النهاية

:الموضوع

فضيلة الدعاء والمناجاة

ـ معرفة الله وفطرة الإنسان

ـ الدعاء من امتيازات الشيعة

ـ الصلاة: حوار مع الله

ـ حلاوة العبادة والدعاء

الدرس الرابع عشر

فضيلة الدعاء والمناجاة مع الله

إن الدعاء والمناجاة مع الله هي إحدى الفضائل الكبيرة جداً للإنسان وينبع الدعاء والمناجاة مع الله من عمق روح الإنسان، وبناءً على هذا فقول يا الله يا الله وقول يا رب يا رب وأخيراً طلب الحاجة هو بنفسه فضيلة هذا دعاء لساني. وفيه أيضاً ثواب كثير، وقد ورد التأكيد الشديد عليه ولكن الدعاء الواقعي هي العلاقة بين العبد والله، وهذه العلاقة تنبع من عمق روح الإنسان.

معرفة الله الفطرية لدى الإنسان:

إذا وقع الإنسان في مأزق وطريق مسدود، ولو كان هذا الإنسان لا يعترف بالله سبحانه، فانه يستغيث بشكل لا إرادي بالله تبارك وتعالى يقول القرآن الشريف:

(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)(1).

وهؤلاء المشركون وهؤلاء الكافرون الذي يعترفون بالله تعالى، إذا وقعوا في طريق مسدود وعجزوا عن الحصول على النجاة، فانه يستيقظ ويحيا فيهم البحث والتفتيش عن الله في ذلك الوقت، بحيث انه يرتفع منه صوت يا الله يا الله من غير أن يلتفت إلى ذلك؛ يرتفع منهم الدعاء، ويطلبون من الله انقاذهم من هذا المأزق. ولكن عندما يخرجون من ذلك المأزق ينسون ذلك ويرجعون إلى عملهم الأول.

وهذه الآية الشريفة بالإضافة إلى أنها تثبت بحثنا وتقول الدعاء فضيلة، فهي تُعتبر أيضاً أفضل دليل على معرفة الله سبحانه، وهي تتحدث عما يسمى بـ"الفطرة". الإنسان باحث عن الله ومفتش عن الله. وحتى أن دليل الفطرة يقول لنا شيئاً أكثر من ذلك. فهو يقول بالإضافة إلى أن أعماق روح الإنسان باحثة عن الله ومفتشة عن الله هي باحثة عن التوحيد ومفتشة عن التوحيد، وقائلة أيضاً بوجود فضائل وكمالات لله تعالى أي أن عمق روحه يُدرك بأن الله عالم، وأن الله رحيم، وأن الله كريم وجواد، وأن الله قدير وسميع؛ وأخيراً فان عمق روح الإنسان تشعر بوجود شيء مستجمع لجميع الكمالات.

ومن هنا فعندما يقع الإنسان في طريق مسدود فإن كل همه وغمه يتوجه إلى مبدأ. أي يقول بأن الله واحد وهو مستجمع لجميع الكمالات. ولهذا يطلب حاجته من الله، يتكلم مع الله. مما يدل على أنه اكتشف سميعاً وهو عالم وقادر ورؤوف، وهو رب حقاً.

يقول أحد السادة: كان لي صديق لا يعترف بوجود الله سبحانه. لي معه مناقشات وحوار طويل ولم استطع أن أصل معه إلى نتيجة. وكان له ولد وحيد وقد أدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية له. وكان صديقي هذا طبيباً أيضاً، فجلس خلف باب غرفة العمليات وأجهش بالبكاء وهو يقول: يا إلهي إني أريد ولدي منك! فاغتنمت الفرصة وقلت له: من إلهك هذا الذي تريد ولدك منه؟ فقال: ليس هذا محل جدال. يقول القرآن:

(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)(2).

إن اللجاج والغرور العلمي أثناء الجدال لا يسمح للفطرة أن تستيقظ. ولكن عندما يقع في طريق مسدود فانه حينئذٍ ينسى كل شيء آخر، ولا يستطيع العلم والغرور العلمي أن يصنع له حينئذ شيئاً، ولا تستطيع القدرة والتمكن أن تعمل له حينئذٍ شيئاً، ولا تستطيع اللجاجة الآنية والعصبية أن تصنع له حينئذ شيئاً، تستيقظ الفطرة فجأة. يرى أن شيئاً ما يستطيع أن يفعل له شيئاً، وذلك الشيء هو الله. تستيقظ الفطرة. وبشكل لا إرادي تجري دموعه وبشكل لا إرادي ينطق لسانه عالياً بقول يا رب يا رب وقد جاء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي من أجل ذلك، أي من أجل أن يحافظوا على يقظة الفطرة، من أجل أن يبقى الإنسان دائمأً باحثاً عن الله مفتشاً عن الله. وبتعبير القرآن الكريم:

(لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)(3).

جاء الأنبياء من أجل أن يعلم الإنسان أنه دائمأً في مرأى ومسمع من الله وليس عنده جلوة وخلوة، ولا يكون هناك فرق عنده بين أن يكون وحيداً أو في وسط الناس، وأخيراً لكي يبقى قلبه نابضاً على كل حال قائلاً يا ربّ يا رب.

 الدعاء من امتيازات الشيعة:

أحد الأمور التي يمتاز بها الشيعة من غيرهم هو الدعاء. فللشيعة مثل الصحيفة السجادية التي تُسمى زبور آل محمد (ص). وزبور أهل البيت هذا هو كتاب دعاء. أي أن الإمام الرابع (ع) عندما وقع في طريق مسدود ولم يستطع التبليغ وقول الحق فقال في ثنايا أدعية الصحيفة السجادية كل ما أراد أن يقوله. ولكن بالإضافة إلى ذلك فان الصحيفة السجادية تعني إيقاظ الفطرة.

وللشيعة كتاب مصباح المتهجد للشيخ الطوسي وكتاب الإقبال للسيد ابن طاووس، وأخيراً كتاب مفاتيح الجنان للمحدث القمي وكتاب زاد المعاد للعلامة المجلسي. لا تحسبوا مفاتيح الجنان للمحدث القمي قليلاً. كتاب المفاتيح بنظر إمام الأمة قدس سره كتاب أخلاق. معمل لصناعة الإنسان. ومفاتيح الجنان بنظر هذا الرجل الكبير كلام صاعد والقرآن الكريم كلام نازل، وكلاهما حديث مع الله. يقول الإمام قدس سره: القرآن الكريم نازل. أي أنه نازل من الله عز وجل إلى عباده، وتنزل من الحجب النورانية والظلمانية ليكون قابلاً للفهم، قابلاً للرؤية والاستماع. مفاتيح المحدث القمي كلام صاعد، أي كلام يذهب من ناحيتنا إلى رب العزة. أي أن قولكم يا رب يا رب وقراءتكم لدعاء ابي حمزة الثمالي وقولكم يا الله في هذه الليلة تذهب جميعها إلى حضرة الباري جل وعلا. الكلام الصاعد يعني الكلام الذاهب إلى الأعلى. وأخيراً فان القرآن الذي هو الكلام النازل مفيد جداً لتهذيب النفس، والمفاتيح التي هي كلام صاعد مهمة جداً لصناعة الإنسان. وكلاهما كلام مع الله. فعندما يقرأ شخص القرآن فان الله يتكلم معه، ولكن للأسف ان الأذن لا إصغاء لها لتسمع.

ولذا من المستحب عندما تصلوا إلى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) أن تقولوا: "لبيك"، أي أن الله تعالى حين يناديكم يا أيها المؤمنؤن! قولوا "نعم"، كما أن الله سبحانه قد وعدكم الإجابة حينما تتكلمون معه وتدعونه: (ادعوني استجب لكم) قولوا "نعم" حين يناديكم الله لتسمعوا "نعم" الله حين تدعونه.

 الصلاة حوار مع الله:

الدعاء هو الكلام مع الله سبحانه. ومن هنا فإن الصلاة حوار ومعراج. والمصلي يتكلم مع الله ويكلمه الله، فعندما يقرأ الحمد والسورة يكلمه الله. وفي بقية أجزاء الصلاة يتكلم هو مع الله.

وأخيراً فان من أول قوله الله أكبر إلى تسليم الصلاة إما أن يتكلم مع الله أو يكلمه الله. ولذا يقول أهل القلوب الحية: "الصلاة معراج المؤمن" وقد ذهب النبي الأكرم (ص) إلى مقام (قاب قوسين أو أدنى) من أجل أن يتكلم مع الله. وقد أوجب الله تعالى علينا الصلاة بواسطة هذا النبي، وجعل صلاة الليل علينا مستحبة، حتى نعرج إليه تعالى في أي وقت نشاء، وفي أي وقت نريد أن يتكلم الله معنا أو نتكلم مع الله فانا نستطيع ذلك. فهنيئاً لمن كانت صلاته معراجاً له.

 حلاوة العبادة والدعاء:

هنالك جملة قالها الإمام الحسين والإمام السجاد (ع) كذلك وبعض هذه الأدعية ذات مضامين عالية بحيث إذا تعامل الإنسان مع مثل هذا النوع من الكلام فانه يصل إلى مقام الوجد حقاً، ويصير مجذوباً حقاً. يقول:

"يا من اذاق أحباءه حلاوة المؤانسة".

أي يا من أذاق أحباءه حلاوة المناجاة وحلاوة الدعاء والصلاة فيعلم أن أحباء الله لا يتلذذون بالأكل والشرب فقط، بل يتلذذون بالدعاء والصلاة أيضاً.

ونقرأ في الروايات ان البعض عندما يدخلون الجنة يغرقون في عالم الرحمة، وتبقى حور العين التي أرسلها الله سبحانه إليه متحيرة سبعمائة عام، فتشتكي بعد ذلك وتقول: إلهي ألم تخلقني من أجل هذا؟ إنه ليس له أي اهتمام بي. فيأتيها الخطاب: دعيه غارقاً في عالم رحمتي فإنه عاشقي.

وينقل المرحوم الديلمي في الإرشاد حديثاً مبسوطاً باسم حديث المعراج. وفي وسط هذا الحديث يقول: خوطب رسول الله (ص) في المعراج (ما مضمونه) يا أحمد في الجنة أُناس لا شغل لهم إلا مناجاتي وإني لأخاطبهم وأقول لهم ذروا أهل الجنة يتنعمون في الجنة بنعمهم أما نعمتكم ولذتكم فهي مخاطبتي لكم ومخاطبتكم لي. كلما نظرت إليهم ازدادوا كمالاً.

إن هذه أشياء لا يفهمها أنا وأنتم، ولا يفهمها من هو أعلى رتبة مني ومنكم. ويجب أن يكون لنا في هذه الدنيا عمل وعلاقة بالدعاء إن شاء الله لندرك قليلاً قليلاً خطاب الله.

يجب ان نجعل كل شيء في ذكر الله. الشباب يذكرون الله من أجل نسائهم وعوائلهم. والرجال المسنون يذكرون الله من أجل الليلة الأولى في قبورهم. وأخيراً الجميع يذكر الله من أجل دنياهم، ومن أجل حل مشاكلهم، ومن أجل القضاء على الظلم. يجب أن تكون هذه الأمور موجودة جميعاً ولكن لا ينبغي أن نخطئ ونسعى لقول يا الله من أجل الدنيا.

فان هذا نقص للإنسان. بل يجب ان تقولوا: نريد أن نهتم بالقرآن كتاب صناعة الإنسان، تلك النعمة الإلهية الكبرى التي نزلت في ليلة القدر نريد أن نذهب لنكرر اسم النبي والأئمة الطاهرين (ع). نريد ان نذهب لنتكلم مع عاشقنا. إذا لم يكن الله معشوقناً فان الله عاشقنا. نقرأ في الروايات ان الله أرأف على عبده من سبعين أباً رؤوفاً. وهنيئاً لمن كان عاشقاً لله ومعشوقاً له. أي كما ان الله يعشقه ويقول له: يا عبدي تعالَ لآخذ بيدك. فكذلك العبد يعشق الله، ولا يكون شيء أحبّ إليه من الحديث مع الله. ولا شيء يلهيه عن ذكر الله.

(لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).

لا تكفروا إذا لم يُستجب دعاؤكم أول مرة أو تعتبوا وتشتكوا من الله بل ادعوا لتصلوا إلى مقام القرب الإلهي.

وكان أستاذنا الكبير السيد الإمام رضوان الله عليه في درسه الخاص يقول أحياناً: "أسف على من يذهب إلى بيت الله ويقسم على الله بأسمائه وصفاته، أي أنه يقسم على الله بالنبي وآله لكنه حين ذلك يطلب من الله الدنيا" هذا الكلام ليس من شأني وشأنكم وإنما هو كلامه هو (ره). وعلى كل حال الليلة ليلة عظيمة، الليلة هي الليلة التي ينتظرها بعض الأفراد سنة كاملة، سنة كاملة ينتظرون ليلة الثالث والعشرين. ينتظرون العشق مع الله، ينتظرون أن يضعوا القرآن ـ هذه النعمة الإلهية العظيمة ـ على رؤوسهم ويقولوا يا الله وعندما يقول المرء يا الله فكأنما قد أعطاه الله الدنيا.

أرادوا أن يمتحنوا إبراهيم (ع)، فجاء جبرائيل وميكائيل معاً فصاح أحدهما من المشرق بصوت مرتفع: "سبوح قدوس" وصاح الآخر من المغرب: "ربنا ورب الملائكة والروح" فأحدث هذا الصوت ضجيجاً على سطح الأرض. فصرخ إبراهيم (ع) وقال: يا من نطق باسم محبوبي إن كررته ثانية فإني أعطيك نصف مالي. فقال جبرائيل: "سبوح قدوس" وقال ميكائيل: "ربنا ورب الملائكة والروح"، فأثر اسم المعشوق على قلب العاشق على قلب إبراهيم (ع) فقال ثانياً: يا مَن نطق باسم محبوبي إن نطقت باسم محبوبي مرة أخرى فاني أهبك جميع مالي. فكررا قوليهما. فقال إبراهيم: لم يبق شيء عندي، فإني نطقت باسم محبوبي أخرى فإني أملكك نفسي. أي إني أهب نفسي في طريق محبوبي، فكرر جبرائيل وميكائيل اسم الله. فقال إبراهيم: لا شيء عندي تعالوا فجميع مالي مالكم وروحي فداء اسم محبوبي. ولمثل هذا العبد يقال انه أدرك ما هو الدعاء وأرك ما تعني "يا الله" و"يا رب".

وتنقل قصة عن محمود الغزنوي وأياز ـ لقد كان أياز هذا إنساناً عجيباً، كان غلاماً اسودا، ومحمود الغزنوي هو فاتح الهند. وكان محمود يحب هذا الغلام الأسود حباً شديداً، وفي ليلة حينما كانا يسيران في إحدى الأزقة ووصلاً إلى موقد حمام فوجدا شيئاً عجيباً هناك، وجدا رجلاً أسود وامرأة سوداء وقد افترشا الرماد وقليل من الخمرة مقابلهما وكانت المرأة تسكب الخمرة في وعاء من خزف وتسقيه زوجها، وهو يشرب وينظر إلى زوجته ويقول: إنك امرأة جميلة فهل خلق الله امرأة أجمل منك؟ فضحك محمود الغزنوي ساخراً. فقال أياز لمحمود الغزنوي: أتعلم أيها السلطان بوجود أفراد يسخرون من دولتك؟ قال لقد ضحكت على هؤلاء وكان ضحكاً في محله، ولكن من الذي يضحك على قصري؟ قال: أشخاص ينهضون من فراشهم نصف الليل ويكسرون الجليد ويتوضأون به ويصلون، وعندما يقولون الله أكبر فانهم يضعون الدنيا وما فيها تحت أقدامهم. وحينئذٍ فانك وقصرك لا تكون شيئاً عندهم.

وبقول بابا طاهر (شعر):

هنيئاً لأولئك الذين قد عشقوا الله فكل شغلهم بالحمد وقل هو الله.

هنيئا لأولئك الذين في صلاة دائمة وجنة الخلد صارت سوقهم.

وقد أخطأ بابا طاهر هنا، فليس محلهم جنة الخلد بل مكانهم عند الله وجوار الله.

فهنيئاً لأولئك الذين هم في صلاة دائمة وقد صار مكانهم جوار الله.

وهنيئاً لأولئك الذين استطاعوا أن يركلوا في الدنيا ما في الدنيا بأقدامهم.

هنيئاً لأولئك الذين استطاعوا أن يركلوا في الآخرة الجنة وما فيها، وليس في قلوبهم سوى الله.

يقول هلال بن نافع: ذهبت إلى المقتل فرأيت كأنه عريس في حجلة عرسه كم هو مشع!! رأيت بعد أن نزف الدم من بدنه المبارك انه لم يبق لصوته جوهر، لم يترك العطش لصوته جوهراً. يقول: رأيت شفتيه المباركتين تتحركان، فتعجبت ماذا عساه أن يقول، هل يلعن هؤلاء القوم في آخر المطاف؟ تقدمت نحوه خطوات فسمعته يقول وقد ركل جميع الأشياء بقدمه:

"رضياً" بقضائك، صبراً على بلائك، لا معبود سواك، رضا الله رضانا أهل البيت" افتخاري أن كل شيء أعطيته في سبيلك. إلهي راض برضاك. إلهي جئت إلى هنا من أجل دينك. جئت لتكون راضياً عني. إلهي ان رضانا هو رضاك. ورضاك هو رضانا أهل البيت. يعني يا إلهي أنه أمر صعب، ولكني حاضر أن تكون زينب أسيرة وأطفالي مشردين في الصحراء من أجلك وأجل دينك "رضا الله رضانا أهل البيت".

 

الهوامش:

(1) سورة العنكبوت، الآية: 65.

(2) العنكبوت، الآية: 65.

(3) النور، الآية: 37.