.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

اعتبارات الزهد ودرجاته

الزهد الحقيقي

الغنى

ذم الغنى

الفقر

 

 

 

فصل

(اعتبارات الزهد ودرجاته)

اعلم ان للزهد اعتبارات تتحقق له بكل اعتبار درجات:

(الأول) اعتبار نفسه أي من حيث نفس الترك للدنيا وبهذا الاعتبار له درجات ثلاث: (الأولى) أن يزهد في الدنيا مع ميله إليها وحبه لها بأن يكف نفسه عنها بالمجاهدة والمشقة، وهذا هو التزهد. (الثانية) أن يترك الدنيا طوعاً وسهولة من دون ميل إليها لاستحقاره إياها بالاضافة إلى ما يطمع فيه من لذات الآخرة، وهذا كالذي يترك درهماً لأجل درهمين معاوضة فانه لا يشق عليه ذلك وان كان يحتاج إلى قليل انتظار، ومثله ربما اعجب بنفسه وبزهده لاحتمال أن يظن بنفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه. (الثالثة) وهي أعلى الدرجات أن يترك الدنيا طوعاً وشوقاً ولا يرى انه ترك شيئاً، إذ عرف أن الدنيا لا شيء فيكون كمن ترك خنفساء وأخذ ياقوتة صافية حمراء، فلا يرى ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً وسبب هذا الترك كمال المعرفة، فان العارف على يقين بأن الدنيا بالاضافة إلى الله ونعيم الآخرة أخس من خنفساء بالنظر إلى ياقوتة، هذا الزاهد في أمن من خطر الالتفات إلى الدنيا، كما أن تارك الخنفساء بالياقوتة في أمن من طلب الاقالة في البيع؟

وقد ذكر أرباب القلوب من أهل المعرفة أن مثل تارك الدنيا بالآخرة مثل من منعه عن باب الملك كلب يكون في بابه فالقى إليه لقمة خبز نالها من موائد الملك فشغله بنفسه ودخل الباب ونال غاية القرب من الملك حتى نفذ أمره في جميع مملكته، أفترى أنه يرى لنفسه عوضاً عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى كلب في مقابلة ما يناله مع كون هذه اللقمة أيضاً من الملك. فالشيطان كلب على باب الله يمنع الناس من الدخول، مع أن الباب مفتوح والحجاب مرفوع والدنيا كلقمة خبز إن أكلها فلذتها في حال المضغ وتنقضي على القرب بالابتلاع ثم يبقى ثقله في المعدة ثم ينتهى إلى النتن والقذر ويحتاج إلى اخراجه، فمن تركها لينال عز الملك كيف يلتفت إليها. ولا ريب في نسبة الدنيا لكل شخص اعني ما يسلم له منها وإن عمر الف سنة بالاضافة إلى نعيم الآخرة أقل من لقمة بالاضافة إلى ملك الدنيا، إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي، والدنيا متناهية، ولو كانت تتمّادى الف الف سنة صافية عن كل كدورة لكان لا نسبة لها إلى الأبد فكيف ومدة العمر قصيرة ولذاتها مكدرة غير صافية فأي نسبة لها إلى نعيم الأبد.

(الثاني) اعتبار المرغوب عنه اعني ما يترك وبهذا الاعتبار له خمس درجات:

(الأولى) أن يترك المحرمات وهو الزهد في الحرام، ويسمى زهد فرض.

(الثانية) ان يترك المشتبهات أيضاً وهو الزهد في الشبهة، ويسمى زهد سلامة.

(الثالثة) ان يزهد في الزائد عن قدر الحاجة من الحلال أيضاً ولا يزهد في التمتع بالقدر الضروري من المطعم والملبس والمسكن واثاثه والمنكح وما هو وسيلة إليها من المال والجاه، والى هذه الدرجات كلا أو بعضاً أشار مولانا أمير المؤمنين (ع) بقوله: " كونوا على قبول العمل أشد عناية منكم على العمل، الزهد في الدنيا قصر الأمل وشكر كل نعمة والورع عن كل ما حرم الله عز وجل "[1] ومولانا الصادق (ع) بقوله: " الزهد في الدنيا ليس باضاعة المال ولا تحريم الحلال بل الزهد في الدنيا ألا تكون بما في يدك أوثق بما في يد الله عز وجل "[2] وهذا مع ما يأتي بعده هو الزهد في الحلال، ويسمى زهد ثقل.

(الرابعة) أن يترك جميع ما للنفس فيه تمتع ويزهد فيه ولو في قدر الضرورة، لا بمعنى ترك هذا القدر بالمرة، إذ ذلك متعذر، بل تركه من حيث التمتع به وان ارتكبه اضطراراً من قبيل أكل الميتة مع الاكراه له باطناً، وهذا يتناول ترك جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرئاسة والمال والجاه وغيرها، والى هذه الدرجة أشار الصادق (ع) بقوله: " الزاهد في الدنيا الذي يترك حلالها مخافة حسابه ويترك حرامها مخافة عذابه " واليها يرجع قول أمير المؤمنين (ع): " الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه:

" لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم "[3]

فمن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه[4] وقوله (ع): " الزهد في الدنيا ثلاث أحرف: زاء وهاء ودال أما الزاء فترك الزينة وأما الهاء فترك الهوى وأما الدال فترك الدنيا ".

(الخامسة) أن يترك جميع ما سوى الله ويزهد فيه حتى في بدنه ونفسه أيضاً بحيث كان ما يصحبه ويرتكبه في الدنيا إلجاء وإكراهاً من دون استلذاذ وتمتع به، والى هذه الدرجة أشار مولانا الصادق (ع) في كلامه المنقول سابقاً (ص62) حيث قال: " الزهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النار وهو تركك كل شيء يشغلك عن الله من غير تأسف على فوتها ولا اعجاب في تركها ولا انتظار فرج منها ولا طلب محمدة عليها ولا عوض منها بل يرى فوتها راحة وكونها آفة " إلى آخر الحديث[5].

ثم الالتفات إلى بعض ما سوى الله والاشتغال به ضروري كضرورة الأكل واللبس ومخالطة الناس ومكالمتهم وأمثال ذلك، لا ينافي هذه المرتبة من الزهد، إذ معنى الانصراف من الدنيا إلى الله تعالى إنما هو الاقبال بكل القلب إليه تعالى ذكراً وفكراً، وهذا لا يتصور بدون البقاء ولا بقاء إلا بضرورات المعيشة، فمتى اقتصر من الدنيا عليها قصداً لدفع المهلكات عن البدن والاستعانة بالبدن على العبادة وسائر ما يقربه إلى الله لم يكن مشتغلا بغير الله، إذ مالا يتوصل إلى الشيء إلا به فهو منه، فالمشتغل بعلف دابته في طريق الحج ليس معرضاً عن الحج، ولكن ينبغي أن يكون البدن في طريق الله مثل الدابة في طريق الحج، فكما أن قصدك من تهيئة ما تحتاج إليه دابتك دفع المهلكات عنها حتى تسير بك إلى مقصدك دون تنعمها، فكذلك ينبغي أن يكون قصدك من الأكل والشرب واللباس والسكنى صيانة بدنك عما يهلكك من الجوع والعطش والحر والبرد فتقتصر على قدر الضرورة وتقصد به التقوى على طاعة الله دون التلذذ والتنعم، وذلك لا ينافي الزهد بل هو شرطه، ثم ترتب التلذذ على ذلك لا يضرك إذا لم يكن مقصوداً بالذات لك فان الإنسان قد يستريح في قيام الليل بنسيم الأسحار وصوت الطيور وهذا لا يضر بعبادته إذا لم يقصد طلب موضع خاص لهذه الاستراحة على انه لا لذة حقيقة في الأكل والشرب واللباس وإنما تندفع بها آلام الجوع والعطش والحر والبرد.

ثم لا يخفى أن الفضول من أمور الدنيا من المطعم والمشرب والملبس والمسكن واثاثه والمنكح والمال والجاه ينبغي تركها والزهد فيها إذ الأخذ بما لا يحتاج إليه ينافي الزهد. (وأما) غير الفضول مما يحتاج إليه الإنسان ويكون مهما له من الأمور الثمانية، فينبغي ألا يترك الزهد فيها، إذ ما هو المهم الضروري يتطرق إليه فضول في مقداره وجنسه وأوقاته فينبغي ألا يترك الزهد فيه أيضاً.

ومقتضى غاية الزهد فيه أن يقتصر من القوت على قوت يومه وليلته فان كان عنده أزيد من ذلك فليبذله على بعض المستحقين، فان اقتصر من جنسه على خبز الشعير فهو نهاية الزهد في القوت، إلا أن أكل خبز الحنطة في بعض الأحيان بل أكل أدام واحد في بعض الأوقات إذا لم يكن من اللذائذ الشديدة من أطعمة المتنعمين من أهل الدنيا لا ينافي الزهد، وربما لم يكن أكل اللحم في بعض الأحيان منافياً له. ويقتصر من (اللباس) بعد كونه من القطن أو الصوف على ما يستر الأعضاء ويحفظها من الحر والبرد ولا بأس بكونه اثنين ليلبس الآخر عند غسل أحدهما. ومن (المسكن) على ما يحفظ نفسه وأهله من الحر والبرد. ومن (أثاثه) اعني الفرش والظرف والقدر والكوز وامثال ذلك، ما يدفع حاجته من غير تعد إلى ما يمكن زوال ضرورته بدونه. ومن (المنكح) على ما تنكسر به سورة شبقة ويحفظه عن النظر والوساوس الشهوية المانعة عن الحضور في العبادات.

ومن (المال) على ما يقضي به حاجة يومه بليلته فان كان كاسباً فإذا اكتسب حاجة يومه فلبترك كسبه ويشتغل بأمر الدين، وإن كانت له ضيعة ولم يكن له مدخل آخر يمكن ان يصل إليه كل يوم قدر حاجته فيه فالظاهر عدم خروجه عن الزهد بإمساك قدر ما يكفي لسد رمقه بسنة واحدة بشرط أن يتصدق بكل ما يفضل من كفاية نفقته. وربما قيل إن مثله من ضعفاء الزهاد، بمعنى أن ما وعد للزاهدين في الدار الآخرة من المقامات العالية والدرجات الرفيعة لا يناله، وإن صدق عليه كونه زاهداً، إذ مثله ليس له قوة اليقين، لأن صاحب اليقين الواقعي إذا كان له قوت يومه لا يدخر شيئاً لغده ومن شرط التوكل في الزهد، فلا يكون هذا من الزهاد عنده. وهذا غاية الزهد في الأمور المذكورة، وعليه جرت طوائف الأنبياء وزمرة الأوصياء ومن بعدهم من السلف الأتقياء. والحق أن حكم الزهد فيها يختلف باختلاف الاشخاص والأوقاف فان أمر المتفرد في جميع ذلك أخف من أمر المعيل، ومن قصر جميع همه على تحصيل العلم والعمل ولم يقدر على كسب، حاله يخالف حال أهل الكسب، وكذا في بعض الأوقات وفي بعض الاماكن يمكن تحصيل قدر الحاجة في كل يوم وفي بعض آخر منهما لا يمكن ذلك، فاللائق لكل أحد أن يلاحظ حاله ووقته ومكانه ويتأمل في أن الاصلح بأمر آخرته والاعون على تحصيل ما خلق لأجله إمساك أي قدر من المال وصرف أي قدر وجنس من القوت، بحيث لو كان أقل منه لم يتمكن من تحصيل ما يقربه إلى ربه فيأخذ به ويترك الزائد، فان بعد صحة النية وخلوص القصد في ذلك لا يخرج به عن الزهد الواقعي وان تصور الاكتفاء بأقل من ذلك مع ايجابه لفقد ما هو اهم في تكميل النفس.

وأما (الجاه) فقد تقدم أن القدر الضروري منه في أمر المعيشة كتحصيل منزلة في قلب خادمه ليخدمه، وفي قلب السلطان ليدفع الاشرار عنه، لا بأس به، فالظاهر عدم منافاة هذا القدر للزهد، وقال بعض العلماء: (هذا القدر وان لم يكن به بأس إلا أنه يتمادى إلى هاوية لا عمق لها ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) وانما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضرر أو لخلاص من ظلم، اما النفع فيغني عنه المال فان من يخدم باجرة يخدم وان لم يكن لمستأجره عنده قدر، وانما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير اجرة، ومعلوم أن من أراد أن يخدم بغير اجرة فهو من الظالمين فكيف يكون من الزاهدين. وأما دفع الضرر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل العدل فيها وأن يكون بين جيران يظلمونه ولا يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في القلوب أو محل له عند السلطان. وقدر الحاجة فيه لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب، والخائض في طلب الجاه سالك طريق الهلاك بل حق الزاهد ألا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلا، فان اشتغاله بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع عنه الأذى ولو كان بين الكفار فكيف بين المسلمين. وأما التوهمات والتقديرات التي تخرج إلى الزيادة في الجاه على الحاصل بغير كسب فهي أوهام كاذبة، إذ من طلب الجاه أيضاً لم يخل عن أذى في بعض الأوقات فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه، فاذن طلب المحل في القلوب لا رخصة فيه اصلا واليسير منه داع إلى الكثير وضراوته اشد من ضراوة الخمر فليحترز من قليله وكثيره، نعم ما أعطاه الله لبعض عبيده من دون سعيه في طلبه لنشر دينه أو لاتصافه ببعض الكمالات المختصة لحصول منزلة له في القلوب فليس به بأس ولا ينافى الزهد، فان جاه رسول الله (ص) كان أوسع الجاه مع كونه أزهد الناس.

والحق كما تقدم أن الجاه كالمال في نفي البأس من قدر يضطر إليه الإنسان إذا وقع في زمان أو بلد توقف أمر معيشته عليه، فالقدر الضروري منهما غير محذور وغير مناف للزهد، والزائد على الحاجة سم قاتل، فلا ينبغي أن ينسب المقتصر على الضرورة إلى الدنيا، بل ذلك القدر من الدين لأنه من شرطه والشرط من جملة المشروط، ويدل عليه ما روى أن إبراهيم (ع) اصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرض شيئاً فلم يقرضه فرجع مهموما، فاوحى الله تعالى إليه: (لو سألت خليلك لأعطاك)، فقال يارب: (عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها)، فاوحى الله إليه: (ليس الحاجة من الدنيا) ويدل عليه أيضاً كلام الصادق (ع) مع سفيان الثورى كما أورده بطوله شيخنا الأقدم رحمه الله في جامعه الكافي.

فإذن قدر الحاجة من الدين وما وراءه وبال في الآخرة، بل في الدنيا أيضا، ويعرف ذلك بالتأمل في أحوال الاغنياء وما عليهم من المحنة في كسب المال وجمعه وحفظه وتحمل الذل فيه، وغاية سعادته أن يتركه لورثته، فيأكلونه وهم أعداؤه، أو يستعينون به على المعصية، فيكون معيناً لهم عليها، ولذلك شبه جامع الدنيا وتابع الشهوات بدود القز، لا يزال ينسج على نفسه حتى يقتلها، ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصاً فيموت ويهلك بسبب العمل الذي عمله بنفسه كما قيل في ذلك:  

معنى بـأمر لا يـزال يعالجه

ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه

ألم تر أن المرء طول حياته

كدود كدود القز ينسج دائما

 

فكل مكب على الدنيا متبع للشهوات لا يزال يقيد نفسه بسلاسل واغلال لا يقدر على قطعها، إلى أن يفرق ملك الموت بينه وبين شهواته دفعة، فتبقى السلاسل من قلبه معلقة بالدنيا التي فاتته وخلفها، وهي تجاذبه إلى الدنيا، ومخالب ملك الموت قد تعلقت بعروق تجذبه إلى الآخرة فأهون أحواله عند الموت أن يكون مثل شخص ينشر بالمناشير ويفصل أحد جانبه عن الاخر. فهذا أول عذاب يلقاه قبل ما يراه من حسرات نزوله في اسفل السافلين ومنعه عن أعلى عليين وجوار رب العالمين. فبالنزوع إلى الدنيا يحجب عن لقاء الله، وعند الحجاب تتسلط عليه نار جهنم، إذ النار لكل محجوب معدة، كما قال الله تعالى:

" كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون. ثم إنهم لصالوا الجحيم "[6]

ولما انكشف لأرباب القلوب أن العبد يهلك نفسه باتباع الهوى والخوض في الدنيا إهلاك دود القز نفسه، رفضوا الدنيا بالكلية. فنسأل الله تعالى أن يقرر في قلوبنا ما نفث في روع حبيبه (ص)، حيث أوحى إليه: " أحبب ما أحببت، فانك مفارقه".

(الثالث) اعتبار المرغوب فيه: أعني ما يترك لأجله. وله بهذا الاعتبار ثلاث درجات. الأولى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار وسائر عذاب الآخرة، وهذا زهد الخائفين. الثانية: أن يكون ثواب الله ونعيم الجنة، وهذا زهد الراجين: الثالثة: وهي الدرجة العليا: ألا تكون له رغبة إلا في الله وفي لقائه، فلا يلتفت إلى الآلام ليقصد منها الخلاص ولا إلى اللذات ليقصد نيلها، بل كان مستغرق الهم بالله، وهذا زهد العارفين، لأنه لا يحب الله خاصة إلا من عرفه بصفاته الكمالية. فكما أن من عرف الدينار والدرهم، وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما، لم يحب إلا الدينار. كذلك من عرف الله، وعرف لذة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أن الجمع بين تلك اللذة ولذة التنعم بالحور العين والنظر إلى القصور وخضرة الاشجار غير ممكن، فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره.

وقال بعض الرفاء: ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى ييقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم، بل تلك اللذة بالاضافة إلى لذة نعيم الجنة، كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق، بالاضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به والطالبون لنعيم الجنة، عند أهل المعرفة وأرباب القلوب، كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك، وذلك لقصوره عن ادراك لذة الملك، لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق.

 

تتميم

الزهد الحقيقي

لا تظنن أن كل من يترك مال الدنيا أنه زاهد، فان ترك المال واظهار التضييق والخشونة في المأكل والملبس سهل على من أحب المدح بالزهد. فكم من الرهبان والمرائين تركوا مال الدنيا وروضوا[7] أنفسهم كل يوم على قدر قليل من القوت، واكتفوا من المسكن بأى موضع اتفق لهم، وكان غرضهم من ذلك أن يعرفهم الناس بالزهد ويمدحهم عليه، فهم تركوا المال لنيل الجاه. فالزهد الحقيقي ترك المال والجاه، بل جميع حظوظ النفس من الدنيا. وعلامة ذلك استواء الغنى والفقر والذم والمدح والذل والعز لأجل غلبة الأنس بالله، إذ ما لم يغلب على القلب الأنس بالله والحب له لم يخرج عنه حب الدنيا بكليته. إذ محبة الله ومحبة الدنيا في القلب كالماء والهواء في القدح، فإذا دخل احدهما خرج الآخر، فكلاهما لا يجتمعان ولا يرتفعان أيضاً. فالقلب. المملوء من حب الدنيا يكون خالياً عن حب الله، كما أن القلب المشغول بحب الله وأنسه فارغ عن حب الدنيا وبقدر ما يقدر ما يخرج أحدهما يدخل الآخر وبالعكس.

ومنها:

 

الغنى

وهو وجود كل ما يحتاج إليه من الأموال، وهذا أقل مراتبه، وفوق ذلك مراتب لا تحصى، حتى ينتهي إلى جمع اكثر أموال الدنيا، كما اتفق لبعض الملوك.

ثم (الغنيُّ) إما أن يكون بحيث يسعى في طلب المال وجمعه ويتعب في تحصيله ويكره خروجه عن يده ويتأذى به، وهذا غنى حريص. أو يكون بحيث لا يتعب ولا يسعى في تحصيله، إلا أنه لما أتاه أخذه وفرح به، مع تأذيه بفقده وكراهته له، وهذا أيضاً لا يخلو عن الحرص لحزنه بفقده أو يكون بحيث لا يتعب في طلبه ولا يرغب فيه رغبة يفرح بحصوله ويتأذى بفقده، ولكن لما أتاه رضى به: إما مع تساوى وجوده وعدمه أو مع كون وجوده أحب إليه من عدمه، ومثله الغني الراضي والقانع.

وأيضاً الغني إما أن يكون جميع ماله حلالا، أو يكون بعضه أو كله حراماً.

وأيضاً إما يمسكه غاية الامساك، بحيث لا يؤدي شيئاً من حقوقه الواجبة والمستحبة، أو ينفقه في مصارفه اللائقة. وللانفاق مراتب شتى: ادناها أن يؤدى الحقوق الواجبة، واعلاها أن يبذل كلما يزيد عن أقل مراتب الغنى، بحيث لو تعدى عنه يسيراً صار فقيراً.

 

فصل

ذم الغنى

الغنى الحاصل من الحلال، مع بذل ما يفضل عن أقل مرتبته في المصارف اللائقة ومساواة وجوده وعدمه عند صاحبه، سالم من الآفات والأخطار. وغير ذلك من اقسامه لا يخلو عن آفة أو خطر، وحبه بعض أفراد حب الدنيا، بل هو راجع إلى حب المال بعينه، فيدل على ذمه ما ورد في ذمهما. وقد ورد في ذمه بخصوصه بعض الآيات والأخبار، قال الله سبحانه:

" إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى "[8].

وقيل لرسول الله (ص): " أي امتك أشر؟ قال: " الأغنياء ". وقال (ص) لبلال: " ألق الله فقيراً، ولا تلقه غنياً ". وقال (ص): " يدخل الفقراء امتي الجنة قبل اغنيائهم بخمسمائة عام ". وقال (ص): " اطلعت على الجنة، فرأيت اكثر أهلها الفقراء. واطلعت على النار، فرأيت اكثر أهلها الأغنياء ". وفي طريق: " فقلت: أين الأغنياء؟ فقال: حسبهم الجد ". وأوحى الله تعالى إلى موسى " يا موسى، إذا رأيت الفقر مقبلا، فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلا، فقل: ذنب عجلت عقوبته ". وروى: " أنه ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش: يا ابن آدم، قليل يكفيك خير من كثير يطغيك ". وقال عيسى (ع): " بشدة يدخل الغني الجنة ".

 

فصل

الفقر

ضد الغنى (الفقر). وهو فقد ما يحتاج إليه. ولا يسمى فقد ما لا حاجة إليه فقراً. فان عمم ما يحتاج إليه ولم يخص بالمال، لكان كل موجود ممكن محتاجاً، لاحتياجه إلى دوام الوجود وغيره من الحاجات المستفادة من الله سبحانه، وانحصر الغنى بواحد واجب لذاته ومفيد لوجود غيره من الموجودات، أعنى الله سبحانه. فهو الغنى المطلق، وسائر الأشياء الموجودة فقراء محتاجون. وقد أشير إلى هذا الحصر في الكتاب الآلهي بقوله تعالى:

" والله الغني وأنتم الفقراء "[9].

وإن خص بالمال لم يكن كل الناس فقراء، بل من فقد المال الذي هو محتاج إليه كان فقيراً بالاضافة إليه، والفقر بهذا المعنى هو الذي نريد بيانه هنا.



[1] صححنا الحديث على ما في البحار الجزء الثاني من المجلد الخامس عشر في باب الزهد ص101.

[2] صححنا الحديث على ما في سفينة البحار ج1 ص568

[3] الحديد، الآية: 23.

[4] هذا الحديث مروى في البحار الجزء الثاني من المجلد الخامس عشر في باب الزهد ص103.

[5] صححنا الحديث هنا وهناك على ما في البحار الجزء الثاني من المجلد الخامس عشر في باب الزهد ص100 والحديث منقول فيه عن مصباح الشريعة الذي تقدم ذكره في الجزء الأول ص121، 254.

[6] المطففين، الآية: 15 ـ 16.

[7] في بعض النسخ (ردوا)، وفي بعض آخر (رودوا). والظاهر أن الصحيح ما اثبتناه.

[8] العلق، الآية: 6ـ 7.

[9] محمد (ص)، الآية: 37.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست