النهاية

:الموضوع

ـ موجز عن المراتب الثلاث للخلوص

ـ الشكر والحياء: المرتبة الرابعة للخلوص

ـ المحبة لله: المرتبة الخامسة للخلوص

ـ المرتبة الأخيرة للخلوص: المحرك الوحيد هو الله

الدرس التاسع عشر

فضيلة الإخلاص(2)

موجز عن المراتب الثلاث للخلوص:

البحث حول فضيلة الإخلاص والخلوص. وتوجد ثلاث مراتب للخلوص.

المرتبة الأولى: وهي أن يكون العمل لله فقط ولكن المحرك هي الدنيا.

المرتبة الثانية: يكون العمل لله، والنية لله، ولكن المحرك والداعي هي الآخرة. والدخول إلى الجنة أو عدم الدخول إلى جهنم.

المرتبة الثالثة: تكون النية لله ولكن المحرك مقام لقاء الله ووصول الإنسان إلى مقام عند الله.

وهذه المراتب الثلاث وخاصة المرتبة الثالثة عالية جداً. والعبادة فيها مقبولة، وفيها ثواب الدنيا والآخرة. ولكن ينبغي الالتفات إلى أن لكل مرتبة من هذه المراتب الثلاث حجاب نوراني، وفي كل من هذه المراتب توجد أنية مختبئة.

فإذا كانت الدنيا المحرك فقد جاء بالعمل لنفع نفسه، وإذا كانت الآخرة فقد جاء بالعمل أيضاً لنفع نفسه، وإذا كنانت المرتبة الثالثة فهي غير خالية أيضاً من الذاتية. وليس فيها حجب ظلمانية، ولكن فيها حجب نورانية، ويقال له في اصطلاح أهل القلوب الجنة: الشهوة العقلية لا الشهوة الجنسية، وان كان يوجد بين المرتبة الثالثة والمرتبتين الأولى والثانية من فرق كبير.

ـ الشكر والحياء المرتبة الرابعة للخلوص:

المرتبة الرابعة من الخلوص هي أن لا تكون أي ذاتية في العبادة وتكون العبادة أو ترك المعصية من أجل شكر مقام الربوبية فقط. تقول أم سلمة: قلت لرسول الله (ص) لماذا كل هذه العبادة؟ (ونقرأ في الروايات أن النبي الأكرم (ص) والزهراء (ع) عبدا الله سبحانه حتى تورمت قدماهما، وكانت الزهراء (ع) تقف على رجل واحدة من شدة التعب ثم تقف على الأخرى) سألت أم سلمة النبي الأكرم (ص) لماذا كل هذه العبادة؟ فقال:

"ألا أكون عبداً شكوراً".

ألا ينبغي أن أشكر الله الذي أعطاني كل هذه النعم؟ وكل نعم الله تعالى لها شكر، وإذا أردنا أن نحصي مليوناً من نِعم الله سبحانه فانا لا نستطيع.

(وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها)(1).

اللقمة التي نضعها في أفواهنا تجري عليها نعم كثيرة حتى تصل إلى أنسجة الجسم. وكريات الدم الحمراء التي يتجاوز عددها الملياردات في بدن كل إنسان مسؤولة عن توزيع الأغذية والأوكسجين في البدن، وتحمل في رجوعها غاز ثاني أوكسيد الكاربون إلى الرئتين وعن طريق عملية التنفس تخرجه إلى خارج البدن وإذا توقفت الكريات الحمر عن العمل فان الإنسان يموت.

والميكروبات التي تدخل الجسم عن طريق الأذن والأنف والفم قد جعل الله تعالى لها حارساً دواراً لدفع أضرارها وهي كريات الدم البيضاء، ويتجاوز عددها في جسم الإنسان على المليارد.

وارتفاع حرارة البدن هي نعم الله لأنها لا سلكي وجرس الخطر وحارس دوار للحفاظ على البدن. وأعظم النعم هي نعمة العقل، أكنت ترضى لو أن الله أعطاك جميع إيران والدنيا وسلب منك عقلك؟ أبداً.

وأنتم أيها الموالون أترضون أن تعطى لكم الدنيا ويسلب عنكم حب أمير المؤمنين (ع)؟ أبداً. (واسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)(2). أنزل عليكم نعمه كالمطر ولكنكم ـ مع الأسف ـ غافلون وبدل أن تشكروا الله عليها فانكم مع ذلك تعتبون.

وبناءً على هذا فان مراتب الخلوص هي عبادتنا له سبحانه شكراً على نعمه التي وهبها لنا.

والأهم من ذلك الاجتناب عن الذنوب لأننا في مرأى ومسمع منه تعالى. أي ان الدافع لترك الذنوب هو الخجل والحياء منه سبحانه، يقول القرآن:

(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(3).

أي ارتكب أي ذنب تريد ولكن لا تغفل انك في مرأى ومسمع من الله تعالى، وفي مرأى ومسمع من رسول الله (ص)، وفي مرأى ومسمع من جميع الأئمة الطاهرين، وخاصة في مرأى ومسمع قطب عالم الإمكان، محور الوجود، الواسطة بين الغيب والشهود ولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

ومن هذا القبيل إن الإنسان إذا نظر وإذا تحدث وإذا تصور يجب أن يعلم أنه في مرأى ومسمع من الله ورسوله والأئمة الطاهرين (ع). فجميع هؤلاء حاضرون وناظرون. وشيء جيد ألا يقدم الإنسان على المعصية على الأقل حياءً من الله تعالى. ويطلق أهل القلوب الحية على هذا اسم العبادة الاستحيائية. أي أن الإنسان عندما يرى بأن الله تعالى ناظر إليه يستحي فلا يغتاب ولا يتهم ولا يكذب ولا يمد بصره وترتدي المرأة الحجاب الصحيح ولا يأكل أموال الناس بالباطل، وأخيراً لا يكون في ذمته حق لله ولا حق للناس لأنه في مرأى ومسمع من الله سبحانه.

يريد الله منا أن نكون أوفياء، ويقول عن غير الأوفياء له سبحانه: (وما قدروا الله حق قدره)(4).

أي أن هؤلاء الناس لم يعرفوا حق الله. هؤلاء الناس غير أوفياء لله تعالى. ولكن ربما يكون الخطاب ممزوجاً بالعتاب، يقول: (قتل الإنسان ما أكفره)(5).

قتل الإنسان ما أكثر خيانته، لأنه في ملك الله يأكل رزق الله وفي مقابل ذلك يعصيه. قد أعطاه الله تعالى جميع نِعم وخيرات هذا العالم ولكنه لا يصلي ركعتين لله، أو يصليها كسلاناً، أو يصليها بشكل سيئ، وحقيقة أن مثل هؤلاء الأشخاص هم من أتعس أفراد البشرية الذين لا يهتمون بالمقام الإلهي المقدس.

واني أرجو من الجميع وخاصة الشباب إذا أرادوا ان يعملوا عملاً أو يقولوا شيئاً أو حتى إذا فكروا أن يجعلوا هذه الآية القصيرة نصب أعينهم ثم ليرتكبوا أي عمل أرادوا، وهذه الآية هي:

(ألم يعلم بأن الله يرى)(6).

اقرأوا هذه الآية الشريفة في اليوم عدة مرات فبالإضافة إلى كونها قراءة للقرآن تعلمون أيضاً بأن الله يرى. وكرروها حتى تصدقوا بأن الله يرى، بل يرى بشكل جيد، أقرب إليَّ من حبل الوريد، بل يفهم هو أولاً ثم نفهم نحن.

(ان الله يحول بين المرء وقلبه)(7).

وهذه هي المرتبة الرابعة للخلوص.

المرتبة الخامسة للخلوص: المحبة لله:

المرتبة الخامسة للخلوص وهي تلك المرتبة التي تكون العبادة فيها لله تبارك وتعالى فيجتنب عن الذنب من أجل الله سبحانه، ودافعه إلى ذلك هو محبة الله تعالى في قلبه عشق الله؛ وذلك العشق والمحبة له سبحانه يلجئه ليصلي ولا يخالف الخالق جل شأنه.

ومحبة الله تعالى قد أحرقت جميع الأوثان في قلبه. ومحبة الله هي من النيران التي تحطم الأوثان، تحطم الأوثان ثم تحرقها أيضاً. وإذا تمكن حبّ الله في قلب فانه لا يرى شيئاً في هذا العالم إلا حسن.

(شعر):

استحسن العالم لأنه قد أخذ حسنه منه

وأعشق كل العالم لأنه منه

وإذا استطاع المرء أن يجعل محبة الله في قلبه وكانت محركاً له للاجتناب عن الذنوب، فان هذه العبادة هي عبادة الأحرار كما قال الإمام السجاد (ع).

ماذا تعني عبادة الأحرار؟ ربما كان الإنسان عبداً لبطنه، وربما كان عبداً للرئاسة، وربما كان عبداً لهواه، وربما كان عبداً للشيطان.

ولكن حينما يمزق كل هذه العبوديات ولا يكون عبداً إلا لله سبحانه، فمثل هذا الإنسان هو إنسان حر. وعندما يكون إنساناً حراً فان عبادته تكون عبادة الأحرار، فعبادة الأحرار هي تلك العبادة التي لا يكون في القلب أي شيء سوى محبة الله تعالى.

وإذا أرادنا محبة الله تعالى، وإذا أردنا محبة أهل البيت (ع)، فيجب أن تكون العلاقة مع الله سبحانه هي الإيمان الكامل، وذلك الشيء الذي يحطم المحبة هو الذنب، وذلك الشيء الذي يحرق المحبة هو الذنب. وذلك الشيء الذي يُنمي محبة الله هي الصلاة في أول وقتها، الصلاة مع الخشوع والخضوع، الصلاة مع حضور القلب، الصلاة مع التعقيب.

أيها الشباب إذا أردتم الدنيا، إذا أردتم الآخرة فأدوا الصلاة في أول وقتها، الصلاة مع الجماعة، الصلاة مع الخضوع. ونقرأ في الروايات: أنه عندما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي، فقالت:

(بسم الله الرحمن الرحيم قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون)(8).

افلح المؤمن الذي هو خاشع في صلاته، وبالإضافة إلى محافظته على الصلاة يصليها بأدب ومع حضور قلب.

يا أصحاب الحوائج! يا أهل البلاء! لا تضيعوا الصلاة في أول وقتها. والذي يؤخر صلاته بدون عذر عن أول وقتها يندم في الدنيا والآخرة، يبتلى ويمتحن. إذا أردتم الخير فلتكن صلاتكم في أول الوقت فإن استطعتم فصلوها في المسجد ومع الجماعة، وإن لم تستطيعوا فصلوها في بيوتكم ومحل عملكم في أول وقتها.

وتورث صلاة الليل محبة الله سبحانه. وعندما يأتي حب الله يقتلع جذور جميع الأوثان. ومن كان في قلبه حب الله فلا يؤثر فيه برد الشتاء، فينهض منتصف الليل ويكسر الجليد ويتوضأ ويصلي صلاة الليل. ومن كان في قلبه حب الله فلا يغتاب ولا يتهم ولا يكذب.

أيها الشباب اعملوا ان الله سبحانه يحب عباده. ويحب المحافظة على ماء وجوههم! فاياكم أن تريقوها، لا تغتابوا، لا تكذبوا على الناس. فإن هذه الأعمال تحبط دنياكم وأخراكم.

ذكر المرحوم الكليني رواية عن المعصومين (ع) في علامة المؤمن ومضمون جميعها هو أنه:

(يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره لغيره ما يكره لنفسه".

أيها الشباب أترضون ـ والعياذ بالله ـ أن يتجاسر أحد على اخواتكم؟ كلا. إذن فلا تتجاسروا على أخوات الناس. أيها السيد أيتها السيدة! أتحبون أن يغتابكم أحد من وراء ظهوركم؟ إذن لا تغتابوا الآخرين من وراء ظهورهم. أترضى أن تبقى الليلة بلا إفطار؟ طبعاً لا. ففكروا بالفقراء والمساكين.

ـ المرتبة الأخيرة للخلوص: المحرك هو الله فقط:

وأما المرتبة الأخيرة للخلوص فهي حيث لا يكون هناك محرك غير الله سبحانه. يعني أن يأتي بالعبادة لله تعالى فقط. لقد كان الدافع والمحرك في القسم الخامس هو "محبة الله"، وأما المحرك والدافع في هذا القسم فهو نفس الله يقول أمير المؤمنين (ع):

"إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".

يعني: إلهي لم أعبدك من أجل جنتك ونارك، أنا العبد وأنت المولى، وجدت أنه يجب أن أنحني إجلالاً لك. ولهذا فان محركي ودافعي هو أنت.

وقد ذكر القرآن الشريف في آيتين هذا النوع من العبادة. الأولى نزلت في حق أمير المؤمنين (ع) في الليلة التي بات فيها في فراش رسول الله (ص) عند هجرته:

(ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله)(9).

يعني نعرف من عرض حياته للخطر ونام في فراش رسول الله (ص) حتى خرج من مكة وكان هذا العمل منه ابتغاء لمرضاة الله فقط، لا لشيء آخر.

والآية الآخرى نزلت في حق علي والزهراء والحسنين (ع) وكذلك خادمتهم فضة حينما كانوا صياماً واعطوا إفطارهم وهو الخبز مدة ثلاثة أيام إلى مسكين ويتيم وأسير وأفطروا على الماء فقط. فنزلت سورة "هل أتى" في ذكر هذا الإيثار. يقول تعالى:

(ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً)(10).

يعني أنهم أعطوا غذاءهم الذي يحبونه إلى مسكين ويتيم وأسير. ولكن من أجل أي شيء؟

(إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً)(11).

هنيئاً لمن وصل إلى هذه المرتبة. وهنيئاً لمن كانت محبة الله هي المحرك له للعبادة.

وهنيئاً لمن صام شهر رمضان المبارك ووجد قلبه عامراً بالتقوى.

(كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)(12).

ما معنى تقوى القلب؟ يعني خروج الشيطان من القلب ودخول الملك. لماذا يوم عيد الفطر عيد؟ لأن الإنسان استطاع إخراج جميع الأوثان من قلبه. وعندما يُطرد الوثن من بيت القلب يستطيع صاحب البيت المجيء إلى بيته، وصاحب البيت هو الله سبحانه.

"قلب المؤمن عرش الرحمن، لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن".

يقول الله سبحانه: ليس لي مكان، ولكن إذا أردت أن تجدني فاني في قلب عبدي المؤمن. كن مؤمناً ليكون قلبك بيتاً لله، ليكون قلبك عرشاً لله سبحانه.

 

الهوامش:

(1) النحل، الآية: 18.

(2) لقمان، الآية: 20.

(3) التوبة، الآية: 105.

(4) الأنعام، الآية: 91، وسورة الحج، الآية: 74.

(5) عبس، الآية: 17.

(6) العلق، الآية: 14.

(7) الأنفال، الآية: 24.

(8) المؤمنون، الآية: 1 ـ 2.

(9) البقرة، الآية: 207.

(10) الإنسان، الآية: 8.

(11) الإنسان، الآية: 9.

(12) البقرة، الآية: 183.