نحوه تدريجياً ، وبالتّكرار سوف يتكرّس ذلك الفعل في باطن الإنسان ، ويتحول إلى كيفيّةٍ تسمى : (بالعادة) ، وإذا إستمرت تلك العادة تحوّلت إلى (مَلَكَةٍ).
وعلى هذا ، وبما أنّ المَلَكات والعادات الأخلاقيّة السّيئة ، تنشأ من تكرار العمل ، فإنّه يمكن مُحاربتها بواسطة نفس الطّريقة ، طبعاً لا يمكننا أن ننكر تأثير التّعليم الصّحيح والمحيط السّالم ، في إيجاد المَلَكات الحَسنة ، والأخلاق الصّالحة ، في واقع الإنسان وروحه.
وهناك «قولٌ ثالثٌ» ، : وهو أنّ بعض الصّفات الأخلاقيّة قابلةٌ لِلتغير ، وبعضها غير قابل ، فالصّفات الطّبيعيّة والفطريّة غير قابلةٍ لِلتغير ، ولكنّ الصّفات التي تتأثّر بالعوامل الخارجيّة يمكن تغييرها (1).
وهذا القول لا دليل عليه ، لأنّ التّفصيل بين هذهِ الصّفات ، مدعاة لقبول مَقولة الأخلاق الفطريّة والطبيعيّة ، والحال أنّه لم يثبت ذلك ، وعلى فرض ثُبوته ، فمن قال بأنّ الصّفات الفطريّة غير قابلةٍ لِلتغيّر والتّبدّل؟. ألم يتمكن الإنسان من تغيير طِباع الحيوانات البريّة؟.
ألا يمكن لِلتربية والتّعليم ، أن تَتَجذّر في أعماق الإنسان وتغيّره؟.
الآيات والرّوايات التي يستدل بها ، على إمكانيّة تغيّر الأخلاق :
ما ذكرناه آنفاً كان على مستوى الأدلة العقليّة والتّأريخيّة ، وعند رجوعنا للأدلة النّقلية ، يعني ما وصل إلينا من مبدأ الوحي وأحاديث المعصومين عليهمالسلام ، سوف تتبيّن لنا المسألة من خلاله بصورةٍ أفضل لأنّه :
1 ـ إنّ الهدف من بعث الأنبياء والرّسل وإنزال الكتب السّماوية ، إنّما هو لأجل تربية وهداية الإنسان ، وهذا أقوى دليل على إمكان التربية ، وترشيد الفضائل الأخلاقيّة لدى جميع أفراد البشر ، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى :
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
__________________
1 ـ أيّد هذه النظريّة المحقق النّراقي في كتابه جامع السعادات : ج 1 ، ص 24.
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(1).
وأمثالها من الآيات الكريمة التي تبيّن لنا أنّ الهدف من بعثة الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله : هو تعليم وتزكية كل اولئك الذي كانوا في ضلالٍ مبينٍ.
2 ـ كلّ الآيات التي توجّه الخطاب الإلهي إلى الإنسان ، مثل : (يا بَنِي آدَمَ) و (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) و (يا عِبادِيَ) ، تشمل أوامر ونواهي تتعلق بتهذيب النّفوس ، وإكتساب الفضائل الأخلاقيّة ، وهي بدورها خير دليل على إمكانيّة تغيير «الأخلاق الرّذيلة» ، وإصلاح الصّفات القبيحة في واقع الإنسان ، وإلّا ففي غير هذه الصّورة تَنتفي عُموميّة هذه الخطابات الإلهيّة ، فتصبح لغواً بدون فائدةٍ.
وقد يقال : إنّ هذهِ الآيات ، غالباً ما تشتمل على الأحكام الشرعيّة ، وهذه الأحكام تتعلق بالجوانب العمليّة والسلوكيّة في حياة الإنسان ، بينما نجد أنّ الأخلاق ناظرةٌ للصفات الباطنيّة؟
ولكن يجب أن لا ننسى ، أنّ العلاقة بين «الأخلاق» و «العمل» ، هي : علاقة اللّازمِ والَملزومِ لِلآخر ، وبمنزلة العلّة والمعلول ، فالأخلاق الحسنة تُعتبر مصدراً للأعمال الحسنة ، والأخلاق الرذيلة مصدراً للأعمال القبيحة ، وكذلك الحال في الأعمال ، فإنّها من خلال التّكرار تتحول بالتّدريج ، إلى ملكاتٍ وصفاتٍ أخلاقيّةٍ في واقع الإنسان الداخلي.
3 ـ القول والاعتقاد بعدم إمكان التّغيير للأخلاق ، مدعاة للقول والإعتقاد بالجَبر ؛ لأنّ مفهومها هو : أنّ صاحب الخُلق السّيء والخُلق الحسن ، ليسا بقادرين على تغيير أخلاقهم ، وبما أنّ الأعمال والسّلوكيات تعتبر إنعكاساً للصفات والملكات الأخلاقيّة ، ولِذا فمثل هؤلاء يتحرّكون في سلوكياتهم من موقع الجَبر ، لكننا نرى أنّهم مكلّفين بفعل الخيرات وترك الخبائث ، وعليه يترتب على هذا القول جميع المفاسد التي تترتب على مقولة الجبر (2).
4 ـ الآيات الصّريحة التي ترغّب الإنسان في تهذيب أخلاقه ، وتُحذّره من الرذائل ، هي أيضاً دليلٌ محكمٌ على إمكانيّة تغير الصفات والطّبائع الإنسانية ، مثل قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ
__________________
1 ـ سورة الجمعة : الآية 2 ، ويوجد نفس المعنى والمضمون في الآية 164 من سورة آل عمران.
2 ـ انظر : اصول الكافي ، ج 1 ص 155 ، وكشف المراد ، بحث القضاء والقدر وما يترتب على ذلك من مفاسد المذهب الجَبري.
مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (1).
فالتّعبير بكلمة دَسّاها ، والتي هي في الأصلِ بمعني : خلطُ الشيّءِ بشيءٍ آخر غير مرغوب فيه من غير جنسه ، مثل «دسّ الحنطة بالتراب» ، يبيّن لنا أنّ الطّبيعة الإنسانيّة مجبولةٌ على الصفاء والنّقاوة والتقوى ، والتلويث ، والرذائل تعرض عليها من الخارج وتنفذ فيها ، والاثنان قابلان للتّغير والتّبدل.
نقرأ في الآية (34) من سورة فُصّلت : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
تُبيّن لنا هذهِ الآية أنّ العداوات المتأصّلة والمتجذّرة في الإنسان : بالمحبّة والسّلوك السليم ، يمكن أن تتغير وتتبدل إلى صداقةٍ حميمةٍ بالتّحرك في طريق المحبّة والسّلوكيات السليمة ، ولو كانت الأخلاق غير قابلةٍ للتغير ، لما أمكن الأمر بذلك.
ونجد في هذا المجال أحاديث إسلامية ، تؤكّد هذا المعنى أيضاً ، من قبيل الأحاديث التالية :
1 ـ الحديث المعروف الذي يقول : «إنّما بُعثتُ لُاتمم مكارم الاخلاق» (2) هو دليل ساطعٌ على إمكانيّة تغيير الصّفات الأخلاقيّة.
2 ـ الأحاديث الكثيرة التي تحث الإنسان على حسن الخُلق ، كالحديث النّبوي الشريف الآتي : «لَو يَعلَمُ العَبدُ ما فِي حُسنِ الخُلقِ لَعَلِمَ أَنّهُ يَحتاجُ أن يكونَ لَهُ خُلقٌ حسنٌ» (3).
3 ـ وكذلك الحديث النبوي الشريف الآخر حيث يقول :
«الخُلقُ الحسنُ نِصفُ الدِّينِ» (4).
4 ـ نقرأ في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «الخُلقُ الَمحمُودُ مِن ثِمارِ العَقلِ وَالخُلقُ المَذمُومُ مِن ثِمارِ الجُهلِ» (5).
__________________
1 ـ سورة الشّمس ، الآية 9 و 10.
2 ـ سفينة البحار (مادة خلق).
3 ـ بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 369.
4 ـ بحار الأنوار ، ج 71 ، ص 385.
5 ـ غرر الحكم ، 1280 ـ 1281.
وبما أنّ كلاً من «العلم» و «الجهلَ» قابلان للتغيير ؛ فتتبعها الأخلاق في ذلك أيضاً.
5 ـ وفي حديثٍ آخر ، جاء عن الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله :
«إنّ العَبدَ لَيَبلُغُ بِحُسنِ خُلقِهِ عَظيمَ دَرجاتِ الآخِرَةِ وَشَرفِ المَنازِلِ وَأَنّهُ لَضَعِيفُ العِبادةِ» (1).
حيث نجد في هذا الحديث ، مقارنةً بين حُسن الأخلاق والعبادة ، هذا أولاً.
وثانياً : إنّ الدرجات العُلى في الآخرة تتعلق بالأعمال الإختياريّة.
وثالثاً : التّرغيب لكسب الأخلاق الحسنة ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الأخلاق أمرٌ إكتسابي ، وغير خارجة عن عنصر الإرادة في الإنسان.
مثيل هذهِ الرّوايات والمعاني القَيّمة كثيرٌ ، في مضامين أحاديث أهل البيت عليهمالسلام ، وهي إن دلّت على شيءٍ فإنّها تدلّ على إمكانِيَّة تغيّر الأخلاق ، وإلّا فستكون لغواً وبلا فائدةٍ (2).
6 ـ وفي حديث آخر ورد عن الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، نقرأ فيه أنّه قال لأحد أصحابه وأُسمه جرير بن عبد الله : «إنّك امرُءٌ قَد أحسنَ اللهُ خَلقَكَ فأَحسِنْ خُلْقَك» (3).
وخلاصة القول أنّ رواياتنا مليئةٌ بهذا المضمون ، حيث تدلّ جميعها على أنّ الإنسان قادر على تغيير أخلاقه (4).
ونختم هذا البحث بحديثٍ عن الإمام علي عليهالسلام ، يحثّنا فيه على حُسن الخلق ، حيث قال عليهالسلام : «الكَرَمُ حُسنُ السّجيةِ وَإجتنابِ الدَّنِيّةِ» (5).
__________________
1 ـ المحجّة البيضاء ، ج 5 ، ص 93.
2 ـ أُصول الكافي ، ج 2 في باب حسن الخلق ص 99 ، نقل رحمهالله : 18 رواية حول هذا الموضوع.
3 ـ سفينة البحار مادة خلق.
4 ـ راجع أصول الكافي ، ج 2 ؛ وروضة الكافي ؛ ميزان الحكمة ، ج 3 ؛ سفينة النجاة ، ج 1.
5 ـ غُرر الحِكم.
المصدر الأخلاق في القرآن الجزء الأوّل
آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي