الحَديـث
الثَامن
"العصبيّة"
[ 171 ]
بسندي
المتَّصل إلى مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ
عَنْ عَليِّ بْنِ إِبْراهِيمَ، عَنْ
أبيه، عَنِ النَّوْفَلي، عَن
السَّكُوني، عَنْ أبي عَبدالله عليه
السلام قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى
الله عليه وآله وسلم:"مَنِ كانَ في
قَلْبه حَبَّةٌ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ
عَصَبَيَّةٍ، بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ مَعَ أَعْرابِ
الجَاهِليَّةِ"(1).
ـــــــــــــــ
(1) أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
العصبية، ح 3.
[ 172 ]
الشرح:
الخردل، نبات معروف له خواص
كثيرة، ويصنع منه الشمع، والعصبيّ: هو
الذي يعين قومه على الظلم ويغضب لعصبته
ويحامي عنهم. وعُصبة المرء أقرباؤه من
جهة الأب، لأنهم يحيطون به فيقوى بهم،
والتعصب بمعنى الحماية والدفاع.
يقول الفقير إلى الله: العصبية
واحدة من السجايا الباطنية النفسانية.
ومن آثارها الدفاع عن الأقرباء، وجميع
المرتبطين به وحمايتهم، بما في ذلك
الارتباط الديني أو المذهبي أو المسلكي،
وكذلك الارتباط بالوطن وترابه، وغير ذلك
من ارتباط المرء بمعلّمه، أو بأستاذه، أو
بتلم ذته وما إلى ذلك. والعصبية من
الأخلاق الفاسدة والسجايا غير الحميدة،
وتكون سبباً في إيجاد مفاسد في الأخلاق
وفي العمل. وهي بذاتها مذمومة حتى وان
كانت في سبيل الحق، أو من أجل أمر ديني،
من غير أن يكون مستهدفاً لإظهار الحقيقة،
بل يكون من أجل تفوقه أو تفوق مسلكه ومسلك
عصبته، أما إظهار الحق والحقيقة وإثبات
الأمور الصحيحة والترويج لها وحمايتها
والدفاع عنها، فإما أنه ليس من التعصب،
وإما أنه ليس تعصباً مذموماً.
إن المقياس في الاختلاف يتمثل في
الأغراض والأهداف وخطوات النفس والشيطان
أو خطوات الحق والرحمن. وبعبارة أخرى، إن
المرء إذا تعصّب لأقربائه أو أحبّتِهِ
ودافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحق
ودحض الباطل، فهو تعصب محمود ودفاع عن
الحق والحقيقة. ويعدّ من أفضل الكمالات
الإنسانية، ومن خلق الأنبياء والأولياء.
وعلامته المميزة هو أن يميل الإنسان إلى
حيث يميل الحق فيدافع
[ 173 ]
عنه، حتى وان لم يكن هذا الحق إلى
جانب من يحبّ، بل حتى لو كان الحق إلى
جانب أعدائه. إن شخصاً هذا شأنه يكون من
جملة حماة الحقيقة، ومن زمرة المدافعين
عن الفضيلة وعن المدينة الفاضلة، ومن
الأعضاء الصالحين في المجتمع، ومن
المصلحين لمفاسده.
أما إذا تحرّك بدافع قوميته
وعصبيته بحيث أخذ بالدفاع عن قومه وأحبته
في باطلهم وسايَرَهم فيه ودافع عنهم،
فهذا شخص تجلت فيه السجية الخبيثة، سجية
العصبية الجاهلية. وأصبح عضواً فاسداً في
المجتمع، وأفسد أخلاق المجتمع الصالح،
وصار في زمرة أعراب الجاهلية، وهم فئة من
أعراب البوادي قبل الإسلام ممن كانوا
يعيشون في ظلام الجهل، وقد قويت فيهم هذه
النزعة القبيحة، والسجية البشعة بل إن
هذه الصفة توجد في معظم أهل البوادي ـ عدى
من اهتدى بنور الهداية كما ورد في الحديث
الشريف عن الأمام أمير المؤمنين عليه
السلام: أن الله سبحانه يعذب طوائف ستة
بأمور ستة:
أَهْلَ البَوَادِي
بِالعَصَبِيَّةِ وَأَهْـلَ الْقُرَى
بِالْكِبَرِ وَالأُّمَرَاءِ
بِالظُلْمِ، وَالفُقَهَاءِ بِالحَسَدِ،
وَالتُّجَّارِ بِالخِيَانَةِ وَأَهْلِ
الرَّسَاتِيقِ بِالجَهْلِ.
فصل
في
بيان مفاسد العصبية
يستفاد من الأحاديث الشريفة عن
أهل بيت العصمة والطهارة أن العصبية من
المهلكات والباعثة على سوء العاقبة
والخروج من عصمة الإيمان، وأنها من ذمائم
أخلاق الشيطان.
جاء في الكافي بسنده الصحيح، عن
أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: "مـَنْ
تَعَصًّبَ أوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ
خُلِعَ رِبْقُ الإيمان مِنْ عُنُقِه"(1).
أي أن المتعصب بتعصبه يكون قد خرج من
إيمانه، وأما المتعصب له، فبما أنه قد
رضي بعمل المتعصب، يصبح شريكاً له في
العقاب. كما جاء في الحديث الشريف: "ومن
رضي بعمل قوم حشر معهم. أما إذا لم يرض به
واستنكره فلن يكون منهم".
ـــــــــــــــ
(1) أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
العصبية، ح 2.
[ 174 ]
وعن أبي عبدالله الصادق عليه
السلام قال: مـَنْ
تَعَصَّبَ عـَصـَّبَهُ اللهُ بِعصابَةٍ
مِنَ النّارِ"(1).
وعن أبي عبدالله عليه السلام قال:
"لـَمْ َيْدُخِل
الجَنَّةَ حَمِيَّةَ غَيْرُ حَمِيَّةِ
حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِالمُطَّلِبِ
وَذلِكَ حينَ أسْلَم غَضَباً للنَّبِيِّ"(2).
وقد وردت قصة إسلام حمزة بن
عبدالمطلب بعبارات مختلفة، وهي خارجة عن
نطاق بحثنا هذا. وعلى كل حال، فمن المعلوم
أن الإيمان، وهو الفوز الإِلهي ومن
الخِلَعِ الغيبية لله جل جلاله، الذي
يفيض بها على المخلصين من عباده،
والخاصّة في محفل انسه، يتنافى مع مثل
هذه السجية الممقوتة التي تدوس الحق
والحقيقة، وتطأ بأقدام الجهل على الصدق
والاستقامة.
ولا شك في أن ا لقلب إذا غطّاه
صدأ حب الذات والأرحام والتعصب القومي
الجاهلي، فلن يكون فيه مكان لنور
الإِيمان، ولا موضع للاختلاء مع الله ذي
الجلال تعالى. إن ذلك الإنسان الذي تظهر
في قلبه تجليات نور الإيمان والمعرفة،
ويطوق رقبته الحبل المتين والعروة
الوثقى للإِيمان، ويكون رهن الحقيقة
والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم
بالقواعد الدينية وتكون ذمته مرهونة لدى
القوانين العقلية، ويتحرك بأمر من العقل
والشرع، دون أن يهز موقفه أيّ من عاداته
وأخلاقه وما يأنس به من مألوفاته. فلا
تحيد به عن الطريق المستقيم. إن الإِنسان
الذي يدعي الإِسلام والإيمان هو ذلك الذي
يستسلم للحقائق ويخضع لها، ويرى أهدافه،
مهما عظمت، فانية في أهداف ولي نعمته،
ويضحي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة
مولاه الحقيقي. ومن الواضح أن مثل هذا
الشخص لا يعرف العصبية الجاهلية، وانه
بريء منها، ولا يتجه قلبه إلاّ إلى حيث
الحقائق ولا تغشي عينيه أستار العصبية
الجاهلية السميكة وأنه يطأ بقدميه في
سبيل إعلاء كلمة الحق والإِعلان عن
الحقيقة على كل العلاقات والارتباطات،
ويفدى بجميع الأقرباء والأحبة والعادات
على أعتاب ولي النعم المطلق. وإذا تعارضت
العصبية الإِسلامية عنده مع العصبية
الجاهلية، قدَّم الإسلام وحب الحقيقة.
ـــــــــــــــ
(1) أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
العصبية، ح 4.
(2) أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، ح 5.
[ 175 ]
إن الإنسان العارف بالحقائق
يعلم أن جميع العصبيات والارتباطات
والعلاقات ليست سوى أمور عرضية زائلة،
إلا تلك العلاقة بين الخالق والمخلوق،
وتلك هي العصبية الحقيقية التي هي أمر
ذاتي غير قابل للزوال، وهو أوثق من كل
ارتباط، وأقوى من كل حسب وأسمى من كل نسب.
في حديث شريف أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قال: "كـُلَّ
حَسَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ
القِيامَةِ إلاّ حَسَبي وَنَسَبي"(1).
وذلك لأن حسب رسول الله ص لّى الله عليه
وآله وسلم روحاني وباق، وبعيد عن جميع
العصبيـّات الجاهلية، وهذا الحسب والنسب
الروحانيين في ذلك العالم، يكون ظهوره
أكثر وكماله أوضح فإن نسبه علاقة إلهية
لا تظهر على كمال حقيقتها إلاّ في ذلك
العالم. إن هذه العلائق الجسمانية
المُلكية القائمة على العادات البشرية
إنما تتقطع بأتفه الأسباب، وليس لأي منها
في ذلك العالم نفع ولا قيمة، إلاّ تلك
العلائق التي تتوثق في نظام ملكوتي الهي
وتحت ظل ميزان القواعد الشرعية والعقلية
التي لا انفصام لها.
فصل
في
بيان الصورة الملكوتيّة للعصبية
سبق في شرح بعض الأحاديث القول
بأن المعيار في الصور الملكوتية
والبرزخية وفي يوم القيامة هو الملكات
وقوتها، وإن ذلك العالم هو محل ظهور
سلطان النفس الذي لا يعصي له الجسم أمراً.
فقد يحشر الإِنسان في ذلك العالم على
صورة حيوان أو شيطان. وقد مرّ بنا في
الحديث في بداية المقال:"مـَنْ كَان
فِي قَلْبِهِ حَبَّة مِنْ خَرْدَل مِنْ
عَصَبِية بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ مَعَ أَعْرَابِ
الجَاهِلِيَّةِ". ولعله إشارة إلى ذلك
الموضع الذي ذكرناه.
إن الإنسان الذي فيه هذه
الرذيلة، لعله عندما ينتقل إلى العالم
الآخر يرى نفسه من أعراب الجاهلية من غير
إيمان بالله تعالى ولا بالنبوة
والرسالة، ويرى أنه في الصورة التي يحشر
بها أولئك الأعراب، ولا يعلم بأنه كان في
الدنيا يعتنق العقيدة الحقة من الإيمان
بالله وبرسوله وأنه من أمة الرسول الخاتم
صلّى الله عليه
ـــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة، كتاب
النكاح، الباب الثامن من أبواب مقدمات
وآداب النكاح، ح 5.
[ 176 ]
وآله وسلم. كما جاء
في الحديث عن أهل جهنم ينسون اسم رسول
الله، ولا يستطيعون أن يعرفوا أنفسهم،
إلاّ بعد أن يشاء الحق سبحانه أن
يُنجيهـم. وبما أن هذه السجية من سجايا
الشيطان، كما ورد في بعض الأحاديث، فلعل
أعراب الجاهلية وأصحاب العصبية يحشرون
يوم القيامة على هيئة الشياطين.
في الكافي في
الصحيح، عن أبي عبدال له الصادق عليه
السلام قال: "إِنَّ
المَلائكَة كانُوا يَحْسَبُونَ أنَّ
إِبْـليسَ منْهُمْ وَكانَ في عِلْم
اللهِ أنـَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ
فَاسْـتَخْرَجَ ما فِي نَفْسِهِ
بالحَمِيَّةِ وَالغَضَبِ. فقال
خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ
طينٍ"(1).
فاعلم أيها العزيز
أن هذه الخصلة الخبيثة، من الشيطان،
وإنها من مغالطات ذلك الملعون ومعاييره
الباطلة. انه يغالط عن طريق هذا الحجاب
السميك الذي يخفي عن النظر كل الحقائق،
بل يظهر رذائل النفس كلّها محاسن، وجميع
محاسن الآخرين رذائل، من الواضع أنه كيف
يكون مصير الإِنسان الذي يرى جميع
الأشياء على غير حقيقتها وواقعيتها.
وفضلا عن كون هذه
الرذيلة هي نفسها تكون سبب هلاك الإنسان،
فإنها كذلك منشأ الكثير من المفاسد
الأخلاقية والأعمال القبيحة التي لا
يتسع المجال لذكرها.
وعليه، إذا عرف
الإِنسان العاقل أن هذه المفاسد ناشئة من
تلك السجية الفاسدة، وأذعن للشهادة
الصادقة المصدقة من رسول الله صلّى الله
عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام
بأن هذه الرذيلة تجر الإنسان إلى الهلاك
وتدخله النار، فما عليه إلاّ أن يتصدى
لعلاج نفسه من هذه السجية، وأن يطهر قلبه
حتى من حبة خردل منها، حتى يكون طاهراً
عند الانتقال من هذه الدنيا إلى العالم
الآخر عند اقتراب أجله، فينتقل بنفس
صافية. إن على الإنسان أن يدرك أن الفرصة
محدودة والوقت قصير جدا، لأنه لا يعلم
متى يحين موعد رحيله.
أيتها النفس
الخبيثة لكاتب هذه السطور، لعل الأجل
المقدر قد حان وأنت منهمكة في الكتابة،
فينقلك بكل رذائلك إلى العالم الذي لا
عودة منه.
ـــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب العصبية ح 6.
[
177 ]
ويا أيها العزيز يا
من تقرأ هذه الوريقات، خذ العبرة من حال
هذا الكاتب الذي يرزح الآن أو مستقبلاً
تحت الثرى، وهو في العالم الآخر مبتلى
بأعما له وأخلاقه البشعة. لقد ضيّع
الفرصة الثمينة التي كانت عنده بالبطالة
والأهواء، فأتلف ذلك الرأسمال الإلهي
وأباده. فانتبه إلى نفسك لأنك ستكون
يوماً مثلي دون أن تعلم متى يكون ذلك.
فلعلك الآن وأنت مشغول بالقراءة، إذا
تباطأت ذهبت الفرصة من يدك. يا أخي، لا
تؤجل هذه الأمور لأنها لا تحتمل التأجيل،
فكم من إنسان سليمٍ وقويٍ فاجأه الموت في
لحظة وأخرجه من هذه الدنيا إلى العالم
الآخر ولا نعلم عن مصيره شيئا. إذاً، لا
تضيّع الفرصة، بل اغتنم اللحظة الواحدة،
لأن القضية عظيمة الأهمية، والرحلة
شديدة الخطورة. فإذا قصّر الإنسان في هذه
الدنيا التي هي مزرعة الآخرة، يكون السيف
قد سبق العذل، ولن تستطيع إصلاح فساد
النفس، ولا يكون نصيبك سوى الحسرة والندم
والـذل.
إن أولياء الله لم
يخلدوا إلى الراحة أبداً، وكانوا دائمي
الخوف من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر.
إن حالات علي بن الحسين عليه ال سلام،
الإمام المعصوم، تثير الحيرة. وأنين أمير
المؤمنين علي عليه السلام، الولي
المطلق، تبعث على الدهشة. ما الذي جرى
لنكون على هذا القدر من الغفلة؟ من الذي
جعلنا نطمئن؟ انه لا يغرينا أحد بتأجيل
عمل اليوم إلى الغد إلا الشيطان. انه يريد
أن يزيد من أعداد أنصاره وأعوانه، وأن
يجعلنا نتخلّق بأخلاقه حتى نحشر مع
أتباعه. إن ذلك الملعون هو الذي يسعى
دائماً إلى تهوين أمور الآخرة في أعيننا،
وبتذكيرنا لرحمة الله ولشفاعة الشافعين
يريد أن ينسينا ذكر الله وطاعته. ولكن يا
للأسف! فهذه كلها أمنيات باطلة، وهي من
أحابيل مكر ذلك الملعون وحيله. إن رحمة
الله تحيط بك الآن، رحمته في صحتك
وسلامتك وحياتك وأمنك وهدايتك وعقلك
وفرصتك وإرشادك إلى إصلاح نفسك وأن آلاف
الرحمة الإلهية المختلفة تحيط بك من جميع
الجهات، ولكنك لا تنتفع بها، بل تطيع
أوامر الشيطان. فإذا لم تستطع أن تستفيد
من رحمات هذ الدنيا، فاعلم أنه لن تنالك
في العالم الآخر رحمات الله اللامتناهية
بل تحرم من شفاعة الشافعيـن. إن مظهر
شفاعة الشافعين في هذه الدنيا هو
الاهتداء بهداهم، وفي ذلك العالم هو
الشفاعة لأنها باطن الهداية. فإذا حرمت
الهداية هنا، حرمت الشفاعة هناك. وعلى
قدر اهتدائك تكون
[
178 ]
لك الشفاعة. إن
شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلم. مثل رحمة الله المطلقة تنال من هو
جدير بها.
فإذا انتزع
الشيطان ـ لا سمح الله ـ وسائل الإيمان من
يدك، فلن تكون جديراً بالرحمة والشفاعة.
نعم، رحمة الله واسعة في الدارين. فإذا
كنت تطلب الرحمة، فلماذا لا تستفيد من
فيوضات الرحمة المتتالية في هذه
الدنيـا، وهي بذور الرحمات الأخرى؟ إن
هذا العدد الكبير من الأنبياء والأولياء
دعوك إلى مائدة ضيافة الله ونعمه، ولكنك
رفضتها وهجرتها بوسوسة من الخنّاس،
وبإيحاء من الشيطان، وضحّيـت بمحكمات
كتاب الله، والمتوا ترات من أحاديث
الأنبياء والأولياء، وببديهات عقول
العقلاء، وببراهين الحكماء الدامغة، على
مذبح نزعات الشيطان والأهواء النفسية.
الويل لي ولك من هذه الغفلة والعمى
والصمم والجهل!.
فصل
في عصبيات أهل العلم
من
جملة عصبيات الجاهلية هو العناد في
القضايا العلمية، والدفاع عن كلمة سبق أن
صدرت منه أو من معلمه أو شيخه، دون النظر
إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل. ولا شك أن
مثل هذا التعصب أقبح من كثير من العصبيات
الأخرى وأجدر بالذم من جوانب عديدة. فمن
جانب المتعصب نفسه نرى أن أهل العلم
ينبغي أن يكونوا هم المربين لأبناء
البشر، باعتبارهم فروع شجرة النبوة
والولاية، وعارفين بوخامة الأمور وعواقب
فساد الأخلاق. فإذا اتصف العالم ـ لا قدر
الله ـ بالعصبية الجاهلية أو بالصفات
الرذيلة الشيطانية، كانت الحجة عليه أتم
وعقابه أشد. إن من يعرف نفسه على أنه،
وشمع محفل العرفان، والهادي إلى السع ادة
ومعرف طرق الآخرة، ثم لا يعمل ـ لا سمح
الله ـ بما يقول، ويختلف باطنه عن ظاهره،
يكون في زمرة أهل الرياء والنفاق، ويحسب
من علماء السوء، ويكون عالماً بلا عمل.
وهذا عقابه أكبر وعذابه أشدّ. وقد أشار
الله سبحانه إلى أمثال هذا في القرآن
بقوله: (بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(1).
ـــــــــــــــ
(1) سورة
الجمعة، آية 5.
[
179 ]
إذاً، من أهم
التزامات أهل العلم هو أن يحافظوا على
هذه الأمور وهذه المقامات، وأن يطهروا
أنفسهم كل التطهير من هذه المفاسد، لكي
يصلحوا بهذا أنفسهم والمجتمع، وتكون
مواعظهم مؤثرة، وتقع نصائحهم موقعها من
القلوب. إن فساد العالِم يؤدي إلى فساد
الأمة. ومن البديهي أن الفساد الذي يتسبب
في مفاسد أخرى والخطيئة التي تزيد خطايا
أخرى وتعظمها تكون أعظم عند وليّ النِعم
من الفساد الجزئي الذي لا يتعدّى إلى
غيره.
ومن ناحية أخ رى في
قباحة هذه السجيّة لدى أهل العلم هو جانب
العلم نفسه، إذا أن هذه العصبية خيانة
للعلم وتجاهل لحقه إذ أن من يتحمل عبء هذه
الأمانة ويلبس لبوسها، فعليه أن يرعى
حرمتها واحترامها، وأن يعيدها إلى
صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّب،
تعصّب الجاهلية يكون قد خان الأمانة
وأرتكب الظلم والعدوان، وهذه بذاتها
خطيئة كبرى.
والناحية الثانية
من جرّاء هذه السجيّة القبيحة إهانة أهل
العلم فيما إذا كان التعصّب في المباحث
العلميّة مع العلم بأن أهل العلم من
الودائع الإلهية الواجب احترامهم. بينما
يكون هتكهم هتكاً لحرمات الله ومن
الموبقات الكبيرة. وقد تؤدي العصبية التي
لا تكون في محلها، إلى هتك حرمة أهل العلم.
أعوذ بالله من هذه الخطيئة الكبيرة!.
وهناك جانب آخر هو
جانب المتعصب له، أي الأستاذ وشيخ
الإنسان. وهذا يوجب العقوق، وذلك لأن
المشايخ العظام والأساطين الكرام ـ نضّر
الله وجوههم ـ يميلون إلى جانب الحق،
ويهربون من الباطل، ويسخطون على من يتذرع
بالتعصب لقتل الحق وترويج الباطل. ولا شك
في أن العقوق الروحي أشد من العقوق
الجسمي، وحق الأبوة الروحية أسمى من حق
الأبوة الجسمية.
إذاً، يتحتّم على
أهل العلم ـ زادهم الله شرفاً وعظمة ـ أن
يتبرءوا من المفاسد الأخلاقية والعلمية،
وأن يزينوا أنفسهم بحلية الأعمال الحسنة
والأخلاق الكريمة، وأن لا ينزلوا عن
المركز الشريف الذي أنعم الله تعالى به
عليهم، إذ أن مدى الخسران في ذلك لا يعلمه
إلا الله. والسلام.
[
180 ]
الحَديـث التَاسِع
"النفاق"
[
181 ]
بالسند
المـتَّـصل إلى ثقة الإِسلام محمّد بن
يعقوب الكليني، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّد
بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِنَانٍ، عَنْ عَوْنٍ بْنِ القَلاَنِسي،
عَنْ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي
عَبْدِاللهِ الصادق عليه السلام، قالَ:"مَنْ
لَقِيَ المُسْلِمِين بِوَجْهَيْنِ
وَلِسَانَيْنِ جَاءَ يَوْمَ
القِيَامَةِ وَلَهُ لِسَانَانِ مِنْ
نَارٍ"(1).
ـــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر باب ذي اللسانين، ح 1.
[
182 ]
الشرح:
لقاء المسلمين
بوجهين هو: أن يبدي المرء ظاهر حاله
وصورته الخارجية لهم على خلاف ما تكون في
باطنه وسريرته. كأن يبدي أنه من أهل
المودة والمحبة لهم، وأنه مخلص حميم،
بينما يكون في الباطن على خلاف ذلك
فيعامل بالصدق والمحبة في حضورهم، ولا
يكون كذلك لدى غيابهم.
أما ذو اللسانين
فهو أن يثني على كل من يلقاه منهم ويمتدحه
ويتملق له ويظهر المحبة له، ولكنه في
غيابه يعمد إلى تكذيبه وإلى استغابته.
فبناء على هذا التفسير، تكون الحالة
الأولى هي:"النفاق العملي"والحالة
الثانية هي:"النفاق القولي". ولعل
الحديث الشريف يشير إلى صفة النفاق
القبيحة. وباعتبار أن هاتين الحالتين هي
من أظهر صفات المنافقين وألصقها بهم،
اقتصر الحديث الشريف على ذكرها خاصّة.
والنفاق من
الرذائل النفسانية والملكات الخبيثة
التي تنجم عنها آثار كثيرة منها هذين
الأثرين المذكورين. وللنفاق درجات
ومراتب. وسوف نحاول. إن شاء الله، أن نذكر
تلك الدرجات والمراتب ومفاسدها
ومعالجتها بقدر الإِمكان، خلال بضعة
فصول.
فصل
في بيان مراتب النفاق
اعلم أن للنفاق،
مثل سائر الأوصاف والملكات الخبيثة أو
الشريفة، درجات
[
183 ]
ومراتب من حيث
القوة والضعف. وإن كل رذيلة لم يتصدَّ لها
المرء بالعلاج الناجع، بل خضع لها
وتبعها، مالت إلى الاشتداد، وإن درجات
اشتداد الرذائل، مثل درجات اشتداد
الفضائل، غير متناهية ولا تقف عند حدّ.
فالمرء إذا ترك
النفس الأمّارة على حاله، فبسبب ميلها
الذاتي وعدم ارتياحها ومساعدة الشيطان
لها والوسواس الخنّاس اندفعت لأجل كل ذلك
نحو الفساد. فيتـفاقم حالها، وتزداد قو ة
وشدة يوماً بعد يوم، حتى يصل الأمر بتلك
الرذيلة التي تابعها أن تتخذ الصورة
الجوهرية للنفس وفصلها الأخير، وتصبح
مملكة الإِنسان، ظاهرها وباطنها تحت
سيطرة تلك الرذيلة. فإذا كانت رذيلة
شيطانية، كالنفاق والاتصاف بذي الوجهين،
مما هو من صفات ذلك الشيطان الملعون ـ كما
جاء في القرآن الكريم: (وَقَاسَمَهُمَا
إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ)(1)،
بينما كان الأمر خلاف ذلك ـ استسلمت
مملكة الإِنسان للشيطان، وأصبحت الصورة
الأخيرة للنفس وباطنها وذاتها وجوهرها،
صورة للشيطان، وقد تصبح صورته الظاهرة في
الدنيا أيضاً كصورة الشيطان، وإن كانت
ملامحه هنا بشرية.
فإذا لم يقف
الإِنسان بوجه هذه الصفة ولم يردعها،
وترك نفسه وشأنها، فلن يمضي وقت طويل حتى
يفلت الزمام منه، ويصبح كلّ همّه
واهتمامه منصباً على تلك الرذيلة، حتى
أنه لا يلتقي شخصاً إلاّ وعامله معاملة
ذي الوجهين وذي ا للسانين، ولا يعاشر
أحداً إلاّ وخالطت معاشرته تلك الصفة من
التلوّن والنفاق، دون أن يخطر له شيء سوى
منافعه الخاصة وأنانيته وعبادته لذاته،
واضعاً تحت قدميه الصداقة والحميّة
والهمة والرجولة. ومت سماً في كل حركاته
وسكناته بالتلون، ولا يمتنع عن أي فساد
وقبح ووقاحة. إن شخصاً هذا شأنه يكون
بعيداً عن البشرية والإِنسانية،
ومحشوراً مع الشياطين.
كل هذا الذي
استعرضناه يمثل القوة والضعف في جوهر
النفاق نفسه، ولكنه يختلف باختلاف
متعلقة. فقد يكون النفاق في دين الله وقد
يكون في السجايا الحسنة والفضائل
الأخلاقية، وقد يكون في الأعمال الصالحة
والمناسك الإِلهية، وقد يكون في الأمور
العادية والمتعارف عليها. وهكذا قد ينافق
المرء مع رسول الله
ـــــــــــــــ
(1) سورة
الأعراف آية: 21.
[
184 ]
صلّى الله عليه
وآله وسلّم، أو مع أئمة الهدى عليهم
السلام، أو مع الأولياء والعلماء
والمؤمنين، وقد يتسع النفاق فيكون مع
المسلمين وسائر خلق الله من الملل الأخرى.
بديهي أن تكون هناك
اختلافات في مدى قبح هذه الحالات التي
عدّدناها ووقاحتها، على الرغم من أنها
جميعاً تشترك من حيث الأصل في الخبث
والقبح، لأنها فروع وأغصان لشجرة خبيثة
واحدة.
فصل
النفاق مصدر كثير من
المفاسد
إن النفاق
والاتصاف بذي الوجهين ـ وإن كانا في
أنفسهما من الصفات القبيحة التي لا يتصف
بها الإنسان الشريف، ويُعتبر المتصف بها
خارجاً عن المجتمع الإِنساني، بل لا يكون
شبيهاً بأي حيوان ويبعثان على الفضيحة
والذل في هذه الدنيا أمام الأصحاب
والأقـران، كما أنهما يوجبان الذل
والعذاب الأليم في الآخرة فقد جاء وصفه
في الحديث الشريف وصف المنافق بأن صورته
في ذلك العالم "أَنَّـهُ
يَحْـشَرُ بِلِـسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ"
ويسببان طأطأة الرأس والفضيحة أمام خلق
الله وفي حضرة الأنبياء المرسلين
والملائكة المقربين. كما يتضح من هذا
الحديث شدة عذاب المنافق و ذي الوجهين،
لأنه إذا أصبح جوهر الجسم جوهر النار،
كان الإحساس أقوى والألم أشدّ ـ أعوذ
بالله من شدته ـ .
عن علي عليه السلام
قال: قال رسـول الله صلّـى الله عليه وآله
وسلم يَـجِيءُ يَـوْمَ
القِـيَامَةِ ذُو الوَجْـهَيْـنِ
دَالِـعاً لِـسَانَهُ فِي قَفَـاهُ
وَآخَرُ مِنْ قُـدّامِهِ
يَـلْتَـهِبَانِ نَاراً حَـتَّى
يَـلْهَبَا جَسَدَهُ. ثُـمَّ يُـقَالُ
هذَا الـذَّي كَـانَ فِي الـدُّنْـيَا
ذَا وَجْهَـيْنِ وَلِسَـانَيْنِ
يُعْرَفُ بِـذَلِـكَ يَوْمَ
القِـيَامَةِ(1). وَيَـكُونُ
مَشْـمُولاً بِالآيَـةِ الشرِيفَة:
(وَيَقْطَعُونَ
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ
لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ)(1).
إن النفاق وذا الوجهين مضافاً إلى ما
تقدم يكونان مصدر ك ثير من المفاسد
ـــــــــــــــ
(1) وسائل
الشيعة، المجلد الثامن، الباب 143، من
أبواب أحكام العشرة، ح 5.
[
185 ]
والمهالك التي
يمكن لأية واحدة منها أن تحكم بالفناء
على دنيا الإِنسان وآخرته، مثل"الفتنـة"التي
ينص القرآن الكريم على إنها"أَشَـدُّ
مِـنَ الـقَـتْلِ"(1). ومثل "النميمة"
التي يقول عنها الإِمام الباقر عليه
السلام:
"مُحَرَّمةٌ
الجَـنَّةُ عَلَى القَتَاتِين
المَـشّائِين بالنَّمِـيمَةِ"(2).
ومثل "الغيبة"
التي قال عنها رسول الله صلّى الله عليه
وآله وسلم:"إِنَّـهَا أَشَدُّ مِـنَ
الزِّنَـا". ومثل إيذاء المؤمن وسبه
وكشف الستر عنه وإفشاء سره، وغيرها مما
يعد كل واحد منها سبباً مستقلاً لهلاك
الإِنسان.
واعلم أنه تندرج في
النفاق وذي الوجهين جملة أمور هي: الغمز
واللمز والكنايات التي يطلقها البعض على
البعض الآخر، على الرغم من إظهار المحبة
والصداقة الحميم ة. فعلى الإِنسان أن
يكون على حذر شديد، وأن يراقب سلوكه
وأعماله. فإن مكائد النفس والأساليب
الشيطانية الماكرة خفية جداً، قلّ من
استطاع الإِفلات منها. فقد يصبح الإِنسان
بإشارة من إشاراته التي تصدر في غير
محلها، أو بغمز وتعريض يصدر منه في غير
موضعه، من ذوي الوجهين، وقد يكون
الإِنسان مُـبْتَلى بهذه الرذيلة حتى
نهاية عمره، بينما هو يتصور نفسه سليمة
وطاهرة. إذاً، على الإِنسان أن يكون كمثل
الطبيب العطوف الحاذق، والممرض الشفيق
المطلع على حالات النفس، يراقب أعماله
وتطوراته دائماً ولا يغفل عن ذلك أبداً،
وأن يعلم أنه ما من مرض أخفى، وفي الوقت
نفسه أفتك، من الأمراض القلبية، وأنه ما
من ممرض يكون أشفق وأعطف على الإِنسان،
من نفسه.
فصل
في معالجة النفاق
اعلم أن لعلاج هذه
الخطيئة الكبيرة طريقان:
أحدهما: هو التفكير
في المفاسد التي تنتج عنها. ذلك أن
الإِنسان في هذه الدنيا إذا عُـرف بهذه
الصفة بين الناس سقط من أنظارهم، وافتضح
بين الخاصة والعامة، وفقد كرامته بين
أصحابه، فيطردونه من مجالسهم، ويتخلف عن
محافل
ـــــــــــــــ
(1) سورة
البقرة، آية: 191.
(2) أصول
الكافي، المجلد الثامن، كتاب الإيمان
والكفر، باب النميمة، ح 2، القـتّات:
النمام.
[
186 ]
أنسهم، ويقتصر عن
اكتساب الكمالات وبلوغ المقاصد. فعلى
الإِنسان ذي الشرف والضمير أن يطهّر نفسه
من هذا العار الملطخ للشرف، لكيلا يبتلى
بأمثال هذه الحالات من الذل والضعة. كذلك
الأمر في عالم الآخرة، عالم كشف الأسرار.
إذ كل ما هو مستور قي هذه الدنيا عن أنظار
الناس لا يمكن ستره في عالم الآخرة. فهناك
يحشر وهو مشوّه الخلقة بلسانين من نار،
ويعذب من المنافقين والشياطين.
إذاً، فالإِنسان
العاقل إذا ما رأى هذه المفاسد، ولم يجد
لذلك الخلق نتيجة غير القبح والرذيلة،
وجب عليه أن يتجنب الاتصاف بهذه الصفة
والسلوك للمعالجة وهو:
الطريق الآخر: وهو
الأسلوب العملي لعلاج النفس وهو أن يراقب
الإِنسان حركاته وسكناته بكل دقة وتمحيص
لفترة من الوقت، وأن يعمد إلى العمل بما
يخالف رغبات النفس وتمنياتها، وأن يجاهد
في جعل أعماله وأقواله في الظاهر والباطن
واحدة وأن يبتعد عن التظاهر والتدليس في
حياته العملية، وأن يطلب من الله تعالى،
خلال ذلك، التوفيق والنجاح في التغلب على
النفس الأمارة وأهوائها، ويعينه في محا
ولاته العلاجية. إذ أن فضل الله تعالى على
الناس ورحمته بهم لا نهاية لها. وهو يشمل
بعونه كل من خطا نحو إصلاح نفسه، ويمدّ يد
الرحمة لانتشاله. فإذا ثابر على ذلك بعض
الوقت، كان له أن يرجو لنفسه الصفاء و
الانعتاق من النفاق ذي الوجهينية، وأن
يصل إلى حيث يتطهّر قلبه من هذه الرذيلة
ليصبح موضع ألطاف الله ورحمة ولي نعمته
الحقيقي. وذلك لأن التجربة والبراهين تدل
على أنه ما دامت النفس في هذه الدنيا،
كانت منفعلة بما يصدر عنها من أفعال
وأقوال، الصالحة منها والطالحة، ويكون
لكل ذلك أثر فيها. فإذا كان العمل صالحا،
كن أثره نورانياً كمالياً، وإذا كان خلاف
ذلك، كان أثره مظلماً انتقاصياً، حتى
يصبح القلب كله نيّراً أو مظلماً،
منخرطاً في سلك السعداء أو الأشقياء.
إذاً، فما دمنا في دار العمل وفي هذه
المزرعة، فإننا نستطيع بإرادتنا أن ندفع
بقلوبنا إما إلى السعا ة وإما إلى
الشقاء، لأن المرء رهين بعمله وفعله: (فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)(1).
ـــــــــــــــ
(1) سورة
الزلزلة، آية 7 ـ 8.
[
187 ]
فصل
في بيان بعض أقسام النفاق
اعلم أيها العزيز
أن من مراتب النفاق وذي اللسانين
والوجهين، النفاق مع الله تعالى والتوجه
إلى مالك الملوك ووليّ النِعم بوجهين،
حيث نكون المبتلين به في هذا العالمُ
ونحن غافلون عنه. لأن أستار الجهل
الكثيفة وحجب الأنانية المظلمة وحب
الدنيا وحب الذات مسدولة عليه ومختفية
عنّـا ومن الصعب جداً أن ننتبه له قبل
انكشاف السر ائر، ورفع الحجب، والظعن عن
دنيا الطبيعة، وشدّ الرحال عن دار الغرور
ودار الجهل والغفلة.
إننا الآن غارقون
في نوم الغفلة، محكومون لسكر الطبيعة،
والميول والرغبات التي تزيّن لنا كل
قبائح الأخلاق وفساد الأعمال، وإذا ما
استيقظنا وصحونا من هذه السكرة العميقة
يكون قد فات الأوان. إذ نجد أنفسنا قد
صرنا في زمرة المنافقين وذي الوجهين
واللسانين وحُشرنا بلسانين من نار، أو
بوجهيـن مشوّهين بشعين! وعندئذٍ لـن
تنفعنا نداءاتنا (رَبِّ
ارْجِعُونِ)(1). إننا نجاب بـ"كلاّ".
إن صفة التلون هذه تكون بحيث أننا ـ أنا
وأنت ـ نقضي كل عمرنا ونحن نظهر التمسك
بكلمة التوحيد، وندعي الإِسلام
والإِيمان، بل المحبة والمحبوبية، وغير
ذلك من الادعاءات على قدر ما نشتهي ونحب.
فإذا كنّا من عامة الناس وعوامهم ادّعينا
الإِسلام والإِيمان والزهد والخلوص.
وإِذا كنا من أهل العلم و الفقه، ادّعينا
كمال الإِخلاص والولاية وخلافة الرسول،
متشبثين بما نقل عن رسول الله صلّى الله
عليه وآله وسلم أنه قال: "اللهُمَّ
ارْحَمْ خُلَفَائِي"(2)، وبقول
الإِمام صاحب الزمان روحي له الفداء: "إنّهم
حجّتي"(3). وغير ذلك من الأقوال
المنقولة عن أئمة الهدى سلام الله عليهم
في شأن العلماء والفقهاء.
ـــــــــــــــ
(1) سورة
المؤمنون، آية: 99.
(2) وسائل
الشيعة، المجلد الثامن عشر، أبواب صفات
القاضي ص 100 ـ 101.
(3) وسائل
الشيعة، المجلد الثامن عشر، أبواب صفات
القاضي ص 100 ـ 101.
[
188 ]
وإذا كنّا من أهل
العلوم العقلية، ادعينا الإِيمان
الحقيقي المبرهن، وزعمنا أننا نملك علم
اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين،
معتقدين أن سائر خلق الله ناقصو علم
وإيمان، ونستشهد بالآيات القرآنية
والأحاديث الشريفة الواردة بحقنا.
وإذا كنا من أهل
العرفان والتصوف، ادعينا المعارف
الإلهية والانجذاب الروحي والفناء في
الله، والبقاء بالله، وولاية الأمر، وما
إلى ذلك من الأقو ال مما يخطر بالبال من
الألفاظ الجذابة.
وهكذا فإنّ كل
طائفة منا تدعي بلسانها وظاهر حالها أن
لها مرتبتها وإظهار حقيقة من الحقائق
الشائعة. فإذا كان هذا الظاهر مطابقاً
للباطن، واتفق العلن مع السرِّ، وكان
صادقاً مصدقاً، فهنيئاً لأرباب النعيم
نعيمهم. أما إذا كان، مثل كاتب هذه
السطور، الأسود الوجه، القبيح، المشوه
الخلقة، فليعلم أنه من المنافقين وذوي
الوجهين واللسانين، وعليه أن يبادر إلى
علاج نفسه، وأن يغتنم الفرصة قبل فواتها
للخروج من التعاسة والذل والظلام.
أيها العزيز
المدعي للإسلام: قد ورد في"الكافي"حديث
شريف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلم أنه قال: "المُسْلِمُ
مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ
وَلِسَانِهِ"(1) فلماذا نقوم أنا
وأنت وعلى قدر ما نستطيع ونتمكن، على
إيصال الأذى إلى من هم أقل منّا ولا نمتنع
عن ظلمهم والإِجحاف بحقهم؟ وإذا لم تصل
أيدينا إليهم فلن نتوقف عن تجريحهم بحدّ
اللسان في حضورهم، أو حتى في غيابهم،
فنعمد إلى هتك أسرارهم، والكشف عن
مكنوناتهم، واغتيابهم، وإلصاق التهم بهم.
إذاً فادعاؤنا نحن
الذين لا يسلم المسلمون من أيدينا
وألسنتنا، للإِسلام مخالف للحقيقة،
وباطننا يخالف ظاهرنا، وأننا من زمرة
المنافقين ومن ذوي الوجهين.
يا من تدّعي
الإِيمان وخضوع القلب في حضرة الله ذي
الجلال، إذا كنت تؤمن بكلمة التوحيد، ولا
يعبد قلبك غير الواحد، ولا يطلب غيره،
ولا ترى الألوهية
ـــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب المؤمن وعلاماته ح 12.
[
189 ]
تستحق إِلاّ لذاته
المقدسة، وإذا كان ظاهرك وباطنك يتفقان
فيما تدّعي، فلماذا نجدك وقد خضع قلبك
لأهل الدنيا كل هذا الخضوع؟ لماذا
تعبدهم؟ أليس ذلك لأنك ترى لهم تأثيراً
في هذا العالم، وترى أنّ إرادتهم هي
النافـذة، وترى أنّ المال والقوة هما
الطاقة المؤثرة والفاعلة؟ وأ ن ما لا
تراه فاعلاً في هذا العالم هو إرادة الحق
تعالى، فتخضع لجميع الأسباب الظاهرية،
وتغفل عن المؤثر الحقيقي وعن مسبب جميع
الأسباب، ومع كل ذلك تدّعي الإِيمان
بكلمة التوحيد. إذاً، فأنت أيضاً خارج عن
زمرة المؤمنين، وداخل في زمرة المنافقين
ومحشور مع أصحاب اللسانين.
وأنت يا من تدّعي
الزهد والإِخلاص، إذا كنت مخلصاً حقاً،
وأنك لأجل الله ولأجل دار كرامته تزهد عن
مشتهيات الدنيا، فما الذي يحملك على أن
تفرح بمدح الناس لك والثناء عليك بقولهم
أنك من أهل الصلاح والسداد؟ فيملأ السرور
قلبك، ولماذا لا تبخل بشيء في سبيل
مجالسة أهل الدنيا وفي سبيل زخارفها،
وتفرّ من الفقراء والمساكين؟
فاعلم أن زهدك
وإخلاصك ليسا حقيقيين، بل أن زهدك في
الدنيا هو من أجل الدنيا، وأن قلبك ليس
خالصاً لوجه الله، وأنك كاذب في دعواك،
وأنك من المتلوّنين المنافقين.
وأنت يا من تدّعـي
الولاية مـن جانب ولي الله، والخلافة من
جانب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم
فإن كان واقعك مطابقاً للحديث المروي في
كتاب "الاحتجاج": "صَائِنَاً
لِنَفْـسِهِ، حَافِـظاً لِدِينِهِ،
مُخَالِـفاً لِهَواهُ، مُطِيعاً
لأَمْرِ مَوْلاه"(1). وإذا كنت ورقة
على غصن الولاية والرسالة، ولا تميل إلى
الدنيا، ولا تحب التقرب إلى السلاطين
والأشراف، ولا تنفر من مجالسة الفقراء،
فإن اسمك يطابق مسماه، وأنك من الحجج
الإِلهية بين الناس، وإلاّ فإنك من علماء
السوء، وفي زمرة المنافقين، وحالك أسوأ
من الطوائف التي ذكرناها، وعملك أقبح،
ويومك أشد سواداً، لأن الحجة على العلماء
أتم.
ـــــــــــــــ
(1) الاحتجاج،
المجلد الثاني، احتجاجات الإمام الحسن
العسكري عليه السلام ص 458.
[
190 ]
وأنت يا من تدّعي
امتلاك الحكمة الإِلهية، والعلم بحقائق
المبدأ والمعاد، إذا كنتَ عالماً
بالحقائق في الأسباب والمسببات، وإذا
كنت حقاً عالماً بالصور البرزخية وأحوال
الجنة والنار، فلا بُدّ أن لا يقر لك
قرار، وعليك أن تصرف كل وقتك في إعمار
عالم البقاء، وأن تهرب من هذه الدنيا
ومغرياتها، فأنت عالم بما هنالك من مصائب
وظلام وعذاب لا يطاق. إذاً، لماذا لا
تتقدم ولو خطوة واحدة خارج حجب الكلمات
والألفاظ والمفاهيم، ولم تؤثر في قلبك
البراهين الفلسفية قدر جناح ذبابة؟
إذاً، أنت خارج عن زمرة المؤمنين
والحكماء، ومحشور في زمرة المنافقين،
وويل للذي يقضي عمره وسعيه في علوم ما
وراء الطبيعة، دون أن يسمح له انتشاؤه
بخمر الطبيعة ولو بدخول حقيقة واحدة إلى
قلبه.
وأنت يا من تدعي
المعرفة والانجذاب والسلوك والمحبة
والفناء، إذا كنت حقاً من أهل الله ومن
أصحاب القلوب، ومن ذوي السابقة الحسنة،
فهنيئاً لك. ولكن كل هذه الشطحات وهذا
التلون وتلك الادعاءات اللامسؤولة التي
تكشف عن حب الذات ووسوسة الشيطان، تتعارض
مع المحبة والانجذاب "إنَّ
أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لاَ
يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي"(1). فأنت إذا
كنت من أولياء الله المنجذبين إليه
ومحبيه، فإن الله يعلم بذلك، فلا تظهر
للناس مدى مقامك ومنزلتك بهذه الصورة،
ولا تسعَ لتـلفت قلوب عباد الله الضعيفة
من وجهة خالقها إلى وجهة المخلوق ولا
تغتصب بيت الله. وأعلم أن عباد الله أعزاء
وقلوبهم ثمينة ويجب إن تشتغل في محبة
الله، فلا تتلاعب إلـى هذا الحـد ببيت
الله ولا تتعرض لحرماته "فَإنَّ
لِـلْبَيْتِ رَبّـاً" فإذا لم تكن
صادقاً في دعاواك، فأنت في زمرة أهل
النفاق ومن ذوي الوجهين.
لنكتف
بهذا القدر هنا، إذ ليس الإسهاب في هذا
الموضوع مما يجدر بي وأنا ذو الوجه
المظلم!.
يا أيتها النفس
اللئيمة التي تتظاهرين بالتفكير للخروج
من الأيام المظلمة والنجاة من هذه
التعاسة. إذا كنت صادقة، وقلبك يواكب
لسانك، وسرّك يطابق علنك، فلماذا أنتِ
غافلة إلى هذا الحد؟ ولماذا يسيطر عليكِ
القلب المظلم
ـــــــــــــــ
(1) إحياء
العلوم، المجلد الرابع، ص 256.
[
191 ]
والشهوات
النفسانية وتتغلب عليكِ، دون أن تفكري في
رحلة الموت المليئة بالمخاطر؟
لقد تصرّم عمرك دون
أن تبتعد عن أهوائك ورغباتك. لقد أمضيت
عمراً منغمساً في الشهوة والغفلة
والشقاء وسيحلّ الأجل قريباً، وأنت ما
زلت تمارس أعمالك وأخلاقك القبيحة. فأنت
نفسك واعظ وغير متعظ، ومن زمرة المنافقين
وذوي الوجهين. ولئن بقيت على هذا الحال
فستحشر بوجهين ولسانين من نار ...
اللهم أيقضنا من
هذه الرقدة المديدة، وصَـحِّنا من
السُـكْر والغفلة! وأنر قلوبنا بنور
الإِيمان! وأرحم حالنا! إننا لسنا من رجال
هذا الميدان. فـمُدَّ إلـينا يدك وأعـنّا
على النجاة من مخالب الشيطان وأهواء
النفس، بحق أوليائك محمد وآله الطاهرين
صلوات الله عليهم أجمعين.
[
192 ]
الحديث العاشر
"إتباع الهوى وطول الأمل"
[
193 ]
بالإسناد
المتّـصلة إلى رئيس المحدِّثين م حمّد بن
يعقوب ـ رضوان الله عليه ـ عن الحسين بن
محمّـد، عن معـلّى بن محمّـد، عن
الوشّـاء، عن عاصِـمِ بن حُمَـيْد، عَنْ
أبي حَمْـزَةَ، عَنْ يَحْـيى بْنِ
عَـقيل قالَ: قال أمير المؤمنين ـ عليه
السّلام ـ :"إِنَّـما أخَـافُ
عَـلَيْكُمُ اثـْنَـتَيْنِ: اتِّبَاع
الهَوى وَطُـولَ الأمَـلِ، أمّـا
إتِّباعُ الهَـوى فَـإِنَّـهُ يَصُدُّ
عَنِ الحَـقِّ وَأمّـا طُـولُ الأَمَـِل
فَإِنَّـهُ يِـِـْنسِي الآخرة"(1).
ـــــــــــــــ
(1) أصول
الكافي،المجلد الثاني، الإيمان والكفر،
باب إتباع الهوى، ح 3.
[
194 ]
الشرح:
"الهوى"في
اللغة"حب الشيء"و"اشتهاؤه"من
دون فرق في أن يكون المتعلقة أمراً حسناً
ممدوحاً، أو قبيحاً مذموماً. أو أن النفس
بمقتضى الطبيعة تميل إلى الشهوات
الباطلة والأهواء النفسية، لولا العقل
والشرع اللذان يكبحانها(1). أما احتمال
الحقيقة الشرعية ـ كما يقول بعض المحققين
ـ فمستبعد.
أما "الصدّ"
عن الشيء فمعناه المنع والإعراض
والانصراف عنه. وهي معان تناسب الكلمة،
إلاّ أن المعنى المقصود هنا هو المنع
والانصراف عن الشيء، إذ أن الصدّ بمعنى
الإعراض يكون لازما لا متعديا.
وسوف نحاول، إن شاء
الله، من خلال مقامين اثنين أن نوضح فساد
هاتين الصفتين، وكيف تقوم الأولى بالمنع
عن الحق. وتقوم الثانية بنسيان الآخرة.
طالبين من الله التوفيق.
المقام الأول
في ذم إتباع هوى النفس و
فيه فصول
فصل
في بيان أن الإنسان عند
ولادته يكون حيوانا بالفعل
اعلم أن النفس الإنسانية، على
الرغم من كونها ـ في معنى من المعاني
الخارجة عن نطاق بحثنا ـ مفطورة على
التوحيد، بل هي مفطورة على جميع
ـــــــــــــــ
(1) يبدو هنا
سقط في الكلام ( في نسخة الأصل ).
[
195 ]
العقائد الحقـة.
ولكنها منذ ولادتها وخروجها إلى هذا
العالم تنمو معها الميول النفسية
والشهوات الحيوانية، إلاّ من أيّده الله
وكان له حافظ قدسي. ولما كان هذا ال
استثناء من النوادر فإنه لا يدخل في
حسابنا، لأننا نتناول نوع الإنسان عموما.
لقد ثبت في محلّه
بالبراهين أن الإنسان منذ أول ظهوره،
وبعد مروره بمراحل عدّة، لا يعدو أن يكون
حيواناً ضعيفاً لا يمتاز عن سائر
الحيوانات إلاّ بقابلياته الإنسانية.
وأن تلك القابليات ليست بمقياس إنسانيته
الفعلية.
فالإنسان حيوان
بالفعل عند دخوله هذا العالم، ولا معيار
له سوى شريعة الحيوانات التي تديرها
الشهوة والغضب. ولكن لما كان أعجوبة
الدهر هذا ـ الإنسان ـ ذات جامعة، أو
قابلة على الجمع، فإنه لكي يدبر هاتين
القوتين، تجده يلتجأ إلى استعمال الصفات
الشيطانية، مثل الكذب والخديعة والنفاق
والنميمة وسائر الصفات الشيطانية الأخرى.
وهو بهذه القوى الثلاث ـ الشهوة، الغضب،
هوى النفس ـ التي هي أصل كل المفاسد
المهلكة، يخطو نحو التقدم، فتنمو فيه
كذلك هذه القوى وتتـقدم وتتعاظم. وإذا لم
تقع تحت تأثير مربّ أو معلم، فإنه يصبح
عند الرشد والبلوغ حيوانا عجيبا يفوز
بقصب السبق في تلك الأمور المذكورة على
سائر الحيوانات والشياطين، ويكون أقوى
وأكمل في مقام الحيوانية والصفات
الشيطانية من الجميع. وإذا ما استمرت
حاله على هذا المنوال، ولم يتبع في هذه
الشئون الثلاثة سوى أهوائه النفسية، فلن
يبرز فيه شيء من المعارف الإلهية
والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، بل
تنطفئ فيه جميع الأنوار الفطرية.
فتـقع جميع مراتب
الحق التي لا تعدو هذه المقامات الثلاثة
التي ذكرناها ـ أي المعارف الإلهية،
والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة ـ
تحت أقدام الأهواء النفسية. وعندئذ يصبح
إتباع الأهواء النفسية والرغبات
الحيوانية حائلاً دون أن يتجلّى فيه الحق
من خلال أية واحدة من تلك المراتب، ويطفئ
ظلام النفس وأهوائها كل أنوار العقل
والإيمان، ولن تتاح له ولادة ثانية، أي
الولادة الإنسانية، بل يمكث على تلك الح
ال ويكون ممنوعا ومصدودا عن الحق
والحقيقة إلى أن يرحل عن هذا العالم. أن
مثل هذا الشخص إذا رحل عن هذا العالم بتلك
الحالة، فلن يرى نفسه في ذلك العالم،
عالم كشف السرائر، إلاّ حيوانا أو شيطانا.
لا تشمّ
[
196 ]
منه رائحة الإنسان
والإنسانية أبدا، فيبقى في تلك الحال من
الظلام والعذاب والخوف الذي لا ينتهي حتى
يقضي الله أمرا كان مفعولا. إذن هذه هي
حال التبعية الكاملة لأهواء النفس والتي
تُبعد الإنسان نهائيا عن الحق.
ومن هنا يمكن أن
نعرف أن ميزان البعد عن الحق هو إتباع هوى
النفس. ومسافة هذا البعد تقدر أيضا
بمقدار التبعية. فمثلا، لو أن هذا
الإنسان، استطاع أن يجعل مملكة إنسانية
هذا الإنسان الذي اقترن منذ ولادته
بالقوى الثلاثة وترعرعت وتكاملت تلك
القوى أيضا مع نمو الإنسان وتكامله، لو
استطاع أن يجعل هذه المملكة متأثرة
بتربية تعاليم الأنبياء والعلماء
والمرشدين لاستسلم شيئا فشي ئا لسلطة
تربية الأنبياء والأولياء عليهم السلام،
فقد لا يمضي عليه وقت طويل حتى تصبح القوة
الكاملة الإنسانية، التي أودعت فيه على
أساس القابلية فعلية تظهر للعيان، وترجع
جميع شؤون مملكته وقواها إلى شأن
الإنسانية بحيث يجعل شيطان نفسه يؤمن على
يديه كما قال رسول الله صلّى الله عليه
وآله وسلم:"إنَّ شَيْطَانِي آمَنَ
بِيَدي"(1) فتستسلم حيوانيته
لإنسانيته، حتى تصبح مطيّه مروّضه على
طريق عالم الكمال والرقي، وبراقا يرتاد
السماء نحو الآخرة، ويمتـنع عن كل معاندة
وتمرد. وبعد أن تستسلم الشهوة والغضب إلى
مقام العدل والشرع تنتشر العدالة في
المملكة، وتتشكل حكومة عادلة حقه يكون
فيها العمل والسيادة للحق وللقوانين
الحقة، بحيث لا تتخذ فيها خطوة واحدة ضد
الحق، وتكون خالية من كل باطل وجور.
وعليه، فكما أن ميزان منع الحق والصدّ
عنها إتباع الهوى، فكذلك ميزان اجتذاب
الحق وسيادته هو متابعة الشرع والعقل.
وبين هذين المقياسين وهما التبعية
التامّة لهوى النفس والتبعـيّة التامة
المطلقة للعقل منازل غير متناهية، بحيث
أن كل خطوة يخطوها في إتباع هوى النفس،
يكون بالمقدار نفسه قد منع الحق، وحجب
الحقيقة، وابتعد عن أنوار الكمال
الإنساني وأسرار وجوده. وبعكس ذلك، كلما
خطا خطوة مخالفة لهوى النفس ورغبتها،
يكون بالمقدار نفسه قد أزاح الحجاب
وتجلّى نور الحق في المملكة.
ـــــــــــــــ
(1) ورد مثل
هذا الحديث في كتاب غوالي اللئالي المجلد
4 ص97. وفي كتاب علم اليقين، المجلد 1، ص282.
[
197 ]
فصـل
في
ذم إتباع الهوى
يقول الله تعالى في
ذم اتّباع النفس وأهوائها: (وَلاَ
تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ)(1) ... (وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ
بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ)(2).
وجاء في الكافي
الشريف، بسنده عن الإمام الباقر عليه
السلام قال: "قال رسول
الله ص لّى الله عليه وآله وسلم: يَقُولُ
اللّهُ عَزَّ وجَـلَّ: وَعِزَّتِي
وَجَلالِي وَعَـظَمَتِي وَكِبْرِيائِي
وَنُورِي وَعُـلوّي وَارْتِفَاعِ
مَكَانِي لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَواهُ على
هَوايَ إلاّ شَتَّتُّ عَليهِ أَمْرُهُ
وَلَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ
وَشَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا وَلَمْ
أوتِهِ مِنْها إلاّ ما قدَّرْتُ لَهُ
وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي وَعَظَمَتِي
وَنُورِي وَعُلُوّي وَارْتِفَاع
مَكَانِي لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوايَ
عَلَى هَواهُ إلاّ اسْـتَحْفَظَـتْهُ
مَلائِكَتِي وَكَفَّـلْتُ السَّـمَواتِ
والأَرْضَينَ رِزْقَـةُ وَكُنْتُ لَهُ
مِـْن وَرَاءِ تِجارةِ كُلِّ تَـاجِرٍ
وَأتَـتْهُ الدُّنْـيَا وَهِيَ
راغِمَةٌ"(3).
وهذا
الحديث الشريف من محكمات الأحاديث التي
يدل مضمونها على أنه ينبع من علم الله
تعالى الرائق ح تى وإن كان مطعوناً فيه
بضعف السند، فنحن لسنا بصدد شرحه. وهناك
حديث آخر منقول عن الإمام علي عليه
السلام قال فيه:
"إنَّ
أخْوَفُ مَا أَخَاف عَلَيْكُمُ اثْنَانِ
إتِّـبَاعُ الهَوى، وَطُـولُ الأَمَـلِ"(4). وجاء في الكافي عن الإمام
الصادق عليه السلام أنه قال: "احْذَرُوا
أهْوائكُمْ كَما تْحذَرُونَ
أَعْدَاءَكُمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أعْدى
لِلرِّجَالِ مِن إتّباعِ أهْوائِهمْ
وَحَصَائِد ألْسِنَتـهم"(5).
اعلم أيها العزيز،
أن رغبات النفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل
إلى حد أو غاية. فإذا اتبعها الإنسان ولو
بخطوة واحدة، فسوف يضطر إلى أن يتبع تلك
الخطوة
ـــــــــــــــ
(1) سورة ص،
آية: 26.
(2) سورة
القصص، آية: 50.
(3) أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب اتباع الهوى، ح 2.
(4) نهج
البلاغة، خطبة ـ 42 ـ (الشيخ بصحي الصالح).
(5) أصول
الكافي،المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب إتباع الهوى، ح1.
[
198 ]
خطوات، وإذا رضي
بهوى واحد من أهوائها، اجبر على الرضى
بالكثير منها. ولئن فتحت بابا واحدا لهوى
نفسك، فإنّ عليك أن تف تح أبوابا عديدة له.
إنك بمتابعتك هوى
واحداً من أهواء النفس توقعها في عدد من
المفاسد، ومن ثم سوف تبتلى بآلاف
المهالك، حتى تنغلق ـ لا سمح الله ـ جميع
طرق الحق بوجهك في آخر لحظات حياتك، كما
أخبر الله بذلك في نص كتابه الكريم، وكان
هذا هو أخشى ما يخشاه أمير المؤمنين وولي
الأمر، والمولى، والمرشد والكفيل
للهداية والموجِّـه للعائلة البشرية
عليه السلام.
بل إن روح النبي
صلّى الله عليه وآله وسلم وأرواح الأئمة
عليهم السلام تكون جميعا في قلق واضطراب
لئلا تسقط أوراق شجرة النبوة والولاية
وتذوي.
قال صلّى الله عليه
وآله وسلم:
"تَـناكحوا
تَـنَاسـلوا فَـإنّي أُبَـاهي بِكُمُ
الأُمَـمَ وَلَـوْ بِالسِّـقْـطِ"(1).
لا
شك في أنه لو سار الإنسان في مثل هذه
الطريق المحفوفة المحفوفة بالمخاطر مما
قد يلقي به إلى هوّة الفناء ويجعله موضع
عقوق أبيه الحقيقي، أي النبي الكريم صلّى
الله عليه وآله وسلم، ويبحث عن نمط
العظيم الذي هو رحمة للعالمين. فما أشد
تعاسته، وما أكثر المصائب والبلايا التي
يخبئها له الغيب!.
فإذا كنت على صلة
برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم،
وإذا كنت تحب أمير المؤمنين عليه السلام
وإذا كنت من محبي أولادهما الطاهرين،
فاسْعَ لكي تزيل عن قلوبهم المباركة
القلق والاضطراب.
لقد جاء في القرآن
الكريم في سورة هود:
(...
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ
تَابَ مَعَكَ ...)(2).
وجاء في الحديث
ـــــــــــــــ
(1) "مستدرك
وسائل الشيعة" كتاب النكاح ـ الباب
الأول من أبواب مقدمات النكاح ـ ح17. لا
تجد في الحديث هنا كلمة (ولو بالسقط). ورد
في تفسير أبو الفتوح الرازي (سورة النور ـ
آيه 32) "تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا
فَإِنِي أُباهي بِكُمُ الأمَمُ يَوْمَ
القِيَامَةِ وَلَوْ بِالْسقطِ"
(2) سورة هود،
آية 112.
[
199 ]
الشريف أن النبي
صلّى الله عليه وآله وسلم قال:"شَيَّبَتْنِي
سُـورَةُ هُود لِمَكَانِ هذِهِ الآيـةِ"(1).
يقول الشيخ العارف
الكامل الشاه آبادي ـ روحي فداه ـ "هذا،
على الرغم من أن هذه الآية قد جاءت في
سورة الشورى أيضا، ولكن من دون (وَمَـنْ
تَـابَ مَـَعكَ) إلاّ أن النبي خصّ سورة
هود بالذكر، والسبب أن الله تعالى طلب
منه استقامة الأمة أيضا، فكان يخشى أن لا
يتحقق ذلك الطلب، وإلاّ فإنه بذاته كان
أشدّ ما يكون استقامة، بل لقد كان صلّى
الله عليه وآله وسلم مثال العدل
والاستقامة".
إذاً، يا أخي، إذا
كنتَ تعرف أنك من أتباع النبي صلّى الله
عليه وآله وسلم، وتريد أن تحقق هدفه،
فاعمل على أن لا تخجله بقبيح عملك وسوء
فعلك. ألا ترى أنه إذا كان أحد من أولادك
والمقربين إليك يعمل القبيح وغير
المناسب من الأعمال التي تتعارض وشأنك،
فكم سيكون ذلك مدعاة لخجلك من الناس
وسبباً في طأطأة رأسك أمامهم؟ ولا بد أن
تعلم أن رسول الله صلّى الل ه عليه وآله
وسلم، وعلي عليه السلام، هما أبوا هذه
الأمة بنصّ ما قاله النبي الكريم: "أنـا
وَعَلِـيُّ أَبَـوا هذِهِ الأُمَّـة" (2). فلو أحضرنا في
حضرة ربّ العالمين يوم الحساب وأمام
نبينا وأئمتنا، ولم يكن في كتاب أعمالنا
سوى القبيح من الأعمال، فإن ذلك سوف يصعب
عليهم ولسوف يشعرون بالخجل في حضرة الله
والملائكة والأنبياء. وهذا هو الظلم
العظيم الذي نكون قد ارتكبناه بحقهم،
وإنها لمصيبة عظمى نبتلى بها، ولا نعلم
ما الذي سيفعله الله بنا؟ فيا أيها
الإنسان الظلوم الجهول، يا من تظلم نفسك!
كيف تكافئ أوليائك الذين بذلوا أموالهم
وأرواحهم في سبيل هدايتك، وتحمّلوا أشد
المصائب، وأفظع القتل، وأقسى السبي
لنسائهم وأطفالهم من أجل إرشادك ونجاتك؟
فبدلاً من أن تشكرهم على ما فعلوا وتحفظ
لهم أياديهم البيض نحوك، تقوم بظلمهم ظنا
منك أنك إنما تظلم نفسك وحدها! استيقظ من
نوم الغفلة، واخجل من نفسك،
ـــــــــــــــ
(1) تفسير
مجمع البيان ـ المجلد الخامس ـ ص 140.
(2) بحار
الأنوار ـ ج 36 ـ ح 12 ص 11
[
200 ]
واتركهم
يعانون من الظلم الذي تحمّلوه من أعداء
الدين من دون أن تضيف على ظلامتهم ظلامة
أخرى، لأن الظلم من المحب أشد ألماً
وأكثر قبحـاً!.
فصل
في
تعدد هـوى النفس
لا بُـدَّ أن نعرف
أن أهواء النفس متعددة ومتنوعة من حيث
المراتب والمتعلقات، وقد تكون أحيانا من
الدقة بحيث أن الإنسان نفسه يغفل عن
ملاحظة أنها من مكائد الشيطان ومن أهواء
النفس، ما لم يـُنَبّه على ذلك، ويوقظ من
غفلته. إلاّ أنها جميعها تشترك في كونها
تمنع الحق وتصدّ عن طريقه، رغم اختلاف
مراتبها ودرجاتها، فإن أصحاب الأهواء
الباطلة من الذين يتخذون الآلهة من الذهب
وغيرهم ـ كما يخبر الله سبحانه عنهم في
قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنْ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)(1) وغيرها
من الآيات الشريفة ـ ينقطعون عن الله،
بصورة معيّنة، وإن أتْبَـاع الأهواء
النفسية وال أباطيل الشيطانية في
عقائدهم الباطلة وأخلاقهم الفاسدة
يحتجبون عنه سبحانه بصورة أخرى، وإن
أصحاب المعاصي الكبيرة والصغيرة
والموبقات والمهلكات كل حسب درجة
المعصية ومرتبتها يبتعدون عن سبيل الحق
بصورة ثالثة. وإن أهل الأهواء في الرغبات
النفسية المباحة مع الانشغال والانهماك
فيها يتخلّفون عن سبيل الحق بصورة رابعة.
وإن أهل المناسك والطاعات الظاهرية
الذين يعبدون من أجل عمران الآخرة وتلبية
الشهوات النفسية ومن أجل البلوغ إلى
الدرجات العلى أو الخشية من العذاب
الأليم والنجاة من الدركات السفلى
يحتجبون عن الحق وسبيله بصورة خامسة، وإن
أصحاب تهذيب النفس وترويضها، لإظهار
قدرتها والوصول إلى جنة الصفات، فيفصلون
عن الحق ولقائه بشكل آخر، وإن أهل
العرفان والسلوك والانجذاب ومقامات
العارفين الذين لا يهمهم سوى لقاء الحق
والوصول إلى مقام القرب، يحتجبون عن الحق
وتجلياته الخاصة بنوع سابعلأن التلوّن
وآثار وجوده الخاص لا يزال عندهم موجودا.
ثم توجد بعد هذه
المراتب درجات أخرى لا يناسب ذكرها في
هذا المقام.
ـــــــــــــــ
(1) سورة
الجاثية، آية 23.
[
201 ]
فإن على أصحاب هذه
المراتب أن يراقبوا بدقة حالهم، وأن
يطهّروا أنفسهم من الأهواء لئلا
يتخلّـفوا عن طريق الله ولا يظلّوا عن
مسالك الحقيقة، حتى تظلّ أبواب الرحمة
مفتوحة عليهم، مهما تكن مقاماتهم
ومنازلهم. واللّهُ وَليُّ الهِدَايَةِ.
المقام الثاني
في ذم طول الأمل وفيه فصلان
فصل
في بيان أن طول الأمل ينسي
الآخرة
اعلم أن المنزل
الأول من منازل الإنسانية هو منزل اليقظة
كما يقوله كبار أهل السلوك في بيانهم
لمنازل السالكين، ولهذا المنزل كما يقول
الشيخ العظيم الشأن الشاه آبادي ـ دام
ظله ـ بيوت عشرة، لسنا الآن بصدد تعدادها.
ولكن ما يجب قوله هو أن الإنسان ما لم
ينتبه إلى أنه مسافر، ولا بُدَّ من
السير، وأن له هدف وتجب الحركة نحوه، وأن
البلوغ إلى ال مقصد ممكن، لما حصل له
العزم والإرادة للتحرك. ولكل واحد من هذه
الأمور، شرح وبيان لو ذكرناه لطال بنا
المقام.
ويجب أن نعرف أن من
أهم أسباب عدم التيقظ الذي يؤدي إلى
نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير، وإلى
إماتة العزم والإرادة، هو أن يظن الإنسان
أن في الوقت متسعاً للبدء بالسير، وأنه
إذا لم يبدأ بالتحرك نحو المقصد اليوم،
فسوف يبدأه غداً، وإذا لم يكن في هذا
الشهر، فسيكون في الشهر المقبل.
فإن طول الأمل هذا
وامتداد الرجاء، وظن طول البقاء، والأمل
في الحياة والرجاء سعة الوقت، يمنع
الإنسان من التفكير في المقصد الأساسي
الذي هو الآخرة. ومن لزوم السير نحوه ومن
لزوم اتخاذ الصديق وتهيأة الزاد للطريق،
ويبعث الإنسان على نسيان الآخرة ومحو
المقصد من فكره ـ ولا قدّر الله ـ إذا
أصيب الإنسان بنسيان للهدف المنشود في
رحلة بعيدة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر مع
ضيق الوقت، وعدم توفّـر العُـدّ َة
والعدد رغم ضرورتهما في السفر، فإنه من
الواضح لا يفكر في الزاد والراحلة،
ولوازم السفر وعندما يحين وقت السفر يشعر
بالتعاسة، ويتعثر ويسقط في أثناء
الطريق، ويهلك دون أن يهتدي إلى سبيل.
[
202 ]
فصل
( موعظة حول طول الأمل )
اعلم إذاً، أيها
العزيز، أن أمامك رحلة خطرة لا مناص لك
منها، وأن ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد
وراحلة هو العلم والعمل الصالح. وهي رحلة
ليس لها موعد معين، فقد يكون الوقت ضيقاً
جداً، فتفوتك الفرصة. إن الإنسان لا يعلم
متى يقرع ناقوس الرحيل للانطلاق فوراً.
إن طول الأمل المعشعش عندي وعندك الناجم
من حب النفس ومكائد الشيطان الملعون
ومغرياته، تمنعنا من الاهتمام بعالم
الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا
كانت هناك مخاطر وعوائق في الطريق، فلا
نسعى لإزالتها بالتوبة والإنابة والرجوع
إلى طريق الله، ولا نعمل عل تهيئة زاد
وراحلة، حتى إذا ما أزف الوعد الم وعود
اضطررنا إلى الرحيل دون زاد ولا راحلة.
ومن دون العمل الصالح، والعلم النافع،
اللذان تدور عليهما مئونة ذلك العالم،
ولم نهيأ لأنفسنا شيئاً منهما. حتى لو كنا
قد عملنا عملاً صالحاً، فإنه لم يكن
خالصاً بل مشوباً بالغش، ومع آلاف من
موانع القبول. وإذا كنا قد نلنا بعض
العلم، فقد كان علماً بلا نتيجة وهذا
العلم إما أنْ يكون لغواً وباطلاً، وإما
أنه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة.
ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان
لهما تأثير حتمي وواضح فينا نحن الذين
صرفنا عليهما سنوات طوالاً، ولغيّرا من
أخلاقنا وحالاتنا. فما الذي حصل حتى كان
لعملنا وعلمنا مدة أربعين أو خمسين سنة
تأثير معكوس بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من
الصخر القاسي؟ ما الذي جنيناه من الصلاة
التي هي معـراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف
وتلك الخشية الملازمة للعلم؟ لو أننا
أجبرنا على الرحيل ونحن على هذه الحال ـ
لا سمح اله ـ لكان علينا أن نتحمل الكثير
من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق،
مما لا يمكن إزالته!.
إذاً، فنسيان
الآخرة من الأمور التي يخافها علينا وليّ
الله الأعظم، الإمام أمير المؤمنين عليه
السلام، ويخاف علينا من الباعث لهذا
النسيان وهو طول الأمل، لأنه يعرف مدى
خطورة هذه الرحلة، ويعلم ماذا يجري على
الإنسان الذي يجب أن لا يهدأ لحظة واحدة
عن التهيؤ وإعداد الزاد والراحلة، عندما
ينسى العالم الآخر، ويستهويه النوم
والغفلة من دون أن يعلم أن هناك عالما
آخر، وأن عليه أن يسير إليه
[
203 ]
حثيثاً. وماذا
سيحصل له وما هي المشاكل التي يواجهها؟
يحسن بنا أن نفكر
قليلاً في سيرة أمير المؤمنين والنبي
الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم، وهما
من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ
والنسيان والزلل والطغيان، لكي نقارن
بين حالنا وحالهم. إن معرفتهم بطول السفر
ومخاطره قد سلبت الراحة منهم، وأن جهلنا
أوجد النسيان والغفلة فينا.
إن نبينا صلّى الله
عليه وآله وسلم قد روّض نفسه كثيرا في
عبادة الله، وقام على قدميه في طاعة الله
حتى ورمت رجلاه، فنزلـت الآيـة الكريمة
تقول له: (طه، مَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقَى)(1). وعبادات علي عليه
السلام وتهجّـده وخوفه من الحق المتعال
معروف للجميع.
إذاً، اعلم أن
الرحلة كثيرة المخاطر، وإنما هذا
النسيان الموجود فينا ليس إلاّ من مكائد
النفس والشيطان، وما هذه الآمال الطوال
ألاّ من أحابيل إبليس ومكائده. فتيقظ
أيها النائم من هذا السبات وتنّبه، واعلم
أنك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنك
راحل عن هذه الدنيا، شئت أم أبيت. فإذا
تهيأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يصبك
شيء من عناء السفر، ولا تصاب بالتعاسة في
طريقه، وإلاّ أصبحت فقيراً مسكيناً
سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه، وذلّه لا
عـزّة فيها وفقر لا غناء معه وعذاب لا
راحة منه. إنها النـار التي لا تنطفئ
والضغط الذي لا يخفف، والحزن الذي لا
يتبعه سرور، والندامة التي لا تنتهي
أبداً.
أنظر أيها الأخ إلى
ما يقوله الإمام في دعاء كميل وهو يناجي
الحق عـزَّ وجـلَّ:
"وَأَنْـتَ
تَـعْـلَمُ ضَعْفِي عَـنْ قَلِيلٍ مِـنْ
بَلاَءِ الدُّنْـيَا وَعُـقُوبَاتِهَا" إلى أن يقـول : "وَهـذَا
مَـا لا تَـقُومُ لَـهُ السَّـمَوَاتُ
وَالأَرْضُ". ترى ما هذا العذاب
الذي لا تطيقه السماوات والأرض، الذي قد
أعـدّ لك؟ أفلا تستيقظ وتنتبه، بل تزداد
كل يوم استغراقاً في النوم والغفلة؟
فيا أيها القلب
الغافل! انهض من نومك وأعـدّ عدتك للسفر، "فـَقـَدْ
نُـودِيَ فِـيكُمْ
ـــــــــــــــ
(1) سورة طه،
آية: 1 ـ 2.
[
204 ]
بِالـرَّحِـيلِ"(1)، وعمّـال عزرائيل منهمكون في
العمل ويمكن في كل لحظة أن يسوقوك سوقاً
إلى العالم الآخر. ولا تـزال غارقاً في
الجهل والغفلة؟
"اللَّهُمَّ
إِنّي أَسْـأَلُكَ التَّجَافِيَ عَنْ
دَارِ الغُرُورِ، وَالإِنَـابَةَ إِلَى
دارِ السُّـرُورِ والاسْـتِعْـدَادَ
لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِ الْفَوْتِ"(2).
ـــــــــــــــ
(1) نهج
البلاغة ـ الخطبة ـ 204 ـ ( الشيخ صبحي
الصالح ).
(2) مفاتيح
الجنان، دعاء ليلة السابع والعشرين من
شهر رمضان.
[
205 ]
|